الثلاثاء، 23 يوليو 2019

من أحاديث الثبات (٢)

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ ، أما بعد:
     فمن المآزم التي يضيق لها بعضهم: أن يقع أسيرًا للحظته الراهنة، حتى يُغَطي يأسُ المرحلة عينَه عن تاريخ الدعوة ومستقبلها، فينسى زمنًا قريبًا في تاريخنا المعاصر تسلط فيه الباطل وقضم بلحييه على الحق وأهله، وكانت له معه صولة تقلّب فيها الباطل في البلاد، ثم ذهب ذلك كله، وذوى الباطل وصوّح نبته، وذرّته رياح الدعوة، وعادت الدعوة غضّة، ورجع التديّن والنور والخير.

     لقد كان التبشير بزوال الإسلام، واندحار الدعوة، والحديث عن ما بعد الإسلامية مبكرًا عند أعداء الدين، كان الحديث عن فشل الإسلام في مناهضة الغرب ومشاريعه حديثا يلوكه عديد، فقد استعمله أوليفيه روا في كتابه: تجربة الإسلام السياسي، منذ أواخر ثمانيات القرن الماضي بتاريخ النصارى، واستعمله عدد آخرون، نعم، في ثمانيات القرن الماضي، الوقت الذي جاء بعده تحولات كبرى لصالح الأمة والدعوة! فالاستشراف التوهيني للدعوة قديم ليس جديدًا.
إن الشباب الصالح الذي نشأ في بهجة من السُّنة ونور من التدين، ولم يبصر غير ذلك في أوّل نشأته وحياته، ربما حطمه استعلان الباطل، وكسره فجاجة الفجور، وبهته صراحة الضلال، إنه لم يعش زمن بلاء الدعوة، ولم يحكحك غاربه اغتراب الدين، فحين رأى تورّم الشر وانتفاجه دهمه يأس، وجفتّ لهاته، وظن أنها حصاد الحق، وصرم الدعوة، وكسوف الخير، وانطفاء نوره.

     إنه لم يشهد وقتا كان يُصوّر فيه تغطية المرأة لشعرها رجعيّة في بلاد المسلمين، لم يشهد الأحداث التي كان الحجاب فيها يُلقى تحت الأقدام قبل نحو مائة عام في مصر، ولم يستحضر منظر رجوع سعد زغلول وزوجته صفية فهمي من المنفى حين نزلا من الباخرة وألقت الحجاب.

     وهو لم يرَ الملك ظاهر شاه ملك أفغانستان بعد ذلك بخمسين عاما وهو يحمل الحجاب بيده ويضعه تحت قدمه!

     لقد نسي هؤلاء الأفاضل ما لقيه المسلمون وأهل الدعوة في أندونيسيا من طاغيتها أحمد سوكارنو، وكيف كان فحيح الشيوعيين يصمّ الآذان في ذلك البلد المسلم.
     ولم يسمع وعود التبشيريين بأن أندونيسيا ستصبح بلدا نصرانيا بحلول عام ٢٠٠٠ بتاريخ النصارى.

     إنه لم يعش الفترة التي قال فيها اللبناني علي ناصر الدين في كتابه: (قضية العرب): "لئن كان لكل عصر نبوته المقدسة، فإن القوميّة العربية نبوة هذا العصر"!.
     ولم يقرأ للجغرافي المصري الكبير، والداهية العملاق جمال حمدان في كتابه: شخصية مصر، وهو يقول في طأطأة مخجلة: "إن المصريين ناصريون قبل أن يولد جمال عبد الناصر"!
     وهؤلاء المصدومون من (مشايخ التنازلات) لم يسمعوا بفتاوى بعض مشايخ الأزهر بعد كامب ديفيد قبل نحو أربعين عاما، تلك الفتاوى التي انقلبت تسوّغ تلك المعاهدة، وتنسج الفرى على دين ﷲ.

     أولئك لم يشهدوا الاحتفالات بميلاد لينين المئوي في عواصم العالم الإسلامي في سبعينات القرن الماضي، ولم يروا كيف كانت كانت صور لينين تعلق على كل جدار.

     ولم تؤذِ نفوسهم رؤية التجمعات الطلابية في الجامعات يتصدرها اليساريون.
ولم يقرأ ما كتبه عمر فروخ في غبار السنين، أن الجامعة الأمريكية ببيروت كانت تدرّس التوراة!

     ولم يحزنوا من منظر الأحزاب الشيوعية وهي تنشط في كل مكان، وتنشر مصطلحاتها في أوساط الشباب، وتستبدل ألفاظ الشريعة العطرة: (الأخوة، والأمة، والشعائر، والتقوى) بألفاظ من نحو (الرفاق، والبلوتارية، والرجعية، والبرجوازية، وثورة العمال).

     لقد كانت كلمة السر الليلية عند بعض الكتائب الفلسطينية؛ شتم ﷲ والدين والإسلام.

    وكان الشباب المسلم المعتقل في سجون الاحتلال الإسرائيلي إذا قام للصلاة يضجّ أنصار جورج حبش ونايف حواتمة -المعتقلون معهم- بالاستهزاء والسخرية من الصلاة!

     وكانت حركتهم -حركة القوميين العرب- تطوف البلاد العربية فتُفتح لها السُّدد، وتُفرَج الأبواب، وتتبوأ منصّات الإعلام، تنشر الزور والباطل والإلحاد باسم الثورة والتقدمية والحرية الاجتماعية.

     لقد أتى وقت على المسلمين بمصر كانت فيه الجامعات في القاهرة تخلو من طالبة محجبة! حتى قال أشرف السعد في كتابه: (محطّات من حياتي): إنه لما كان في باريس، وأرسلت له أخته أنها تحجبت لم يفهم معنى الكلمة هذه، ولم يدر ماذا يعني تحجبت! وظنها الحجاب الذي يصنعه المشعوذون!

     وجاء حين من الدهر أُطلق النار في جامعة صنعاء على شاب مسلم لأنه قام يؤذن للصلاة!

     لقد أتى على الناس زمان لا يسمعون إلا صوتيات كارم محمود وعبدالحليم حافظ ومحرم فؤاد ونجاة الصغيرة وفايدة كامل ووردة الجزائرية!

    لقد هُجِّرَ ملايين من مسلمي وسط آسيا إلى سيبيريا، لأنهم مسلمون وكفى، ومات نصفهم في رحلة العذاب تلك.

   قبل تسعين عاما قَتَل الصينيون في (تركستان الشرقية) نحو ربع مليون مسلم.

     وفي (يوغسلافيا) قتل (جوزيف تيتو) أكثر من عشرين ألف مسلم.

     وفي (القرم) أباد الشيوعيون أكثر من مائة ألف مسلم.

     لقد جاء على المسلمين في (ألبانيا) من البلاء ما لا تكاد تصفه عبارة، فلقد كان الرئيس الملحد (أنور خليل خوجه) يحاصر كل شعار للإسلام، ويمنع كل مظهر من مظاهره، وفي ذلك البلد يحكي الشيخ (حافظ صبري كوتشي) وقد سُجن أكثر من عشرين عاما في سجون ذلك الطاغية، يحكي كيف كان لا يستطيع الصلاة في زنزانته الموحشة إلا تحت غطاء الفراش!
عشرون عاما يصلي على فراشه متغطيا من أعين السجانين!

     لقد جاء وقت على المسلمين في بلاد آسيا الوسطى أغلقت أكثر المساجد، وحولت لأصطبلات خيول، وما بقي منها مُنع فيه الأذان، واستبدل بأجراس، رأيتُها حين ذهبت لبعض تلك البلاد.

     لقد جاء على المسلمين وقت كان لا يصلي في مساجد القاهرة إلا كبار السن، وكانت تخلو من الشباب تماما كما يذكر أحمد أمين في مذكراته.

     كل ذلك وأكثر منه كان قد ابتلي به المسلمون في فترات سابقة من القرن الماضي، ثم أتى النور والهدى والفتح، وانتشر الخير والتدين، وبسط للناس في فروع الدعوة والعمل الإسلامي ما بُسط، (وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ).

     ولا ندري! فلعلّ كثيرًا ممن عاش وحشة تلك الأيام، وآلامها، وأحزانها؛ ظنّ أن الإسلام لا قومة له بعد تلك البلاءات، وأن ظلام ليل الطغاة طويل لا فجر بعده، ولعل بعضهم لو حُدّث أن الدعوة كان لها بعدُ هزة صادقة، وحملة عامة، بسط بها ظلالها في كل مكان، وأن المآذن عادت في كل زاوية من زوايا الأرض تقرع قارعة طامّة لكل شيطان وهامة، وأن مدافعة الباطل ستفتح نيرانها على أساطين الشر من الشيوعيين والصهاينة والصليبيين، وأن المساجد سيكون لها صيحة واحدة تضجّ بها بالحفاظ والحافظات، وأن القنوات الفضائية الدعويّة ستزاحم الكلمة الخبيثة في الأثير؛ ربما لو حُدِّث بذلك لما صدّق ولظنه من أماني المغترين. 
والله المستعان.
وللحديث بقية.

الأحد، 21 يوليو 2019

من أحاديث الثبات (١).

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
     فالثبات على دين ﷲ والاستمساك بالعروة ولزوم الاستقامة أعظم أنواع الكرامة، ولئن كان الحديث عن الثبات من كريم الحديث وحسن القول، فإنه في وقت الفتن أحرى وأولى، ولهذا وعظ ﷲ عباده المتقين من أصحاب محمد ﷺ وأمرهم به في طيّ حديثه عن غزوة أحد وأحزانها وألمها وكسرها، فقال ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ) [سورة آل عمران ١٠٢]، وهي فترة من فترات ظهور النفاق، وزمن من أزمنة انكسار النفوس بالقرح الذي أصابها من الهزيمة.

     وكثيرا ما يكون التخاذل والنكوص بسبب وهن يستولي على النفوس، وهزيمة تضعف القلب، ولذا جاءت التربية القرآنية لصيانة النفس من الوهن، وحفظها من أسباب الضعف النفسي.
     ومن صور ذلك الوهن الذي تصاب به النفوس في أوقات الهزائم والمضايق، وفي أزمنة اشتداد الباطل وزهوّه؛ الظنُ بأن أهل الحق سيهزمون هزيمة لا قومة بعدها، وأن حملته سيهلكون فتهلك الدعوة معهم، وأنها النهاية للحق والتديّن والدعوة، وفي ذلك يقول ﷻ عن الأعراب الذين حكى عنهم: (سَیَقُولُ لَكَ ٱلۡمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلۡأَعۡرَابِ شَغَلَتۡنَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُنَا وَأَهۡلُونَا)[ سورة الفتح ١١].
ثم قال لهم ﷻ بعد ذلك وهو يكشف حقيقة من الحقائق النفسية في أسباب تهاونهم وتخاذلهم: (بَلۡ ظَنَنتُمۡ أَن لَّن یَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِلَىٰۤ أَهۡلِیهِمۡ أَبَدࣰا وَزُیِّنَ ذَ ٰ⁠لِكَ فِی قُلُوبِكُمۡ وَظَنَنتُمۡ ظَنَّ ٱلسَّوۡءِ وَكُنتُمۡ قَوۡمَۢا بُورࣰا)[ سورة الفتح ١٢]
ففي أوقات المحن والزلازل يحيط مثل هذا الظن السيء بالنفوس، ويستولي عليها، فيظن بعضهم أن الدعوة ستسحق، وأن أهلها إلى زوال، وأن النور والتدين والسنة ذكريات ولّت ولن تعود!، فتأنس تلك النفوس بالتنازل، لظنها أنه طريق السلامة من المعاطب، والله المستعان.
وللحديث بقية.