الجمعة، 31 مايو 2019

من أصول الجدل ورد المبطل عن مذهبه في سورة سبأ

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ ، أما بعد: 
قال ﷻ: (قُلۡ إِنَّمَاۤ أَعِظُكُم بِوَ ٰ⁠حِدَةٍۖ أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰ⁠دَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا نَذِیرࣱ لَّكُم بَیۡنَ یَدَیۡ عَذَابࣲ شَدِیدࣲ)
• في هذه الآية خمسة أصول من أصول النظر وطلب الحق والتجرد له والنظر في دلائله:
 ١) القصد إلى القضية المركزية التي ينبني عليها ما بعدها، مما هي معدودة من أمات المسائل، وتكون الباب الذي يولج منه للإقناع، فالمصلح يبحث عن هذه القضية فيمسك بها ثم يجتهد في تجليتها لتفتح ما سواها، قال الله (ثُم تَتَفَكَّرُوا۟ۚ مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍۚ)، فإن تفكرهم في أنه ﷺ ليس متهما في عقله مما يفتح لهم باب القناعة بصدقه.

 ٢) عدم تفريق النظر وتشتيت الفكر بكثرة الكلام، فيتجهم المخالف ويتقبض عن الإقبال للداعي إلى الحق، ولهذا قال هنا: (أَعِظُكُم بِوَ ٰ⁠حِدَةٍۖ)، فوصفه بأنه خصلة واحدة لئلا يستثقلوا النظر، لاسيما وهم معرضون من قبل، فكأنه قال: ليس بي إجهاد لكم ولا تضييع لوقتكم.

 ٣) ابتغاء وجه ﷲ في المحاجّة، وتحري الإخلاص عند طلب البراهين، فإنه قال ﷻ: (أَن تَقُومُوا۟ لِلَّهِ).

٤) طلب الحق بتأمل يتأمله الإنسان مع نفسه أو مع صاحب يعين على الكشف عن الحق ويدارس الحجج، دون تكثير الجموع، ولذا قال: (مَثۡنَىٰ وَفُرَ ٰ⁠دَىٰ).
فإن الجموع إذا كثرت تهيّب المتحدث الرجوع للحق، واحتملته عصبية لنفسه، وخاف التشنيع بالرجوع، وشجعته السمعة للتمسك برأيه، بخلاف لو كان خاليا فإنه يمحضها النصح بغير عائق يحمله على ضد ذلك.

٥) الوقوف بتروٍ للتفكير، والتمسك بالتفكير الحر المتجرد، فإن من الناس من إذا عُرض عليه الحق نابذه تقليدا، أو تركه بلا حجة إلا لما يهجم على قلبه من تركه من غير رويّة، ولهذا قال ﷻ: (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا۟ۚ).

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الثلاثاء، 28 مايو 2019

المنافقون في سورة التوبة (السمات، والدوافع، وتزكية الصف) -١-


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فقد كان نزول سورة التوبة في السني الأخيرة من الدعوة النبوية، وإذا نظرت في هذه السورة ستجد أن قريبا من نصفها جاء في وصف المنافقين وذكر سماتهم وعلاماتهم.
ألم يبلغك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس ﻗﺎﻝ: "اﻟﺘﻮﺑﺔ ﻫﻲ اﻟﻔﺎﺿﺤﺔ، ﻣﺎ ﺯاﻟﺖ ﺗﻨﺰﻝ ﻭﻣﻨﻬﻢ وﻣﻨﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻇﻨﻮا ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻦ ﺗﺒﻘﻲ ﺃﺣﺪا ﻣﻨﻬﻢ ﺇﻻ ﺫﻛﺮ ﻓﻴﻬﺎ" أي من المنافقين.

وكان ابتداء الحديث في سورة التوبة عن النفاق وصفات المنافقين من أول قول ﷲ ﷻ: "(لَوۡ كَانَ عَرَضࣰا قَرِیبࣰا وَسَفَرࣰا قَاصِدࣰا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ یُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ).
ومضى السياق يبين الصفات النفاقيّة ويكشف أسبابها، ويعقب عليها بما تقتضيه من كشف وتحذير وإصلاح وتزكية.

 فكان أول وصفٍ وُصِفَ به المنافقون: 
١) التخلف عن البذل للحق، والمثاقلة عن التضحية للدين، والتثبط عن العطاء في ذات ﷲ، فعقّبت هذه الصفة بتعقيبات قرآنية هادية، تزكي الصف المسلم وتربيه، وتذهب عنه رجز المنافقين، فعقبت بأربعة عشر تعقيبا كما تراها في سياق الآيات:
١- فجاء ذكر سبب هذا التخلف: (وَلَـٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ)، إنه مشقة التكليف، وثمن التضحية!.
والمنافقون موجودون في الصف المسلم، سيقفون بجوارك في المناسبات الناعمة، وسيكونون بجانبك في المواقف الرخيّة، فهم مع المسلمين ما دام الأمر سهلا لينا، فإذا جاءت الموجبات، وكانت العزائم، واستحقت التضحيات تولوا وتركوك قائما!

 ٢- ثم عقّب ﷻ ذلك بذكر عذرين من أعذارهم التي كانوا يتعللون به، فكان أوّل عذر حكاه ﷲ عنهم في هذه السورة ما جاء في قوله ﷻ: (وَسَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ)، فاعتذروا بالعجز عن البذل والعطاء والتضحية، وتعللوا بعدم القدرة عليه.
وسيأتي ذكر عذرهم الثاني في التعقيب الثالث عشر.
٣ - وكان من تعقيبات السياق: أنهم أكّدوا عجزهم باليمين والحلف الكاذب، فإنهم لمهانتهم يعلمون أن كذبهم لن يروج إلا بالحلف والقسم.

٤- ثم أخبر ﷲ بأن فعلهم هذا الذي أرادوا به السلامة من الهلك والتلف هو الهلاك الحقيقي فقال ﷻ: (یُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ)!
ليس الهلاك أن تذهب النفس ويتلف المال في سبيل ﷲ، ولكن الهلاك حقا أن يتولى الإنسان عن البذل في سبيل ﷲ، ويترك التضحية في ذات ﷲ، ويقعد عن مقامات التقدمة للدين، ذاك هو الهلاك الحقيقي.

٥- ثم قال ﷻ: (وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ)، فأكذبهم في عذرهم، وألزمهم المذمة باختلاق المعاذير.
والنفس تنسج لصاحبها من التخييلات ما يقعده عن الواجبات، ثم تزيّن له ذلك بزيف من الدوافع، تخادع صاحبها، وتأتي له بالمعاذير، ولكن ﷲ يعلم الصادقين والكاذبين.

٦- ثم جاء العتاب الربّاني لمحمد ﷺ حين أذن لهؤلاء، فقال ﷻ: (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَـٰذِبِیـن)، وهو عتاب الودود ﷻ الذي يبتدئ بذكر العفو قبل المعتبة.
عفا ﷲ عنك لماذا لم تتركهم لينكشف نفاقهم، وليخلع عنهم لباس الزور الذي يدعونه!
سيذهبون الآن يتعللون بإذنك، ويتعذرون به، كلما لقيتهم ملامة من أحد قالوا: قد أذن لنا محمد ﷺ!
 اتركهم ولا تأذن لهم وسيتخلفون عن نصرة الحق!
فسواء عليهم أذنت أم لم تأذن سيتخلفون عن التضحية في ذات الله!
وهذا درس عظيم لأهل الدعوة والإصلاح؛ أن لا يفسحوا لأهل الباطل وسيلة يتعذرون بها، ولا يتركوا لهم ستارا من المعاذير ليستروا به باطلهم، ليحذر أهل الدعوة والعلم والإصلاح أن يعطوا المبطلين حجة أن يخفوا بها سوءتهم، فإن انكشاف أمرهم خير للدعوة، وظهورهم بادية عوراتهم من غير ستار خير للمسلمين، وافتضاح حالهم أنفع للأمة.

٧- ثم عُقّب السياق بنفي الإيمان عن هؤلاء المنافقين: (لَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ أَن یُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ ۝  إِنَّمَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ).
وهذا حكم ترجف له قلوب الخاشعين!
إن التخلف عن نصرة الدين، ثم التستر وراء المعاذير الكاذبة ليس من صنيع من يؤمن بالله، ولا يفعله الذي يؤمن بالآخرة!
والإيمان بالآخرة وعمران القلب بتذكرها مما يطيب على القلب المعاطب في ذات ﷲ!
 ودوام تذكير القلب باليوم الآخر ومشاهد القيامة ونعيم الجنة وعذاب القلب مما يزهّد في الدنيا ويعظم الرغبة في التضحية.

٨- ثم عقّب ﷲ ذلك بذكر دافع من دوافع المتخاذلين، وسبب من أسباب القاعدين قال ﷻ: (وَٱرۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ فَهُمۡ فِی رَیۡبِهِمۡ یَتَرَدَّدُونَ)!
إنه الريب والشك وفوات يقين القلوب!
فاليقين حاد يحدو القلوب للآخرة، ويثبتها للتضحيات، ويسوقها راضية للبذل، فإذا خرب القلب عن اليقين وتعطل نوره فيه؛ خارت قواه وتفسخت عزائمه!

٩- ثم ذكر ﷲ سببا من أسباب انغلاق الخير عن القلب وحجب النور عنه: إنه فساد الإرادة!
فقال سبحانه: (وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ)
إن من أعظم مفاتيح الخير ومنافذه للقلب حسن القصد وصلاح التوجه لقبول الوحي، فإذا بالحق سهلا يسيرا محببا إليه.
وهذه قاعدة سلوكية عظيمة، فالقلب إذا صدق صاحبه في توجيهه للنور وجد من قبسه ولقي من هداه بحسب حسن القصد وقوة التوجه، فكما يجد البصر إدراكه بحسب توجهه للنور والضوء، فكذلك القلب في توجهه لنور الوحي.
لكن المنافقين فسدت مقاصدهم ولم تصلح مراداتهم.

١٠- ثم ذكر ﷲ بعد ذلك أمرا وشأنا عجباً!
أرأيت تخلفهم ذاك؟
أرأيت تثاقلهم عن الطاعة؟
إنما كان عقوبة لهم!
فإن العبد لا يزال يدْبر عن الطاعة حتى يكره ﷲ منه الطاعة ويثبّطه!
قال ﷻ: (وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ)!
إن ترك الطاعات والتولي عن القربات قد يكون لكراهية ﷲ الطاعة من العبد، فيخذله ويسد السدد في وجهه!

١١- ثم يسلّي ﷲ المؤمنين الذين يعز عليهم أن يتخلف عنهم من كانوا يظنونه من إخوانهم!
والذين يشقّ عليهم أن يروا من كان معهم وهو يتولى عنهم، وينفض يده منهم، فيسليهم ﷲ ويعظهم، وفيه أمر آخر فإن ﷲ لما كره انبعاثهم وصدهم عن الطاعة أخبر عن أن تقديره كان خيرا للمؤمنين، لما في خروجهم من المفاسد، فيقول: (لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ)!
لا تحزن إذا رأيت المتخلف قد تخلف عن الركب وترك اللحوق بالقافلة!
لا تأس على المتولين الذين انخزلوا وسئموا طول الطريق!
فإن في تخلفهم مصالح!
وإن في انتكاسهم خيرا!
وقد ذكر ﷲ في الآية ثلاث مصالح:
١- فقال: (لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا)
فلو بقوا في صف الدعوة والإصلاح لأعقبوه خبالا واﺿﻄﺮابا ﻓﻲ اﻟﺮﺃﻱ، فيفرقوه ويخالفوا بين كلمته، فيحصل الاﻧﻬﺰاﻡ ﻭاﻻﻧﻜﺴﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﻬﻞ اﻟﻮﺟﻮﻩ.

٢- ثم بين أنهم لن يقتصروا على تخبيل الصف وتفريقه، بل (وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ)، فلو خرجوا لأوضعوا وساروا سيرا حثيثا ﺑﺎﻟﺘﻀﺮﻳﺐ ﻭاﻟﻨﻤﺎﺋﻢ، ﻳﺒﻐﻮﻧﻜﻢ اﻟﻔﺘﻨﺔ، فيمشون ﺑﻴﻦ اﻷﻛﺎﺑﺮ ﺑﺎﻟﻨﻤﻴﻤﺔ ﻓﻴﻜﻮﻥ اﻹﻓﺴﺎﺩ ﺃﻛﺜﺮ.

٣- المفسدة الثالثة: (وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ)
وﺑﻌﺾ النفوس مجبولة ﻋﻠﻰ اﻟﻔﺸﻞ ﻭﺿﻌﻒ اﻟﻘﻠﺐ، فتؤثر فيها مقالات التوهين، وعبارات التخذيل، لاسيما إن جاءت مزوقة مزينة.

١٢- ثم جاء في ختام هذا السياق وآخر تلك التعقيبات ختام عظيم عظيم، الختام الذي يسلي المؤمنين فيذكرهم بأن الأمر لا جديد فيه، فالباطل يكيد من قبل، ولكن محاولاته القديمة قد اضمحلت، ومصاولته السابقة قد فشلت، وبقي الحق، قال ﷻ: (لَقَدِ ٱبۡتَغَوُا۟ ٱلۡفِتۡنَةَ مِن قَبۡلُ وَقَلَّبُوا۟ لَكَ ٱلۡأُمُورَ حَتَّىٰ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَظَهَرَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَهُمۡ كَـٰرِهُونَ)!
يا الله!
يا الله!
ما أعظم هذا التعقيب!
انظر لتوهين الباطل، وتصغيره، وتحقيره!
يا أيها المؤمنون! أرأيت هؤلاء الذين تخلفوا عنكم في تبوك، وخذلوكم، ومكروا بكم، لا تلتفتوا لمكرهم فلقد صنعوا ذلك من قبل، واجتهدوا في كيدكم، وابتغوا فتنتكم، وقلّبوا الأمر وردّدوه تدبيرا وإحكاما، فماذا كانت النتيجة؟
لقد ظهر الحق وتم أمر الله وانتشر النور وجاء الفتح!

 ١٣- ثم ذكر بعد ذلك عذرهم الثاني الذي كانوا يتعذرون به، قال ﷻ: (وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤۚ)!
نعم هكذا!
يستأذنون النبي ﷺ!
 ويأتون بالأعذار التي يلبسونها لبوس الدين!
ويزخرفون أعذارهم بزخرف يطلونه بطلاء من الحكم الشرعي!
(وَلَا تَفۡتِنِّیۤۚ)!
يخافون على أنفسهم من فتنة النساء، ليظهروا بمظهر المتنسك الذي يخاف على دينه أن يخدش وعلى عفته أن تهتك!
هكذا ستراهم في كل وقت!
يتولون عن الشريعة، ويتركون الشعائر، وينبذون كتاب ﷲ، ثم لا يرضون حتى يلبسوا تركهم وتخلفهم وفحورهم بستار من الدين والحفاط على الدين والغيرة على الدين!

١٤- فعقّب ﷲ هذا العذر بذكر عقوبة أهل الزيف والكذب في عذرهم ذلك، فقال: (أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ)!
(سَقَطُوا۟ۗ)
تأمل هذه الكلمة، بما توحي به من شدة الأمر وعظم العقوبة!
لقد سقطوا في الفتنة!
فالفتنة هي ترك الشريعة، والتولي عن نصره، ومن أحسن قصده وقام بأمر ﷲ حفظه الله من الفتنة وأحاطه برعايته.



الاثنين، 27 مايو 2019

أوراق فقهية: (١٦) فصل قيام الليل في العشر الأواخر إلى تراويح وتهجد.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما يستشكله بعض الفضلاء تقسيم الصلاة في العشر الأواخر إلى قسمين: تراويح في أول الليل، وتهجد وقيام من آخره، وربما ظنه من المحدثات التي ليست تعرف عن السلف الصالحين.
• فأما تلك التسمية بالتفريق بين التراويح والقيام والتهجد فليس مأثورا عن أحد، فصلاة الليل كلها قيام وتهجد، وهو لفظ شرعي، وإن كان لفظ التهجد أخص في اللغة، لما في استعماله من كونه بعد هجود ونوم، واستعمال الفقهاء على عدم التفريق، وأما لفظ التراويح فاستعمال قديم في صدر الأمة، وكانوا يتروحون بين الركعات لطول القيام.
• وكان الفقهاء يسمون الرجوع للمسجد للصلاة فيه بعد الخروج من التراويح: التعقيب.
وكان مستعملا عند الصحابة في المكوث لانتظار الصلاة، ففي المسند ﻘﺎﻝ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘﺐ ﻣﻦ ﻋﻘﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ" [المسند ٦٧٥٠، وابن ماجه ٨٠١].
- والتعقيب عند الفقهاء على نوعين: أن يوتر إمامهم ثم يرجعون فيصلون، فهذا قد كرهه من كرهه من السلف لتكرار الوتر.
الثاني: أن يصلي الناس أول الليل من غير وتر ثم يرجعون فيعقبونها بصلاة آخره، فهذا الذي قد جاء عن جمع من السلف فعله وجوازه.

وقد جاء خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة:
• و (أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻘﻬﺎء ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﺮﻩ ﺑﺤﺎﻝ). [فتح الباري لابن رجب ٩/ ١٧٥].
وجاء جوازه عن أنس في رواية عنه، فإنه قد جاء عنه أنه ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺑﺄﺱ ﺑﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺮﺟﻌﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ ﻳﺮﺟﻮﻧﻪ، ﻭﻳﺒﺮءﻭﻥ ﻣﻦ ﺷﺮ ﻳﺨﺎﻓﻮﻧﻪ». [ابن أبي شيبة ٧٧٣٣]
وجوّزه قتادة في قول عنه. [مختصر قيام الليل للمروزي ٢٤٦]
(وسئل أحمد عن الرجل يأتي ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻨﺎﺩﻳﻬﻢ للقيام في آخر الليل ﻗﺎﻝ: ﻫﺬا ﺃﻳﺴﺮ)، أي أيسر من أن ينادي كالمؤذن. [مسائل أحمد لأبي داود ٩١]
وجوّزه إسحاق بن راهويه. [مسائل إسحاق بن منصور كوسج ٢/ ٨٤٠].
قال ابن قدامة: (ﻭاﻟﺼﺤﻴﺢ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﺮﻩ؛ ﻷﻧﻪ ﺧﻴﺮ ﻭﻃﺎﻋﺔ، ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺮﻩ، ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﺃﺧﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ). [المغني ٢/ ١٢٥].

• وجاءت كراهة ذلك عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة في رواية، ولعله لمعنى آخر غير العود، كخوف المشقة على الناس. [فتح الباري لابن رجب ٩/ ١٧٥].
قال الحسن: «ﻻ ﺗﻤﻠﻮا اﻟﻨﺎﺱ». [ابن أبي شيبة ٧٧٣٤].
أو لمعنى تكرار الوتر، أو نحوه.
وﺳﺌﻞ أحمد ﻋﻦ اﻟﺘﻌﻘﻴﺐ ﻓﻲ ﺭﻣﻀﺎﻥ؟ ﻗﺎﻝ: (ﻋﻦ ﺃﻧﺲ ﻓﻴﻪ اﺧﺘﻼﻑ). [مسائل أبي داود ٩١]
ﻭقد ﻧﻘﻞ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﺤﻜﻢ عن أحمد اﻟﻜﺮاﻫﺔ، قال ابن قدامة: (ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻗﻮﻝ ﻗﺪﻳﻢ، ﻭاﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺭﻭاﻩ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ) [المغني ٢/ ١٢٥].
فتبين بهذا أن فصل صلاة الليل في العشر الأواخر جائزة عن أكثر السلف، وهو زمن فاضل ووقت كريم شريف، خليق بأن يجتهد فيه المجتهدون، والله المستعان.

الأحد، 26 مايو 2019

ختام قصة موسى ﷺ وبني إسرائيل في سورة الأعراف

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أما بعد:
فقد ختمت قصة موسى ﷺ وبني إسرائيل في سورة الأعراف بختام ذي موعظة لهذه الأمة المباركة.
وقد طالت سياقة قصة موسى عليه السلام في سورة الأعراف بما لم يأت في سورة أخرى، وكانت قصة بني إسرائيل في الأعراف هي خاتمة قصص الأقوام في تلك السورة.
فانظر ماذا ختم به هذا السياق الجليل!
لقد تحدث القرآن في ختام القصة بثلاث أحدوثات كانت قد وقعت في بني إسرائيل، وهي مثال على ثلاثة أصناف من أصناف الأمم الكتابية في تفلتهم عن كتبهم وشرائعهم، وفيها موعظة لهذه الأمة أن تحاذر طريق بني إسرائيل.

١ • فتحدث القرآن عن قصة أهل القرية التي بسيْف البحر، قال ﷻ: (وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ).
وهذا مثال التفلت من الشريعة بالتحايل عليها، وهو مسلك يسلكه المبدلون في كل وقت، تراهم يتحايلون على الشرائع بأنواع الحيل، فيحلون ما حرم ﷲ بما يصنعونه من حيلة.
وهؤلاء قوم كانوا على سيف البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت أتتهم ترفع رؤوسها، يرونها ولا يستطيعون صيدها لما قد حرم عليهم من العمل في يوم السبت، فإذا مضى سبتهم لم تعد الحيتان، ابتلاء لهم وفتنة، فخدّوا أخاديد على ساحل البحر، حتى إذا مدّ البحر مده حبسوا الحيتان، فإذا جزر البحر ترك الحيتان محتبسة، ثم يأخذون الحيتان في اليوم الذي يليه، وقالوا: لم نصطد في سبتنا.

٢ • وتحدث القرآن عن خلف خلفوا هؤلاء المتحايلين، فقال ﷻ: (فَخَلَفَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡ خَلۡفࣱ وَرِثُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ یَأۡخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلۡأَدۡنَىٰ وَیَقُولُونَ سَیُغۡفَرُ لَنَا وَإِن یَأۡتِهِمۡ عَرَضࣱ مِّثۡلُهُۥ یَأۡخُذُوهُۚ أَلَمۡ یُؤۡخَذۡ عَلَیۡهِم مِّیثَـٰقُ ٱلۡكِتَـٰبِ أَن لَّا یَقُولُوا۟ عَلَى ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡحَقَّ وَدَرَسُوا۟ مَا فِیهِۗ وَٱلدَّارُ ٱلۡـَٔاخِرَةُ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ یَتَّقُونَۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ).
فحدثنا ﷲ عن صنف آخر من أصناف الناس مع الكتاب، إنهم قوم يخالفون الشرع ثم يتمنون على ﷲ الأماني، ويقولون: سيغفر لنا!

٣ • ثم تحدث السياق عن صنف أخير فقال ﷻ: (وَٱتۡلُ عَلَیۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِیۤ ءَاتَیۡنَـٰهُ ءَایَـٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِینَ ۝  وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَـٰهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُۥۤ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَیۡهِ یَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ یَلۡهَثۚ ذَّ ٰ⁠لِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ كَذَّبُوا۟ بِـَٔایَـٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ یَتَفَكَّرُونَ).
فهذا مثال أهل التحريف للكلم عن مواضعه، وتبديل علماء السوء للشريعة، وقد كان هذا الرجل من علماء بني إسرائيل، ولكنه بدّل وغيّر لنيل لعاعة من الدنيا.

وﷲ المستعان.

الجمعة، 24 مايو 2019

ختام سورة يوسف.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
     فبماذا ختمت سورة يوسف؟
     السورة التي سماها الله أحسن القصص.
     سورة الإبتلاءات، ابتلاءات الكيد والجب والرق وكيد النساء والاتهام والسجن ثم الامتحان بالملك والسلطة والمال.
     سورة الإحسان، الإحسان في حال الاستضعاف والإحسان في حال البلاء والسجن، والإحسان في حال الملك والقوة.
     سورة الدعوة في مراحل الحياة الخافضة والرافعة.
     سورة الثبات في مواجهة الإغراء، والثبات في السجن، والثبات عند فتنة الخروج من السجن بغير تبرئة، والثبات عند حصول الملك والقوة.
     السورة التي نزلت بعد موت أبي طالب وخديجة.
     سورة الفراق المحرق، واللهفة الأبوية، والحزن الطويل على الابن الأثير والعين الباكية، وآلام السنين، ثم روعة اللقاء وفرحة الاجتماع بالأبوين والإخوة والأهل.

     •• ختمت هذه السورة بذكر بعض موانع الاستجابة للدعوة والحق، فذكرت منها:
- المانع الأول: الغرم المالي، والكلفة الدنيوية، يقول ﷻ: (وَمَا تَسۡـَٔلُهُمۡ عَلَیۡهِ مِنۡ أَجۡرٍۚ إِنۡ هُوَ إِلَّا ذِكۡرࣱ لِّلۡعَـٰلَمِینَ)، وكثيرا ما تكرر في القرآن تجريد الداعية والمصلح من الأغراض الدنيوية وراء دعوته، إغلاقا لعذر أهل الباطل، وتزكية للمصلح الصادق في دعوته ألا يرقب مكسبا دنيويا، ولا يربأ مغنما ماديا.

- المانع الثاني: الإعراض عن الحجج، والإدبار عن البراهين، يقول ﷻ: (وَكَأَیِّن مِّنۡ ءَایَةࣲ فِی ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ یَمُرُّونَ عَلَیۡهَا وَهُمۡ عَنۡهَا مُعۡرِضُونَ).

- المانع الثالث: الأمن من العقوبة والعذاب، قال ﷻ: (أَفَأَمِنُوۤا۟ أَن تَأۡتِیَهُمۡ غَـٰشِیَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ ٱللَّهِ أَوۡ تَأۡتِیَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغۡتَةࣰ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ).

- المانع الرابع: عدم الاعتبار عند السير في الأرض، قال ﷻ: (أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۗ وَلَدَارُ ٱلۡـَٔاخِرَةِ خَیۡرࣱ لِّلَّذِینَ ٱتَّقَوۡا۟ۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ).
فإن السير في الأرض ربما أيقظ قلب المعرض، فيرحف قلبه إذا رأى آثار السالفين، وفناء عمارتهم.

     •• وختمت بتقسيم الناس في موقفهم من الحق إلى ثلاثة أقسام:
١ - من لا يؤمن بالوحي، وهم أكثر الخلق، (وَمَاۤ أَكۡثَرُ ٱلنَّاسِ وَلَوۡ حَرَصۡتَ بِمُؤۡمِنِینَ).
٢ - من يؤمن ثم يقدح في إيمانه بما يشوبه من الشرك!، بالرياء والسمعة والتفات القلب عن ﷲ في توكّله وتوجهه، ونحوها مما يشرك به، وهم أكثر أولئك القليل ممن لم يدخل في القسم الأول،  قال ﷻ: (وَمَا یُؤۡمِنُ أَكۡثَرُهُم بِٱللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشۡرِكُونَ).
٣- أهل الإخلاص لله في دعوتهم وعبوديتهم، قال ﷻ: (قُلۡ هَـٰذِهِۦ سَبِیلِیۤ أَدۡعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِیرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِیۖ وَسُبۡحَـٰنَ ٱللَّهِ وَمَاۤ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِینَ)، وتأمل كيف أكد شأن الإخلاص، فقال: (إِلَى ﷲ)، ثم كرر فقال: (وما أنا من المشركين)، وقد جاء الثناء على أهل الحق والدعوة في الآية، بأن سبيلهم واحدة، لا تفرق فيها ولا اختلاف.
وأن أهلها أهل يقين بها لا يرتابون ولا يترددون، وهم أهل تميّز عن المشركين، في كل أحوالهم، ضعفا وقوة.
وهم سلسلة طاهرة يمضون على نهج من سلف، فليسوا خارجين عن طريقة النبوة الأولى، ولا مخترعين لسبيل لم تسلك، قال ﷻ: (وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن قَبۡلِكَ إِلَّا رِجَالࣰا نُّوحِیۤ إِلَیۡهِم مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡقُرَىٰۤۗ)

     •• ثم يأتي الختام الشجي، الختام بذكر سنة ﷲ في أهل الدعوات، بعد البلاء والتضحية والصبر، {حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجي من نشاء}.
وهكذا يختم سياق قصة البلاء العظيم، العظيم في وقعه، وفي تنوعه، وفي طوله، إن العاقبة لأهل التقوى والإيمان والصدق. 

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
١٩ / ٩ / ١٤٤٠ هـ

الجمعة، 10 مايو 2019

قصة طالوت (الهدايات القرآنية في طريق الإصلاح وعقباته)

          بسم الله الرحمن الرحيم
        
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
   فلما كانت سورة البقرة هي السورة التي جاء فيها من الأحكام والشرائع ما لم يأت له نظير في غيرها من السور، ناسب أن يُذكر فيها من أخبار المتولّين عن الشرائع من الأمم السالفة ما فيه تبصرة لهذه الأمة وذكرى.

     وقد كانت قصة طالوت في سورة البقرة مثالا من الأمثلة على تولي بني إسرائيل عن دين ﷲ وتفلتهم عن شريعته وإبائهم ومثاقلتهم.
     لقد كانت تلك القصة مثالا عظيما على قصة التساقط على هذا الطريق الطويل، وأنموذجا على تفسّخ العزيمة حين يبعد الأمد وتكثر العقبات.

- وقبل أن يأتي السياق القرآني على ذكر قصة أولئك القوم؛ جاء بتوطئة يعظ بها النفوس التي تسأم مصاولة الباطل وتستطيل الطريق وتثقل عليها العزائم، فقال ﷻ: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم ﷲ موتوا ثم أحياهم"!
     لقد كانت قصة طالوت مثالا على الفرار من التكاليف حذر الموت واستحبابا للحياة، فجاءت هذه التوطئة للتنبيه على حقيقة جُلّى.
     لقد خرج الألوف من ديارهم فرارا من الموت وحذرا منه فكان ماذا؟
     لقد ماتوا جميعا! ثم أحياهم ﷲ!
     هكذا جاء الخبر القرآني عن هذه الحادثة بإيجاز لا تفصيل فيه.
     ثم جاء الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله فقال: "وقاتلوا في سبيل ﷲ واعلموا أن الله سميع عليم من ذا الذي يقرض ﷲ قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط".
     جاءت هذه القصة متبوعة بهذه الأوامر للتذكير بأن الموت بيد الله والحياة بيد ﷲ، والقبض والبسط بيده ﷻ، والرزق والمنع بيده، فلماذا يخاف المؤمن ويجبن ويبخل؟
     والجبن والبخل خلقان رديئان يقترن ذمهما معا في النصوص، ففي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ "كان يستعيذ من الجبن والبخل"، وفي المسند وأبي داود ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: "ﺷﺮ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺭﺟﻞ ﺷﺢ ﻫﺎﻟﻊ، ﻭﺟﺒﻦ ﺧﺎﻟﻊ".
 وكانت تلك تقدمة تقدمة حسنى بين يدي هذه القصة.

- ابتدأت هذه القصة بالحديث عن قوم من بني إسرائيل من بعد موسى كانوا قد بلغوا من المهانة والضعة وشتات الأمر ما جاء في السياق القرآني أنهم كانوا مظلومين مستضعفين، قالوا لنبيهم: "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا".
فقالوا لنبي من أنبيائهم: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".
ولكن نبيهم قد خبر القوم وعرف خلق التلوّي، وعلم استحكام طبيعة التفلت فيهم، فاستخبر منهم خبرهم، واستوثق منهم عزيمتهم، فقال: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"؟
فماذا كان حال القوم حين فُرِضت عليهم شريعة القتال؟

- لقد تولى أكثر القوم عند أوّل عقبات الطريق، وبدأت قصة التنازلات عن العزائم، وكان حبُ القعود عن نصرة الحق أول آفة عرضت للقوم، قال ﷻ في شأنهم: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".

- ثم انتخب لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا من وراءه، فقال: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"
ولكن القوم هم القوم في توليهم وإبائهم الشريعة، فقالوا لنبيهم: "أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال".
     فلم يصبر أولئك على آفة حب الزعامة والنفاسة بالرياسة، فعثرت أقدامهم عند العقبة الثانية في الطريق إلى الله.
     وإنك قد تجد ذا صلاح وتنسك ظاهر، ثم عساه أن ينازع في رياسة ويجاذب في شرف وتقدّم؛ فيشاح ويخاصم، وربما باع دينه بعرض من الدنيا، وفي الترمذي وصححه عن كعب بن مالك قال ﷺ: "ﻣﺎ ﺫﺋﺒﺎﻥ ﺟﺎﺋﻌﺎﻥ ﺃﺭﺳﻼ ﻓﻲ ﻏﻨﻢ ﺑﺄﻓﺴﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺮﺹ اﻟﻤﺮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺎﻝ ﻭاﻟﺸﺮﻑ ﻟﺪﻳﻨﻪ".
     وهما الأمران اللذان خاصم بهما الإسرائيليون نبيهم: "ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"!
 هذه موازينهم التي يزنون بها المستحقين للزعامة، ومعاييرهم التي نصبوها لقياس من يصلح للرياسة الدينية، إنها موازين الدنيا، ومعايير المادة، وأما أهل العلم والإيمان فلهم موازين فارقوا بها أهل المادة والدنيا: "قال إن ﷲ اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، فالقيادة الدينية مفتقرة لصفة مركبة من خلقين: العلم والقوة، فإنه بالعلم تدفع آفات الجهالات، وبالقوة تدفع آفات العجز.

     ويمضي السياق ليبين أن من ضعفت استجابته للأمر الشرعي وتكرر تثاقله فربما كان لضعف يقين قلبه، ومثله ينهضه الآيات والدلائل: "وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة".

- وكان من مقتضى العلم الذي أعطاه طالوت أن الفتح والنصر ليس يستحقه إلا من جاز الممحصات وجاهد نفسه لترك الرغبات، ولذا قال طالوت بعدما خرج بقومه: "إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا".
     لقد عرض للقوم آفات وابتلاءات، والآن تولى كثير منهم حين أُريدوا على ترك مألوفات النفس ورغباتها، فلم يسلم منهم إلا نحو ثلاثمائة، كما ثبت في البخاري عن البراء: "ﻛﻨﺎ ﻧﺘﺤﺪﺙ ﺃﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺑﺪﺭ ثلاثمائة ﻭﺑﻀﻌﺔ ﻋﺸﺮ، ﺑﻌﺪﺓ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻃﺎﻟﻮﺕ، اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎﻭﺯﻭا ﻣﻌﻪ اﻟﻨﻬﺮ، ﻭﻣﺎ ﺟﺎﻭﺯ ﻣﻌﻪ ﺇﻻ ﻣﺆﻣﻦ".

- لكن القلة التي ثبتت للأمر الشرعي وللبلاء القدري تزلزل كثير منها أمام عقبة اختلاف موازين القوى، ورهبة القوة المادية، فمن ثبت حين أمر بالقتال، ثم ثبت حين فات نصيبه من الملك والشرف، ثم ثبت حين جاوز النهر فلم يشرب؛ عثر هنا وتنازل في آخر الطريق!
قال ﷻ: "فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ﷲ والله مع الصابرين".
إن تقلّب الذين كفروا في البلاد، وظهور صولتهم، وضجيج قوتهم الماديّة؛ فتنة لكثير.

     وقد جاء البيان القرآني منبها أن هذا السقوط إنما يعرض لضعف ما يضادّه من صفتي (التوكل والصبر)، ولذا قال الثابتون: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ﷲ والله مع الصابرين".
فقولهم: "بإذن ﷲ" ناشيء عن التوكل على الله، ناتج عن استحضار تدبير الله للخلق.
وقولهم: "والله مع الصابرين" تحضيض لأنفسهم وإخوانهم على لزوم الصبر بذكر فضيلته.
وهما قرينان في القرآن، كما جاء في قوله ﷻ في الثناء على المهاجرين: "الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون"، وكقوله في وصية موسى لقومه: "استعينوا بالله واصبروا".

     فماذا كانت ثمرة الثبات على طريق الحق ولزوم الديانة؟
ما هي نتيجة الاعتصام بالعروة في شدة الفتن وتكرر البلاءات؟
قال ﷻ: "فهزموهم بإذن ﷲ وقتل داود جالوت"!
      لقد أكرم ﷲ أولئك المستضعفين ببركة ثبات الثابتين!
لقد أكرم ﷲ بني إسرائيل بالنصر والفتح!
لقد أهلك ﷲ الطاغية!
وهدّم ملكه!
وكسر شوكته!
بثبات قلة من المؤمنين، وتمسكهم بالشريعة وأخذهم بالعزيمة.
فعادت بركتهم وبركة طاعتهم على أمتهم كلها.

     ثم ختم السياق بقوله ﷻ: "ولولا دفع ﷲ الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
لولا تلك المدافعة بين الحق والباطل -ولو من فئة قليلة- لفسدت الأرض!
لولا بقاء المدافعين -ولو كانوا قليلا- لفسدت الأرض!
لولا ثبات أولئك في صراعهم للمبطلين لفسدت الأرض!
إن ثبات الثابتين ولزومهم الطريقة وبقاءهم على النهج باب عظيم من أبواب دفع الفساد عن الأرض.

• كتبه:
محمد آل رميح
٥ /٩ / ١٤٤٠

الاثنين، 6 مايو 2019

(وهم يستبشرون ١): حادثة تحويل القبلة (الهدايات القرآنية لمواجهة المبطلين).


                           بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما وصف ﷲ أثر الوحي على المؤمنين، وحالهم عند نزوله، ذكر من حالهم شيئا عجبا، فقال ﷻ: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}، فأهل الإيمان والتقوى وطهارة القلب يفرحون بالقرآن، ويستبشرون بمواعظ سوره، وتتبشبش قلوبهم كلما قرأوه لما يتجدد لهم من التزكية والفهم والمعارف في آياته.
وهذه مواعظ من كتاب ﷲ، كتبتها بغير تطويل، وانتقيتها من غير استقصاء.

                         (حادثة تحويل القبلة)
لم تكن حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حادثة عابرة في سيرة الدعوة المحمدية، ولم تكن ككثير من الشرائع التي كانت تنزل فيمتثلها الصحابة دون ضجيج من الباطل وتشويش، بل كانت واقعة تزلزلت لها قلوب كثير، وارتد بسببها عدد، وجعل منها اليهود والمنافقون مثابة مغمز في الشريعة، وسبب تشكيك وإرجاف، وقال ﷲ عنها في كتابه: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى ﷲ}، وجعل اليهود يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وطفق المنافقون يرددون: ما بال هذا الرجل يوجّهنا كل يوم إلى قبلة؟!
فكيف عالج القرآن آثار هذه الحادثة التي سيتكرر في واقع الدعوة مثالها، وكيف ربّى الوحي القلوب على مواجهة أهل الزيغ الغامزين في الشريعة، وكيف علم أهل الدعوة والإيمان والعلم مواجهة المتخذين دين ﷲ هزءا وسخرية.
لقد جاء صريح الحديث عن هذه الواقعة على رأس المائة والأربعين من آيات سورة البقرة، فقال ﷻ: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.
ولكن التوطئة الإيمانية القرآنية جاءت سابقة على هذه الآية، ثم جاء التعقيب عليها، في سياق قرآني عظيم، يقوي القلب المؤمن على مواجهة الباطل، ويربي فيه الاستعلاء على الموشوشين المعترضين على شرائع الدين، ويعلمه كيف يقف في دفع تهويشات المنحرفين شبهاتهم.
  1. فجاء الحديث مطولا عن تولّي اليهود عن الامتثال، وتثاقلهم عن الاستجابة لأمر ﷲ، ومعاندتهم لأنبيائهم، فجاء توبيخهم باتخاذهم العجل، وبتباطئهم عن ذبح البقرة، وتحريفهم كلام الله من بعد ما سمعوه، ونقضهم الميثاق بسفك دمائهم وإخراج فريق منهم من ديارهم، واتباعهم لما تتلوه الشياطين على ملك سليمان، ليعلم من يسمع تشويش اليهود على هذه الشريعة أنهم حقيق بكل سوء، فهم المذمومون حقا، التاركون للشريعة.
  2. جاء الحديث عن نفاسة اليهود أن ينزل بالمؤمنين خير، وضنانة نفوسهم أن ينال المؤمنين هدى، فقال ﷻ: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}، فإن تحويل القبلة للكعبة كرامة حسدتنا عليه اليهود، كما جاء في المسند عن عائشة قال النبي ﷺ: ( ﺇﻧﻬﻢ ﻻ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻛﻤﺎ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ القبلة اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺧﻠﻒ اﻹﻣﺎﻡ: ﺁﻣﻴﻦ)!.
  3. جاءت الدلالة على وقوع النسخ في الديانة، فقال ﷻ: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}.
  4. جاء التفخيم لشأن إبراهيم ﷺ، واتباع ملته، وذكر قصة بناء الكعبة، توطئة لما سيأتي من حديث عن تحويل القبلة.
  5. ثم أتى الحديث بأسلوب استعلائي يواجه المشوشين على الشريعة، فقال ﷻ: {سيقول السفهاء}، فوصمهم بالسفه، ووصفهم بقبيح الوصف، وحطّ عليهم.
  6. ربّى القرآن المسلم أن يكون قوي القلب في مواجهة زيغ الزائغين، فقال ﷻ: {قل لله المشرق والمغرب}، في خطاب استعلائي يستأنف به المسلم صراعه مع الزائغين المستشكلين للشرائع، ليقول في بدء كل رد عليهم: أنا عبد لله، يأمرني بما شاء فأطيع، علمت حكمة ذلك أم لم أعلم، اطلعت على المقصد أم لم أطلع، فأنا عبد لله وهو يحكم ما يريد.
  7. ثم مدح المؤمنين مدحا مضمنا لتوجيه عظيم، فقال: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، أنتم يا أمة محمد ﷺ الذين تقيمون ميزان الناس بميزان الوحي الذي عندكم، وأنتم الذين توجهون لهم النقد على ضلالهم لا هم، أنتم الذين تملكون المعيار الحق لتقيّموا تصرفاتهم وأخلاقهم ونظرياتهم، لقد جاءت الآية لتعلم المسلم حين يستمع لنقد المنحرفين، ومغامزهم أن لا يستسلم وأن لا يقف موقف مدافع يرد العادية بضعف، بل يجب أن يعرف موقعه الذي شرفه ﷲ به وأقامه فيه.
  8. ثم جاء الخطاب القرآني مبينا لحكمة من حكم هذا التشريع، ومقصدا من مقاصد هذا الحكم، فقال ﷻ: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}، لقد كان من مقاصد هذه الواقعة ابتلاء المؤمنين، ليتميّز أهل التسليم والخضعان لأمر ﷲ، المستجيبين لشريعته على أي نحو.
  9. ثم جاء الحديث عن معرفة أهل الكتاب لفضيلة مكة على بيت المقدس، وأن استقبال الكعبة هو الحق، فقال ﷻ: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}.
  10. ثم جاء التوجيه الربّاني لأهل الإيمان أن لا يشغلهم الباطل وشبهاته وضجيجه عن الطاعة والمسابقة لأمر ﷲ فقال سبحانه: {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات}.
  11. ثم جاء ذكر فائدة من فوائد تحويل القبلة، وإنه لشأن عظيم، فقال ﷲ: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة}، فإن اليهود لما رأوا محمدا ﷺ وصحابته يتوجهون لبيت المقدس اتخذوا من ذلك حجة لغمز الديانة، فكانوا يقولون: إن محمدا تابعنا في قبلتنا، وسيتابعنا في ديننا، فكانت تلك الحجة بابا يلج منه اليهود لتوهين صف المؤمنين ويقينهم، فجاء تحويل القبلة قاطعا لذلك، ثم تتابعت الشرائع التي يأتي فيها الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في أفعالهم الدينية وخصائصهم الدنيوية.
فانظر كيف جاء النبأ القرآني يعلم المؤمنين ويزكيهم ويهدي قلوبهم في مثل هذه الحادثة، ثم اعتبر بها في كل موضع تجد فيها صاحب الزيغ معترضا على دين ﷲ مستشكلا لشريعته مقترحا عليه.
ثم لا تنس أن هذا السياق، وذلك النبأ جاء في سورة البقرة، السورة التي جاء فيها ذكر مباني الإسلام ودعائمه الخمسة، السورة التي جاء فيها من الأحكام ما لم يأت في سورة أخرى، وجاء فيها من الأوامر والنواهي ما لم يأت في غيرها، السورة التي جاء فيها ذكر تولي بني إسرائيل عن الشرائع، وتوبيخهم لعدم تسليمهم للنصوص، والسورة التي ختمت باستجابة الصحابة للشرائع كما في قوله ﷻ: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا}، فجاء الحديث عن هذه الحادثة، وهي أنموذج لهذه القضية الكبرى: قضية التسليم للنص والاستجابة للأمر.  

• كتبه أبو المثنى.
٢ / ٩ / ١٤٤٠
الرياض