الثلاثاء، 19 مايو 2020

مشروعية صلاة العيد في البيوت، والفرق بينها وبين الجمعة.

بسم الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمن لم يستطع شهود صلاة العيد مع المسلمين، ومنعه من ذلك عذر، كالمرضى والعجزة والمحبوسين أو من تأخر حتى صليت في بلده، أو كان مسافرًا، وكذا من حبسه عذر الحجر والحظر في مثل هذا الوباء، فإنه يشرع له صلاة ركعتين بتكبير كتكبير الإمام عند جماهير السلف.
وقد جاء ذلك عن أنس بن مالك، وهو مذهب الحسن وابن سيرين وابن الحنفية وعطاء في قول، وقتادة وعكرمة والنخعي وحماد ومالك والشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وابن المنذر، واختاره البخاري وبوّب عليه: "باب: إذا فاتته صلاة العيد يصلي ركعتين"، واستدلوا: بما ثبت ذلك عن أنس في ذلك، ولأن القضاء يحكي الأداء.
- فإن لم يكبر كتكبير الإمام فلا حرج، ﻭهو مذهب ﻋﻄﺎء في قول، ﻭاﻷﻭﺯاﻋﻲ ﻭرواية عن ﺃﺣﻤﺪ.
- والتخيير بين أن يكبر فيه أو يترك رواية عن أحمد.
- ويجهر بالقراءة خاصّة إذا صلى جماعة، فإن صلى منفردًا فهو مخيّر.
- ولا يخطب فيها.
• وجاء عن ابن مسعود بأسانيد صحاح أنه يصليها أربعًا، وهو قول الشعبي، والضحاك، ﻭاﻟﺜﻮﺭﻱ، ﻭﺃﺣﻤﺪ ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ، واختاره ابن تيمية.
فمن صلّاها أربعًا فلا حرج.
وروى البيهقي عن علي أنه: "ﺃﻣﺮ رجلًا ﺃﻥ ﻳﺼﻠﻲ ﺑﻀﻌﻔﺔ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻮﻡ اﻟﻌﻴﺪ ﺃﺭﺑﻊ ﺭﻛﻌﺎﺕ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ".
- ﻭﻋﻦ ﺃﺣﻤﺪ: ﻳﺨﻴّﺮ ﺑﻴﻦ ﺃﻥ ﻳﺼﻠﻲ ﺭﻛﻌﺘﻴﻦ ﺃﻭ ﺃﺭﺑﻌًﺎ.

والفرق بين الجمعة والعيد:
- أن العيد لا يشترط ﻟﻬﺎ اﻟﻌﺪﺩ ﻭاﻻﺳﺘﻴﻄﺎﻥ ﻭغيرها من شرائط الجمعة عند أكثر العلماء، ولذا يصليها اﻟﻤﻨﻔﺮﺩ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻓﻲ اﻟﺴﻔﺮ ﻭاﻟﺤﻀﺮ ﻭاﻟﻤﺮﺃﺓ ﻭاﻟﻌﺒﺪ ﻭﻣﻦ فاتته.
- وصلاة العيد يصليها الناس إذا لم يعلموا بالفطر إلا بعد الزوال، وأما الجمعة فلا تقضى لو خرج وقتها.
- والخطبة ليست شرطًا ولا واجبة في صلاة العيد بخلاف الجمعة عند عامّة السلف.
- ولأن الجمعة في حق المعذور تؤول إلى بدل وهي صلاة الظهر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ﻭاﻟﺠﻤﻌﺔ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻓﺎتته ﺻﻠﻰ اﻟﻈﻬﺮ؛ ﻷﻥ اﻟﻈﻬﺮ ﻭاﺟﺒﺔ ﻓﻼ ﺗﺴﻘﻂ ﺇﻻ ﻋﻤﻦ ﺻﻠﻰ اﻟﺠﻤﻌﺔ، ﻓﻼ ﺑﺪ ﻟﻜﻞ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ ﻭﺟﻮﺏ الصلاة ﺃﻥ ﻳﺼﻠﻲ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﺇﻣﺎ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻭﺇﻣﺎ اﻟﻈﻬﺮ، ﻭﻟﻬﺬا ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺴﺎء ﻭاﻟﻤﺴﺎﻓﺮﻭﻥ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ ﺇﺫا ﻟﻢ ﻳﺼﻠﻮا اﻟﺠﻤﻌﺔ ﺻﻠﻮا ﻇﻬﺮًا، ﻭﺃﻣﺎ ﻳﻮﻡ اﻟﻌﻴﺪ ﻓﻠﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺻﻼﺓ ﻣﺸﺮﻭﻋﺔ ﻏﻴﺮ ﺻﻼﺓ اﻟﻌﻴﺪ، ﻭﺇﻧﻤﺎ ﺗﺸﺮﻉ ﻣﻊ اﻹﻣﺎﻡ ﻓﻤﻦ ﻛﺎﻥ ﻗﺎﺩﺭًا ﻋﻠﻰ ﺻﻼﺗﻬﺎ ﻣﻊ اﻹﻣﺎﻡ ﻣﻦ اﻟﻨﺴﺎء ﻭاﻟﻤﺴﺎﻓﺮﻳﻦ ﻓﻌﻠﻮﻫﺎ ﻣﻌﻪ ﻭﻫﻢ ﻣﺸﺮﻭﻉ ﻟﻬﻢ ﺫﻟﻚ، ﺑﺨﻼﻑ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺇﻥ ﺷﺎءﻭا ﺻﻠﻮﻫﺎ ﻣﻊ اﻹﻣﺎﻡ ﻭﺇﻥ ﺷﺎءﻭا ﺻﻠﻮﻫﺎ ﻇﻬﺮا؛ ﺑﺨﻼﻑ اﻟﻌﻴﺪ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﺇﺫا ﻓﻮﺗﻮﻩ ﻓﻮﺗﻮﻩ ﺇﻟﻰ ﻏﻴﺮ ﺑﺪﻝ، ﻓﻜﺎﻥ ﺻﻼﺓ اﻟﻌﻴﺪ ﻟﻠﻤﺴﺎﻓﺮ ﻭاﻟﻤﺮﺃﺓ ﺃﻭﻛﺪ ﻣﻦ ﺻﻼﺓ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ، ﻭاﻟﺠﻤﻌﺔ ﻟﻬﺎ ﺑﺪﻝ ﺑﺨﻼﻑ اﻟﻌﻴﺪ، ﻭﻛﻞ ﻣﻦ اﻟﻌﻴﺪﻳﻦ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻡ ﻣﺮﺓ ﻭاﻟﺠﻤﻌﺔ ﺗﺘﻜﺮﺭ ﻓﻲ اﻟﻌﺎﻡ ﺧﻤﺴﻴﻦ ﺟﻤﻌﺔ ﻭﺃﻛﺜﺮ، ﻓﻠﻢ ﻳﻜﻦ ﺗﻔﻮﻳﺖ ﺑﻌﺾ اﻟﺠﻤﻊ ﻛﺘﻔﻮﻳﺖ اﻟﻌﻴﺪ".
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

الاثنين، 18 مايو 2020

السحرة وفرعون (بين وعي المعركة، ومعركة الوعي)

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهنا ذكريات من ذكريات الدعوة، وقصة من قصص التضحية، وخبر من أخبار الصلابة في ذات ﷲ.
إنها قصة إيمان السحرة وثباتهم أمام فرعون، واستعلائهم على الوعيد، وانتضائهم أمام التهديد.
وهي قصة فريدة الشبه في تاريخ الدعوة، وأحدوثة عزيزة المثال في قافلة المصلحين، وحدث نادر في السجل الدعوي الطويل، فإنَّ انقلاب أخصّ أعوان الباطل إلى صف الدعوة والحق والإيمان في موقف واحد؛ حدث نادر في تاريخ مواجهة الحق والباطل.
ولقد حكى ﷲ مقالات فرعون للسحرة التائبين، ومخاطباته لهم، فجاء فيها ذكرٌ لبعض مسالك المنحرفين في الصدّ عن سبيل الدعوة، ومناهجهم في معارضة الوحي، وطرقهم في التحريض على حملة الرسالة.
وحكى القرآن مقالات السحرة التائبين في ذلك المقام، وذكر تفاصيل خطابهم حين ﺃﺷﺮﻗﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻧﻮاﺭ اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ، فتحولوا ذلك التحول العجيب ﻋﻦ ﺟﻬﺎﻟﺔ اﻟﻜﻔﺮ ﻭﻗﺴﺎﻭﺗﻪ، ﺇﻟﻰ ﺣﻜﻤﺔ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﺛﺒﺎﺗﻪ.

•• فكان مما جاء فيها من تفاصيل سبيل المجرمين:
• اعتقاد الطغاة أنهم يملكون القلوب، وأن لهم سلطانًا على الأرواح:
ولذلك ترى فرعون تعجّب من إيمانهم دون استئذان! فقال: ﴿آمَنتُم بِهِ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم﴾!
لقد تعجب فرعون من مسارعتهم للإيمان بالرسالة، ورأى في عدم استئذانهم غريبة في قانون الطاعة! 
إن أصحاب الانحراف لا يدركون أثر الوحي في القلوب، ولا يدرون كيف تشرق أنواره في الروح،  ولا يدركون كيف تكون النفوس حين تخالطها بشاشة الإيمان. 
وأما فرعون فإنه لكثرة اعتياده استعباد الناس، وطول طغيانه عليهم، صار يعتقد أنه يملك سلطةً على العقول، ورقابة على الأفكار، وﺗﺼﺮيفًا للأرواح، فعدّ الخروج عن ذلك جريمة تستحق أشد عقوبة.
ثم انظر إلى مقالته هذه كيف ﺃﻭﻫﻢ الناس ﺃن السحرة ﻟﻮ اﺳﺘﺄﺫﻧﻮﻩ في الإيمان ﻷﺫﻥ ﻟﻬﻢ، وأن الأمر ليس يعدو أن يطلبوا الإذن في التوحيد فيأذن ليدخلوا في دين ﷲ!
كأن القضية ترتيب إداري يحتاج معه لمقدمة من المقدّمات السلطانية، وكأن شأن الإيمان والتوحيد كعبثهم في دينهم الذي يقلبونه بين أصابعهم كيف شاؤوا!
وهل يملك المؤمن قلبه إذا توقد بالإيمان! وهل يملك صاحب الهدى إذا اهتزَّت نفسه بإشراق الوحي أن يمسكها؟
ثم لعلك رأيت هذا أمرًا عجبًا! فلا تعجب له، ولا تستفزك غرابته، فإنك واجد في زمانك نفس ما استنكرته متلونًا بلون آخر، ألست ترى كيف يجرّم المسلم إذا أتى عبادة تخالف ما عليه الإذن، وتستباح عقوبة المصلح بذلك، ولا تجد له منكرًا.

• إظهار الحياد والنزاهة في الإجراءات الجنائية:
فإنَّ فرعون أظهر أنه لم يغضب لإيمانهم بالحجّة واتباعهم الدليل، فقال حين سقط في باب المناظرة: ﴿آمَنتُم لَهُ قَبلَ أَن آذَنَ لَكُم﴾.
ولأهل الفجور تحايل والتفاف على هزائمهم وسقطاتهم، فإن فرعون علم أن لو أنزل العقوبة عليهم دون تعلل منه؛ لقيل: هذا نكث لأصول المناظرة، ورجوع عن الدلائل، فاختلق هذه التهمة، وزوَّر هذا التجريم.

• الاتهام بزعامة المؤامرة:
فقال: ﴿إِنَّهُ لَكَبيرُكُمُ الَّذي عَلَّمَكُمُ السِّحرَ﴾.
وهذه التهمة ليست تهمةً وليدة الصدمة، ألقاها فرعون حين دهشته السحرة بإيمانها، بل لقد قالها لموسى ﷺ في أول ما جاء يدعوه حين رأى الآيات، قبل لقاء السحرة: ﴿قالَ أَجِئتَنا لِتُخرِجَنا مِن أَرضِنا بِسِحرِكَ يا موسى﴾.
فلما عاد عليه الغُلب عاد يكرر مقالته، ويعيد تهمته.
ولقد كان فرعون متناقضًا في اتهاماته، فمرّة يتهم موسى بأنه زعيم السحرة، ومرة يتهمه بأنه مسحور، كما ذكر ﷲ عنه: ﴿فَقالَ لَهُ فِرعَونُ إِنّي لَأَظُنُّكَ يا موسى مَسحورًا﴾.
وهي عادة أهل الانحراف في كل وقت، يرمون أهل الإصلاح بالتهمة ثم بمقابلها، ويعيبونهم بالظنائن وبنقائضها، فإنهم في تهمتهم لأهل الدعوة لا يصدرون عن نظر صدق، وليسوا إذ كذبوا يكذبون بحذق.
ولقد كان لتزييف الوعي هذا أثره على الجماهير، فإن تراكُم دعاوى الباطل تخترق الإدراك، حتى لعل الناس لا ينفكون عن أثرها، ومن عجيب ذلك أنه ﷻ حكى مقالة قوم فرعون لموسى ﷺ فقال: ﴿وَقالوا يا أَيُّهَ السّاحِرُ ادعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنا لَمُهتَدونَ﴾! فهل رأيت أعجب من ذلك؟! يسمونه ساحرًا، مع إقرارهم بحاجتهم لدعائه وصلاحه!

• ومن أعداء الدعوة من يقع في ورطة قيام الأدلة، ونزاهة المصلحين، وسمو دعواتهم، فلا يجد له ما ينفذ عليهم به إلا أن يتهمهم بالتحزب خلف حزب له مآربه ومقاصده، فإذا فعل ذلك سهل عليه بعدُ أن يجعل كل منقبة للدعوة وفضيلة لأهلها موطن ذم ومحل عيب.

• إفراغ الدعوة من ربّانيتها، وتجريد المصلحين من براهينهم:
فإنَّ فرعون قال لما رأى الحجة: ﴿إِنَّ هذا لَمَكرٌ مَكَرتُموهُ فِي المَدينَةِ﴾.
فحرص فرعون على نفي البرهنة على الإيمان، وأن توبة السحرة ليس لقوة الدلالة والحجة، ولكن لأجل التواطئ مع موسى، وأن ما يرى الناس من البينات في كلامهم ليس كما يُظن، وأﻥ ﻣﻮﺳﻰ ﻟﻢ ﻳﺄﺕِ ﺑﻤﺎ ﻳﻌﺠﺰ اﻟﺴﺤﺮﺓ، ﺇﺩﺧﺎلًا ﻟﻠﺸﻚ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﻮﺱ اﻟﺬﻳﻦ ﺷﺎﻫﺪﻭا اﻵﻳﺎﺕ.

• تجييش الناس على موسى ومن معه، واستثارتهم عليهم باتهامهم في مرغوبات الناس:
فإن الله ذكر عنه أنه قال: ﴿لِتُخرِجوا مِنها أَهلَها فَسَوفَ تَعلَمونَ﴾.
لقد أراد فرعون أن يستفزّ الناس لمواجهة موسى معه، فأراد أن يشرك معه الناس في عداوة موسى، وليس أكثر نهزة من أن يتهمه بمنازعة الناس في أرضهم وأوطانهم، فإنه ليس أشد عند العقلاء من مفارقة الأوطان، ومباينة مآلف النعم، فأدار فرعون التهمة على ما عرف من طبائع الناس في ذلك.

• اللجوء للبطش، والتهديد بالعقوبة:
حكى ﷲ عن فرعون قوله: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعين﴾.
فإن النفس الطاغية سبعية الانتقام، تجد الراحة في القهر، وتشفى لصوت المعذبين.
وفي كلام فرعون هذا انتقال من التهديد المجمل إلى التهديد المفصل: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيدِيَكُم وَأَرجُلَكُم مِن خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُم أَجمَعينَ﴾، فإن عرض تفاصيل التنكيل والعذاب ربما أوهن العزائم، وأرخى الهمم.
ولقد بالغ في التهديد بالعقوبة حتى قال: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُم في جُذوعِ النَّخلِ﴾، فلم يقل: على جذوع النخل، وإنما قال: ﴿في جُذوعِ النَّخلِ﴾، ليخبر ﺃﻧﻪ ﺻﻠﺐ ﻣﺘﻤﻜﻦ ﻳﺸﺒﻪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﻤﻈﺮﻭﻑ ﻓﻲ اﻟﻈﺮﻑ.

• التسبيب القضائي الفرعوني للعقوبة:
فإنه لما ذكر المقصد من العقوبة قال: ﴿وَلَتَعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبقى﴾.
والطاغية يحب أن يبقى الخوف في نفوس الناس، لعلمه أنّ الخوف يذل أعناق الأجيال، ويطامن العقول، وينمط التفكير.

•• وهناك في مقابل جبروت فرعون كان الحديث نديًا عن ثبات أهل العزيمة الإيمانية، وصلابتهم حين عرفوا الحق، واستمساكهم بالعروة حين اطلعوا على نور الحقيقة.
وستجد فيما نقل عنهم القرآن مواعظ للدعاة والمصلحين، مواعظ في الثبات، والبصيرة بالطريق، والوعي الدعوي بالعدو، وكمال العبودية لله.
وسترى في مقالات السحرة التائبين جامعًا حاضرًا وأمرًا مشهودًا في كل ما نقل القرآن عنهم، ستجد أنهم لم يلينوا القول لفرعون ليتعطّف عليهم، ولم يأتِ في مخاطبتهم له نأمة استعظام! ولا رمزوا له بحاجب استرحام! بل تصلّفوا معه في القول، ولم يبالوه بالهم!

•• ومما ذكر القرآن من تفاصيل سبيل المؤمنين:
• الوعي بالمعركة بين الحق والباطل:
لقد كان هؤلاء التائبون أهل وعي بالباطل وطرقه، فردوا عليه تهمته لهم بالمؤامرة والمكر، فقالوا: ﴿وَما تَنقِمُ مِنّا إِلّا أَن آمَنّا بِآياتِ رَبِّنا لَمّا جاءَتنا﴾.
لقد بيَّنوا أن الخلاف مع فرعون خلاف عقدي ديني، وأدركوا حقيقة المعركة، فكشفوا للناس أن الخصومة مع فرعون ليست خلافًا على السلطة كما يصوره فرعون، ولكنه صراع عقدي،  ومواجهة دينية.
ويجب على أهل الدعوة أن يكونوا بالرصَد لكيد المبطلين، فيفقهوا حقيقة المواجهة، ويعرفوا وسائلها.
ولقد تجد كثيرًا من أهل الدعوة ذوي بصيرة بحقيقة الخصومة مع الباطل، لكن القصور يأتي من نقص البصيرة في أشخاص المنحرفين، ووسائل الانحراف وطرقه.

• اللجأة إلى ﷲ:
لما علموا حقيقة الموقف، وخطورة المواجهة سألوا ربهم الصبر، فقالوا: ﴿رَبَّنا أَفرِغ عَلَينا صَبرًا وَتَوَفَّنا مُسلِمينَ﴾.
فسألوه أن يفرغ عليهم كأنهم سألوا أن يصب عليهم من كل الصبر لا من بعضه، ثم انظر كيف سألوه صبرًا بصيغة التنكير، ليكون صبرًا تامًا كاملًا.

• تعظيم الوحي:
فلقد واجه المؤمنون تهديد الطاغية باستعلاء الواثق كأنما يهزؤون به: ﴿قالوا لَن نُؤثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ البَيِّناتِ﴾!
فكانوا يرون في الرسالة من البينات والحجج ما جعلهم لا يقدمون عليها شيئًا.
- ولقد كان هؤلاء التائبون يواجهون شدة الباطل بوجه من حديد، يقمعون كبره، ويقمؤون صلفه، ولذا تراهم أكدوا مقالتهم بالقسم، فقالوا: ﴿وَالَّذي فَطَرَنا﴾.

• الاستهتار بالباطل:
ومما حكى القرآن عن أولئك التائبين استهتارهم بالوعيد، واستهانتهم بالتهديد، وعدم احتفالهم به، فقالوا: ﴿فَاقضِ ما أَنتَ قاضٍ﴾.
لقد كانوا للتو أنصارًا للكفر، أعوانًا له على الزيف، عاشوا حياتهم في خدمة الطاغوت، فصاروا إلى هذا الثبات، وتحولوا إلى هذا المقام، وهكذا يفعل اليقين إذا رسخ، والإيمان إذا تمكن حقًا، دعك من أولئك الذين إنما عرفوا التوحيد في قاعات الدراسة، وأخذوا مسائله العلمية في الحلق، ثم إذا أريد على شيء من دينه لم يتعاظم عليه أن يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ولا يبالي.

• الوعي بحدود قدرات أعداء الدعوة:
ومما حكاه القرآن عن أولئك المؤمنين معرفتهم الحقيقية لقدرات الباطل وأهله، فذكر عنهم استصغارهم لأهل الباطل، لاستصغارهم الدنيا، فقالوا: ﴿إِنَّما تَقضي هذِهِ الحَياةَ الدُّنيا﴾، فإن اﻟﻘﺼﺮ اﻟﻤﺴﺘﻔﺎﺩ ﻣﻦ (ﺇﻧﻤﺎ) قصر حقيقي، فقدرات الطاغية مقصورة على هذه الدنيا، لا تتجاوزه إلى القضاء في الآخرة، وموازين أهل الإيمان، مختلفة عن موازين الماديين، ومعاييرهم ليست كمعاييرهم.
إنه انتصار المبدأ الشريف على المادية، وخبر من أخبار الرجوع العفيف عن العمالة، فبينا كانوا يطلبون تلك اللعاعة، ويتطاولون للتقرب من السلطة، هاهم الآن يضحون بحياتهم كلها في ذات ﷲ.
واستشعار المصلح والداعية هذا المعنى معين على الثبات، فإنما بلاء الدعوة من محبة الدنيا وإيثارها والرضا بها، لكن حين تشرق هدايات الوحي في النفس، وتكسو الروح الطمأنينة، يغدو كل ما في الدنيا زهيدًا متصاغرًا!

• لقد انتقل اﻟﺴﺤﺮﺓ التائبون من مقام التبعية لفرعون إلى مقام اﻟﻤﻌﻠﻢ اﻟﻤﺴﺘﻌﻠﻲ، فأخذوا يوجهونه ويعلمونه: ﴿إِنَّهُ مَن يَأتِ رَبَّهُ مُجرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَموتُ فيها وَلا يَحيى • وَمَن يَأتِهِ مُؤمِنًا قَد عَمِلَ الصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلى﴾.
وهكذا الإيمان والوحي والدعوة، ينتقل بها المؤمن من مقام التبعية، وعيش الهامشية، ليصبح حر التفكير، ينشر الدعوة، ويدفع الفجور، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، قوّامًا بالحق في الأرض.

• لقد رد هؤلاء التائبون على التهديد بردٍ تُوْقده حرارة الإيمان، فقالوا: ﴿لا ضَيرَ﴾!
﴿لا ضَيرَ﴾!
ﷲ، ما أعظم الكلمة، وأعزّ العبارة!
إنهم يعرفون مَن يخاطبون! إنهم يعلمون أنهم يكلّمون فرعون الذي كان ينتزع الأطفال من حجور أمهاتهم، وأحضان أهليهم ليذبحهم، لكنها ﺻﻮﻟﺔ اﻟﺤﻖ حين تقوم في القلوب، ﻭﻧﻮﺭ الوحي حين يشرق في الروح، ﻭبرودة اليقين حين تنزل القلوب اﻟﻤﻬﻴﺄﺓ ﻟﺘﻠﻘﻲ الهدى.

• تذكّر الآخرة:
فإن تذكر المآب إلى الله سلوة للمؤمن، فقالوا: ﴿إِنّا إِلى رَبِّنا مُنقَلِبونَ﴾، وهذه الجملة ﺗﻌﻠﻴﻞ ﻟﻨﻔﻲ الضير.
وفيه معنى الفرح بلقاء ﷲ، ومحبة الشهادة، وكأنهم رأوا أن الحياة لا تستحق أن يحرص عليها المؤمن، وإنما يكون حرصه على النجاة في الآخرة، ولذا قابل السحرة التائبون كلمة فرعون: ﴿وَلَتَعلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذابًا وَأَبقى﴾، بالكلمة الطيبة، فقالوا: ﴿وَاللَّهُ خَيرٌ وَأَبقى﴾، وصراع الدعوة هو صراع الكلمة! صراع بين الكلمة الخبيثة والكلمة الطيبة.

• ثم كانوا مع عظم ثباتهم، وعلو وقفتهم تلك في وجه الطاغوت؛ قائمين بعبودية التواضع لله:
- فاستعلموا الأدب مع الله فقالوا: ﴿إِنّا نَطمَعُ أَن يَغفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا﴾، فإن الطمع ﻳﻄﻠﻖ ﻭﻳﺮاﺩ ﺑﻪ اﻟﻈﻦ، ﻛﻤﺎ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﷺ: ﴿وَالَّذي أَطمَعُ أَن يَغفِرَ لي خَطيئَتي يَومَ الدّينِ﴾، فتأدبوا ﻣﻊ اﻟﻠﻪ ﻷﻧﻪ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ.
- ثم ذكروا رجاءهم في المغفرة، وهو حال عظيم من أحوال المعرفة بالله، فلم يجمح بهم شموخهم على الطغيان أن يشمخوا في أنفسهم، ولم تأخذهم عزتهم تلك أن يتعاظموا فعلهم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
خميس مشيط، ٢٦/ ٩/ ١٤٤١

الجمعة، 15 مايو 2020

مناسبات خواتيم الآيات

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فلقد جاء القرآن على طريق تخالف ما عهدته العرب في كلامها وما تعرفه في بلغائها، فإن العرب تعرف في كلامها الشعر والنثر، ثم الشعر له أقراؤه وأعاريضه وأوزانه، والنثر له سجعه وإرساله، فجاء القرآن على طريق مباينة للشعر ورجزه وقصيده، وعلى جادّة مخالفة للنثر في إرساله وتسجيعه.
ومن ذلك خواتيم الآيات، فقد جاءت على نمط ليست عليه طريق العرب، ولم يمضغ لها شيح ولا قيصوم، فإنها جمعت صياغة الختام العذبة، دون ثقل السجع، وتسلسل الكلمات دون عبء التزاحم، فكانت كل كلمة في موضعها لا تزحم كلمة عن مكانها، فأصْمَتَ بلغاء العرب، واعتقلت ألسنتهم، وأغضوا عن معارضته، مع كثرة التأنيب المخزي، وانفساح الأجل، وصراحة التحدي، وحرارة العرض القرآني أن يأتوا بمثله أو مثل عشر سور منه أو مثل سورة، لكنهم ثقلوا فيه وهم أهل المضاء، وقعدوا عنه وكانوا أهل انتضاء.
ثم ليس الحديث هنا عن الجلال اللفظي في ذلك الاتفاق الصوتي بين خاتمة الآية والآية، ولا عن أنواع ما تختم به من الميم والنون وألف المد، أو الخروج عن ذلك متابعة لصوت الآية وميزان كلماتها، فهذا ليس مرادي هنا، إنما الحديث عن مناسبة ختام الآية لمعنى الآية، وما في هذا الختام من روعة الربط بأول الآية، وجمال العود على سياقها.

• وأوسع وأجل تلك الخواتيم هي خواتيم الآيات بذكر أسماء من أسماء ﷲ الحسنى، فيؤتى في خواتيم الآيات بما تقتضيه الآية من الأسماء الكريمة لله، وذلك كثير في القرآن، ومن جليله:
- ما ختمت به آية وعظ النساء وتأديبهن في النساء، فقال ﷻ: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا﴾.
فإنَّ خاتمة الآية هذه جاءت بعد ذكر تأديب الزوجات، بالهجر والضرب، فكانت تذكيرًا للرجال ألا يجاوزوا الحد، أو يبغوا في الأمر، فوعظهم ﷲ أنه عليٌ فوقهم كبير عليهم.

- ومنها: ما جاء في قوله: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقا يُغنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكيمًا﴾، فإنه ذكر أمرين وناسب أن يختمهما بهذين الاسمين، فذكر حكمه ﷻ في الفراق، وذكر وعده بإغناء المفترقين، فعقّبها باسم الواسع لمناسبة ذكر الإغناء، وعقب باسم الحكيم لمناسبة ذكر الأحكام الشرعية، فإنه ﷻ حكيم فيما شرع لعباده، حكيم فيما يقدر من شأن الفراق والطلاق بين الزوجين.

- ومن لطيف ما جاء في ذلك خاتمة قوله ﷻ: ﴿ذلِكَ وَمَن عاقَبَ بِمِثلِ ما عوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾
فما مناسبة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾ لما سبقها من الإذن في العقوبة:
فقيل إن ذلك ندب للعفو عن الجاني، فهي مرتبة أعلى من المعاملة بالمثل.
وقيل: بل ﺩﻝ ﺑﺬﻛﺮ اﻟﻌﻔﻮ ﻭاﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﻌﻔﻮ ﺇﻻ اﻟﻘﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺿﺪﻩ.
ﻭقيل: بل ذلك ﺗﻌﻠﻴﻞ للاﻗﺘﺼﺎﺭ ﻋﻠﻰ اﻹﺫﻥ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﺎﺏ ﺑﺎﻟﻤﻤﺎﺛﻠﺔ ﺩﻭﻥ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ اﻻﻧﺘﻘﺎﻡ، فعفو الله قضى بألا يزاد على العقوبة حتى وإن كان البادئ أظلم، ﻓﻠﻴﺲ في ﺫﻛﺮ ﻭﺻﻔﻲ العفو والغفور ﺇﻳﻤﺎء ﺇﻟﻰ اﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻓﻲ اﻟﻌﻔﻮ ﻋﻦ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ.

- ومن الآيات التي تختم بختام له مناسبة مطَّردة في القرآن، اسم ﷲ المحيط، فإنه لم تختم به آية في القرآن إلا عقب وعيد للكفار أو المنافقين، إلا في إحدى آيتي النساء، ومن ذلك قوله ﷻ: ﴿ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ﴾.

- وقد جاء قوله ﷻ: {وَﷲُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، في ختام آيات كثيرة، وأكثرها لا تخرج عن مناسبتين: إما أن يؤتى به بعد ذكر فعل من أفعال ﷲ، وهو أكثر ورودها في القرآن.
وإما أن يؤتى بها مقترنة مع ذكر ملكه ﷻ، كقوله: ﴿ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، وقوله: ﴿ تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، ومناسبة ذكر مطلق القدرة لله مع الملك، لأن الملك مفتقر إلى التصرف، فالملك هو القادر على التصرف في ملكه.

- ومما جاء متكررا في القرآن في ختام الآيات: الإضافة لاسم (الشديد)، كقوله: ﴿شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾، مضافًا في مواضع كثيرة من القرآن، وأكثر وروده في وعيد الكفار، ومن اللطيف أنها جاءت في ثلاثة مواضع خاتمة لآياتٍ من آيات الأحكام، فيحذّر ﷲ عباده ليمتثلوا الأمر، ويقوموا بالحق، ومنها قوله ﷻ: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ﴾، حتى ختمها بقوله سبحانه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.

• ثم إنَّ من خواتيم الآيات ما تدرك مناسبته بأدنى تأمل، كمثل خاتمة قوله ﷻ: ﴿وَأَنفِقوا في سَبيلِ اللَّهِ وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، فإن ﷲ عقّب الأمر بالإحسان بذكر محبته للمحسنين، وكما في قوله ﷻ: ﴿ثُمَّ أَفيضوا مِن حَيثُ أَفاضَ النّاسُ وَاستَغفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾، فعقّب الأمر بالاستغفار بذكر مغفرته ورحمته.

• ووراء ذلك ما تدرك مناسبته بتأمل قريب كقوله ﷻ: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالعِبادِ﴾، فإن ﷲ لما ذكر من بلغ الغاية في التضحية لدين ﷲ حتى كان معرضًا نفسه للهلاك في مرضاة ﷲ، فذكر ﷲ ﷻ أنه رؤوف بعباده، فلا يضيع عنده عمل عامل، ثم هو رؤوف بهم لا يريد بهم العنت حين أمر ببذل الأموال والأنفس في سبيله، وإنما هو لمصالح الدين والدنيا، ثم هو رؤوف بهم فجعل في شريعته عند الاضطرارات والحاجات من الرخص والتخفيفات ما وسّع به على عباده.
- ومن ذلك ما عقب به ﷻ في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾، فإنه ﷻ لما ذكر مكاره النفوس، وأن مصالحها قد لا تكون في محابها، بل ربما كانت مصالحها في مباغضها، ختم ذلك بما يخبر عن قصور علم العباد، وأنَّ ﷲ هو الذي يعلم بما يصلح العباد.

• ومنه ما يحتاج لمزيد تأمل لتظهر مناسبته، كما في قوله تعالى: ﴿ ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ﴾، فناسب التعقيب بذم الاعتداء لأن ترك التضرع وبعض الإخفاء من الاعتداء، ويدخل فيه كل ما هو خلاف السنة في الدعاء فإنه اعتداء.

- ومنه قوله: ﴿وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَبِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَالجارِ ذِي القُربى وَالجارِ الجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ وَابنِ السَّبيلِ وَما مَلَكَت أَيمانُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ مُختالًا فَخورًا﴾، فلما أمر ﷲ بالإحسان لمن شأنه ألا يحسن إليه إلا من يرجو ﷲ والدار الآخرة، فإنهم جميعًا ممن يؤمن انتقامهم، ذيّل ذلك بالزجر عن بعض موانع الإحسان، وهما الكبر والفخر، وهما خلقان يبعثان الشدة والجفاء، ومن كان كذلك ترفع على الخلق، وامتنع عن الإحسان لهم.
وقد يكون لمعنى آخر؛ وهو أن ﷲ حذر المحسنين من الفخر بإحسانهم، ودوام تذكّر النفس سالف الإشفاق على الخلق المفضي إلى رؤية العمل بعين العجب.

• ومنه ما يحتاج لمزيد تأمل لا لتظهر مناسبته فحسب، ولكن لتعظم الفائدة في معرفة معنى السياق، كما ختمت به الآية من قوله ﷻ: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ﴾، فإنك إن نظرت إليها بادي النظر قلت عن مناسبتها: لقد خفف ﷲ عن عباده لما علم من ضعفهم، لكنك إذا نظرت لكمال السياق، وجدت أنه ذكر قبل ذلك الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد قدرة على نكاح الحرائر، وذلك لأن الإنسان خلق ضعيفا ﻋﻦ ﺗﺮﻙ اﻟﻨﺴﺎء، قليل اﻟﺼﺒﺮ عنهن، ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻜﻢ ﻓﻲ ﻧﻜﺎﺡ ﻓﺘﻴﺎﺗﻜﻢ اﻟﻤﺆﻣﻨﺎﺕ ﻋﻨﺪ ﺧﻮﻓﻜﻢ اﻟﻌﻨﺖ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ.

• ومن خواتيم الآيات ما يأتي متكررًا في القرآن، ولعلك أن تجد له جامعة مناسبة تجمعها، كالخاتمة التي جاءت في مواضع من القرآن بذم القوم الظالمين، فقد جاءت في مواضع كثيرة ومنها: قوله ﷻ: ﴿إِن يَمسَسكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ﴾، ومناسبة هذا الختام لسياق الآية -والعلم عند الله- لما اشتملت عليه الآية من ذكر الفريقين، ومقارنة الحالين المختلفين، ولمّا كان من الظلم التسوية بين المختلفين ذيّلت هذه الآية بهذا الختام، فإن قرح المؤمنين، وألمهم، وهزيمتهم، ليست كقرح الكفار وهزيمتهم وألمهم، فذام قرح بأجره، وهو تطهير للمؤمن، وتزكية له وتربية، وهو بخلاف ما يحدث للكافر.

- ولهذا الختام بهذه المناسبة نظائر في القرآن، كقوله ﷻ: ﴿أَجَعَلتُم سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ لا يَستَوونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾، فإن التسوية بين المؤمنين المجاهدين وبين عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج والقيام عليهم مع الإعراض عن الشريعة؛ هذه التسوية من الظلم.
- ومنه قوله ﷻ: ﴿أَفَمَن أَسَّسَ بُنيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضوانٍ خَيرٌ أَم مَن أَسَّسَ بُنيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾، فكيف يستوي بنيان أهل التقوى وحالهم ومنهجهم وكياناتهم مع بنيان أهل الباطل والفجور والضلال، فمن سوى بينهما فقد ظلم.

• ومعرفة مناسبة خاتمة الآيات مما قد يؤوب إليه الفقيه لمعرفة القرائن المرجّحة لحكم مذكور في الآية مما اختلفت فيه أنظار الفقهاء، كما تجده في خلافهم في مقتضى الأمر بمتعة المطلقة في قوله ﷻ: ﴿لا جُناحَ عَلَيكُم إِن طَلَّقتُمُ النِّساءَ ما لَم تَمَسّوهُنَّ أَو تَفرِضوا لَهُنَّ فَريضَةً وَمَتِّعوهُنَّ عَلَى الموسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعروفِ حَقًّا عَلَى المُحسِنينَ﴾، فقد اختلف الفقهاء في متعة هذه المطلقة، وذهب كثير منهم إلى وجوبها، وخالف أهل المدينة فرأوها سنة مستحبة، ومن القرائن التي رجحوا بها قولهم أنه جعل حقا على المحسنين، والإحسان أمر زائد على الواجب، والمسألة مبسوطة بدلائلها في كتب الفروع، ولكن المقصود هنا التنبيه على مآخذ الاستدلالات في مناسبات خواتيم الآيات.

- ومن النظر الفقهي المستفاد من خواتيم الآيات ما ذكره بعض الفقهاء في حكم الظهار من قوله ﷻ: ﴿الَّذينَ يُظاهِرونَ مِنكُم مِن نِسائِهِم ما هُنَّ أُمَّهاتِهِم إِن أُمَّهاتُهُم إِلَّا اللّائي وَلَدنَهُم وَإِنَّهُم لَيَقولونَ مُنكَرًا مِنَ القَولِ وَزورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾، فمن الفقهاء من قال: ليس هو كبيرة، لأن الختام بهذين الاسمين يدل على أن أحكام الظهار تدور على اﻟﺘﻮﺳﻌﺔ والتخفيف.

• ثم لا يقتصر الأمر على شأن الترجيحات الفقهية، بل من جميل مناسبات خواتيم الآيات تلك المواعظ الختامية التي تختم بها سياقات الأحكام الفقيهة، كما في قوله ﷻ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، فإن مناسبة التقوى لعبادة الصوم ظاهرة، ففي الصحيحين: «الصيام جنة»، فهو جنَّة للمؤمن في دنياه يتقي به منافذ الشيطان، وهو جنة له في آخراه يتقي به النار.

- ومنها: ما ختمت به الآية في قوله تعالى: ﴿وَاذكُرُوا اللَّهَ في أَيّامٍ مَعدوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلا إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾، فإنه لما ذكر حال تفرق الحجاج بعد حجهم ثم مرجعهم إلى بلادهم، ناسب أن يذكر مرجع الناس إلى ربهم سبحانه، فقال: ﴿وَاعلَموا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾.

- وتأتي الموعظة بخاتمة الآية بعد ذكر حكم من أحكام الشريعة، تخويفًا للمؤمن وتحذيرًا له: ﴿أُحِلَّ لَكُم صَيدُ البَحرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُم وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيكُم صَيدُ البَرِّ ما دُمتُم حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾، ﻭاﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﻣﻨﻪ اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﻟﻴﻜﻮﻥ اﻟﻤﺮء ﻣﻮاﻇﺒًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﺎﻋﺔ ﻣﺤﺘﺮﺯًا ﻋﻦ اﻟﻤﻌﺼﻴﺔ.

- ومثله: ﴿وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ﴾، فأمر ﷻ هنا بالمسالمة لمن سالم المسلمين وكف يده، ثم عقب ذلك بالأمر بالتوكل على ﷲ سبحانه، وذكر صفة نفسه هنا: {السَّميعُ العَليمُ} ﺗﻨﺒﻴﻬًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺰﺟﺮ ﻋﻦ ﻧﻘﺾ اﻟﺼﻠﺢ، ﻷﻧﻪ ﷻ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻀﻤﺮﻩ اﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻭﺳﺎﻣﻊ ﻟﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ في اﻟﻌﻬﺪ، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺎﻣﻠﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻨﻬﻢ، فأمره بالتوكل ثم ﻃﻤﺄﻧﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﺣﺎﻃﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺴﺮاﺋﺮ اﻟﻘﻮﻡ اﻟﻤﺨﺒﻮءﺓ.

• ولم تكن المناسبات الوعظية لخواتيم الآيات مقتصرة على آيات الأحكام بل كانت تلك المناسبات الوعظية للخواتيم شاملة لأمر المباحات، كما ختمت به الآية: ﴿نِساؤُكُم حَرثٌ لَكُم فَأتوا حَرثَكُم أَنّى شِئتُم وَقَدِّموا لِأَنفُسِكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّكُم مُلاقوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ﴾، فإنه سبحانه أمر بالتقوى وذكر بيوم لقائه تذكيرًا بالعمل الصالح بعد ذكر لذائذ الدنيا، لئلا يستولي على النفس تغليب شأن النكاح، فعاد السياق يعظ المؤمنين بما يربط دنياهم بأخراهم، يذكرهم بالحسبة في لذائذهم، فتنقلب المتع الدنيوية طاعات، وهذا ربط عظيم يحياه المؤمن بين دنياه وأخراه، بين مشاعر الحب الزوجي واللذة البدنية وبين حياة القلب ليوم لقاء ﷲ، وذاك شأن لا يكون إلا للمؤمن.

- ومثله ما جاء في قوله ﷻ ﴿يَسأَلونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمتُم مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبينَ تُعَلِّمونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلوا مِمّا أَمسَكنَ عَلَيكُم وَاذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَريعُ الحِسابِ﴾، فإنه بعدما ذكر أمرًا مما أحل لهم سبحانه، رجع السياق يربطهم بالصلة بالله وبأمره وتقواه وحسابه، فليس شأن المطاعم لذة معزولة عن مراقبة ﷲ وتذكر المآب إليه سبحانه.

• ومن فقه مناسبات خواتيم الآيات أن يكون المتدبر على بصيرة بمناسبة الآية للسياق، ولموضوع السورة، كما في قوله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُم فِي الأَرحامِ كَيفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾، فإنه لما كانت سورة آل عمران منزَّلة في مجادلة النصارى حين اتخذوا عيسى إلهْا، عرض لهم بالذكر أن الخلق وإن اختلفوا في كيفية الآيجاد، فإنهم مصورون في الأرحام من العدم، فكيف يكون إلها، ثم ختمت الآية باسم العزيز الحكيم، الدالة على كمال القدرة، وكمال العلم، فقدرة عيسى على بعض الإحياء وعلمه ببعض الغيب، لا يقتضي كونه إلها، بل الإله من له مطلق القدرة والعلم.

• ومثله ما قال ﷻ: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلى أَعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللَّهُ الشّاكِرينَ﴾.
لما ذكر ﷲ حال من شك واضطرب في غزوة أحد؛ عقّب الوعيد بالوعد كما هي العادة في القرآن، فأثنى ﷲ على الشاكرين، الذين شكروا ربهم مع مصابهم، فثبتوا ولم يتزلزلوا، ولذا جاء أنها نزلت في أبي بكر ومن معه، وكما أن الصبر باعث من بواعث الثبات، فإن الشكر باعث على الثبات أيضًا، فإن من عرف عظم نعمة الهدى والقرآن والإسلام شكرها بثباته عليها، فليقينه بعظم النعمة التي أكرمه ﷲ تراه شغوفًا بها، ممتنا لله بها، وهذا هو الشكر.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

خميس مشيط، ٢٢/ ٩/ ١٤٤١ هـ

الثلاثاء، 12 مايو 2020

أدب المستضعفين في القرآن.


بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي زمن الغربة الأولى كانت الآيات القرآنية تتنزل على قلب النبي ﷺ تُعلّمه موقع المؤمن من تهويشات الباطل على التوحيد والعبادة والصلاة، فكانت تنزل عليه -بأبي هو وأمي- بالأدب الذي ينبغي أن يكون عليه مَن يواجه حدّ الظلم ويقابل حديده.
فنزلت عليه ﷺ في أوّل الدعوة تلك الآيات التي تبيّن أن الباطل لا يقف مكفوف اليد، دون أن يصدّ عن السبيل ويبغيه العوج: فقال ﷻ: ﴿أَرَأَيتَ الَّذي يَنهى • عَبدًا إِذا صَلّى﴾.
هل تخايلت معي الموقف؟
هل تمايلت بين عينيك تلك الأحداث في مكة، والنبي ﷺ منفرد عن الأصحاب والأتباع، وقريش قد تعبّست عليه، وقام سيدهم يتهدده ويتوعده!
هل كنت ممن نشأ في بلهنية من العيش، محالفًا للراحة، مسترسلًا في الرخاء؛ فلم تجرّب خشونة مخالفة الناس ووحشة مواجهتهم؟!
إذن لن تتصور حقيقة الموقف الذي نزلت فيه هذه الآية!
لقد رأت قريش في الصلاة رمز التحدّي لها!
رأتها تضاهي عبادتهم ومكاءهم وتصديتهم عند البيت!
رأوها تهديدًا لإمامتهم الدينية في العرب!
وكثيرًا ما يكون للباطل -مع التوحيد- أمور يراها تهديدًا له ولوجوده ولكيانه ولزعامته!
قد لا تكون الصلاة ولا السجود هي رمز التحدّي والمضاهاة والتمايز عند باطل آخر، ولكنك تجد له وجهًا من وجوه الحق يعارضه، ويراه مقابلًا له، ويدفعه بطوقه!
فالعفاف والطهر هو التهديد الذي كان يتهدد قوم لوط! فتنادوا: ﴿أَخرِجوا آلَ لوطٍ مِن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُناسٌ يَتَطَهَّرونَ﴾!
وكان القسط التجاري هو التهديد لقوم شعيب!
فلما قال لهم: ﴿وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ﴾، ردّوا عليه: ﴿يا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ﴾ وتهددوه: ﴿وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ﴾، وتوعدوه:﴿لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا﴾!
وهكذا فقد تجد باطلًا يجهد جهده في محاربة شعيرة من الشعائر، ويغضي عن غيرها، ويجعلون ﴿القُرآنَ عِضينَ﴾، يأخذون منه ما يرونه متلائمًا مع باطلهم، وينبذون ما يرونه معارضًا له.
فماذا كان الدواء القرآني؟
ما هو الأدب القرآني الذي ربّى به القرآن غرباء الزمن الأول عند مواجهة التهديد والمنع والمعارضة:
لقد نزل على النبي ﷺ: ﴿كَلّا لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب﴾.
كلا!
كلا، أيّها المؤمن لا تطع صاحب الباطل في نصف كلمة، ولا تتنازل قِيد شبر، ولا تخشه في دينك ولا تخفه!
لا تطعه في أنصاف الحلول، حين يترك ما لا يلائمه من الدين، ويقبل منه بعض ما يلائمه!
﴿كَلّا لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب﴾.
﴿وَاقتَرِب﴾
يا الله!
هل أعطينا هذه الكلمة حقّها من التأمل والتدبر؟
إنك يا محمد في شأن وهم في شأن!
إنهم ينازعونك، وليسوا يدرون إنما ينازعونك في اقترابك من ﷲ!
هل يَعقِل هذا الذي ينهى عن الصلاة، أنه ينهى عن الزلفى عند ﷲ والاقتراب منه؟
﴿وَاقتَرِب﴾
في صحيح مسلم: (أقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِد).
هل يبالي من يقترب من ﷲ بتهويشات من يهوّش ليصده عن هذه المنزلة العظيمة؟
هل سيغتمُّ العابد وهو يستمع لإرجاف المرجفين حين يقرأ قوله ﷻ: ﴿وَاقتَرِب﴾!
إنه خطاب تَحمَى له نفس المؤمن أن تتنازل عن التوحيد والإيمان، وتأخذها الأنفة من الرضوخ والطاعة للمنحرفين! ثم تتطلع إلى مدارج الاقتراب من ﷲ!

• وهكذا كانت الآيات تنزل عليه ﷺ في الدعوة المكيّة ليتربى المؤمنون في كل زمن يستضعفون فيه، وفي كل وقت يقهرون.
ولقد يأتي على صاحب الدعوة وقت لا يتنازل فيه عن شيء من دين ﷲ ولا يترك شيئا من الشريعة طاعة للمبطلين؛ ولكن لعله أن يغيّر ترتيبه الدعوي بتقديم من يستحق التأخير، وتأخير من يستحق التقديم يرعى بذلك مصلحة يرجوها، وفي  بعض ذلك نزل العتاب الجليل في شأن تصديه ﷺ واجتهاده لسادة الكفار رجاء إسلامهم، وتلهيه عن الأعمى، فقال ﷻ: ﴿كَلّا إِنَّها تَذكِرَةٌ • فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ • في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ • مَرفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾
انظر إلى هذه التربية القرآنية القدسيّة!
انظر تربية الاستعلاء الإيماني!
إنهم في زمن استضعاف!
وفي مكة حيث يلقون كلَب الكفر ومهاترته!
ومع هذا يذكّر ﷲ نبيه ﷺ بأن الدعوة شريفة، والوحي عزيز، والمنهج مرفوع كريم!
﴿في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ • مَرفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾
لتتربّى نفوس الدعاة على اليقين بنفاسة ما عندهم من الهدى، وعلوِ ما عندهم من الوحي!
وأن من أعرض عنه فالخُسر عليه لا على الدعوة!
﴿مَرفوعَةٍ﴾:
فلا ينال رفعة الإيمان إلا من يستحق الرفعة.
﴿مُطَهَّرَةٍ﴾:
فلابد من تطهير القلب ليكون قابلًا للهدى، فمن ترفّع عن نصوص الوحي، ولم يكن قلبه طاهرًا كان معرّضًا لسلب نعمة الهدى بالوحي.
وفيه تنويه بالشرف وبيان للعلو الذي يقتضي الترّفع على أهل الباطل المعرضين.
﴿بِأَيدي سَفَرَةٍ • كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾:
وفيه بيان لشرف أصحابها، فهي في يد ملائكة كرام بررة!
إنه عتاب يخبر بعزة هذه الشريعة، وعلو هذا الدين، ورفعة ذلك الدين.
إنها صحف مكرمة، مرفوعة، مطهرة، بأيدي سفرة كرام بررة!
فمن أخذه فهو الرابح، ومن أعرض عنه فهو المغبون الخاسر.

• وهكذا كانت الآيات تنزل على المستضعفين بمكة تصبّرهم في سواد الألم، وتذكّرهم أن إجرام المجرمين قصير نهاره، وأن انتفاشة الباطل كاحتراق سعفة، فكانت تنزل الآيات تصور لهم واقع البأساء، وصورة البلاء، ثم تتبعه بما يسلي المؤمنين ويمسح عنهم الألم.
يقول ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذينَ أَجرَموا كانوا مِنَ الَّذينَ آمَنوا يَضحَكونَ﴾!
هكذا كان يرصد القرآن مواقف الألم على المؤمنين، والضغطة عليهم!
﴿يَضحَكونَ﴾ سخريةً وتهكمًا!
﴿وَإِذا مَرّوا بِهِم يَتَغامَزونَ﴾
بحركة سفيهة ليكسروا نفوس المؤمنين.
﴿وَإِذَا انقَلَبوا إِلى أَهلِهِمُ انقَلَبوا فَكِهينَ﴾
يرجعون فرحين بفعلهم السفيه، لا تؤنبهم ضمائرهم، ولا تضرب عليهم قلوبهم!
﴿وَإِذا رَأَوهُم قالوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالّونَ﴾
وهنا يصف ﷲ طريقةً من طرق الضغط الجاهلي على المستضعفين!
وهي طريقة غاية في الوضاعة!
إنه الاتهام في الدين!
والقدح في المعتقد!
ثم ماذا؟
ثم يخبر ﷻ المؤمنين بمآل ذلك في تصوير حاضر كأنما يشهده المؤمنون: ﴿فَاليَومَ الَّذينَ آمَنوا مِنَ الكُفّارِ يَضحَكونَ • عَلَى الأَرائِكِ يَنظُرونَ﴾.
لقد سقطت لذاذتهم الخسيسة!
وذهبت ضحكات السخرية!
وذهبت -أيضا- مرارة الألم من النفوس المؤمنة!
وثبت الأجر!

• ولم يكن الوحي ليترك الصف المؤمن دون أن يعظه بأسباب الثبات، ووسائل الصمود!
لقد نزل على النبي ﷺ في أول الدعوة أنواع من أسباب الثبات على العزيمة والمضاء في المواجهة، فنزل عليهم في سورة المزمل أربعة أمور هي من طاعات الثبات، ووسائله:
١- قيام الليل، ﴿ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ﴾، وبقيام الليل تحتمل أعباء الأمانة الكبرى، وبقيام الليل ينهض المؤمن بالتكاليف، وبقيام الليل ينفض الإنسان قلبه من جذبات الدنيا، وعليه تتكئ الروح في مواجهة أعداء الدعوة.
قيام الليل مدرسة يتعلم فيها اليقين، واستشعار معية ﷲ، ويتعلم فيه ترك الملذات في ذات ﷲ.
٢- الذكر، ﴿ وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا﴾، فالذكر مقوي للروح، معين للبدن، وفي الصحيحين قال ﷺ لعلي وفاطمة رضي ﷲ عنهما: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، تسبحان ثلاثا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، وتكبران أربعا وثلاثين، قال ابن القيم: (ﻗﻮﺕ اﻟﻘﻠﺐ ﻭاﻟﺮﻭﺡ، ﻓﺈﺫا ﻓﻘﺪﻩ اﻟﻌﺒﺪ ﺻﺎﺭ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﺠﺴﻢ ﺇﺫا ﺣﻴﻞ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﻗﻮﺗﻪ.
ﻭﺣﻀﺮﺕ ﺷﻴﺦ اﻻﺳﻼﻡ اﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ ﻣﺮﺓ ﺻﻠﻰ اﻟﻔﺠﺮ ﺛﻢ ﺟﻠﺲ ﻳﺬﻛﺮ ﷲ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻟﻰ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻧﺘﺼﺎﻑ اﻟﻨﻬﺎﺭ، ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻲ ﻭﻗﺎﻝ: ﻫﺬﻩ ﻏﺪﻭﺗﻲ، ﻭﻟﻮ ﻟﻢ ﺃﺗﻐﺪ اﻟﻐﺪاء ﺳﻘﻄﺖ ﻗﻮﺗﻲ).
٣- الصبر.
٤- والتوكل، قوله ﷻ: ﴿رَبُّ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ لا إِلهَ إِلّا هُوَ فَاتَّخِذهُ وَكيلًا • وَاصبِر عَلى ما يَقولونَ وَاهجُرهُم هَجرًا جَميلًا﴾
فالتوكل والصبر عدّة المؤمن في اغترابه، وما انتقص من الدين، ولا تفسّخت العزائم، ولا ابتليت الدعوة إلا من نقص في الصبر والتوكل،   ولن ترى فينا من تهاون في كلمة الحق، وتأوّل في ترك واجبات الصدع، ومثاقلة للأرض إلا من خلل في التوكل والصبر.
والتوكل والصبر عبادتان قلبيتان وهما قرينان في القرآن، فجاء الأمر بهما مقترنان في النحل والعنكبوت قوله تعالى: ﴿الَّذينَ صَبَروا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾، وهما قرينان في كلام الأنبياء والمرسلين: قال ﷻ: ﴿قالَ موسى لِقَومِهِ استَعينوا بِاللَّهِ وَاصبِروا﴾ وقال ﷻ عن مقالة الرسل الذين كذبوا: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ • وَما لَنا أَلّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَد هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصبِرَنَّ عَلى ما آذَيتُمونا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلونَ﴾
وبالصبر والتوكل يحترس المؤمن من الهوان والاستخذاء والإذلال والوهن في حرقة الواقع وبأساء الغربة، ولذا كانت هذه العبودية من أوائل العبادات التي نزلت على النبي ﷺ.
بالتوكل يعتصم العبد بالله، ويمسك يده بالحبل الممدود للسماء، ويقطع الاستشراف باليأس من مدد الخلق، تكتئب الحياة في وجهه، فيطمئن بموعود الله، لا يرى لنفسه حظا، ولا قوة، ويتبرأ من حوله وطوله، يبتلى في نفسه وماله فيكل الأمر لله، ولا يعود على دينه ومبادئه بالتنازل والهدم.
وبالصبر تحمل الأثقال، وهو ذروة سنام أعمال القلوب.
بالتوكل يحافظ المؤمن على نفسه من التناقض بين الشعور والواقع.
وبالصبر يثبت في الواقع المر، ويسلو مع كدر الضر.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
 كتبه: أبو المثنى، ١٩/ ٩/ ١٤٤١
الرياض

السبت، 9 مايو 2020

تأمل قرآني في شأن الوباء

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فقد قال ﷻ عن يعقوب ﷺ: (وَقَالَ یَـٰبَنِیَّ لَا تَدۡخُلُوا۟ مِنۢ بَابࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَٱدۡخُلُوا۟ مِنۡ أَبۡوَ ٰ⁠بࣲ مُّتَفَرِّقَةࣲۖ وَمَاۤ أُغۡنِی عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءٍۖ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِۖ عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُۖ وَعَلَیۡهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ ۝  وَلَمَّا دَخَلُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَمَرَهُمۡ أَبُوهُم مَّا كَانَ یُغۡنِی عَنۡهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءٍ إِلَّا حَاجَةࣰ فِی نَفۡسِ یَعۡقُوبَ قَضَىٰهَاۚ وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمࣲ لِّمَا عَلَّمۡنَـٰهُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ).

فأثنى ﷲ على علمه الذي آتاه، واصطفاه من بين كثير من الناس، وذلك -والعلم عند ﷲ- لما كان منه من تحقيق مقام التوكل، بتفويض الأمر لله، مع الأخذ الأسباب.
وقد دلت الآيتان على أمور:
١) رعاية الأسباب، ففي قوله ﷻ: (وَقَالَ یَـٰبَنِیَّ لَا تَدۡخُلُوا۟ مِنۢ بَابࣲ وَ ٰ⁠حِدࣲ وَٱدۡخُلُوا۟ مِنۡ أَبۡوَ ٰ⁠بࣲ مُّتَفَرِّقَةࣲۖ)، فقد أمر بما فيه احتراز من الضرر، فالأخذ بالسبب، والعمل بما فيه احتراز أمر ممدوح محمود، بل هو من العلم الذي مدحه ﷲ كما سيأتي.

٢) تفويض الأمر لله.
وقد جاء ذكر القيام بهذه العبادة على صفة جليلة، جاء فيها:
أ- التبرؤ من الحول، والاعتراف بالافتقار البشري لله، قال ﷻ: (وَمَاۤ أُغۡنِی عَنكُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن شَیۡءٍ)، فالمؤمن حين أخذه بالأسباب الدنيوية في شأن من شؤونه كما في أسباب الاحتراز من العدوى بالوباء؛ يجب أن يكون مقرًا بضعفه، معترفًا بفقره لله، ولقد ترى بعض من لم يهتدِ بالوحي من الشرقيين والغربيين، يقولون غير هيّابين: سنهزم هذا الوباء، سنهزم هذا العدو، وهذا من جهل العبد بالله واغتراره بما أوتي.

ب- : إعلان بالتوحيد، وإقرار بحكم ﷲ القدري، قال ﷻ: (إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ)، فالمؤمن الذي ابتلي ببلاء من هذا الوباء يجب أن يستحضر قدر ﷲ وقدرته، وأن هذا المرض كان بقدره وعلمه وحكمته.

ج- الشهادة بعبادة التوكل، والعزم عليها، كما في قوله ﷻ: (عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ).

د- تذكير بالطريق المعمور بالصالحين، وتأنيس للنفس بما كانوا عليه، كما في قوله: (وَعَلَیۡهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُتَوَكِّلُونَ)، وهو بخلاف طريقة الضالين، ممن لم يهتد بهدي الشريعة.

• ثم ختم سياق الآيتين بقوله ﷻ: (وَإِنَّهُۥ لَذُو عِلۡمࣲ لِّمَا عَلَّمۡنَـٰهُ)، فالعلم الحقيق بالثناء هو الذي يجمع بين التوكل على ﷲ والأخذ بالسبب.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
يوم السبت، ١٦/ ٩/ ١٤٤١ 

الخميس، 7 مايو 2020

السياق القرآني لشعيرة البراء في سورة المائدة.

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمما ينبغي أن يلفت نظر المتدبر لكلام ﷲ التأمل في السياقات القرآنية التي تتحدث عن أمر معين من شأن الشريعة، فيساق فيها أحكام ذلك الشأن، ويأتي فيه الأوامر والنواهي والضوابط والوجوه المتصلة بتلك القضية الشرعية.
تنظر في سورة البقرة فترى في أولها سياقًا يتحدث عن صفات المؤمنين ثم الكافرين ثم المنافقين، وفيه الأمثلة المضروبة للنفاق، ويمضي السياق بعدُ عن بني إسرائيل ثم يتصل بسياق تحويل القبلة، ومثله حين تأتي في سورة آل عمران، ستجد سياقًا طويلًا متحدثًا عن النصارى يقارب نصف السورة، لينتقل السياق إلى الحديث عن غزوة أحد، وهكذا في سائر السور في أنواع من السياقات التي لا تخفى على المتأمل.
ومن أطول السياقات التي جاءت في الحديث عن قضية البراءة من الكفار، سياق الحديث عنها في سورة المائدة، من قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)، فإنه ﷻ حين ذكر اضطرابات اليهود في دينهم، ومكرهم بالمؤمنين وسعيهم في إضلالهم، استعدت النفوس وتهيأت لاعتقاد البراءة منهم.
وسآتي -بإذن ﷲ- على ثلاثة عشر وجهًا من الوجوه التي جاءت مقررة لهذه الشريعة العظيمة، مؤكدة عليها، وأنبّه على جملة مقاصدها، طالبًا الاختصار في سردها، والله المستعان:

أولًا: افتتح السياق بمجيء النهي عن موالاة اليهود والنصارى، في قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ).

ثانيًا: ثم قرر حقيقة من حقائق الميول والولاءات والتكتلات، وهي حقيقة اتصال اليهود بالنصارى في محاربة المسلمين، فقال: (بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ)، وهي هنا مسوقة مساق التأليب ليستعد المؤمن، فإنهم إذا كانوا ألبًا منجمعًا، وقوسًا واحدة على المسلمين فما الظن إذن؟

ثالثا: ثم عقب ذلك بذكر حكم موالاتهم، فقال ﷻ: (وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ)، وهي في خبثها درجات ليست على منوال واحد، ولكنها فعلة شنيعة جاء فيها مثل هذا التحذير، وأي تحذير أشد من أن يقال: من تولى كافرًا فهو منه.

رابعًا: ثم عقب ذلك بوصف فاعل ذلك بالظلم، قال: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)، ووجه الظلم فيه بيّن، فإنَّ من تولى كافرًا فهو ظالم، لأنه عدل عن الولاية الحقّة، ولاية المؤمنين، واستبدلها بغيرها.

خامسًا: ثم عقب ذلك بذكر بعض أعذار المنافقين، التي يتعللون بها بين يدي موالاتهم للكفار، فقال ﷻ: (فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱ).
هكذا يعتذر أصحاب القلوب المريضة، يزعمون الحذق في فهم الأحداث، والنظر الدِقّ للمستقبل: إنما نفعل ذلك كياسة وحذقًا، فإننا نخشى انقلاب الموازين، واختلال القوى!

سادسًا: ثم عقّب ذلك بتعقيب متحنن، يخبرهم أنّ هذا النهي عن موالاة الكافر إنما هو لمصلحة المسلمين، وأن من تولى الكفار فإنما ضرره على نفسه، فمن تولى عن الحق فإن لله أنصارًا سيرفعون الراية، وللحق جندًا سيهزون اللواء، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ).

سابعًا: ثم ذكر ﷲ ما يؤكد النَّهي، فقال: (إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا).
وهو واقعة موقع تعليل للنهي، فإنّ من أكرمه ﷲ بولايته، كيف يتولى أعداءه ﷻ.

ثامنًا: ثم يعقب بعد ذلك تعقيبًا يستثير به الحمية الإيمانية، فيقول: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ دِینَكُمۡ هُزُوࣰا وَلَعِبࣰا)، فكما ذكر صورة وعذرًا وسببًا من أسباب موالاة المنافقين لهم، يذكر هنا صورة وسببًا من أسباب الحق في البراءة منهم.
وفيه تحريض المؤمنين ليكون براؤهم مبنيًا على أمرين:
- الأمر الديني المحض.
- وحميةً وانتصارًا لما ينالهم من الهزء والسخرية، وهو من الدين أيضًا.
ثم أتى ﷻ بصورة من صور هذا الاستهزاء يستدعي به شعور الأنفة في نفوس المؤمنين، وصورة الاستهزاء بالأذان تتخايل بين أعينهم، قال ﷻ: (وَإِذَا نَادَیۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوࣰا وَلَعِبࣰا).

تاسعًا: ثم أخبرهم ربهم ﷻ عن سبب عداوة أهل الباطل لأهل الحق، والدافع وراء نقمة أهل الطغيان على أهل الدعوة والإصلاح، فقال تعالى: (قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّاۤ إِلَّاۤ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَـٰسِقُونَ).
فذكر سببين اثنين:
• السبب الأول: الاعتقاد!
فالقضية هي قضية عقيدة، والعداء عقدي في أوليّات أسبابه، والآية تذكر الكمال في الاعتقاد، فهي تذكر إيمان المؤمنين بكتابهم وبالكتب والرسالات السابقة.
• الدافع الثاني: أنهم أهل فسق وفجور، فالفاجر أشد ما يكون غيظه إذا كان خصمه متصفا بأحسن المحامد، وهو بأخس المراتب، فالفاجر يزكمه الطهر، والمبطل يكره المحق، لأنه يذكره دائما بنقصه وعيبه، فهم إنما عادوا أهل الإيمان لأمر هو أصل الفضائل، وأنتم مع ذلك من أهل الرذائل، وأشد الناس عداوة لأهل التميّز هو فاقده.

عاشرًا: ثم في آخر الآيات جاء السياق محرضًا عليهم بذكر بعض صفاتهم الخبيثة، وهذه طريقة قرآنية متكررة لاستثارة ثوائر البراءة بالتذكير بشنائع الكافر، فقال ﷻ: (وَإِذَا جَاۤءُوكُمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا۟ بِٱلۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُوا۟ بِهِ).
وقال سبحانه: (وَتَرَىٰ كَثِیرࣰا مِّنۡهُمۡ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰ⁠نِ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَ)
حتى أتى عند هذه الكلمة الكبيرة، التي فاهوا بها، محرضا المؤمنين ألا يكون في قلوبهم ود لمن مقاله هذا المقال: (وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ).

حادي عشر: ثم يستمر السياق يخبر المؤمنين أنهم ممعنون في البغضاء، يزيد بغضهم للمؤمنين مع ازياد الهدى لهم، وجاء مؤيسًا المؤمنين أن يكون لليهود معهم التقاء، أو يكون هناك اقتراب، فيقول ﷻ: (وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا)، فالعداء مستحكم، والخصومة مؤبدة.

ثاني عشر: ثم يستمر السياق يذكر بعض ما يؤكد البراءة، فيذكر أن هؤلاء القوم مختلفون فيما بينهم، تتجارى بهم الخصومات مع بعضهم، فكيف تأتلف أيها المؤمن وتأمن من لم يأتلف معه ابن عمه، وصاحب دينه! فيقول ﷻ: (وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰ⁠وَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ

ثالث عشر: ثم ختم السياق يشجّع المؤمنين على هذه العداوة، ومقويًا نفوسهم، يخبرهم بضعف خصومهم، وذهاب ريحهم، فيقول سبحانه: (كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُ).

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
كتبه: أبو المثنى، ١٤/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

الثلاثاء، 5 مايو 2020

المداواة القرآنية لآثار الهزيمة، من سورة آل عمران (٣)

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يزال الحديث غضًّا طريًّا عن التربية القرآنية للنفوس المنكسرة بعد أحد، والآداب الإيمانية للصف المسلم الذي وقع في البلاء والمحنة.
• فيقول ﷲ ﷻ مذكّرًا المؤمنين ألا يرخوا آذانهم لزلزلة الكفار، ولا لإرجافهم، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
والنفوس تقرح مع الهزيمة فتكون أكثر قبولًا للإرجاف! فإذا سمعت التثبيط دبّ إلى بعضها اليأس، وربما تمادى الأمر بالمسلم المنهزم حتى يرى في هزيمته في الميدان هزيمة في المبدأ والمعتقد، فيزيّن لبعضهم اتباع المنتصر!

• ويستمر السياق يتحدث عن سبب من أسباب الهزائم، فيقول ﷻ: (حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ)، ثم يخبر عن سبب من أسباب الاختلاف والنزاع: (مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَ)، ولطالما كانت محبة الدنيا والشح بها والأثرة سببًا للاختلاف والنزاع.

• ويستمر السياق، (فَأَثَـٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمࣲّ لِّكَیۡلَا تَحۡزَنُوا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ)، يذكرهم ببعض حكم قضائه في تلك الغزوة، فذكرهم بحكمة ألمهم الأول حين سمعوا صائح الشيطان؛ (إن محمدًا قد قُتِل)، ثم لما تبيّن لهم سلامة نبيهم وحياته، ثابت إليهم أنفسهم، ورأوا أن لم يخسروا شيئًا وقد بقي لهم نبيهم ﷺ، وكان مآل هذا التقدير الربّاني بوجود الغم الأعلى خيرًا لهم، حين قارنوا ما وجدوا بما فقدوا.
وأهل الدعوة والإصلاح محتاجون أن يذكروا أنفسهم عند كل كسرة وغم وانخفاض، بما لديهم من الخير ثم يتخايلوا أنهم فقدوه كيف سيكون الحال، فذلك أحرى أن يعلموا أن فوق الغم غمًا.

• ثم جاء العتاب الجليل، يلفت النظر لسبب الهزيمة الأولوي؛ المعصية!
فالذنوب سبب كل بلاء وهزيمة، قال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَلَّوۡا۟ مِنكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟)!

ومن اللطيف هنا أن الله لما عاتب المؤمنين في هذه الآية وفي الآيات السابقة كان يعقب ذلك بذكر رحمته ومغفرته، فتأمل ما قال بعد عتابه السابق: {مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِیَبۡتَلِیَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ}، فذكر عفوه عنهم.
وهنا لما ذكر أن الذنوب سبب من أسباب الهزيمة، فلما قال: {إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟}، عقب ذلك: {وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ}.
إنه الودود ﷻ يعاتب عباده ثم يبين رحمته وعفوه بهم، حتى تبقى النفوس بين الرغب والرهب، والرجاء والخوف، فذكّر المؤمنين ﷻ بالأمرين:
بالذنب والتقصير وآثاره.
وبعفوه ومغفرته ورحمته.
حتى لا تنكسر نفوس المؤمنين بمعصيتهم كسرة لا قيام بعدها، ولا ينسوا ذنبوهم وتقصيرهم.
ليتربى الصف المسلم على عدم التشفي من العصاة، واجتناب التعيير لهم، فليس الأمر تصفية لحسابات المتقاتلين، ولا انتقاما من المتسببين بالمصيبة والهزيمة، بل المراد أن تتزكى النفرس، وتتطهر القلوب.

• ثم نبههم ﷲ ألا تأكل الحسرة نفوسهم على من مضى في سبيل هذا الطريق وقتل في ذات ﷲ، قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُوا۟ غُزࣰّى لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِیَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَ ٰ⁠لِكَ حَسۡرَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ).
فإن فراق الأحبة والأقارب والأصفياء يمض النفس، ويحرق الفؤاد، ولكن المؤمن يتعزّى بحسن خاتمة، ورجاء اللحاق بهم.
وأنت ترى في عصرنا كيف يألم الذين لا يؤمنون بالآخرة من عدد قتلاهم، وكيف توضع الإحصاءات والدراسات، وربما كانت سببا في سقوط حزب أو رئيس في انتخاباتهم، تنظر إلى تألمهم الممزوج بالحسرات فتتذكر قوله ﷻ:  (كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُوا۟ غُزࣰّى لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِیَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَ ٰ⁠لِكَ حَسۡرَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ).

• ثم نبّههم ربهم ﷻ ألا يتركوا الأمر الشرعي إذا توهموه سببا للهزيمة!
فقال: (وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ)
لقد أطاع النبي ﷺ مشورة أصحابه في أحد، فخرجوا من المدينة إلى ظاهرها، ووقعت الهزيمة!
فنبه ﷲ المؤمنين أن الشورى أمر مشروع، لا يجوز أن تربط به الهزيمة.
ولقد رأيت في الناس في هذا الباب عجبا، يعمل أحدهم عملًا فلا يتم، فيربط تخلفه بأمر آخر مقترن به، ولعله أن يكون أمرًا مشروعًا، بل قد تجد من يقرن البلاء بالاستقامة على الدين، والعزيمة في الطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إن الله ﷻ في أواخر السياق ذكر المؤمنين بالنعمة العظمى: {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ بَعَثَ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ }
فمن أصيب بمصيبة فليتذكر منة الله عليه بالرسالة، والبعثة، والقرآن.
ليمزج ألم الهزيمة، والانكسار بالفرح بالإسلام والسنة، ذلك أحرى أن يذهب برد هذا حر تلك.

• وكان من أواخر ما نبه الله المؤمنين عليه في آخر السياق، التنبيه على سنة من سنن الله في كونه، حين قال: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَیۡبِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَجۡتَبِی مِن رُّسُلِهِۦ مَن یَشَاۤءُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ }
هكذا هي القضية، وهذا هو الأمر، ليس هناك سلامة من البلاء، ولا وقاية من المحنة، ،فقد ركب الله الدنيا على هذا النحو، ليس هناك سلامة من المشاق، والمصاعب، والبلايا، ومن ظن خلاف ذلك فإنما أتي من غفلته بسنن الله في كونه وخلقه.
 

كتبه: أبو المثنى ١٢/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

الأحد، 3 مايو 2020

المداواة القرآنية لآثار الهزيمة، في سورة آل عمران (٢)

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
ففي المقالة الماضية أخذنا في تأمل بعض ما جاء في سورة آل عمران من وجوه التأديبات القرآنيّة والمداواة الإيمانية للنفوس المنكسرة بعلو الباطل، والقلوب المثقلة بعبء الهزيمة.
تحدثنا عن التذكير القرآني بمعيّة ﷲ لهم، وأنَّ كل ألم وحزن وانكسار أصابكم أيها المؤمنون فالله عالم به، مقدّر له.
وأتينا على مداواة النفوس المنهكة بذكريات النصر والفتح كما ذكّرهم ربهم بانتصارهم في بدر وهم أذلّة.
وتحدّثنا عن النهي الرباني عن الحزن والوهن، والتذكير الإلهي باستعلاء المؤمن.
ثم التذكير بسنة المداولة بين الحق والباطل، وحكمة اتخاذ الشهداء، وغير ذلك من وجوه المداواة.

وهنا أوبة إلى السياق المتحنن بالمؤمنين، الذي لا زال يذكّرهم بحكمة هذا البلاء، ويزعهم عن الانكسار، ويؤدبهم بأدب المؤمن في المحنة:
• فقال ﷻ: (وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ).
لقد كانت وقعة أحد وقعة ابتلاء وتمحيص، جعلها ﷲ لتمييز الصف، وقد عاد السياق في آخر السورة يذكّر بهذا المعنى، فقال ﷻ: (مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ).
ومع وضوح قضية الابتلاء والتمحيص في النصوص الشرعية، لكنّك تتعجب كيف تعتقل بعض العقول عنه، ويغشاها فيه حجاب فلا تبصرها، ولا تتنبه لأنواعها، ولعلها أن تلتبس على بعضهم حتى يلبسها لباسًا ثانيًا.
والمؤمن بين حال بلاء وعافية، وانتصار وهزيمة، والدين له إقبال وإدبار، ورجوع ومضاء، ومن فقِه مرادَ ﷲ في خلقه وكونه معرفة هذا الأمر، فإذا نزلت بالمؤمنين نازلة وبلاء فيجب أن يتذكر المؤمن أن هذا موطن من مواطن التمييز والتمحيص، ليظهر من يثبت ومن يسقط.

- ثم تأمل هذا الجلال في قوله ﷻ: (وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)!
إن لله سننًا في كونه، ونواميس أودعها في خلقه، لا تترتب آثارها إلا بوجودها -إلا لخارق من إعجاز أو نحوه-، ومن سننه ﷻ أن الأمم تستوجب الهلكة ببغيها وليس لمجرد كفرها، فجرى هنا القدر بحصول غاية البغي من قريش لتستحق فيهم سنة الإهلاك، والفقيه في خلق ﷲ وأمره يدرك ذلك، ويراه في الأمم التي جاوزت في الطغيان والبغي، فيكاد يرى مصارعها.

• ثم اتصل السياق منبّهًا على أنَّ هذا البلاء والتمحيص والتمييز له حكمته البالغة، فقال ﷻ: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ).
فانتقل السياق ب(أم) التي تفيد الانتقال، فانتقل عن الحديث في المصالح الدنيوية لهذه المحنة، إلى المصالح الأخرويّة، فإن الجنّة محفوفة بكل مكرهة، والإيمان ليس بالدعاوى، وفيه تذكير بحقيقة الطريق، وأنه لابد من التمحيص والابتلاء.

• ثم قال ﷻ معاتبًا للمؤمنين الذين آلمهم القتل: (وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ).
فلما ذكر ﷲ للمؤمنين أن الجنة ليست بالدعاوى، عقّب ذلك بعتاب متصل به.
ألم تكونوا تتمنون الشهادة؟ فها هي قد جاءتكم!
ألم تتمنوا لقاء العدو؟ فهاهم!
وهنا يكشف ﷲ عن بعض دواخل النفوس، وغريب تصرفها، وأن الخبر ليس كالمعاينة، وأن تمني الشيء قبل وقوعه قد يخلفه حقيقة وقوعه، فوعظهم بذلك محفزا للغيرة الإيمانية التي تأنف من أن تبدّل وعدا وتخلف قولا.
وهذا العتاب عتاب متحنن بشباب المؤمنين الذين امتنعوا من البقاء في المدينة، وأبوا إلا الخروج للكفار، بخلاف رأي النبي ﷺ وكبار الصحابة، وتمني الشهادة محمود لا لوم عليه، ولكن الملامة على من تمنَّى لقاء العدو ركونًا على نفسه، أو تمنى الشهادة ثم حين رأى القتل في إخوانه ورآه قريبًا منه تفسخت أمانيه.

• ثم جاء التنبيه القرآني ناهيًا عن التعلق بالمعظّمين والقدوات، فقال ﷻ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ).
ففي المسند: أن الشيطان صاح: (إن محمدًا قتل)، فانهزم بعضهم، وقعد آخرون يأسًا.
فأنزل ﷲ هذه الآيات منبها على الثبات عند غياب القدوات، فإن وجود العلماء والمصلحين سلوة، وغيابهم محنة، وهو شجى للنفس يعرفه من جرّبه، وغصّة للحلق يشعر به من أنِس بهم وتعزّى برفقتهم، فجاء التنبيه محذرًا من الانقلاب على الأعقاب عند فقدهم، والانتكاس عند غيابهم، فغياب الرموز، وذهاب القدوات ليس حجة في الانقلاب على الأعقاب، وليس مسوّغا لترك الطريق.

فاشتملت هذه الآيات على هذه القضايا الثلاث:
- حتمية الابتلاء والتمحيص.
- والتحذير من الاغترار بدعاوى الثبات قبل ملاقاة البلاء.
- والتنبيه من الانقلاب على الأعقاب عند ذهاب القدوات.
هذه القضايا يجب أن تكون حاضرة في نفوس أهل الدعوة والإصلاح، وخاصة في أزمنة المحن والبلاءات.

• ثم يمضي السياق يذكر ببدهيّة لا يجهلها أحد، يذكرهم بأن الموت بقدر، والقتل بأجل: (وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَـٰبࣰا مُّؤَجَّلࣰا).
ولا تظنَّ أن الإنسان مستغنٍ عن التذكير بالبدهيّات، والضروريات! فإن القلب تدركه الغفَلات، وتستولي عليه حتى يغفل عن الواضحات من الحقائق، خاصة عند اشتداد الكروب، وتضايق المحن، فأتى التذكير أنَّ الموت بأجل وقدر.

• ومن جميل ما وعظ ﷲ به المؤمنين بعد انكسارهم ما جاء في هذه الآية: (وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ).
لقد جاء السياق يذكّر المؤمنين بالتاريخ العطر لإخوانهم من المؤمنين السابقين، يذكرهم بذكريات الدعوة والجهاد والثبات في تاريخ قافلة الإصلاح، يذكرهم بالأمثلة الطاهرة في الطريق الإيماني الطويل.
وهو مثل مضروب للتكثير لأن كلمة (وكأين) يؤتى بها للتكثير، وقد قتل عديد من الأنبياء، وقتل كثير من أصحابهم، ولذا قال بعد ذلك (رِبِّیُّونَ كَثِیر).
وقد جاء في قراءة سبعية: (قُتِل معه ربيون)، بضم القاف، فضرب بهم مثلًا للمؤمنين الذين تألموا وجزعوا للمصاب، يضرب لهم المثل ليعلموا أن المصاب في هذا الطريق سنة من سنن ﷲ، ويضرب لهم عبرة يمدح فيه الثابتين مع أنبيائهم في البأساء، ويمدح بها الثابتين بعد أنبيائهم إن قتلوا، الذين تأدبوا في حال المواجهة والملاقاة بالآداب الإيمانية لمواجهة الباطل، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا، والوهن أصل المعايب، فإنه يورث الضعف، ومن ضعف استذله عدوه فاستكان له. 
وأما أولئك فتقدموا بلا وهن، وهم يستشعرون ما يثبتهم عند اللقاء، يستشعرون ذنوبهم، ويذكرون إسرافهم، فليس للذنوب  مكفرة كالشهادة في سبيل ﷲ، وهم مع ذلك يسألون الثبات والنصر على العدو.
وللحديث بقية.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
 كتبه: أبو المثنى، ١٠/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط

الجمعة، 1 مايو 2020

المداواة القرآنية لآثار الهزيمة، في سورة آل عمران (١)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فأي شيء كان شأن الصحابة مع نبيهم ﷺ؟
كانوا معه على حال ممدود بالسماء!
كانت الأحداث تقع معهم في الأرض فيتنزل الوحي ليقيم الصف، ويسدد الخلل، ويداوي الجراح!
وأنت إذا نظرت إلى الأحداث الكبرى في سيرة النبي ﷺ وصحابته ستجد أن القرآن كان يتنزل مع أكثر تلك الأحداث، فنزلت سورة القصص في هجرة النبي ﷺ، وهي السورة التي جاء فيها ذكر خروج موسى ﷺ وهجرته وخوفه وترقبه، ثم عودته وانتصاره، ونزلت سورة الأنفال بعد بدر، ونزل الشق الثاني من آل عمران بعد أحد، وجاء أن سورة محمد نزلت بعد أحد أيضًا، وفي أحداث غزوة الأحزاب نزلت سورة الأحزاب، وبعد الحديبية نزلت سورة الفتح، وبعد غزوة تبوك تنزلت سورة التوبة.
والسيرة النبوية اختصار لما سيمر في تاريخ الأمة من أحداث ووقائع، فتحتاج معه إلى الاستهداء بالوحي، وما التاريخ إلا نصر وهزيمة، هجرة، وابتلاء وزلزلة، وها هي سور القرآن تهدي المؤمنين في كل حادثة وواقعة.
ومن الأحداث الكبرى التي وقعت للنبي ﷺ وصحابته ما كان من انكسار وقتل في غزوة أحد.
فانخزل في مسيرهم ذاك عبد ﷲ بن أبي ومن معه من المنافقين وممن تأثّر بهم، ثم كانت معصية الرماة على الجبل، ثم قُتل سبعون من خيرة صحابة النبي ﷺ، منهم حمزة عم النبي ﷺ ، وكُسرت ثنيته ﷺ، وشُجّ وجهه الكريم، وتردّى في حفرة، وقرحت نفوس الصحابة، وكظمهم الغم! وصاح الشيطان: قُتِل محمد! فكانت الداهية الكبرى التي دهت الصحابة، وبلغوا به الكلال والكمد، ومثّل بأجساد شهداء الصحابة.
أينتصر الكفّار على أهل الحق؟
أيصاب المؤمنون ومعه نبيهم ﷺ بأيدي أراذل الخلق؟
وهكذا نزلت الآيات من سورة آل عمران على رأس الآية المائة والعشرين إلى آخر السورة، تداوي تلك الجراح، وتضمّد الآلام.

• يقول ﷻ: (وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ).
افتتاح السياق القرآني في حديثه عن غزوة أحد يعيد للقارئ صورة الخروج النبوي للجهاد، وهو ليس أمرًا بعيدًا فقد كانوا به عهداء، لكن الموعظة الإيمانية في أول هذا الدرس هو التنبيه بمعية ﷲ، وعلمه، وسمعه، وإحاطته!
(وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)، سميع بما حدث، عليم بما وقع!
إن تلك الهزيمة، وذلك الانكسار والوجع والقتل والأسى، كان بعلم ﷲ وإحاطته، وله ﷻ حكمة بالغة، إن الإنسان يحتاج لمداولة النصر والهزيمة، ولو بقيت الأمة منتصرةً في كل حين لطغت، ولو بقيت منهزمة في كل وقت لانْماحت.
(وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)، عليم بما يصلح به حال الأمة، عليم بسننه في كونه، عليم بدائكم ودوائكم، عليم بما سيبرّد حرارة قلوبكم، ويداوي جراحكم.

• ثم أتى الدرس الثاني، والدواء التالي، يذكّر الصحابة بما همت به بنو حارثة وبنو سلمة، من التولي والفرار، لولا أن تولاهما ﷲ بولايته: (إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ).
تأمل الدرس، وانظر كيف أخبرت الآية عن الأمر الذي يحذر منه حقا، عن الأمر الذي لولا ولاية ﷲ وحفظه لوقعت فيه تلك الطائفتان!
إنَّ الأمر المخوْف ليس الهزيمة، ولا الشهادة، ولا الجراح!
إن الأمر الذي يُخْشى منه، ويحاذر  على الأمة منه؛ أن تتولى عن الصف وتفشل عن الإقدام!

• ثم تدبّر هذا الضماد الثالث بعد ذلك، يقول ﷻ: (وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرࣲ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةࣱۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ)!
يا الله!
ما أحلى المواساة!
وما أطيب العزاء!
يذكرهم ربهم بأيام النصر، وذكريات الغلبة!
إن كنتم هزمتم اليوم فقد انتصرتم من قبل، وظفرتم في يوم بدر، وغَلَبْتم عدوكم في يوم الفرقان!
إذا هزمتْ الدعوة في ميدان، فتذكّر كم لها من فتح في ميادين، وإذا قهر أهلها في وقت، فليتذكروا كم بسط لهم من قلوب في أوقات.
إن النفوس المجروحة بأحزان الهزيمة تحتاج أن تتذكر دائمًا أيام ﷲ التي امتنّ بها عليها، تحتاج أن تستحضر ذكريات النصر والاستعزاز حتى لا يغلبها سواد الحزن ويهدّها ألمه.

• ثم تأمل بعد ذلك قوله ﷻ: (قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ)!
إنَّ هذه الصولة للكفر والباطل جولة ثم يدالون ويهزمون ويكسرون!
وإذا تذكّر المؤمن الذي هزمه عدوه وبغى عليه؛ إذا تذكر أن أمر هذا العدو إلى زوال، وأن شأنه إلى اندراس، ورايته إلى انتكاس، كما كان شأن كل عدو لله ورسله من قبل؛ بردَ قلبه وسكنت نفسه.

• ثم انظر هذا الدواء القرآني للقلوب المنهزمة، في قوله ﷻ وهو ينهى عن الحزن والوهن: (وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)!
فإن الحزن يضعف الإرادة، ويقاصر الهمة.
وأما قوله: (وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ)، فتشجيع إلهي للفرقة المؤمنة المنكسرة للتو، المتألمة، المحبطة!
أنتم الأعلون فأنتم على الحق وهم على الباطل.
أنتم الأعلون بمنهجكم ومعتقدكم وإيمانكم.
أنتم الأعلون فقد أصبتم منهم في بدر أكثر مما أصابوا منكم.
والاستعلاء على الباطل فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة!
ويتأكد فرضه في أزمنة الانكسارات والاغتراب.
ثم تأمل قوله ﷻ: (إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)!
وردد معي: اللهم اغفر!
اللهم تجاوز! فكيف يجد الحزن موضعًا في قلب مؤمن بالله؟ 
واﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﺑﺎﻟﺸﺮﻁ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺇﻥ ﻛﻨﺘﻢ ﻣﺆﻣﻨﻴﻦ) يرعب المؤمن! ولعله ﻗﺼﺪ ﺑﻪ ﺗﻬﻴﻴﺞ ﻏﻴﺮﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻹﻳﻤﺎﻥ، فكأنهم ﻟﻤﺎ ﻻﺡ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻮﻫﻦ ﻭاﻟﺤﺰﻥ ﻣﻦ اﻟﻐﻠﺒﺔ، ﻛﺎﻧﻮا ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ ﻳﻘﻴﻨﻪ.

• ثم يستكمل السياق دواءه للمؤمنين، فيأتي في هذه الآية الكريمة أربعة أدوية للفؤاد المكلوم:
(إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ).
- فيذكرهم بما يبرد نفوسهم، يذكرهم بمصاب العدو، وألمه، وقرحه: (إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُ).
فالقرح مشترك، والألم مشاع، والمصاب لا يسلم منه أحد، كما قال في سورة النساء: (إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَ)

- ويستمرُّ السياق فيذكّرهم ﷲ بسنة من سننه في الخلق، وعادة من عاداته في الكون، فيقول: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ)، وما أحوج المؤمن في طريق مواجهة الباطل إلى أن يفقه سنن ﷲ في كونه، وما أشد عوز الداعية والمصلح إلى تلمس هذه السنن، ودرسها، وفقه مباديها ومآلاتها.

- ثم يقول بعد ذلك: (وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟)، وفيه تذكير بحكمةٍ من حِكم ﷲ في سنة المداولة هذه، وأنَّ مِن حكمها أن يظهر إيمان المؤمنين، ويتميَّز صفهم من صف المنافقين، فإن الحقائق تظهر في المكاره ما لا تظهر في المحابّ.

- ثم يخبر ﷻ عن حكمة أخرى من حكم المصاب، فيقول: (وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَ)، فالله يحب الشهادة والشهداء، ويحب أن يصطفي من عباده عبادا يقربهم ويؤويهم إليه.

وللحديث بقية.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

كتبه: أبو المثنى ٨/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط