الاثنين، 27 يوليو 2020

أنواع الاشتراك في الأضحية.

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
    فمن المسائل التي يكثر دورانها على ألسنة المتفقهين في دين ﷲ، والسائلين عن أحكامه: حكم الاشتراك في الأضحية،  والاجتماع في الثمن والنسك والأجر.
     والاشتراك فيها على أنواع:
١- أن يضحي المضحي ويشرك معه أهل بيته، فهذا قد جاء الحديث بمشروعيته، كما ثبت في الصحيحين عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﻀﺤﻲ ﺑﻜﺒﺸﻴﻦ»، وعن أبي ﺃﻳﻮﺏ اﻷﻧﺼﺎﺭﻱ قال: "ﻛﺎﻥ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻀﺤﻲ ﺑﺎﻟﺸﺎﺓ ﻋﻨﻪ ﻭﻋﻦ ﺃﻫﻞ ﺑﻴﺘﻪ، ﻓﻴﺄﻛﻠﻮﻥ ﻭﻳﻄﻌﻤﻮﻥ ﺣﺘﻰ ﺗﺒﺎﻫﻰ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﺼﺎﺭﺕ ﻛﻤﺎ ﺗﺮﻯ" رواه الترمذي.
فيضحي الرجل عنه وعن أهل بيته، وهذا مشروع مجزئ في قول أكثر السلف.
     وهم شركاء في الإجزاء في النسك على أصح أقوال العلماء، وليست مجرد شركة في الثواب كما هو قول بعضهم، وذلك أن الاشتراك نوعان: اشتراك في إجزاء النسيكة، واشتراك في الأجر.
٢- ويدخل في ذلك لو كان للرجل زوجتان أو أكثر، فتجزئ أضحية واحدة، لأن النبي ﷺ ضحى بكبشين وكان له تسعة أبيات.

٣- ويدخل في ذلك كل من سكن مع المضحي، ممن ينفق عليه، من ابن أو أخ أو قريب، فتجزئ أضحية واحدة، عند أكثر فقهاء الأمصار.

٤- ولا يدخل فيه الخدم والعاملون عنده.

٥- ولا يدخل في ذلك الأموات، فالميت لا يدخل في شِرك الأضحية، لأنه لم يعد من أهل البيت، وإنما يضحّى عنه استقلالًا، أو يشرك في الثواب، كما سيأتي.

٦- ويجزئ اشتراك سبعة فأقل في بدنة أو بقرة، عند أكثر أهل العلم، لحديث جابر في مسلم: أﻣﺮﻧﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﻥ ﻧﺸﺘﺮﻙ ﻓﻲ اﻹﺑﻞ ﻭاﻟﺒﻘﺮ، ﻛﻞ سبعة ﻣﻨﺎ ﻓﻲ بدنة"، وأمر الأضحية والهدي واحد، ولذا بوّب أبو داود والترمذي على الحديث في أحكام الأضاحي، وأما ما روي ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ ﺳﻔﺮ ﻓﺤﻀﺮ اﻷﺿﺤﻰ ﻓﺎﺷﺘﺮﻛﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺒﻘﺮﺓ سبعة، ﻭﻓﻲ اﻟﺒﻌﻴﺮ ﻋﺸﺮﺓ"، رواه الترمذي،  فهو معلول، ولذا قال عنه الترمذي: حسن غريب، كعادته حين يريد بيان وهن الحديث، وأشار لضعفه الطبري والبيهقي وغيرهما.

٧- ولا يصح الاشتراك في النسك في التضحية بشاة من ضأن أو معز، فإن ذلك إنما يصح ذلك عن الشخص وأهل بيته، وأما تشارك اثنين فأكثر في النسك بشاة فغير مجزئ، لمفهوم التقسيم في حديث جابر السالف، فإن الشريعة لما جوزت الشركة في البدن والبقر دلّ على اختصاصها بالحكم دون الشياه، وإلا فما هو المقتضى لاختصاص البدن والبقر به.
وأيضًا: فلو قيل بجواز الاشتراك لكان لابد له من حدّ في عدده يؤوب إليه، ولم يأتِ تحديد له في الشريعة ومن حدد فقد تحكّم.
وأيضًا فلا يصح أن ينصب في المسألة أصل تقاس عليه الشياه، وقد حكي الإجماع على ذلك، قال ابن رشد: "وأجمعوا على أن الكبش لا يجزيء إلا عن واحد".
     وأما حديث ﺃبي اﻷﺷﺪ اﻟﺴﻠﻤﻲ، ﻋﻦ ﺃﺑﻴﻪ، ﻋﻦ ﺟﺪﻩ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺖ ﺳﺎﺑﻊ سبعة ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: ﻓﺄﻣﺮﻧﺎ ﻧﺠﻤﻊ ﻟﻜﻞ ﺭﺟﻞ ﻣﻨﺎ ﺩﺭﻫﻤﺎ، ﻓﺎﺷﺘﺮﻳﻨﺎ أضحية بسبعة اﻟﺪﺭاﻫﻢ"، رواه أحمد، والسبعة دراهم ونحوها إلى الدينار، ثمن الشاة في عهدهم، لا ثمن البقر والإبل، ولكن الحديث لا يفرح به فهو ضعيف.
     فإن تشاركوا في ثمن شاة، لم تصح الأضحية إلا عن واحد، ولكن هم شركاء في الأجر دون النسك، فالنسك لا يقع في الشاة إلا عن شخص واحد وأهل بيته، فإن كانوا جماعة ليسوا أهل بيت فاشتركوا في الثمن فليهبوها لأحدهم، وينسك النسيكة وينوي التضحية.
     ومثله لو تشاركوا لشراء أضحية ليهدوها لحي أو ميت كأب وأم، جازت الشركة هنا، لأن التضحية ليست عن المجموع، بل هي عن شخص واحد.
     ومما أتعجب منه عند نظري لكلام الفقهاء وتعظيمهم لشأن الأضحية أن منهم من لا يرى الاشتراك حتى في البدن والبقر كمالك، وأن بعض من يرى الاشتراك في البدنة والبقرة يقول: هو على خلاف الأصل والقياس، ويجعل القياس أﻥ اﻹﺭاﻗﺔ ﻗﺮﺑﺔ ﻻ ﺗﺘﺠﺰﺃ، ولهذا فسترى أن كتبًا كثيرة من كتب الفقهاء لا ينوّهون بمسألة اشتراك أكثر من واحد في الشاة، فكأنها لوضوحها لا تحتاج لتنويه.

٨- ولا يصح أن يشتري من أراد التضحية سبع بدنة أو بقرة، بل لابد أن تذبح على نية التقرب منه، والأقرب أنه يجب أن ينوي جميع المشتركين القربة في الأضحية ببدنة إبل أو بقرة، خلافًا لمن قال: تجوز اختلاف نيات المشتركين، بين متقرب ومريد لحم، لأن إهراق الدم لا يتجزأ.

٩- ويصح أن يشرك المضحي من شاء في أجر الأضحية، فعن ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻗﺎﻝ: ﺷﻬﺪﺕ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻷﺿﺤﻰ ﺑﺎﻟﻤﺼﻠﻰ، ﻓﻠﻤﺎ ﻗﻀﻰ ﺧﻄﺒﺘﻪ ﻧﺰﻝ ﻣﻦ ﻣﻨﺒﺮﻩ ﻭﺃﺗﻲ ﺑﻜﺒﺶ ﻓﺬﺑﺤﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺑﻴﺪﻩ، ﻭﻗﺎﻝ: «ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ، ﻫﺬا ﻋﻨﻲ، ﻭﻋﻤﻦ ﻟﻢ ﻳﻀﺢ ﻣﻦ ﺃﻣﺘﻲ»، فهو محمول عند كثير من العلماء على أنه ﷺ أشركهم في الأجر، لا في النسك.

١٠- ﻭﻟﻮ اﺷﺘﺮﻙ اﺛﻨﺎﻥ ﻓﻲ ﺷﺎﺗﻴﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﺸﻴﻮﻉ ﺃﺟﺰﺃ، نص عليه أحمد.

١١- ويجوز أن يشرك الميّت في أجر الأضحية، فيضحي هو أصالة، وينوي أن يهدي للميت من ثوابها، وإن أراد التضحية عن الميت فقد جوز كثير من السلف أن يضحي عنه استقلالًا، وهي أولى ما يدخل في إهداء القربات المالية.

١٢- أما جمع نيتين في ذبيحة كعقيقة وأضحية،  فقد جوزه بعض السلف كالحسن وابن سيرين، وقال به بعض فقهاء الأمصار، والقول بالمنع قول كثير، وهو قول قوي.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

من فقه الآثار

الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، أما بعد:
فمن الأحاديث الجليلة ما ثبت ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال ﷺ: "الملائكة ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث، ﺗﻘﻮﻝ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ".
• هذا حديث جليل القدر عظيم المبوأ عند أهل التنسك، وفيه مسائل أذكر بعضها: 
ﻫﻞ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ ﺃﻭ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ ﻛﻠﻪ ﻣﺼﻠﻰ ﻟﻪ؟
ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:
 القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلى، بل يشمل جميع المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ.
وقال العراقي: (وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ).
وقال ابن حجر: (ﺃﻱ ﻓﻲ اﻟﻤﻜﺎﻥ اﻟﺬﻱ ﺃﻭﻗﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ).
القول الثاني: أنه خاص بمحل صلاته.
ﻭﻗﺪ ﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه.
ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ ﻣﺴﻠﻢ ﻭﺃﺑﻲ ﺩاﻭﺩ ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﻪ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ".
وكأن هذا القول أقرب، ومع هذا فليحرص المتعبد أن لا يتحول من موضعه لغير مقتضى، والعلم عند رب العالمين.

وهنا مسألة أخرى:
هل يشترط لحصول الثواب أن يكون انتظارا لصلاة؟
قال العراقي: (ﻗﻮﻟﻪ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ فيه"، ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ، ﻟﻜﻦ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ ﺑﻜﻮﻥ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﺫﻟﻚ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ"، ﻭﻫﻮ ﻭاﺿﺢ).
وقال ابن حجر: (ﻭﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ" ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﻤﻦ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ اﻧﺘﻈﺮ ﺻﻼﺓ ﺃﺧﺮﻯ).

وهنا مسألة ثالثة مليحة:
وهي هل يلحق بذلك النساء والمعذورون، ممن لم يصلوا في المساجد، إن حبسوا أنفسهم في مصلياتهم:
ألحق بعض أهل العلم هؤلاء بمن لزم مصلاه في مسجد الجماعة، كالحافظ ابن عبد البر، فقد ألحق النساء إذا حبسن أنفسهن في مصلاهن.
بل ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺑﻄﺎﻝ: (ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺷﺒﻬﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻌﺎﻝ اﻟﺒﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).
فالله أعلم.

الخميس، 23 يوليو 2020

حين يثلم القلب!

    الحمد لله:
     هكذا يا أبا عبد ﷲ سُكب البارحة ما بقي من كأس صحبتنا في هذه الدنيا!
    وهكذا تنسرب الحياة كما ينسرب الماء بين الأصابع! قبل أن نرتوي من لقاء الأحبة الصالحين، ومجالس الإخوة المتقين.

     كنَّا طلابًا في الجامعة، في كلية الشريعة بأبها، وتعرفت على أبي عبد ﷲ، كان شابًا بسّامًا لا تغادر البسمة وجهه، طلق المحيّا، خفيف الظلّ، حافظًا لكتاب الله، ظل إمامًا لمسجد لبنان بأبها سنين عددًا.
     كان أبو عبد الله من أسرة من كرائم أسر عسير، جدّه لأبيه كان قاضيًا في أيام العثمانيين، وأبوه -الشيخ عبد ﷲ- من قدماء مشايخ المعهد العلمي بأبها، وفي بيت الكرم والدين هذا نَبَتَ الحسن.
وفي أبها ومحاضنها التربوية، ومواعظ دعاتها، وحماسة أهلها للدين درَج الحسن الهنيدي.

لن تجد أحدًا من أصحابه إلا سيقول: كان الحسن أخصّ أصحابي!
فقد كان يحفُل بالجميع، ويحنو عليهم، ويعطيهم من نفسه، ويخصّ كل أحد بمكرمة، حتى يخيّل إليه أنه أخص أصحاب أبي عبد ﷲ!

والرأي الجامع في صفة أبي عبد ﷲ الذي لا يختلف فيه اثنان: أنه لم تكن له خصومة مع أحد! ولم تجر له عداوة مع مؤمن!
فرحمة ﷲ عليك يا أبا عبد ﷲ!

     كان من القلة الذين أشاركهم همومي، وأستودعهم أسراري، ولقد كان يكفيه ما يحمل على كتفيه من أثقال البلاء وأعباء المرض، لكنني كنت آنس لكلماته، وأسكن لرأيه.

     ابتلي أبو عبد ﷲ بالفشل الكلوي قبل نحو ١٧ عامًا، وأجريت له عملية زراعة للكلى ثم فشلت الزراعة، وابتلي بعدم الذرية، وكان مع ذلك بسامًا رحْب الوجه، لم تبدّله الغِيَر، ولم تنل من سعادة روحه البلايا، ولا والله ما سمعته يومًا بَرِمًا، وما لقيته قط ضجرًا، وما اشتكى يومًا فقدَ الذرية، ولا اعترض على بلاء المرض، وأحسب أن هذا الرضا عن ربه، وعن قدره؛ من أعظم أعماله الصالحة، جازاه ﷲ بأحسن عمله.

     كنت أنتظر لقائي به دائمًا، وأفرح به، وأتشوّف له، وكان من عادتي كلما سافرت للأهل في الخميس، أن أزور الشيخ الحسن في بيته في أبها، وإن زرته فلابد أن يجتمع عنده شباب الدعوة، وإخوة الطريق، فللّه ما أطيب تلك الجلسات، وما أُحَيْلى تلك الأمسيات.
كانت أخبار المسلمين، وأنباء الدعوة هي عُظم ما يدور في مجلسه، مع حلاوة المفاكهة، وجميل المذاكرة.
ولا تسل عن حزنه لمصاب إخوانه، ولا عن وقوفه في نصرتهم، ولقد كان له معي مقامات مشهودة، نصرني فيها حين تَذاءَب بعض المنحرفين، فقام رحمه ﷲ في الأمر وقعد، مع تعبه ومرضه؛ حتى ردّ ﷲ به عنّي بأسًا كثيرًا، فجزاه الله عنّي خير ما جزى أخًا عن أخيه.

ولقد شهدت منه مواقف من غيرته على الشريعة، وهمّه للدين، ما أرجو أن تكون شفيعة له عند ربه.

وكان أكثر ما يُشْجيه ويكربه أن يسمع خلافًا بين حملة الدعوة، أو أن تبلغه خصومة بين أهل العمل الإسلامي، فيغتمّ لذلك ويحزن، ويضيق ويكرب، فإنه كان مطبوعًا على جمع القلوب، يألف ويُؤلف، يحب الاجتماع، وينشز عن الخلافات، ويفر من الخصومات.

وكان -رحمه ﷲ- وفيّا لإخوانه، يتفقدهم بالسؤال، ويصلهم بالرسالة أو بالاتصال، ولا ينقطع لانقطاعهم، بل لا يزال مادًّا حبل الصلة مع القريب والبعيد.

وكنت أقارضه ملاطفةً بملاطفة، وممازحةً بممازحة، فكان كلما أدار دائرة المناقضة عليّ قلت له مضاحكًا: أنا شيخك، وذلك أنّي كنت أدارسه الفرائض في المستويات الأخيرة من الجامعة، فإنّه حين مرض انتسب في الدراسة، ولم يكمل الانتظام، فكان إذا سمع كلمتي هذه اعتدل في جلسته، وسوّى من ملابسه، وقال: صدقت صدقت، وعاد عن غارته، وأذكر أنّنا زرنا عالمًا من العلماء مرة، وأجلسه بجواره، وخصّه بمزيد من الإكرام، فكان أبو عبد الله بعد ذلك يناقضني إذا قلت له: أنا شيخك، فيقول ممازحًا لي: قد استوت الرؤوس، كلنا صرنا شيوخًا، أما تذكر حين أجلسني الشيخ بجواره، ولم يجلسك بجواره، فضحكنا بها زمنًا.
وكان رحمه ﷲ حُفَظَة للأحداث والغرائب، يحفظ عن كل منّا أحدوثة، ذا ملكة في القصة والوصف، فلا تزال معه في ملاحة الحديث، ولذاذة المجالسة.

     وكنت لا أكاد أكتب شيئًا إلا علّق عليه بتعقيبه، تارة بتأثره مما قرأ، وتارة بممازحة، وتارة باستفسار، حتى أصبح مما اعتدته معه في أول لقائنا بعد أي كتابة أكتبها أو بحث أرسله له؛ أن أسمع تعليقه عليه، وكان آخر تعليق له: رسالة أرسلها لي، يمازحني فيها عن مقال لي كنت كتبته عن -طه حسين- ورآه يتداول في صفحة من صفحات بعض من يُغْمز في دينه بالغلو، فراسلني يمازحني يقول: انظر هؤلاء ينشرون مقالك!
وظل يطايبني بكلامه الطيّب ومزحه الحاني.

     قبل الحظر كنت ألحّ عليه ليزورني، وكان يشتكي ضيق وقته في آخر أيام تدريبه في المعهد العدلي، وما كنت أظن أني لن أراه بعد ذلك.
وجاء الحظر واعتزل الخلطة، وما زال على عزلته، محاذرة المرض، لضعف صحته، ووهن بدنه، ثم كلمته قبل أيام، فشكى لي تعبًا في جسمه، وأحاله على جهد غسيل الكلى، ولم نكن نعلم أنه أصيب بالمرض، وأنه وهن المرض لا وهن الغسيل، تحدثت أنا وهو طويلًا، وليتني أطلت أكثر، فقد كان آخر حديث بيني وبينه!
ثم بلغني دخوله المستشفى، فراسلته، وأجابني يشكو ضيق التنفس، ولما كان البارحة أرسلت له رسالة أطمئن على صحته، فكانت الرسالة الأخيرة التي لا جواب بعدها، فلم يرد أبو عبد ﷲ عليّ، وظننته نائمًا، أو متعبًا قليلًا، فلما استيقظت للفجر، وتجهزت للمسجد، رأيت الفاجعة في رسائل الأحبة، رأيت رسائلهم تعزي وتواسي، فدارت بي الأرض.
وهكذا الموت سيقف حجازًا بينك وبين حبيب من أحبابك، ترسل له يومًا فلا يجيب، وتكتب له فلا يردّ، فلنحسن وفادة بعضنا في هذه الدنيا.
حين أيقنت بالخبر أخذتني كظمة في صدري، ولم تخرج دمعة تريحني، وذهبت فصليت بالجماعة، وأنا مكروب النفس وﷲ.
فلما رجعت من الصلاة، وعدت في طريقي للبيت، كلمني أحد أحبابنا يعزّي، فلمّا سمعت صوته، تذكرت مجالسنا الطيبة مع أبي عبد الله، وأيامنا الماضية، تذكرت أسفارنا ولقاءاتنا، تذكرت ما تشاركناه من أفراحنا وأحزاننا، فما تمالكت دمعي، وانبعثت كظمة صدري، وبكيت عليه بكاءً ما بكيته على قريب، فرحمك ﷲ يا أبا عبد ﷲ وجمعنا بك في جنات النعيم.
والله المستعان.
 ٢/ ١٢ / ١٤٤١