الخميس، 23 فبراير 2017

ورقة حول: "جلال الصناعة الفقهية".



     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله :
أما بعد:
فقد وضع ابن الجوزي الهناء مواضع النقب، حين قال: "للفقيه أن يطالع من كل فن فنا، من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقه يحتاج إلى جميع العلوم". (صيد الخاطر ٤٥١)
ولم يكن كلامه لغوا حين قال في تحصيل العلم وطلبه: "الموفق من طلب المهم، فإن العمر يعجز عن تحصيل الكل، وجمهور العلوم الفقه". (صيد الخاطر ٣٨٥)
وذلك أن الصنعة الفقهية داعية إلى توظيف كثير من الآلات، واستعمال عديد من الأدوات، يسلطها الفقيه عند نظره وبحثه ودرسه ليخرج بمعرفة مراد الله ومراد رسوله ﷺ.
ولهذا قيل: "العلوم أبازير الفقه، وليس دون الفقه علم إلا وصاحبه يحتاج إلى دون ما يحتاج إليه الفقيه، لأن الفقيه يحتاج أن يتعلق من معرفة كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وإلى معرفة الجد والهزل، والخلاف والضد، والنفع والضر، وأمور الناس الجارية بينهم، والعادات المعروفة منهم" (الفقيه والمتفقه ٢ / ١٥٨)
وربما أنك قد تعجبت حين مرّ معك ما قاله ابن وهب: "لولا أنّ الله أنقذني بمالك والليث لضللت!". (الانتقاء لابن عبد البر ٢٨)
وهل تدري من ابن وهب؟
هذا الذي كان يقال عنه ديوان العلم!
لأنه كما قال ابن القاسم: "ما دون العلم أحد تدوينه"!
وقال أحمد بن صالح المصري: "حدّث ابن وهب بمائة ألف حديث"!.
ولذا روى عنه شيوخه، بل روى عنه جلة من شيوخه كالليث ابن سعد. (سير أعلام النبلاء ٩ / ٢٢٤ - ٢٢٦)
ولكن معرفة وجوه التئام النصوص، والجمع بينها، واستنباط الأحكام لا يتوفر لكل أحد، وربما كان النظر المجرد عن آلته عاطلا عن تحصيل المطلوب، وعسى أن يقول بعض السلف قولا يخشن في السمع وقعه، لولا أن قائله من فقهاء أهل الحديث، فقد قال ابن عيينة: "الحديث مضلة إلا للفقهاء". (الجامع لابن أبي زيد ١١٨)
فلا يغرب عليك قوله هذا، فإنه قد رأى مصارع المتعثرين، وعلم كيف ضل من ضل حين طرق بابا ليس بابه .
ولا تتعجب أن ترى قلة أهل الفقه في العلماء فضلا عن غيرهم، فقد قال أحمد في عبد الرزاق الصنعاني عندما سئل : كان له فقه؟ فقال أحمد: " ما أقل الفقه في أهل الحديث!". (المقصد الأرشد ٢ / ١١٠٣).
مع أن عبد الرزاق صنف كتابه الكبير في فقه السلف، وليس يخلي المسائل من بيان اختياره، يعقب به في مواضع كثيرة، بما يعلو على كثير ممن ينتسب إلى الفقه.
ولكن من ظن أن كل من حمل النصوص وحفظها فقد عرف من فقهها وفهم من مرادها ما يبلغ مرتبة الفقهاء، من ظن ذلك غلط وجافى المحزّ.
والواجب أن لا يأنف من ربض به فهمه عن رتب فقه الشريعة عن الإقرار بذلك، فإن هذا أبرد له من أن يحرق نفسه بالقول في دين الله بلا آلة، وقد كان صالحو المحدثين يذكرون ذلك عن أنفسهم لا يأنفون، فعن ابن شوذب عن مطر الوراق، أنّه سأله رجل عن حديث فحدثه، فسأله عن تفسيره، فقال: لا أدري إنمّا أنا زاملة!، فقال له الرجل: جزاك الله من زاملة خيرا، فإن عليك من كل حلو وحامض. (ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله ٢ / ١٠٢٠)
وهذا الأمر كان مشهورا عند المتقدمين يعرفه المحدثون والفقهاء من أنفسهم، حتى كان الأعمش يقول: "يا معشر الفقهاء أنتم الأطباء ونحن الصيادلة". (نصيحة أهل الحديث للخطيب ٤٥).
وقال الطحاوي لمحمد بن زبر -محدث دمشق- وقد تصفح بعض تصانيفه وأعجبته، فقال له: "يا أبا سليمان ، أنتم الصيادلة ونحن الأطباء". (تاريخ الإسلام للذهبي ٢٦ / ٦٥٠).
ومثل هذا حمل أمثال مالك أن يوصي ابني أخته بكر وإسماعيل بن أبي أويس قال: "أراكما تحبان هذا الشأن - أي الحديث - وتطلبانه، قالا: نعم، قال إن أحببتما أن تنتفعا به وينفع الله بكما فأقلّا من الحديث وتفقها". (نصيحة أهل الحديث ٣٧).
وإن أقرب ما تجده أن الفقه في الشرع عاصم يعصم المؤمن من الخبط في الفهم، ومن لطيف ذلك الحكاية المشهورة التي ذكرها الخطابي عن بعض شيوخه، وكان يظن أن حديث ﷺ: "نهى عن الحلق يوم الجمعة"، أن (الحلق): بسكون اللام، أي الحِلاق، قال: فبقي أربعين سنة لا يحلق يوم الجمعة!
قال الخطابي: "وإنما هو الحِلَق جمع حلقة". (إصلاح غلط المحدثين ٢٨)
وأنا ضارب لك مثالا أو مثالين من مشهور مسائل الخلاف القديم، عسى أن يظهر فيه ما أردت بيانه من جلال علم الفقه وفضله، وعظم الصنعة فيه، وسنرى فيه بعض ما يحتاجه الفقيه من الأدوات عند نظره في المسائل الشرعية، ونرى افتقاره لكثير من آلات النظر وأدواته فإن الفقيه محتاج:
١ - إلى النظر في الأدلة والنصوص.
٢ - ثم البحث في الخلاف والإجماع.
٣ - ومعرفة الحديث وعلله وإجماعات نقاده وخلافهم.
٤ - وإعمال القواعد الأصولية.
٥ - والقواعد الفقهية.
٦ - ومعرفة الفروق الفقهية.
٧ - والرجوع للناسخ والمنسوخ.
٨ - والتثبت من النقول والتحقق من انتفاء الوهم.
٩ - والمقارنة بين كلام أهل العلم لمعرفة صحة مآخذ المختلفين أو ضدها.
١٠ - ثم الموازنة بين التعليلات والاعتراضات والتعقبات، وغير ذلك من أدوات النظر .
وأما المسائل المعاصرة، مما لم نبلوا فيها كلام السالفين؛ فهناك تجد طابع الفقه على أصحابه لا يخفى عليك، وثَمّ تُشَمّر الثياب وتستنطق النصوص ويظهر الفرق بين زوامل النصوص وفقهائه.

•• مسألة: (نقض الوضوء بأكل لحم الجزور)
• اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
١ - ليس فيه وضوء.
وهذا مذهب الحنفية والمالكية والشافعية.
(تبيين الحقائق ١ / ٣ ، شرح التلقين ١ / ١٩٩ ، عيون الأدلة ٢ / ٦٧٣، المجموع ٢ / ٥٦، مغني المحتاج ١ / ١٤٠).
• واستدل أصحاب هذا القول:
- بحديث جابر: "كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار"، (رواه أبو داود ١٩٢ ، والنسائي ١٨٥ من حديث ابن المنكدر عن جابر).
- وقالوا: هو ناسخ لأحاديث الوضوء من لحم الجزور. (اللباب ١ / ١٢٤، المجموع ٢ / ٥٩)
- وقالوا: يدل على رجحانه أنه قول الخلفاء الراشدين. (المنهاج شرح مسلم ٤ / ٤٨).
- وقالوا: إن مس الدم والنجاسات لا يوجب وضوءا فالطاهر أولى. (شرح التلقين ١ / ١٩٩ ).
- بل إن أكل المحرمات لا يوجب الوضوء فالطاهر المباح أولى. (عيون الأدلة ٢ / ٦٣٨، المجموع للنووي ٢ / ٥٦ )
- ولأن الذي ينقض ما يخرج من الجوف لا ما يصل إليه. (عيون الأدلة لابن القصّار المالكي ٢ / ٦٣٧).
- ولأن القائل به لا يعدّيه إلى الشحم والكبد ولا فرق. (مغني المحتاج ١ / ١٤٠).
- وحملوا الوضوء في الحديث الذي استدل به أصحاب القول الثاني على غسل اليدين. (اللباب ١ / ١٢٤، شرح التلقين ١ / ١٩٨، عيون الأدلة ٢ / ٦٣٨ ).
- وقالوا: لأن لحم الجزور له زفر وسهوكة ليست للغنم. (اللباب لجمال الدين ابن مسعود المنبجي ١ / ١٢٤، شرح التلقين ١ / ١٩٩، الحاوي ١ / ٢٠٦، المجموع ٢ / ٥٦).
- ولهذا حمله بعضهم على السنية. (شرح التلقين ١ / ١٩٩، عيون الأدلة ٢ / ٦٣٧، الحاوي ١ / ٢٠٥، والقول بالسنية ذهب إليه بعض الفقهاء، وعللوا القول بالسنية بالخروج من الخلاف، تبيين الحقائق ١ / ٣ ).

- القول الثاني:
النقض بلحوم الإبل ووجوب الوضوء منه.
وهو قول جابر بن سمرة، وأحمد وإسحاق ويحيى بن يحيى وابن خزيمة وابن المنذر وابن تيمية وابن القيم. (المجموع ٢ / ٥٦، المغني  ١ / ١٣٨ ، شرح العمدة ١ / ٣٣٢، إعلام الموقعين ١ / ٢٩٨)
وهو القديم للشافعي واختاره بعض أصحابه كالنووي في المجموع. (المجموع ٢ / ٥٦ ، خلافا لما قرر في شرح مسلم ٤ / ٤٨ )
- وقال الخطابي: "ذهب إلى هذا عامة أصحاب الحديث".
(معالم السنن ١ / ٦٧).
• واستدل أصحاب هذا القول:
- بحديث ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﺳﻤﺮﺓ ﺃﻥ ﺭﺟﻼ ﺳﺄﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: ﺃﺃﺗﻮﺿﺄ ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻡ الغنم؟ ﻗﺎﻝ: "ﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﺘﻮﺿﺄ، ﻭﺇﻥ ﺷﺌﺖ ﻓﻼ ﺗﻮﺿﺄ"، ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻮﺿﺄ ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻡ الإﺑﻞ؟، ﻗﺎﻝ: "ﻧﻌﻢ ﻓﺘﻮﺿﺄ ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻡ الإبل". (رواه مسلم ٣٦٠)
وبحديث البراء بن عازب ﻗﺎﻝ: "ﺳﺌﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻋﻦ اﻟﻮﺿﻮء ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻡ الإبل، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺗﻮﺿﺌﻮا ﻣﻨﻬﺎ"، ﻭﺳﺌﻞ ﻋﻦ ﻟﺤﻮﻡ الغنم، ﻓﻘﺎﻝ: "ﻻ ﺗﻮضؤوا ﻣﻨﻬﺎ". (رواه أبو داود ١٨٤ )
- وقالوا راوي الحديث جابر بن سمرة كان يقول بمقتضاه، وهو أدرى بما روى. (شرح العمدة لابن تيمية ١ / ٣٣٢)
- وهو أصح من حديث جابر: "كان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار". (المغني ١ / ١٣٨ ).
فإن حديث جابر مختصر من حديث طويل ذكر ذلك أبو داود وابن حبان ، وأن سياق حديث ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ: "ﺫﻫﺐ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺇﻟﻰ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﻭﻣﻌﻪ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ، ﻓﻘﺮﺑﺖ ﻟﻪ ﺷﺎﺓ ﻣﺼﻠﻴﺔ، ﻓﺄﻛﻞ ﻭﺃﻛﻠﻨﺎ، ﺛﻢ ﺣﺎﻧﺖ اﻟﻈﻬﺮ ﻓﺘﻮﺿﺄ، ﺛﻢ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ ﺭﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﻓﻀﻞ ﻃﻌﺎﻣﻪ ﻓﺄﻛﻞ، ﺛﻢ ﺣﺎﻧﺖ اﻟﻌﺼﺮ ﻓﺼﻠﻰ ﻭﻟﻢ ﻳﺘﻮﺿﺄ". (سنن أبي داود ١٩٢ ، صحيح ابن حبان ٣ / ٤٣١).
وقال أبو حاتم: "ﻫﺬا ﺣﺪﻳﺚ ﻣﻀﻄﺮﺏ اﻟﻤﺘﻦ؛ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ: ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺃﻛﻞ ﻛﺘﻔﺎ ولم يتوضأ". (علل ابن أبي حاتم ١ / ٦٤٥).
وقد ﻧﻘﻞ اﻟﺤﺎﻓﻆ ﻓﻲ اﻟﺘﻠﺨﻴﺺ: "ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻓﻲ ﺳﻨﻦ ﺣﺮﻣﻠﺔ: ﻟﻢ ﻳﺴﻤﻊ اﺑﻦ اﻟﻤﻨﻜﺪﺭ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻣﻦ ﺟﺎﺑﺮ ﺇﻧﻤﺎ ﺳﻤﻌﻪ ﻣﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﻋﻘﻴﻞ". (تلخيص الحبير ١ / ٢٠٥ ).
- وأما حديث النقض به، فقد قال إمام الأئمة ابن خزيمة: "لم نر خلافا بين علماء الحديث في صحة هذا الحديث". (صحيح ابن خزيمة ١ / ٢١ ) .
- على أن حديث ترك الوضوء مما مست النار -لو صح- فليس له مدخل هنا، بل هو مناط آخر على حياله، ولذا ينقض الوضوء من لحم الإبل مطبوخه ونيئه، فمسيس النار للطعام لحما أو غيره مناط مختلف عن المناط الذي في هذه المسألة. (شرح عمدة الفقه ١ / ٣٣١).
- ولهذا وهم من نسب للخلفاء الراشدين القول بعدم النقض بلحم الجزور، فإنه ظن اتحاد المسألتين، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﻮﻫﻢ ﺫﻟﻚ ﻟﻤﺎ ﻧﻘﻞ ﻋﻨﻬﻢ ﺃﻧﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﻜﻮﻧﻮا ﻳﺘﻮﺿؤوﻥ ﻣﻤﺎ ﻣﺴﺖ اﻟﻨﺎﺭ، فرحّل قولهم هنا إلى هذه المسألة. (مجموع الفتاوى ٢١ / ١٣).
- ومن قال بالنسخ فقوله ضعيف، فإن الأحاديث في الباب غير متقابلة حتى يظن معارضتها، ثم إن ترك الوضوء مما مست النار عامة وأحاديث الوضوء من لحم الإبل خاصة فيقدم الخاص على العام. (المجموع ٢ / ٦٠، المغني ١ / ١٣٩).
- وقالوا: ليس مع المخالفين إلا استصحاب حال، وقياس طردي يحسن اتباعهما عند عدم الدلالة بالكلية.
(شرح العمدة ١ / ٣٣٢).

- ولثبوت الفرق بين لحم الإبل وغيره، فإن الإبل شياطين الأنعام، فلعل الإنسان إذا أكل ذلك أورثه نفارا وحالا شبيها بحال الشياطين، والشيطان خلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فأمر بالوضوء من لحومها ، كسرا لتلك السورة وقمعا لتلك الحال، وقلب الإنسان وخلقه يتغير بالمطاعم التي يطعمها.
(شرح العمدة لابن تيمية ١ / ٣٣٢).

- وقال النبي ﷺ عنها: "إنها من الشياطين". (رواه أبو داود ١٨٤ ).
- وقد ذكر ابن القيم كلاما جليلا في الفرق بين لحم الجزور وغيرها في الرد على من زعم أن الوضوء من لحوم الإبل على خلاف القياس، فقال: "الشارع فرق بين اللحمين والمكانين والراعيين رعاة الإبل ورعاة الغنم، فأمر بالصلاة في مرابض الغنم دون أعطان الإبل، وأمر بالتوضؤ من لحوم الإبل دون الغنم .. كما فرق بين أصحاب الإبل وأصحاب الغنم، فقال: "الفخر والخيلاء في الفدادين أصحاب الإبل، والسكينة في أصحاب الغنم"، وقد جاء أن على ذروة كل بعير شيطان، وجاء أنها خلقت من جن، ففيها قوة شيطانية، والغاذي شبيه بالمغتذي .. فإذا اغتذى من لحوم الإبل وفيها تلك القوة الشيطانية والشيطان خلق من نار، والنار تطفأ بالماء.
(إعلام الموقعين ١ / ٢٩٨)

- وأما حملهم الحديث على غسل اليدين فضعيف لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي. (المجموع ٢ / ٥٩، المغني ١ / ١٣٩؛ شرح العمدة ١ / ٣٣٢).
- ولأنه فرق بينه وبين لحم الغنم ولو أراد غسل اليد لم يفرق فإن الغسل من الدسم مستحب مطلقا. (شرح العمدة ١ / ٣٣٢).
- وأما قولهم: الوضوء مما خرج لا مما دخل وما روي فيه عن الصحابة فقد قال البيهقي: "ﻭﺇﻧﻤﺎ ﻗﺎﻻ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺗﺮﻙ اﻟﻮﺿﻮء ﻣﻤﺎ ﻣﺴﺖ اﻟﻨﺎﺭ". (سنن البيهقي الكبرى ١ / ٢٤٥).
- وأما حملهم له على الاستحباب فضعيف أيضا، لأنه خلاف البيان النبوي الذي وقع جوابا لمن سأل. (المغني ١ / ١٣٨)
- ولأنه فرّق بينه وبين لحم الغنم، والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الوجوب.
(شرح العمدة  ١ / ٣٣٣)
- وأما قولهم: إنه لا يجب في أكل المحرم فهنا أولى فعنه جوابان:
١ - أن النقض من ذلك ليس متعلقه الحل والحرمة والطهارة والنجاسة، ولكنه التأثير الشيطاني الذي في لحومها.
٢ - ولهذا وجب الوضوء في قول عند أحمد في أكل ما يشاركه في العلة من المحرمات كالسباع، قال ابن تيمية: "ﻭﻓﻲ الوﺿﻮء ﻣﻦ اﻟﻠﺤﻮﻡ اﻟﺨﺒﻴﺜﺔ ﻋﻦ ﺃﺣﻤﺪ ﺭﻭاﻳﺘﺎﻥ، ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﺤﻜﻢ ﻣﻤﺎ ﻋﻘﻞ ﻣﻌﻨﺎﻩ ﻓﻴﻌﺪﻱ ﺃﻭ ﻟﻴﺲ ﻛﺬﻟﻚ؟ ﻭاﻟﺨﺒﺎﺋﺚ اﻟﺘﻲ ﺃﺑﻴﺤﺖ ﻟﻠﻀﺮﻭﺭﺓ ﻛﻠﺤﻮﻡ السباع ﺃﺑﻠﻎ ﻓﻲ اﻟﺸﻴﻄﻨﺔ ﻣﻦ ﻟﺤﻮﻡ الإبل ﻓﺎلوضوء ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻭﻟﻰ".
(مجموع الفتاوى ٢٠ / ٥٢١)
- وأما قولهم: أن قائل ذلك لا يقول بالنقض في الشحم والكبد فلا يسلم له، بل القول بالنقض بها قول جماعة ممن يقول بالنقض بلحمه. (الفروع  ١ / ٢٣٤).
فظهر بهذا السياق الفقهي شيء من إعمال عديد من الفنون في الترجيح والنظر الفقهي، بما لعله أن ينصب أمام قارئه تعظيم هذا العلم ورفعته، ويفتح له بابا يدعوه للاجتهاد فيه.

     ومن المسائل التي تؤنقني كثيرًا ويشْرِف بها المرء على بهجة من جنات الفقه، ويقف معها على شيء من طيب استدلالات الفقهاء، وحلاوة تعليلاتهم النديّة، حتى إنه ما من أحد نظر في ذلك إلا أيقن بجلال هذا العلم، وقامت في نفسه له محبة في هيبة، لما يجد فيها من لذيذ استدلالاتهم واعتراضاتهم، ولما يرى من طريف نظرهم -وما أكثر لذائذ القوم ودقائقهم- لكن هذه المسألة لاقت مني اليوم قريحة متهيئة إلى الكتابة، وقلما رطبا بالكتابة، فآنقني نقلها لكم، وهي من المسائل الخلافية في فقه المناسك:
وهي (مسألة: ابتداء وقت جواز صيام البدل عن دم الهدي الواجب، فقد قال الله: "فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم".
واختلف الفقهاء في ابتداء وقت صيام هذه الأيام الثلاثة على أقوال:
- فقال أصحاب الرأي وأحمد: يجوز للمتنسك صيامهن من إحرامه بالعمرة.
- وقال مالك والشافعي: بل لا يجوز إلا بعد إحرامه بالحج.
• واستدل أصحاب القول الثاني :
- بأن الله قال: "فصيام ثلاثة أيام في الحج"، فلا تجوز إذن إلا بعد إحرام الحج.
- ولأن المبدل (الهدي) لا يجوز قبل الإحرام بالحج، فكذا البدل (الصيام)، فإن للبدل حكم المبدل.
- ولأن الصيام هنا صيام واجب، والمعهود في الصيام الواجب عدم جوازه قبل وقت وجوبه، ووقت وجوبه هنا الإحرام بالحج.

• وقال أصحاب القول الأول:
- قول الله: "فصيام ثلاثة أيام في الحج" أي في أشهر الحج، فالإضمار واجب على المذهبين، فلابد من أن يقدر مضمرا ولابد، والصحيح أن يقدر (وقت الحج) إذ الحج أفعال لا يصام فيها وإنما يصام في وقتها.
- وأما تقديم المبدل (الهدي) على زمن الإحرام بالحج فهو جائز عند بعض مخالفيكم، وإنما تقوم البرهنة في هذه الحجة عند الاتفاق على الأصل، وليس هذا موضع اتفاق.
- وأما تقديمه على وقت وجوبه، فإننا نرى جوازه بعد انعقاد سبب وجوبه، كما تُقَدَّم الكفارة على الحنث بعد سبب وجوبها وهو (اليمين) .
- والعمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة، والدخول في نسك عمرة التمتع هو دخول في نسك الحج.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أبو المثنى محمد آل رميح.
٢٦ / ٥ / ١٤٣٨ هـ

الأحد، 5 فبراير 2017

أوراق فقهية -١٠- (الفروق والتقاسيم في المناسك)

            بسم الله الرحمن الرحيم

   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه مقالة جمعت فيها بعض الفروق والتقاسيم الفقهية في كتاب المناسك، أسأل الله أن ينفع بها وأن يجعلها من ذخر العمل.

•النسك قسمان؛ الحج والعمرة:
-فأما الحج فهو ركن من أركان الإسلام يجب بشروطه بالإجماع.
-وأما العمرة فاختلف السلف في وجوبها على قولين:
*فجاء الوجوب عن عمر وابن عباس وزيد وابن عمر وابن المسيب والشافعي وأحمد وإسحاق.
*وقال أبو حنيفة ومالك وهو رواية عن أحمد بعدم الوجوب.

•ومن الفروق الفقهية في حكم العمرة: التفريق بين حكمها على الآفاقي وغير ساكن مكة، وحكمها على أهل مكة:
-فهي مشروعة بالإجماع لغير ساكن مكة.
-وأما أهل مكة فلا عمرة عليهم عند ابن عباس وأصحابه من علماء مكة كطاوس وعطاء ونص عليه أحمد.

•وتنقسم شروط الحج والعمرة إلى ثلاثة أقسام:
-شروط وجوب وصحة وهي الإسلام والعقل، فلا تجب ولا تصح من كافر ولا مجنون.
-شروط وجوب وإجزاء، وهي البلوغ والحرية، فلا تجب على صغير وعبد ويصح منهما ولكن لا يجزئ عن حجة الإسلام.
-شروط وجوب فقط وهو الاستطاعة، فلا تجب على غير مستطيع فإن حج وقع صحيحا مجزئا.
*وهناك شروط مترددة بين شروط الوجوب وبين أن تسمى (شروط لزوم السعي) وهي:
-تخلية الطريق وإمكان المسير.
-والمحرم للمرأة.
فإن قيل بأنها من شروط الوجوب، فلا يتوجه الخطاب للمكلف بالوجوب إلا بتحققها، وهي داخلة ضمن شرط الاستطاعة.
وإن قيل بأنها من شروط لزوم السعي؛ فلو كملت الشروط الخمسة ثم مات قبل شرطي لزوم السعي حُج عنه بعد موته، وكذا لو أعسر قبل وجودهما بقي الحج في ذمته.

•ومن الفروق في شرط الاستطاعة: أن من بُذل له ما يحج به لم يصر مستطيعا بذلك إلا إن بذله ولده، فقد قال الشافعي: إن بذله له ولده صار مستطيعا.

•ومن الفروق في شرط الاستطاعة؛ الفرق بين الزاد والراحلة -إذا قلنا بأن الاستطاعة ملك زاد وراحلة- :
فيختص اشتراط الراحلة بالبعيد دون القريب الذي يمكنه المشي، بخلاف الزاد فيشترط وجوده بكل حال.

• إذا عتق العبد وبلغ الصبي بعرفة أو بعد خروجه لمزدلفة -قبل خروج الوقت- فهو قسمان:
- أن يكون لم يسع سعي الحج من قبل -ورجع لعرفة إن كان قد دفع منها- ما دام في وقت الوقوف فيجزئ حجه عن حجة الإسلام.
-أن يكون قد قدّم سعي الحج مع طواف القدوم -إن أحرم مفردا أو قارنا- فلا يجزئ عن حجة الإسلام، لأن السعي لا يشرع تكراره ولا الزيادة على عدده، بخلاف الوقوف فاستدامته مشروعة ولا قدر له محدود.

•والدين المانع للاستطاعة قسمان:
-حقوق الله تعالى كزكاة في ذمته، أو كفّارات.
-ديون الآدميين.

•ومن لم يكن له مال إلا دين على آخر فهو على قسمين:
-أن يكون على مليء باذل فيلزمه الحج لأنه قادر.
-أن يكون على معسر أو مماطل فلا يلزمه.

•المكلف -الذي وجدت فيه شرائط وجوب الحج قسمان:
-إما أن يكون قادرا على الحج.
-وإما أن يكون عاجزا عنه.
*والقادر قسمان أيضا:
-أن يكون قد حج حج الفريضة.
-أو يكون ممن لم يحج حج الفريضة:
فإن كان لم يحج حجة الإسلام فلا يجوز له أن يستنيب غيره بالإجماع.
وإن كان قد حج حج الفريضة ففي استنابته لغيره في التطوع قولان لأهل العلم، هما روايتان عن أحمد، وبجوازه قال أبو حنيفة ومنع من ذلك الشافعي.

*وأما العاجز عن الحج فهو قسمان:
- فإما أنه لم يحج حجة الإسلام من قبل
- أو أن يكون قد حج حج الفريضة .
*فإن كان لم يحج فرضه فهو قسمان:
 -إما أن يكون يائسا من زوال عجزه، كالشيخ الفاني ومن له مرض لا يرجى برؤه وكذلك الزمن.
-وإما أن يكون ممن يرجى زوال عجزه.

*والميؤوس من زوال عجزه على ثلاثة أقسام:
-أن يجد مالا ويجد من ينوب عنه فيجب عليه أن يستنيب عنه من يحج عند الجماهير.
-أن يجد مالا ولا يجد من ينوب عنه؛ فهو مبني على مسألة إمكان المسير هل هو من شرائط الوجوب أو من شرائط لزوم السعي.
-أن لا يجد مالا فلا حج عليه بغير خلاف.

*وإن كان غير ميؤوس من زوال عجزه:
- فإن لم يحج حجة الإسلام فليس له الاستنابة فإن النص إنما ورد في الشيخ الكبير وهو ممن لا يرجو زوال عجزه .
وإن كان قد حج فتجوز الاستنابة في التطوع لمثله عند كثير.
والفرق بينه وبين الفرض أن الفرض عبادة العمر، فلا يفوت بتأخيره حتى يبرأ، والتطوع مشروع كل عام فيفوت حج هذا العام بتأخيره.
وفرق ثانٍ: أن حج الفرض إذا مات قبل فِعله فُعل بعد موته، وأما حج التطوع فلا يفعل بعد الموت فيفوت.

•والدماء الواجبة على النائب قسمان:
-ما لزمه بفعل محظور فهي عليه في خاصّة ماله لأنها جنايته فهي عليه.
-وأما دم المتعة والقران فهي على المستنيب إذا أذن له في هذا النسك، ومثله دم الإحصار لأنه للتخلص من مشقة السفر فهو كنفقة الرجوع.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين الاستنابة عن الحي والاستنابة عن الميت، فلا تجوز الاستنابة عن الحي إلا بإذنه فرضا كان أو تطوعا، بخلاف الميت فلا يتصور ذلك وقد أمر النبي ﷺ بالحج عن الميت وقد علم أنه لا إذن له.

•من الفروق المستقيمة: الفرق بين منع الزوج لزوجته في حج الفرض وحج التطوع، فلا يجوز للزوج منع امرأته من حجة الإسلام عند كثير من أهل العلم، وأما التطوّع فقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن له منعها من الخروج إلى الحج التطوع.

•ومن الفروق في أحكام المستنيب في مذهب أحمد ونص عليه، أن من مات وقد وجب عليه الحج أخرج عنه ويحج عنه من حيث وجب عليه، بخلاف من أوصى بحج تطوع فقال أحمد: التطوع ما يبالي من أين كان.

•ومن الفروق الصحيحة في النيابة في الحج:
أن الصبي والعبد لا يجوز لهما النيابة عن أحد في فرض حجه، فإنهما لم يسقطا الحج عن نفسيهما، بخلاف نيابتهم عن غيرهما في حجة تطوع فيحتمل أن لهما ذلك.

•والصبي في باب الإحرام على قسمين في مذهب أحمد وغيره:
-أن يكون مميزا فيحرم بإذن وليه، فإن أحرم بغير إذنه لم يصح، لأنها عبادة تؤدي إلى لزوم مال فلا ينعقد من الصبي بنفسه.
- وإن كان غير مميز فيحرم عنه (ولي المال) كالأب والوصي.

•من الفروق في مذهب أحمد: أن من ناب عن الصبي في الرمي فلا يرمي عنه حتى يرمي عن نفسه، بخلاف الطواف فيصح أن يطوف به محمولا من يطوف لنفسه .

•المحظورات في حق الصبي قسمان:
-ما لا يختلف عمده وسهوه فيجب فيه الضمان بكل حال كالصيد وحلق الشعر وتقليم الأظفار.
- ما يختلف عمده وسهوه كلبس المخيط والطيب فلا فدية فيه على الصبي لأن عمده خطأ.

• المواقيت قسمان:
-زمانية وهي أشهر الحج للحج، وأما العمرة فلا تأقيت لها في الزمن.
-ومكانية وهي قسمان:
-ما أجمع عليها أهل العلم واتفق أهل النقل على صحة حديثها مرفوعا إلى النبي ﷺ وهي:
ذو الحليفة لأهل المدينة ، والجحفة لأهل الشام ومصر، ويلملم لأهل اليمن وقرن لأهل نجد، وحديثها ثابت في الصحيحين عن ابن عباس.
-ما اختلف العلماء في صحة حديثه مرفوعا؛ وهو ميقات ذات عرق لأهل العراق، وقد صح من اجتهاد عمر كما في البخاري، لمحاذاته لقرن المنازل، والحديث المرفوع مختلف في صحته وقد تردد الرواي فيه عن جابر المخرج في مسلم، وأما حديث عائشة فضعيف.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين إحرام المكي بالعمرة وإحرامه بالحج:
-فيحرم بالحج من مكة.
-ويحرم بالعمرة من الحل، ليجمع في عمرته بين حل وحرم، لأن أفعال العمرة كلها في الحرم، بخلاف الحج فإنه يفتقر إلى الخروج إلى عرفة فيجتمع له الحل والحرم.

•ومن الفروق بين الآفاقي والمكي:
- أن العمرة مشروعة للآفاقي بالإجماع، بخلاف المكي فاختلف فيه على قولين، ومذهب ابن عباس وعطاء ورواية عن أحمد أنه ليس لهم عمرة كما سبق .
-أن المكي لا رمل في حقه ولا اضطباع.
-أن المكي لا وداع عليه.

•ومن الفروق بين تمتع المكي وتمتع غيره -إذا قلنا بجواز العمرة له- أنه لا يجب عليه دم متعة لقول الله: "ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".

•من تجاوز الميقات -مريدا للنسك- ولم يحرم قسمان:
-أن يرجع دون أن يحرم ثم يحرم من الميقات، فهذا هو الواجب عليه ولا شيء عليه بلا خلاف.
-أن يحرم بعد الميقات وهذا على قسمين:
-أن يرجع بعد إحرامه إلى الميقات فقد ذهب بعضهم إلى سقوط الدم وهو مذهب الشافعي.
-أن لا يرجع وهذا عليه دم عند أكثر العلماء.

•والمسلم المكلف إذا جاوز الميقات غير مريد النسك على قسمين:
-أن لا يريد دخول الحرم بل له حاجة دون ذلك؛ فهذا لا يلزمه الإحرام بالإجماع.
-أن يريد دخول الحرم لغير حاجة متكررة، فيجب عليه الإحرام ولا يجوز له مجاوزة الميقات من غير إحرام عند أحمد وغيره، وفيه عن الصحابة اختلاف.

•ومن الفروق في المذهب؛ الفرق بين التطيب في البدن لمريد الإحرام فيستحب، والتطيب في الثوب فيكره.
وإن لبس قبل الإحرام مطيبا فله استدامة لبسه، فإن نزعه لم يكن له أن يلبسه بعدُ، وفي مذهب أحمد قول بتحريم ذلك ابتداء.

•ومن الفروق في مذهب أحمد الفرق بين تلبية المحرم في الأمصار فلا تشرع، ولكنها تشرع إذا برز من الأمصار.


•محظورات الإحرام ثلاثة أقسام:
١) ما تجب فيه الفدية في حق غير المعذور دون المعذور بنسيان أو جهل أو إكراه فليس عليهم فدية، ونحوه وهي ثلاثة:
-لبس المخيط للرجل
-تغطية الرأس له
-مس الطيب

٢) ما تجب فيه الفدية دون فرق بين معذور وغيره وهي أربعة:
-قص الشعر
-وتقليم الأظفار
-وقتل الصيد
-والوطء في الفرج قبل التحلل الأول.

٣) ما لا فدية فيه بحال وهو:
عقد النكاح، ولكن يفسد هذا النكاح عند جماهير العلماء.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين دلالة الحلال المحرم على الصيد فلا يضمن الحلال، إلا إن كان في الحرم، وبين دلالة المحرم الحلال فعلى المحرم الضمان، لحديث أبي قتادة قال ﷺ لرفقته: "هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها، أو أشار إليه".

•ومن الفروق التي جاء ما يدل عليها في النصوص؛ الفرق بين المحرم الذي صِيْد من أجله الصيد فلا يحل له، وبين من لم يصد من أجله فله الأكل منه، وقد دل على ذلك: أن النبي ﷺ أكل من صيد أبي قتادة، ولم يأخذ صيد الصعب بن جثامة وهما مخرجان في الصحيحين، وهذا التفريق من وجوه الجمع بين النصين، ويقويه ما ثبت في الموطأ عن عثمان: أنه أهدي إليه صيد وهو محرم، فقال لأصحابه: "كلوا ولم يأكل هو، وقال : إنما صيد من أجلي".

•ومن الفروق الفرق بين أكل المحرم من صيده الذي صاده، وأكله من الصيد الذي صيد لأجله، فيضمن في الأول للقتل بمثله من النعم لأنه صاده وليس لأنه أكل، وأما في الحال الثانية فيضمن مثل ما أكل من اللحم، لا كله.

•والنبات الذي تستطاب رائحته قسمان:
-ما لا ينبت للطيب، ولا يتخذ منه، كالتفاح والخزامى، فهذا يباح شمه ولا فدية فيه عند عامة أهل العلم.
-ما ينبته الآدميون للطيب سواء اتخذ منه الطيب كالورد والياسمين، أو لم يتخذ كالحبق والنرجس ففيه خلاف بين الصحابة فمن بعدهم من فقهاء الأمة.

•وشعر البدن على قسمين: منصوص وغير منصوص:
-شعر الرأس فقد جاء النص بحظر أخذه على المحرم.
-شعر سائر البدن، وهو مقيس على شعر الرأس، وليس فيه نص.

•وما يؤكل من أنواع الطيب أو يوضع مع مأكول ومشروب كالزعفران قسمان:
-أن تبقى رائحته فلا يباح للمحرم تناوله، لأن الاستمتاع والترفه حاصل به.
-أن تذهب رائحته وطعمه فهو مباح في قول عامة أهل العلم.

•ومن الفروق الفرق بين مس الطيب وشمه، فمسه محرم مطلقا بدلالة النص والإجماع، بخلاف شم الطيب -مما لم يضعه على بدنه قبل الإحرام- فإنه إنما يحرم إذا كان بقصد شمه، فإن وجده دون قصد شمه فلا جناح.

•والمرأة كالرجل في جميع مناسك حجهما، ولكن تفارقه في أمور:
-لا ترفع صوتها بالتلبية بالاتفاق.
-ولا تصعد الصفا.
-ولا ترمل ولا تسعى في بطن الوادي بين الصفا والمروة.
-ولا حِلاق في حقها، ولكن تقصر قليلا من أطراف شعرها.
-وهي مثله فيما يجتنبه المحرم فتجتنب كل ما يجتنبه الرجل، وتفارقه في:
-اللباس بالإجماع، قال ابن المنذر: "أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن المرأة ممنوعة مما منع منه الرجال، إلا بعض اللباس"، ولذا لا يشرع لها اضطباع، لكونها عورة فأبيح لها اللباس للستر ، كما أبيح للرجل عقد إزاره كيلا يسقط فتنكشف عورته.
-وفي الاستظلال بالمحمل عند بعض أهل العلم.

• ومن الفروق في مذهب أحمد الفرق بين تزوج المحرم فلا يصح عقده بلا خلاف في مذهب أحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، بخلاف إذا زوّج المحرم غيره فقد جاء عن أحمد صحة النكاح، والمذهب عدم الفرق بينهما.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين ابتداء عقد النكاح فلا يجوز، وبين إرجاع الزوجة المطلقة؛ فالمشهور عن أحمد إباحتها وهو قول أكثر أهل العلم.

•ومن الفروق الصحيحة؛ الفرق بين عقد النكاح وبين شراء الإماء، فإن شراء الإماء يباح للمحرم بلا خلاف.

•والوطء والمباشرة في الإحرام عند الحنابلة أقسام:
-أن يطأ في الفرج قبل التحلل الأول ولو لم ينزل، أو يطأ دون الفرج وينزل؛ فيفسد نسكه وعليه إتمامه وقضاؤه وفدية بدنة.
-أن يطأ دون الفرج بغير إنزال، أو يقبل وينزل قبل التحلل الأول ففيه بدنة ولا يفسد نسكه.
-أن يكرر النظر فينزل ففيه دم.
-أن يكرر النظر فلا ينزل فليس فيه شيء.

•ومن الفروق الفرق بين ما يحرم ويضمن في الحرم وما يحرم ويضمن في الإحرام؛ فهما متفقان إلا في مسألتين:
- القمل فمباح في الحرم بلا خلاف، وأما في الإحرام فعلى قولين.
- وصيد البحر، فهو مباح في الإحرام بغير خلاف، وأما في الحرم فعن أحمد روايتان.

•ومن الفروق الفرق بين حرم مكة وحرم المدينة، فهما يفترقان في أمور:
-أن حرم مكة مجمع على تحريم صيده وقطع شجره، بخلاف تحريم المدينة فقد خالف فيه أهل الكوفة .

-جواز أخذ ما تدعو له الحاجة من شجر المدينة، بخلاف مكة.
-من صاد صيدا خارج المدينة ثم أدخله إليها لم يلزمه إرساله، نص عليه أحمد، لحديث النغر، فإن النبي ﷺ قال لأخي أنس: "يا أبا عمير ما فعل النغير" كما في الصحيحين.
-اتفاق أهل العلم على أصل الجزاء في حرم مكة، بخلاف حرم المدينة فأكثرهم على عدم مشروعية الجزاء فيه.

•والفرق بين الفوات والإحصار، أن الفوات مُتعلقُه الوقت، وذلك بفوات ما لا يتم الحج إلا به، وهو الوقوف بعرفة، وأما الإحصار فمتعلقه المكان وذلك بالحبس عن مكان النسك.
فمن أحصر عن الحج فتحلل فلا قضاء عليه على أصح قولي العلماء، لأن النبي ﷺ ومن معه بالحديبية لما صدهم كفار قريش لم ينقل أنه ﷺ أمر أحدا بالقضاء.
وأما من فاته الوقوف بعرفة فإنه يتحلل بعمرة ويذبح ويحج من قابل عند أكثر أهل العلم.
والفرق أن المحصر غير منسوب إلى تفريط، بخلاف من فاته الحج فمثله قد يكون وقع له ذلك لنوع تفريط.

•ومن الفروق بين الإحصار والفوات -في صيام البدل عن الهدي إذا قلنا بأن على المحصر بدل صيام- أن المحصر لا يتحلل حتى يقضي صيامه، وأما من فاته الحج فبخلافه.

•ومن الفروق بين المحصر وبين من أتم نسكه في باب نية التحلل؛ أنها واجبة على المحصر بخلاف غير المحصر ممن أكمل نسكه فلا يحتاج إلى نية.

•ومن حبس عن البيت قسمان:
 -أن يحصره عدو (مسلم أو كافر) فهذا يأخذ أحكام الإحصار بلا خلاف.
-ومن حبس بمرض أو عرج أو ذهاب نفقة أو حبس بحق؛ فقد اختلف في اعتباره من أهل الإحصار على قولين:
-فجاء عن عمر وابن عباس أنه لا يجوز له التحلل بل هو على إحرامه حتى يقدر على البيت، لأنه لا يستفيد بالإحلال انتقالا من حاله وخروجا من سبب حصره الذي آذاه، وهذا قول كثير من الفقهاء.

-وعن أحمد رواية أخرى أن له التحلل بذلك، وهذا قول ابن مسعود، لأنه داخل في عموم الإحصار، وقد روى أهل السنن أن النبي ﷺ قال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى".

•ورفض العبادة قسمان:
رفض لا يخرج به المكلف من العبادة ولا يفسدها؛ وهو رفض الإحرام، فإنه لا يتحلل منه بذلك، بل إحرامه باق.
ورفض يخرج به المكلف من العبادة وهذا جار في سائر العبادات.

•والاضطباع والرَمَل سُنتان في الطواف الأول للمتنسك غير المكي ، بدلالة الخطاب النبوي ولكن بينهما فرق:
-فالرمل مجمع عليه، بخلاف الاضطباع فهو سنة عند جماهير العلماء وخالف مالك في ذلك فلم يره سنة.
-والرمَل سنة في الأشواط الثلاثة الأوَل وأما الاضطباع فهو سنة في كل أشواط الطواف الأول للمتنسك.

•والطواف والسعي نسكان من المناسك بالإجماع، ولكن يفارق الطواف السعي في أمور:
-أن الطواف مجمع على أنه ركن من أركان الحج والعمرة، بخلاف السعي فمختلف في ركنيته.
-أن الطواف عبادة على حياله ولو في غير نسك، بخلاف السعي فليس يُشرع إلا في نسك من حج أو عمرة.
-الطواف مشروع في النسك ولو لم يسعَ عقبه، بخلاف السعي فلا يشرع إلا عقب طواف.
-يشترط في الطواف الطهارة (من الحدث والنجس) والستارة، بخلاف السعي فلا يشترط فيه ذلك.
-تجب الموالاة بين أشواط الطواف، بخلاف السعي فهو أوسع، ولذا قال أحمد، لما سئل عن ذلك قال: "أمر الصفا سهل".

•والمحدِث في الطواف قسمان:
-من أحدث عمدا في طوافه فيتطهر ويبتدئ طوافه عند أكثر العلماء.
-وأما إذا سبقه الحدث ففيه قولان:
يبتدئ وهو مذهب مالك ورواية عن أحمد، لأن الطهارة شرط للطواف.
يتطهر ويبني على ما سلف من أشواط، وهو مذهب الشافعي وإسحاق ورواية عن أحمد، لأن الموالاة تسقط للعذر.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين جمع الصلاة وقصرها للمتنسك؛ فالجمع بين الصلاتين في عرفة ومزدلفة لكل الحاج عند عامة السلف، وهو جمع حاجة يجوز ولو بغير عذر سفر، وأما القصر فلا يجوز لأهل مكة على أصح قولي أهل العلم، لأنهم مقيمون، والقصر للسفر لا للنسك.

• ومن الفروق الصحيحة الفرق بين أن يخطئ الناس العدد فيقفوا في غير يوم عرفة فإنه يجزئهم، وبين أن يخطئ بعضهم فإنه لا يجزئهم، لأنهم غير معذورين في ذلك.

• ومن الفروق التي دلت عليها الأدلة، الفرق بين رمي يوم النحر، ورمي أيام التشريق الأخرى:
-فقد رمى النبي ﷺ جمرة العقبة في يوم النحر راكبا، ورمى أيام التشريق ماشيا.
-ووقت الرمي يوم العقبة بعد طلوع الشمس على سبيل الأفضلية وهذا وقت لها بالإجماع، ويجوز قبل ذلك عند أكثر أهل العلم، ويمتد وقت الرمي إلى فجر اليوم الثاني، لحديث اﺑﻦ ﺳﺎﺑﻂ ﻗﺎﻝ: "ﻛﺎﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺭﺳﻮﻝ ﷺ ﻳﻘﺪﻣﻮﻥ ﺣﺠﺎﺟﺎ، ﻓﻴﺪﻋﻮﻥ ﻇﻬﺮﻫﻢ ﻓﻴﺠﻴﺌﻮﻥ ﻓﻴﺮﻣﻮﻥ ﺑﺎليل" رواه ابن أبي شيبة.
وأما باقي أيام التشريق فيبتدئ وقتها بعد الزوال وينتهي بطلوع فجر اليوم التالي للحديث السابق.

•الأطوفة المشروعة في النسك ثلاثة أقسام:
-طواف القدوم وهو سنة، ويختص بالرمَل والاضطباع.
-طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة وهو ركن الحج، لا يتم إلا به بالإجماع.
-وطواف الوداع وهو واجب من تركه لغير عذر ففيه الدم.
وما عدا ذلك فهو من النفل المطلق.

•ومن الفروق الفرق بين من تعمد مخالفة ترتيب أعمال يوم النحر، ومن فعل ذلك ناسيا:
-فمن فعل ذلك ناسيا فلا شيء عليه في قول كثير من أهل العلم .
-ومن فعله عامدا عالما بمخالفة السنة فعن أحمد روايتان، والقول بوجوب الدم مذهب سعيد بن جبير وقتادة وغيرهما، قالوا: لأن النبي ﷺ سئل فقال من سأل: "لم أشعر.." .

•وللهدي وقتان:
-وقت وجوب، فيجب إذا أحرم بالحج.
-ووقت ذبح، وهو يوم النحر، فلا يجوز ذبحه قبل ذلك.

•والسقاة والرعاة قد جاء النص بإعذارهم في ترك المبيت بمنى، ولكن افترقا:
أن الرعاء إذا بقوا بمنى حتى غابت الشمس لزمهم البيتوتة بخلاف السقاة، لأن الليل ليس وقتا للرعي بخلاف السقاية، وكذا كل مَن عذِر بعذر يترك به واجب مبيت منى فاختلاف شغله في الليل والنهار مراعى.

•والصيد للمحرم قسمان:
١ - صيد مباح وهو ثلاثة أنواع:
- المضطر فيصيد ليدفع الهلكة عن نفسه وهو مباح بلا خلاف، ولكنه مضمون يجب فيه الجزاء.
-دفع الصائل إذا لم يندفع إلا بقتله، ولا ضمان عليه.
والفرق بينه وبين ما قبله: أنه قتل لدفع شره، فهو ملتحق بالمؤذيات طبعا، ولذا لا ضمان على من دفع آدميا صائلا فلم يندفع إلا بقتله، بخلاف ما قبله فقد قتل لجلب مصلحة المحرم.
-إذا خلّص صيدا من شبكة أو سبع فتلف، لأنه فعل فعلا مأذونا له فيه، وما ترتب على المأذون فهو غير مضمون.

٢ - صيدٌ محرم وهو صيد الحيوان البري -بطبعه- المأكول من غير سبب يبيح قتله، وفيه الجزاء.

•من أحرم وتحت ملكه صيد فهو قسمان:
-أن يكون الصيد تحت يده المشاهدة، كأن يكون في قبضته أو رحله أو في قفص له معه، فهنا يلزمه إرساله في مذهب أحمد وغيره.
-أن يكون الصيد تحت يده الحكمية، كأن يكون في بلده، فلا يلزمه إرساله.
والفرق بين المسألتين:
أنه في حال يده الحكمية لم يحصل منه صيد بعد إحرامه ولا فعل مباشر، بخلاف يده المشاهدة فإنه حصل منه فعل الإمساك، إمساك الصيد، فكان ممنوعا منه كحالة الابتداء.

•ومن الفروق الصحيحة الفرق بين الهدي والإطعام وبين الصيام، فكل هدي وإطعام فهو لمساكين الحرم؛ إلا من أصابه أذى من رأسه، فيفرقه على المساكين في الموضع الذي حلق فيه.
وأما الصيام فيجزئه بكل مكان.

وأسأله سبحانه أن يرزقني وإياكم القبول، وأسأله أن يوفقنا لطاعته، آمين.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
-أبو المثنى محمد آل رميح.


أوراق فقهية - ١١ - (من مواعظ الفقه).

                بسم الله الرحمن الرحيم
                  ( من مواعظ الفقه )
     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
     ففي ثنيّات كتب الفقه والفروع ستجد إشراقات من الرقائق والمواعظ تخشع لها القلوب، وتدمع لها العيون، خارجة عن منوال الأحكام العملية والتفاصيل الفقهية المجردة.
     على أن صاحب العلم والدراسة والبحث -وإن لم يباشر تلك المواعظ- سيجد في نظره ودراسته لأحوال النبي ﷺ وأفعاله وأحكام دينه؛ موعظة وأي موعظة، فلقد يبلغ القلب الطاهر أن تُخْشعه المسألة الفقهية العارضة والفائدة العلمية الشاردة؛ التي ربما لا يخشع لها كثير غيره ولا يجدون لها في نفوسهم موعظة، ولكنّ لبعض القلوب من الصفاء والشفوف ما يبصر به من نور الوحي ما لا يبصره غيره.

     وتجد كثيرًا من ذلك منثورًا في طيّ بعض كتب الفقه في أبواب متفرقة، كما تجده في أبواب صلاة الكسوف، وصلاة الجنائز، وفي كتاب الإجارة (في مسائل الأجرة على القربات) ونحو ذلك.

•• واقتران الوعظ بالأحكام العملية سبيل قرآني، يظهر لك بأدنى تأمل في سياقات آيات الأحكام، كما تراه في ختام آية تحويل القبلة من سورة البقرة، فقال ﷻ: "وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم"، وكما في توسط قوله تعالى: "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" آيات الصيام ، وكختام آية إتمام الحج والعمرة، وهي الآية التي ذكر فيها أحكام دماء الجبران والشكران للمتنسكين فختمت بقوله تعالى: "واتقوا الله واعلموا أن الله شديد العقاب: "ولطالما والله تعجبت من هذه الخاتمة المجللة برهبة الوعيد والتحذير وسأذكره بعدُ، ولكن الذي تعكف عنده القلوب حقا؛ هو ذلك الانتقال الشجي بعد سياقات آيات الطلاق والعدد ومتعة المطلقة والخطبة وأحكام الاسترضاع؛ حتى إذا طال السياق في تقرير الأحكام العملية أتى التذكير بالصلاة والذكر فقال سبحانه: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين، فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ثم عاد السياق إلى ذكر بعض تفاصيل الأحكام الفرعية .
فهذا مثال قليل من سورة واحدة يطلعك على ما وراءه من الوعظ الفقهي القرآني، وهو أمر أخذ من اهتمام أهل العلم مأخذا كريما، وكتبت فيه كتابات حسنة شريفة.
     وللقرآن طرائق جليلة في الوعظ المقترن بالأحكام الفقهية، فمنها:
• اقتران الحكم الفقهي بذكر المآب والمرجع لله، والتذكير بالآخرة، كما جاء في قوله تعالى: {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه لمن اتقى واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون}، فذكّر بالحشر والمآب لله في ختام آيات الحج من سورة البقرة، فنفَذ القرآن من الحشر الأصغر في الحج إلى التذكير بالحشر الأكبر يوم القيامة.
     ومثله قول ﷲ ﷻ: {نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا ﷲ واعلموا أنكم ملاقوه وبشّر المؤمنين}، وهذا تعقيب عجيب لمثل هذا الحكم، فإنه عقبه بأربع مواعظ، جعلت بعض أئمة التفسير يتعجب من سياقه حتى ردّ ما جاء فيها من موعظة الأمر بالتقديم للنفس لما قبلها من الأمر بالوصية.

• ومن طرائق القرآن الوعظية عند ذكر الأحكام الفقهية الانتقال من ذكر المحسوس المشهود للمعنى القلبي الوعظي، كما في قوله ﷻ: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فأمر ﷻ بالتزود في الحج بالزاد والمطعوم، كما روى البخاري عن ابن عباس رضي عنهما قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فنزلت: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى}.
فانتقل من المحسوس المشاهد الدنيوي إلى الموعظة بشأن الآخرة.
     ومثله قوله ﷻ: {قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير}.
فانتقل السياق القرآني من ذكر المنة باللباس في الستارة والتجمل إلى ذكر زينة الإيمان ولباس التقوى، وهو موضع موعظة للمؤمن، ينفذ من تأمله اللباس المحسوس المشاهد إلى العبرة في لباس التقوى.

• ومن طرائق القرآن الوعظية عند ذكر الأحكام الفقهية، تعقيبه للحكم الفقهي بالوصية بتقوى ﷲ كما في ختاه الآية من قوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} حتى ختمها بقوله ﷻ: {واتقوا ﷲ لعلكم تفلحون}.
     وكما في قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله}.
     وكما في ختام آية إتمام الحج والعمرة، قال تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي} حتى ختمها بقوله: {واتقوا ﷲ واعلموا أن ﷲ شديد العقاب}، وهذا ختام جليل لهذه الآية التي ذكر فيها دماء الشكران والجبران، والتي يبحث الفقهاء فيها أحكام فدية الأذى، وأحكام البدل بالصيام، والتفريق بين حاضري المسجد الحرام والآفاقي ونحوها من الأحكام، فختمت بهذا الختام الخاشع.
     ومن اللطيف اقتران الأمر بالتقوى بأحكام الجوارح في الصيد كما في قوله ﷻ: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم ﷲ عليه واتقوا الله}.

• ومن الطريقة القرآنية في التقرير الفقهي بث التعابير الاعتراضية الوعظية في طيّ سياق الحكم الفقهي.
     ومن ذلك ما جاء عند ذكر حكم التزوج بالإماء عند العجز عن نكاح الحرة، قال ﷻ: (وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ).
ففي قوله: (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ) معاني:
- تأنيس المؤمن بنكاح الأمة التي لعله أن يجد في نفسه استنكافا من نكاحها، فذكر وصف الإيمان تسكينا لنفرة قلبه، وطردا لجاهلية النفوس.
- ولما ذكر وصف الإيمان وما يحمل من وصف مادح نبّه على أن العالم ببواطن القلوب وحقيقة صدق الإيمان هو ﷲ ﷻ، ليدفع عن النفس صولة الركون إلى الوصف الظاهري، وليأخذ في العناية بتحقيق شرف الإيمان حقا.


محمد آل رميح .
٩ / ٥ / ١٤٣٨ هـ