الأحد، 20 فبراير 2022

من الوعظ الفقهي في كتب الفقه وأصوله: (فروق القرافي)

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فقد جرى بعض أهل العلم والفقه على تضمين كتب الفروع الفقهية كتبًا جوامع، تُعقد مستقلة لذكر أنواع من الآداب والمواعظ، كما صنع ابن رشد في (البيان والتحصيل)، وابن أبي موسى في كتاب (الإرشاد)، وكما تراه في كتاب (النوادر والزيادات) لابن أبي زيد، وتجده عند يوسف بن عبد الهادي في (مغني ذوي الأفهام)، وكذا ابن عسكر في (إرشاد السالك)، والكشناوي في (أسهل المدارك) وغيرهم كثير.

• ولكن ربما كان من اللطيف أن نأتي على شيء من المواعظ وآداب الإيمان في كتب القواعد الأصولية والفقهية، فإن مادّتها أبعد عن حديث السلوك ومباشرة تزكية القلوب من غيرها، وإن كان كل ما له اتصال بالعلم الشرعي فهو مرقق للقلوب الشفيفة، ومرطب للأفئدة الزكية، ولكن يغلب عليها التقعيد وتتمحض للتأصيل وتمهيد الكليات مما شأنه ليس من شأن ذكر أعمال القلوب وآداب الإيمان بالأصالة.

     ولكن لن نعدم أن نجد في أثناء هذه المصنفات ما نبغي، وأن نأخذ منها مع تقعيد الأصول الكلية حديثًا عن التزكية ورعاية الأحوال والأدب والخشوع.
     كما تراه - مثلًا - في كلام العز بن عبد السلام من كتابه: (قواعد الأحكام )، فإن له حديثا صالحًا عن حكم الإصرار على الصغائر، وما تتميز به عن الكبائر، وما يؤجر على قصده دون فعله، وحديثا عن الرياء وأحكامه، وأحوال الأولياء ورجائهم وبكائهم وفرحهم بربهم.

• وقد كان لشهاب الدين القرافي أيضا في كتابه (الفروق) كلام  -في بعض الفروق- داخل في جنس تلك المواعظ، أودع فيه من المسائل والأحكام المتعلقة بتزكية النفوس وإصلاح القلوب ما يحسن أن يذكّر به ويشهر ويبرز، لا سيما وهو في خاتمة كتابه وآخر مصنفه مما قد تنبو عنه بعض العيون وتزيغ عنه الأبصار.
     فرأيت أن اختصر شيئًا من كلامه -رحمه الله- مذكّرًا به نفسي وواعظًا لها ولإخواني، فأتيت على عشرة فروق من هذه الفروق اختصارًا وتهذيبًا وتصرّفت فيها بالتقديم والتأخير، بما لعله أن يكون مقربًا للمعنى مختصرًا للمقصود مرتبًا للمراد، أسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها.

•• الفرق بين الزهد وعدم ذات اليد:
     اعلم أن الزهد ليس عدم المال، بل هو عدم احتفال القلب بالدنيا والأموال وإن كانت في ملكه.
     فقد يكون الزاهد من أغنى الناس لكنه غير محتفل بما في يده، وبذله في طاعة الله أيسر عليه من بذل الفلس على غيره.
وقد يكون شديد الفقر غير زاهد لأجل ما اشتمل عليه قلبه من الرغبة في الدنيا.

- والزهد في المحرمات واجب، وفي الواجبات حرام، وفي المندوبات مكروه، وفي المباحات مندوب لأن الميل إليها يفضي لارتكاب المحرمات فتركها من باب الوسائل المندوبة.

•• الفرق بين الزهد والورع:
     الزهد هيئة في القلب والورع من أفعال الجوارح: وهو ترك ما لا بأس به حذرا مما به بأس.
     وأصله قوله ﷺ: "الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه".
وهو مندوب إليه.
- ومنه الخروج عن خلاف العلماء بحسب الإمكان:
فإن اختلف العلماء في فعلٍ؛ هل هو مباح أو حرام؟ فالورع الترك.
أو هو مباح أو واجب؟ فالورع الفعل.
وإن اختلفوا: هل هو حرام أو واجب؟ فالعقاب متوقع على كل تقدير، فالورع تقديم التحريم، لأن رعاية درء المفاسد أولى من رعاية حصول المصالح، فيكون الورع الترك.
وإن اختلفوا: هل هو مندوب أو مكروه؟ فلا ورع لتساوي الجهتين، ويمكن ترجيح المكروه لما تقدم في المحرم .
هذا مع تقارب الأدلة، أما إذا كان أحد المذهبين ضعيف الدليل جدا بحيث لو حكم به حاكم لنقضناه، لم يحسن الورع في مثله.
     وفائدة الورع الجمع بين أدلة المختلفين، والعمل بمقتضى كل دليل، فلا يبقى في النفس توهّمٌ أنه قد أهمل دليلا لعل مقتضاه هو الصحيح.
     والمباحات لا زهد فيها ولا ورع من حيث هي مباحات ، ولكن من حيث إن الاستكثار من المباحات يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في الشبهات، وقد يوقع في المحرمات، ولأن كثرة المباحات تفضي إلى بطر النفوس، ويدل على اعتبار ذلك قوله تعالى: "كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى " ، وقوله: "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك" فلو كان فقيرا مبتلى بالحاجات والضرورات لم تمتد نفسه إلى منازعة إبراهيم ﷺ .
وكذلك قوله تعالى عن الكفار: "قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون".
وقال: "وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي "
وقال: "إلا قال مترفوها " ولم يقل : فقراؤها.
وقوله: "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا ".

•• الفرق بين التوكل وترك الأسباب:
     التوكل اعتماد القلب على الله، فيما يجلبه من خير أو يدفعه من ضر .
     وجاء المنقول والمعقول بملابسة الأسباب مع التوكل، كما قال تعالى: "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل"، ورسول الله ﷺ سيّد المتوكلين وكان يطوف على القبائل ويقول : " من يعصمتي حتى أبلغ رسالات ربي"
وكان له جماعة يحرسونه، حتى نزلت: "والله يعصمك من الناس"، ودخل مكة مظاهرا بين درعين في كتيبته الخضراء من الحديد ، وكان ﷺ في آخر عمره وأكمل أحواله مع ربه يدخر قوت سنة لعياله.

     وقد رتّب الله ملكه على عوائد أرادها وأسباب قدرها، فمن طلب من الله حصول هذه الآثار بدون أسبابها فقد أساء الأدب مع الله.
     والأسباب منها ما هو مطرد ومنها ما هو أكثري غير مطرد كالأدوية، وكان النبي ﷺ يأمر بالدواء واستعمال الأدوية حتى بالكي بالنار، فإذا كان حاله في الأسباب التي ليست مطردة فما ظنك بغير ذلك.

•• الفرق بين الكبر والتجمّل:
     اعلم أن الكبر لله على أعداء الله حسن، وعلى عباده وشرائعه كبيرة، وأما الإباحة فيه فبعيدة.
    وأما التجمّل فقد يكون واجبا إذا توقف عليه تنفيذ واجب، وقد يكون مندوبا إليه في الصلوات والجماعات، وفي الحروب لرهبة العدو، والمرأة لزوجها، وفي العلماء لتعظيم العلم، وقد يكون حراما كمن يتزيّن للنساء الأجنبيات، وقد يكون مباحا.

     ومن الفروق بينهما أن الأصل في التجمل الإباحة، فإذا عدم المعارض الناقل عن الإباحة بقيت الإباحة، والأصل في الكبر التحريم فإذا عدم المعارض الناقل عن التحريم استصحب فيه التحريم.
وفرق ثانٍ فإن الكبر من أعمال القلوب وأما التجمل من أفعال الجوارح.

•• الفرق بين الكبر والعجب:
     تقدمت حقيقة الكبر، وأنه في القلب، ويعضد ذلك قوله تعالى: "إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه".
     وأما العجب فهو رؤية العبادة واستعظامها من العبد فهو معصية تكون بعد العبادة، وهو حرام غير مفسد للطاعة، بخلاف الرياء فإنه يقع معها فيفسدها.
     وسر تحريم العجب أنه سوء أدب على الله ، فإن العبد لا ينبغي له أن يستعظم ما يتقرب به إلى سيده.

• الفرق بين الرضا بالقضاء والرضا بالمقضي:
     وهذا يلتبس على كثير من الناس، فإن الرضا بالقضاء واجب والسخط بالقضاء حرام إجماعا، بخلاف المقضي، فإن التألم بالمرض بمقتضى الطبع ليس عدم رضا بالقضاء، ولكنه لو قال : أي شيء عملت حتى أصابني مثل ذلك؟ وما كنت أستأهل هذا ! فهذا عدم رضا بالقضاء.
     فنحن مأمورون بالرضا بالقضاء ولا نعترض على ربنا في ملكه، لكننا لم نؤمر أن تطيب لنا البلايا والرزايا ومؤلمات الحوادث، ولم ترد الشريعة بتكليف أحد بما ليس في طبعه، بل ذم الله قوما لا يتألمون ولا يجدون للبأساء وقعا فقال : " ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون".
     ونحن نجزم بأن النبي ﷺ تألم لقتل حمزة وموت إبراهيم ورمي عائشة، ونجزم بأن الأنبياء طباعهم تتألم وتتوجع من المؤلمات وتسر بالمسرات، وإذا كان الرضا بالمقضيات غير حاصل في طبائع الأنبياء فغيرهم بطريق الأولى.

•• الفرق بين المكفرات وأسباب المثوبات:
     اعلم أن كثيرا من الناس يظن أن المصائب سبب في رفع الدرجات وحصول المثوبات وليس كذلك، بل تحرير الفرق بينهما : أن المثوبة لها شرطان:
١ - أن تكون من كسب العبد ومن مقدوره، فما لا كسب له فيه، ولا هو في مقدوره - فلا مثوبة فيه، وكذا ما كان من جنس مقدوره غير أنه لم يقع بمقدوره كالجناية على عضو من أعضائه فإن ذلك لا مثوبة فيه أيضا، وأصل ذلك قول الله :" وأن ليس للإنسان إلا ما سعى " وقوله :" إنما تجزون ما كنتم تعملون".
 ٢ - أن يكون ذلك المكتسب مأمورا به.
     وأما المكفرات فلا يشترط فيها شيء من ذلك، بل قد تكون مكتسبة مقدورة من باب الحسنات لقوله تعالى: "إن الحسنات يذهبن السيئات".
     وقد لا تكون كذلك كما تكفر العقوبات والمصائب المؤلمات لقوله ﷺ: «ﻣﺎ ﻳﺼﻴﺐ اﻟﻤﺴﻠﻢ، ﻣﻦ ﻧﺼﺐ ﻭﻻ ﻭﺻﺐ، ﻭﻻ ﻫﻢ ﻭﻻ ﺣﺰﻥ ﻭﻻ ﺃﺫﻯ ﻭﻻ ﻏﻢ، ﺣﺘﻰ اﻟﺸﻮﻛﺔ ﻳﺸﺎﻛﻬﺎ ﺇﻻ ﻛﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﻣﻦ ﺧﻄﺎﻳﺎﻩ».
     فالمصيبة كفارة للذنوب جزما سواء اقترن بها السخط أو الصبر أو الرضا، فالسخط معصية أخرى، فإذا تسخط جعلت سيئة، وقد تكون هذه السيئة قدر السيئة التي كفرتها المصيبة أو أقل أو أعظم بحسب كثرة السخط وقلته، وبحسب عظم المصيبة وصغرها، فإن المصيبة العظيمة تكفر من السيئات أكثر من المصيبة اليسيرة.
     فالتكفير واقع قطعا، تسخط المصاب أو صبر، غير أنه إن صبر اجتمع التكفير والأجر، وإن تسخط فقد يعود الذي تكفر بالمصيبة بما جناه من التسخط أو أقل منه أو أكثر، وعلى هذا يحمل ما في بعض الأحاديث من ترتيب المثوبات على المصائب، فالمصيبة لا ثواب فيها قطعا من جهة أنها مصيبة، لأنها غير مكتسبة، والتكفير يقع بالمكتسب وغير المكتسب.
     ومنه قوله ﷺ: "ﻣﺎ ﻣﻨﻜﻦ اﻣﺮﺃﺓ ﺗﻘﺪﻡ ﺛﻼﺛﺔ ﻣﻦ ﻭﻟﺪﻫﺎ، ﺇﻻ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﺎ ﺣﺠﺎبا ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺭ "، ﻓﻘﺎﻟﺖ اﻣﺮﺃﺓ: ﻭاﺛﻨﺘﻴﻦ؟، ﻓﻘﺎﻝ: "ﻭاﺛﻨﺘﻴﻦ".
     فالحجاب راجع إلى معنى التكفير، والتكفير في موت الأولاد ونحوهم بسبب الألم الداخل على القلب من فقد المحبوب، فإن كثر كثر التكفير، وإن قل قل التكفير، فلا جرم يكون التكفير على قدر نفاسة الولد في صفاته وبره وأحواله.

•• الفرق بين المداهنة المحرمة والمداهنة التي لا تحرم وقد تجب:
     اعلم أن معنى المداهنة معاملة الناس بما يحبون من القول، ومنه قوله تعالى: "ودوا لو تدهن فيدهنون"، أي يودون لو أثنيت على أحوالهم وعباداتهم ويقولون لك مثل ذلك فهذه مداهنة محرمة.
     وكذلك كل من يشكر ظالما على ظلمه أو مبتدعا على بدعته أو مبطلا على إبطاله وباطله فهي مداهنة محرمة.
والمداهنة منقسمة إلى الأحكام الخمسة: فقد تكون مباحة إذا كانت استكفاء للشر كما جاء عن أبي الدرداء: "إنا لنكشر في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم"، يريد الظلمة والفسقة الذين يتقى شرهم، ويشكرون بالكلمات الحقة، فإنه ما من أحد إلا وفيه صفة تشكر ولو كان من أنحس الناس.
وقد تكون مكروهة إن كانت عن ضعف لا ضرورة تتقاضاه بل خور في الطبع، أو يكون وسيلة للوقوع في مكروه.
وقد تكون مندوبة إذا كانت وسيلة لمندوب، وقد تكون واجبة إذا كان يتوصل بها القائل لدفع ظلم محرم لا يندفع إلا بذلك القول.

•• الفرق بين الفأل المباح والفأل المحرم:
     الفأل ما يظن عنده الخير عكس الطيرة والتطير.
والفأل المباح مثل الكلمة الحسنة يسمعها الرجل من غير قصد نحو يا فلاح ويا مسعود.
     وأما الفأل المحرم فكأخذ الفأل بالقرعة ونحوها، لأنه من باب الاستقسام بالأزلام، وهي أعواد كانت في الجاهلية مكتوب على أحداها افعل وعلى الآخر لا تفعل.
     والفرق بينه وبين الذي قبله أن الأول متعين للخير يبعث على حسن الظن بالله فهو حسن لأنه وسيلة للخير، والثاني متردد بين الخير والشر وهو بصدد أن يبين سوء الظن بالله.

•• الفرق بين (الغيبة المحرمة) و (الغيبة التي لا تحرم):
     الغيبة هو ما يكرهه الإنسان إذا سمع، ولا يسمى غيبة إلا إذا كان غائبا، واستثني من الغيبة ست صور:
• الأولى: النصيحة لما في صحيح مسلم عن فاطمة بنت قيس قالت: لما ﺣﻠﻠﺖ -أي من عدتها- ﺫﻛﺮﺕ ﻟﻪ ﺃﻥ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﺳﻔﻴﺎﻥ ﻭﺃﺑﺎ ﺟﻬﻢ ﺧﻄﺒﺎﻧﻲ، ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: "ﺃﻣﺎ ﺃﺑﻮ ﺟﻬﻢ، ﻓﻼ ﻳﻀﻊ ﻋﺼﺎﻩ ﻋﻦ ﻋﺎﺗﻘﻪ، ﻭﺃﻣﺎ ﻣﻌﺎﻭﻳﺔ فصعلوك ﻻ ﻣﺎﻝ ﻟﻪ، اﻧﻜﺤﻲ ﺃﺳﺎﻣﺔ ﺑﻦ ﺯﻳﺪ"، ﻓﻜﺮﻫﺘﻪ! ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "اﻧﻜﺤﻲ ﺃﺳﺎﻣﺔ" ﻓﻨﻜﺤﺘﻪ، ﻓﺠﻌﻞ اﻟﻠﻪ ﻓﻴﻪ ﺧﻴﺮا، ﻭاﻏﺘﺒﻄﺖ ﺑﻪ".
فذكر عيبين فيهما مما يكرهانه لو سمعاه، ويشترط في هذا القسم:
- أن تكون الحاجة ماسة لذلك.
- وأن يقتصر الناصح من العيوب على ما يخل بتلك المصلحة التي حصلت المشاورة فيها، فالزيادة على العيوب المخلة بما استشرت فيه حرام، بل تقتصر على عين ما عين أو تعيّن الإقدام عليه.

• الثانية: الجرح والتعديل في الشهود عند توقع الحكم بقول المجرح.
وكذلك رواة الحديث يجوز وضع الكتب في جرح المجروح منهم، وهذا أوسع من أمر الشهود.
ويشترط في ذلك:
- أن تكون الشهادة عند القضاة.
- وأن يقتصر على القوادح المخلة بالشهادة والرواية، فلا يقول: أبوه لاعن من أمه، ونحوها من المؤلمات التي لا تعلق لها بالشهادة والرواية.
- وأن تكون النية فيه خالصة لله تعالى في نصيحة المسلمين، أما متى كان لأجل عداوة أو تفكه بالأعراض وجريا مع الهوى فذلك حرام، وإن حصلت به المصالح عند القضاة وفي الرواة، فإن المعصية قد تجر للمصلحة، كمن قتل كافرا يظنه مسلما فإنه عاص بظنه وإن حصلت المصلحة بقتل الكافر، وكمن أراق خمرا يظنه خلا.

• الثالثة: المعلن بالفسوق، كمن يتفاخر بالزنى والسرقة فلا يضر أن يحكى ذلك عنه، لأنه لا يتألم إذا سمعه، فإن الغيبة إنما حرمت لحق المغتاب وتألمه.

• الرابعة: أرباب البدع والتصانيف المضلة، ينبغي أن يشهر في الناس فسادها وعيبها، ليحذرها الضعفاء فلا يقعوا فيها، وينفر عن تلك المفاسد ما أمكن.
ويشترط فيه:
- ألا يتعدى الصدق ولا يفترى على أهلها ما لم يفعلوه ، فلا يقال على المبتدع: إنه يشرب الخمر ولا أنه يزني مما ليس فيه.
وهذا القسم داخل في النصيحة غير أنه لا يتوقف على المشاورة.
     ومن مات من أهل الضلالة ولم يترك شيعة تعظمه ولا كتبا تقرأ ولا سببا يخشى منه إفساد لغيره ؛ فينبغي أن يستر بستر الله تعالى، ولا يذكر له عيب البتة، وحسابه على الله تعالى.

• الخامسة: إذا سبق علم المغتاب عند المغتاب عنده في الأمر الذي اغتيب به، فإن ذلك لا يحط قدره عنده، وقال بعض الفضلاء : ما يعرى هذا القسم عن نهي، فإن الأمر ربما نسي فتعاهده يذكر به .

• السادسة: الدعوى عند ولاة الأمر لضرورة دفع الظلم .

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

الجمعة، 4 فبراير 2022

مواعظ فقهية في لزوم المساجد

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإنّ لزوم المساجد، والمرابطة فيها، واستيطانها انتظارًا للصلاة، والمكوث في مواضع الصلاة بعد أداء الصلاة لم يزل دأبًا للصالحين، وخُلقًا للمتقين.

   وقد جاءت أحاديث عظيمة في فضل الجلوس في المسجد، وانتظار الصلاة، مما تؤنق المؤمن، ويطيب بها قلبه.

     وهو أمر كان النبي ﷺ يُذكّر به الصحابة إذا تأخّرت الإقامة لأمر حادث، فكان ﷺ يذكرهم أجر انتظارهم للصلاة، وإنّهم في صلاة ما انتظروها، كما سيأتي.

• ومن الأجور التي جاء ذكرها في الأدلّة لمن لازم المساجد:

أ- صلاة الملائكة عليه، ودعاؤهم له، كما في الصحيحين: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ».

ب- حصول أجر الصلاة له، ففي الصحيحين: «فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي».

ج- مباهاة ﷲ لمن جلس ينتظر الصلاة، ففي المسند وابن ماجه عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ قال: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘّﺐ ﻣﻦ ﻋﻘّﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑًﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ».

د- حصول أجر الرباط، ففي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻤﺤﻮ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ، ﻭﻳﺮﻓﻊ ﺑﻪ اﻟﺪﺭﺟﺎﺕ؟» ﻗﺎﻟﻮا ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺇﺳﺒﺎﻍ اﻟﻮﺿﻮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻜﺎﺭﻩ، ﻭﻛﺜﺮﺓ اﻟﺨﻄﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ، ﻭاﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺬﻟﻜﻢ اﻟﺮﺑﺎﻁ».

هـ- إنه كالمجاهد في سبيل الله، ففي المسند عن ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال: قال ﷺ: «ﻣﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻛﻔﺎﺭﺱ اﺷﺘﺪ ﺑﻪ ﻓﺮﺳﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﺸﺤﻪ، ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻼﺋﻜﺔ اﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﺃﻭ ﻳﻘﻮﻡ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻟﺮﺑﺎﻁ الأكبر».

و- هو سببٌ من أسباب رفع الدرجات ومغفرة الخطايا، دلّ عليه الحديث السابق: «ألا أدلكم على ما يمحو ﷲ به الخطايا ويرفع به الدرجات..». 

ز- إنه يكتب من القانتين، ففي المسند عن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ قال ﷺ: «اﻟﻘﺎﻋﺪ ﻳﺮﻋﻰ اﻟﺼﻼﺓ كالقانت، ﻭﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﻦ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ».

ح- إن ﷲ يتبشبش له، ففي المسند وسنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﻣﺎ ﺗﻮﻃّﻦ ﺭﺟﻞ ﻣﺴﻠﻢ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻟﻠﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺬﻛﺮ، ﺇﻻ ﺗﺒﺸﺒﺶ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒﺸﺒﺶ ﺃﻫﻞ اﻟﻐﺎﺋﺐ ﺑﻐﺎﺋﺒﻬﻢ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ ﻋﻠﻴﻬﻢ».

•• والأحاديث في هذا الباب على نوعين في الجملة:

- أحاديث انتظار الصلاة.

- وأحاديث الجلوس بعد الصلاة.

وقد تجتمع في حقّ من صلى ثم جلس منتظرًا لصلاة أخرى.

•• وفي هذه الأحاديث مسائل:

١) ما اﻟﻤﺮاﺩ بقوله ﷺ: «في مصلّاه»، في الحديث: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»،  فهل يقصد به ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ يدخل فيه كل موضع في اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ أدى صلاته ﻓﻴﻪ؟

- ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:

القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلّى، بل يشمل جميع  المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ، وابن عبد البر ورجحه ابن رجب، والعيني، وقال العراقي: "وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ".

وقال ابن حجر: "ﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮًا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ".

ويكون ذلك كقولهم: لا يجوز الخروج من معتكفه، وهم يصرحون أن مقصدهم المسجد.

القول الثاني: أنه خاصٌ بمحلّ صلاته.

ﻭﻗﺪ جاء ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه، ففي الموطأ عن أبي هريرة قال: «إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه. اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي»، فإنه جعل فضل المتحول عن محله: كفضل الجلوس للصلاة، وهو فضل يتحقق لكل من انتظر، ولذا قال ابن عبد البر: "ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻪ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ".

ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: في الصحيحين: ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ: «ﺻﻼﺓ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﻗﻪ، ﺑﻀﻌًﺎ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﺗﻮﺿﺄ ﻓﺄﺣﺴﻦ اﻟﻮﺿﻮء، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻻ ﻳﻨﻬﺰﻩ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﻂ ﺧﻄﻮﺓ ﺇﻻ ﺭﻓﻊ ﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺣﻂ ﻋﻨﻪ ﺑﻬﺎ ﺧﻄﻴﺌﺔ، ﺣﺘﻰ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺩﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻫﻲ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻭاﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻳﺼﻠﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ ﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺆﺫ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻴﻪ».

فإنه قال هنا: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ».

وقد جاء عن عطاء أنّ ذلك في حق من لم يقم من محله، ففي مصنف عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: أحب إليك ألا تقوم حتى تفرغ من تسبيحك؟ قال: نعم، قلت: لم؟ قال: لأنهم يقولون: لا تزال الملائكة تصلي على المرء ما لم يقم من مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث".

والعلم عند رب العالمين.

٢) وهنا مسألة أخرى:

هل هناك فرق في الأجر بين حالي المصلي: حال الجلوس بعد الصلاة، وحال انتظار الصلاة؟

والناظر في الأدلة يرى أنها جاءت بأن فضيلة صلاة الملائكة على العبد متحققة للحالين، لمن كان جالسًا في المسجد بعد صلاته، أو كان منتظرًا للصلاة، سواء، وفي حديث علي في المسند، قال: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺇﻥّ اﻟﻌﺒﺪ ﺇﺫا ﺟﻠﺲ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﺇﻥ ﺟﻠﺲ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﻲ: ﻫﻮ ﺣﺪﻳﺚ ﻛﻮﻓﻲ، ﻭﺇﺳﻨﺎﺩﻩ ﺣﺴﻦ.

وإنّما الذي يقع فيه النظر هو حصول أجر الصلاة لمن جلس بعد صلاته غير منتظر لصلاة أخرى، وقد اختلف في ذلك على قولين:

- القول الأول:

إن هناك فرقًا في الأجر بين من جلس ينتظر الصلاة، وبين من لم ينتظرها، وإنما يتحقق أجر الصلاة للجالس الذي ينتظر الصلاة، وقد سبق قوله ﷺ: «إﺫا ﺻﻠّﻰ، ﻟﻢ ﺗﺰﻝ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ».

قال العراقي في ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ مصلّاﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ فيه»، قال: "ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ، ﻟﻜﻦ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ ﺑﻜﻮﻥ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﺫﻟﻚ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ»، ﻭﻫﻮ ﻭاﺿﺢ".

وقال ابن حجر: "ﻭﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: «ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ»، ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﻤﻦ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ اﻧﺘﻈﺮ ﺻﻼﺓ ﺃﺧﺮﻯ".

القول الثاني:

إنّ أجر من جلس بعد الصلاة، ومن انتظر الصلاة سواء، ويدلّ عليه ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا صلّى أحدكم فقضى صلاته، ثم قعد في مصلّاه يذكر الله فهو في صلاة، وإنّ الملائكة يصلّون عليه، يقولون: اللهم ارحمه واغفر له، وإن هو دخل مصلاه ينتظر كان مثل ذلك».

٣) ومن المسائل المتعلّقة بهذا الباب؛ هل يشترط لتحقق الثواب في مثل هذه الأحاديث الاشتغال بالذكر، وعمران المسجد به؟

لم يأتِ ﻓﻲ أكثر ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ اﻟﺒﺎﺏ اشتراط ذلك، ولكن جاء ذلك في حديث تبشبش ﷲ للعبد، ﻭإن كان الأكمل والأفضل أن يعمر المسلم المسجد بالذكر والدعاء.

ولذلك كان النّبي ﷺ يذكّر بها الصحابة الذين ربما احتبسوا ينتظرون الصلاة حتى ناموا، ففي الصحيحين: أنهم ﺳﺄﻟﻮا ﺃﻧﺴًﺎ ﻋﻦ ﺧﺎﺗﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺧﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻌﺸﺎء ﺫاﺕ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﻛﺎﺩ ﻳﺬﻫﺐ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺛﻢ ﺟﺎء، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺻﻠﻮا، ﻭﻧﺎﻣﻮا، ﻭﺇﻧﻜﻢ ﻟﻢ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻢ اﻟﺼﻼﺓ».

وفي المسند ﺟﺎﺑﺮ، ﻗﺎﻝ: ﺟﻬﺰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ جيشا ﻟﻴﻠﺔ، ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﺑﻠﻎ ﺫﻟﻚ، ﺛﻢ ﺧﺮﺝ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﻗﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﺭﻗﺪﻭا، ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺗﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺼﻼﺓ، ﺃﻣﺎ ﺇﻧﻜﻢ ﻟﻦ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻤﻮﻫﺎ»، وفي الصحيحين ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻗﺎﻟﺖ: ﺃﻋﺘﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﺸﺎء، ﻭﺫﻟﻚ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻔﺸﻮ اﻹﺳﻼﻡ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﺮﺝ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ: ﻧﺎﻡ اﻟﻨﺴﺎء ﻭاﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻓﺨﺮﺝ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ ﻷﻫﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ: «ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﻫﺎ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﻏﻴﺮﻛﻢ».

٤) وهنا مسألة مليحة:

وهي في لحوق النّساء والمعذورين، ممن لا يصلون في المساجد، إن حبسوا أنفسهم في مصلياتهم، بالأجر الوارد في لزوم المسجد:

نعم، قد ألحق بعض أهل العلم كمالك وابن عبد البر هؤلاء بمن لزم مصلاه في مسجد الجماعة، بل ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺑﻄﺎﻝ: (ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺷﺒﻬﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻌﺎﻝ اﻟﺒﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).

بخلاف من لم يكن معذورًا.

وذهب آخرون إلى أن هذا الأجر خاص بأهل المسجد، ففي حديث ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎﺩاﻣﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻠﻪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ»، قال ابن رجب: "ﻭﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺼﻼﺓ اﻟﺘﻲ ﺻﻼﻫﺎ: ﻭاﻟﻤﺮاﺩ ﺑﻪ ﻓﻲ المسجد ﺩﻭﻥ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺁﺧﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ".

٥) دلت الأدلة على أن الأجر معلق بأمور:

- عدم الأذى، وذلك أنّ حال الملازم للمسجد لابد أن يكون على رعي لحق ﷲ وحق الخلق، فإذا آذى المؤمنين فاتت عليه الفضيلة.

- عدم الحدث، والحدث فسّره أبو هريرة بانتقاض الوضوء، وقد نصّ عليه مالك وغيره، وفي الصحيحين: قال ﺭﺟﻞ ﺃﻋﺠﻤﻲ: ﻣﺎ اﻟﺤﺪﺙ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻫﺮﻳﺮﺓ؟ ﻗﺎﻝ: اﻟﺼﻮﺕ، ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻀﺮﻃﺔ.

وجاء ذكر الحدث؛ لأنه إذا لم يحدث فهو على هيئة الانتظار، فإذا أحدث نافى بحدثه حال المتأهبين لها.

وذهب آخرون إلى أن الحدث هو الأذى لغيره، وأنه نفس المذكور قبله في الحديث، جاء ذلك عن عبد ﷲ بن أبي أوفى، ومع ذلك قال ابن بطال: "ﻓﺈﺫا اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ اﺳﺘﻐﻔﺎﺭ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺤﺪﺙ، ﻓﺄﻭﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻄﻊ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺴﺐ ﻭﺷﺒﻬﻪ". 

٦) ولما كان انتظار الصلاة صلاة، فقد نصّ جمع على أنه يكره لمن ينتظر الصلاة ما يكره للمصلي إلا ما تدعو إليه الحاجة.

واستحبوا له إذا جلس لانتظار الصلاة أن يجلس مستقبلًا القبلة، لأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ومن سنّة المصلي أن يكون مستقبل القبلة، نص على استحبابه أحمد في صلاة الصبح.

وإن كان يعكّر على ذلك أنّ المعروف من سيرة النبي ﷺ أنّه كان يستقبل الناس بعد الصلاة، إلا أن يخصّ هذا بالإمام.

ومما يُجعل تحت هذه المسألة؛ تشبيك الأصابع عند الذهاب للمسجد، وعند انتظار الصلاة، وعامّة فقهاء المذاهب على كراهيته قبل الصلاة، وأحاديث الباب لا تخلو من ضعف،  وقد روي في المسند عن أبي ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺇﺫ ﺩﺧﻠﻨﺎ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺭﺟﻞ ﺟﺎﻟﺲ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ اﻟﻤﺴﺠﺪ محتبيًا مشبك ﺃﺻﺎبعه ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ، ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﻔﻄﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻹﺷﺎﺭﺓ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﷺ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻼ يشبكنّ، ﻓﺈﻥ اﻟﺘﺸﺒﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻭﺇﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻻ ﻳﺰاﻝ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ».

والله أعلم.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

الثلاثاء، 1 فبراير 2022

المقاتل العلميّة

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

   فمن الكلمات التي كانت تدور على ألسنة مشايخنا الصالحين، ويرددونها على الطلاب من غير سآم؛ كلمة ابن عجلان: (إذا أغفل العالم لا أدري؛ أصيبت مقاتله!). (المدخل للبيهقي: ٤٣٦، تاريخ بغداد ١٦/ ٤٠٨)

     وهذه الكلمة الطاهرة قد نُقلت لنا بإسناد جليل، تسلسل فيه علماء الأمّة الكبار، فإنها مرويّة عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا مالك، عن ابن عجلان.

    ومن اللطيف أن مالكًا لم يسمع من ابن عجلان إلا هذه الكلمة، ونعمت الكلمة. (التعديل والتجريح للباجي ٢/ ٧٠٠)

     • وهذه الكلمة الطيّبة قد رويت عن عدد من السلف، كما جاءت عن ابن عباس، وعن غيره. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨).

     • وكان العلماء يتواصون بتدريس هذه الكلمة للطلاب! وتلقينهم هذا الأدب، فقد جاء عن عبد الله بن يزيد بن هرمز أنه قال: "ينبغي للعالم أن يورّث جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عمّا لا يدري قال: لا أدري"! (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨)

     • وانظر دوران هذه الكلمة على ألسنة الأئمة في كل فن، انظرها في المسائل الحديثية والمسائل الفقهية واللغوية، انظرها في المسائل التي سئل عنها ابن معين، كيف كان يحيل على هذه الكلمة، وهو يسأل عن أسماء الرجال ودرجاتهم وحديثهم، انظرها في كلام الإمام البخاري في التاريخ الكبير، انظرها في مسائل الإمام أحمد، المنقولة لنا عن كبار أصحابه، وقد عددت له في مسائله المطبوعة نحوًا من مائتي مسألة يقول فيها: لا أدري، ووالله إنَّ كثيرًا منها ما لو عرضت على بعضنا لانطلق كالسهم ليس يلوي على شيء، وستتعجب من كثرة ترداد الفقهاء في كتبهم: أظن ونحوه دون الجزم، ومن أكثر من رأيته على هذه الطريقة الزركشي في شرحه على الخرقي، فكثيرًا ما يعول على المظنة، ويفزع إليها دون أن يجزم في مواضع تردده، رحمه الله.

     • وإنّ من تمام عقل العالم أن يجعل من هذه الكلمة مفزعًا له كلما طاف به طائف من شك في مسألة، وقد روى الأعمش عن شقيق عن عبد ﷲ بن مسعود قال: والله إنّ الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون. (سنن الدارمي ١/ ٢٧٢)

قال الأعمش: قال لي الحكم بن عتيبة: لو سمعت هذا منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي. (جامع بيان العلم وفضله، (٢/ ٨٤٣).

هذا الحكم بن عتيبة الذي ﻗﺎﻝ فيه ﻣﺠﺎﻫﺪ ﺑﻦ ﺭﻭﻣﻲ: ﺭﺃﻳﺖ اﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ اﻟﺨﻴﻒ ﻭﻋﻠﻤﺎء اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻴﺎﻝ ﻋﻠﻴﻪ!

والذي ﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺃﺧﻠﻮا ﻟﻪ ﺳﺎﺭﻳﺔ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﺼﻠﻲ ﺇﻟﻴﻬﺎ. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ٣/ ١٢٤)

     • ثم لا تظنّ أنّ هذه كلمة الأصاغر في العلم والعمل، كلا! بل هي كلمة الأكابر، الذين يعرفون مقام الفتيا، ويخافون مقام ربهم ووعيده، فعن اﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ ﻗﺎﻝ: ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺣﺪ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺃﻫﻴﺐ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺣﺪ ﺑﻌﺪ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺃﻫﻴﺐ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ. (الطبقات لابن سعد ٣/ ١٣٢)

وقال الشافعي: ما رأيت أحدًا فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أكفّ عن الفتيا منه. (الجرح والتعديل ١/ ٣٣)

ولقد كان ما يقول فيه ابن عمر لا أدري أكثر مما يفتي فيه. (أخبار المكيين من تاريخ ابن بي خيثمة ص: ٢٥٣)

وعن حنظلة بن أبي سفيان قال: ما رأيت عالما قط يقول: لا أدري أكثر من طاوس. (تاريخ الإسلام ٣/ ٦٦).

وليست هذه الكلمة دليلًا على الجهل، بل تكرارها مما يدلّ على علم صاحبها، وفقهه عن ﷲ، فإنّ العالم إذا توسّع في العلم جبن عن الفتيا، لكثرة إشرافه على منازع أدلة المخالفين، واطلاعه على مآخذ الاعتراضات في المسائل، فيحمله ذلك على التحوّط والحذر، وربما حمل عليها ما قد صح عن أبي الدرداء رضي الله عنه حين قال: لا أدري نصف العلم. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨)

وعن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ، قال: "إنّ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻤﺮء ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ: اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﺒﻴﻪ ﷺ: {ﻗﻞ ﻣﺎ ﺃﺳﺄﻟﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺟﺮ ﻭﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﺘﻜﻠﻔﻴﻦ}.

وقد كان السلف الطيبون يرون ذلك محمدةً في صاحبه، لا وكس فيها على صاحبها، ويرون من العلم أن يُسأل العبد فيقول لما لا يدريه: لا أدري، فحين سأل الحسن بن صالح رجلًا عن شيء؟ فقال: لا أدري فقال: الآن حين دريت. الكامل في ضعفاء الرجال (٣/ ١٤٨)

  • ويجب على المؤمن أن يذَكر نفسه بأن ما يجهله أكثر مما يعلمه، فإنّ ذلك أحرى ألا تأخذه أخذات النفس، ومن الأخبار اللطيفة في هذا أنه كان لإبراهيم بن طهمان جراية فاخرة (راتب وعطاء) من بيت المال، قال: فسئل مسألة يومًا من الأيام في مجلس الخليفة، فقال: لا أدري! فقالوا له: تأخذ في كل شهر كذا وكذا ولا تحسن مسألة؟! قال: إنما آخذه على ما أحسن، ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال علي، ولا يفني ما لا أحسن، فأعجب أمير المؤمنين جوابه، وأمر له بجائزة فاخرة، وزاد في جرايته. (تاريخ بغداد ٧/ ١٣)

     • وينبغي على صاحب العلم والفتيا؛ ألا يتردد في قول لا أدري، ولا يستحيي منها، قال أبو عمر الزاهد، قال: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب؛ فسأله سائل عن شيء، فقال لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟! فقال له ثعلب لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. (تاريخ بغداد ٦/ ٤٤٨)

ولست أنسى أني سألت شيخنا ابن عثيمين رحمه الله عن صحة حديث ﺃبي ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﻭﺳّﻄﻮا اﻹﻣﺎﻡ»، الذي رواه أبو داود، فقال من فوره: لا أدري، لم يتلعثم أو يتردد أن يقولها وهو عالم الدنيا، ولست أعجب أن يقول مثله: لا أدري، لمسألة لم يجزم بها، لكنّ الذي أخذني في ذلك الجواب، ولم يذهب من نفسي؛ أريحيته بقوله وتبسّطه فيه دون أن تأخذه ضجرة أو تردد.

     • وربما ظنّ بعضهم أنّ في هذه الكلمة حطّةً بصاحبها، وليست كذلك عند أهل التقوى، وقد قيل للشعبي: أما تستحي من كثرة ما تسأل، فتقول لا أدري، قال: إن ملائكة الله المقربين لم يستحيوا حَيْثُ سئلوا عما لا يعلمون، أن: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32}. أخبار القضاة (٢ / ٤٢٢)، (تاريخ دمشق لابن عساكر ٢٥/ ٣٦٦).

وقال أحمد بن عمرو بن سرح، سمعت ابن وهب يقول: لو أردت أن أنصرف كل يوم بألواحي ملأى عند مالك بن أنس فيما يسأل ويقول لا أدري لانصرفت بها، قال ابن سرح: وقد صار لا أدري عند أهل زماننا هذا عيب!

وكان كبار أعلام الأمّة لا يبالون أن يبينوا نقص علمهم في باب أو فن أو علم، فلما قال عبد الرحمن بن القاسم لمالك: يا أبا عبد الله ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر! فقال مالك: ومن أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله! فقال له مالك: ما أعلمها أنا! فكيف يعلمونها بي؟ (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص ٣٧).

     • وليس والله العجب ممن قال لما لا يدري: لا أدري، لكنّ العجب ممن يقول لما لا يدري: أدري! فيسارع دون تروي، ويفتي بغير بينة، ويتكلم بغير تريث، قال سفيان بن عيينة: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه كان في حلقة فيها رجل من ولد عبد الله بن عمر، فسئل العبدلي عن شيء، فقال: لا أدري! فقال له يحيى بن سعيد: العجب منك كل العجب، تقول لا أدري وأنت ابن إمامي هدي! فقال: ألا أخبرك بأعجب مني عند الله، وعند من عقل عن الله؛ من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة. (مقدمة صحيح مسلم، ٤/ ١٦، الكامل في ضعفاء الرجال ١/ ٢٤٥).

     • والناس لهم ضغطة على العالم، وملجئة يلجئونه بها ليجيب، وقد رأيت من المستفتين مَن يذكر مشقّته وعنته ليحمل المفتي على الجواب له بما يحب، ولكن من اتقى ﷲ لم يجعل من نفسه وقاء لأحد من النار، بل يجب أن يتذكر عند فتياه أنه قد أوقف نفسه على شفا هلكة، وشفير النار، إن لم ينجها بالتقوى وقع، فعن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺻﺤﺒﺖ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ ﺷﻬﺮًا ﻓﻜﺜﻴﺮًا ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﻻ ﺃﺩﺭﻱ، ﺛﻢ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻲّ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺗﺪﺭﻱ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻫﺆﻻء؟ ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻠﻮا ﻇﻬﻮﺭﻧﺎ ﺟﺴﺮًا ﻟﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺟﻬﻨﻢ!". (جامع بيان العلم، ٢/ ٨٤١)

فليست مشقة المستفتي وتعبه بأهون من نار جهنم، ولما سأل رجلٌ مالكًا عن مسألة، وذكر أنه قد جاء مرسولًا يسأل عن هذه المسائل من مسيرة ستة أشهر! قال له مالك: فأخبر الذى أرسلك أني لا علم لي بها! قال: ومن يعلمها؟ قال: من علّمه الله!(الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص:٣٨).

• وذلك لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة فيها سلامة من النار! يستجنّ بها العبد من نار جهنم، قال مالك بن أنس: جُنّة العالم لا أدري. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٧).

وقد أتبع مالك القول الفعل، فكان كثيرًا ما يرد المستفتين بلا أدري، قال ابن أبي أويس عن خاله مالك بن أنس: سئل مالك مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة.

وكان ربما يسأل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: لا أدري. (ترتيب المدارك، ١ /١٨٣)

وكان أصحاب مالك حين يرونه يدرأ ما يسأل عنه بلا أدري يتعجبون، ويقول قائلهم: لا والله ما رفع هذا الرجل إلا بالتقوى، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري؟ (ترتيب المدارك وتقريب المسالك ١ /١٨٣)

وكان إذا تعجّب منه السائلون، كيف يكثر من قول: لا أدري، احتج عليهم بحديث ابن عمر، حين يقول: لا أدري، ثم يقول: فمن أنا؟! وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة، وهذا يضمحل عن قليل! (ترتيب المدارك وتقريب المسالك ١ / ١٨٤)

وكان يلوم بعض المستفتين الذي ربما استخف بالعلم، وقال للمفتي: هذه مسألة سهلة، فكان مالك إذا قيل له ذلك غضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا}، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. (ترتيب المدارك، ١ / ١٨٤- ١٨٥)

وربما وجهوا لمالك المسائل فتقيم  عنده زمنًا ثم يخرجها، قد أجاب ببعضها، وتوقف في أكثرها، كما جاء عن بعض أصحابه أنه وجه له بمسائل فبقيت عنده أربعة أشهر ثم جاءت بخاتمه بعد ذلك، وقد أجاب في ثلث ذلك المسائل، وقال في باقيها: لا أدري! (ترتيب المدارك ٣/ ٧)

     • ومما يعين صاحب العلم على لزوم هذه الكلمة، أن يتذكر أن فتواه دين يتدين بها الخلق، وحين سئل عطاء عن مسألة، وقال فيها: لا أدري، وقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ فقال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي! (تهذيب التهذيب ٧/ ٢٠٢).

     ﻭهي والله راحة الخاطر وسكون النفس، وقد ﺫﻛﺮ اﻟﺸﻌﺒﻲ، ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﺃﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: "ﻣﺎ ﺃﺑﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺒﺪ، ﻣﺎ ﺃﺑﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺒﺪ"! ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: ﻭﻣﺎ ﺫاﻙ؟ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻥ ﺗﻘﻮﻝ ﻟﻠﺸﻲء ﻻ ﺗﻌﻠﻤﻪ: اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ". (جامع بيان العلم، ٢/ ٨٣٦)

والعلم عند الله.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.