الأربعاء، 15 سبتمبر 2021

مسألة في الاستخارة.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فمن المسائل التي يكثر دورانها على الألسنة:

     - حدود الأمور التي يستخار فيها.

     - وضابط أثر الاستخارة على المستخير.

     • والذي يظهر أن الاستخارة في الأمور الكبرى التي تعرض للإنسان، ولو لم يعزم عزما أكيدا، فإن الهمّ أدنى درجات العزم، وفي مسلم: لما خطب النبي ﷺ زينب، قال أنس: قال زيد بن حارثة حين بعثه النبي ﷺ: (ﻳﺎ ﺯﻳﻨﺐ: ﺃﺭﺳﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﺬﻛﺮﻙ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﺑﺼﺎﻧﻌﺔ ﺷﻴﺌﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﻭاﻣﺮ ﺭﺑﻲ، ﻓﻘﺎﻣﺖ ﺇﻟﻰ ﻣﺴﺠﺪﻫﺎ)، فدل على أنّ هذا في أول ما أتاها الخبر.

     • ثم يظهر أنه إن استخار فينظر في مجموع حاله من التيسير والانشراح وغيرها: قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ﻭالاﺳﺘﺨﺎﺭﺓ ﺃﺧﺬ ﻟﻠﻨﺠﺢ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﻃﺮﻗﻪ، ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﻌﻠﻢ اﻟﺨﻴﺮﺓ، ﻓﺈﻣﺎ ﺃﻥ يشرح ﺻﺪﺭ اﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻭﻳﻴﺴﺮ اﻷﺳﺒﺎﺏ، ﺃﻭ ﻳﻌﺴﺮﻫﺎ، ﻭﻳﺼﺮﻓﻪ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ).

     - والانشراح جاء في كلام النووي والخرشي والنفراوي والدسوقي من المالكية، ولكن ينبغي أن يقيّد ذلك بما قاله ابن حجر: (ﻭاﻟﻤﻌﺘﻤﺪ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻔﻌﻞ ﻣﺎ ينشرح ﺑﻪ ﺻﺪﺭﻩ ﻣﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻪ ﻓﻴﻪ ﻫﻮﻯ ﻗﻮﻱ ﻗﺒﻞ الاﺳﺘﺨﺎﺭﺓ).

     - وألغى اعتبار الانشراح العز بن عبد السلام والزملكاني من الشافعية وغيرهم، وقالوا: بل يعمل بما هم به.

     - واعتبر مطلق المرجحات كالرؤيا بعض الحنفية.

     والعلم عند الله.

السبت، 21 أغسطس 2021

يوم عاشوراء؛ وذكريات النصر

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

يا صباحاً ليس يُنسى

فيهِ نجّى اللهُ موسى


يوم عاشوراء..ربي

عدلَهُ في الأرض أرْسى


أهلك الباغي وأعطى

فيهِ للباقين درْسًا:


أنّ للظالمِ يومًا

أن للمظلومِ شمْسًا!

     لقد طال ليل ظلم فرعون لموسى ﷺ وقومه، وأتت عليهم عشرات السنين وهم تحت القهر والظلم والفتنة.

وكثير من الناس يستطيل البلاء، ويشتد عليه الكرب، ولقد استطال قوم موسى البلاء، (وَقَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِ فِرۡعَوۡنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوۡمَهُۥ لِیُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَیَذَرَكَ وَءَالِهَتَكَۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبۡنَاۤءَهُمۡ وَنَسۡتَحۡیِۦ نِسَاۤءَهُمۡ وَإِنَّا فَوۡقَهُمۡ قَـٰهِرُونَ ۝  قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱللَّهِ وَٱصۡبِرُوۤا۟ۖ إِنَّ ٱلۡأَرۡضَ لِلَّهِ یُورِثُهَا مَن یَشَاۤءُ مِنۡ عِبَادِهِۦۖ وَٱلۡعَـٰقِبَةُ لِلۡمُتَّقِینَ ۝  قَالُوۤا۟ أُوذِینَا مِن قَبۡلِ أَن تَأۡتِیَنَا وَمِنۢ بَعۡدِ مَا جِئۡتَنَاۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمۡ أَن یُهۡلِكَ عَدُوَّكُمۡ وَیَسۡتَخۡلِفَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرَ كَیۡفَ تَعۡمَلُونَ).

     فكان الفرج والنصر في مثل هذا اليوم العظيم، قال ﷻ: (فَأَتۡبَعُوهُم مُّشۡرِقِینَ ۝  فَلَمَّا تَرَ ٰ⁠ۤءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ ۝  قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ ۝  فَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقࣲ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِیمِ ۝  وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡـَٔاخَرِینَ ۝  وَأَنجَیۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥۤ أَجۡمَعِینَ).

     لقد ظنّ قوم موسى ﷺ أنّها نهاية الدعوة، وأنه قد آن أوان استحصاد الحق، وقطع شأفته، وما علموا أنّ الظلم يخطو إلى حتفه بظلفه، وأن هذه الهبّة الفرعونية ضد الحق وأهله ستكون قاضية الطغاة، فيا أيها المكروب، كن موسوي اليقين، مقتديًا به ﷺ حين قال: (قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ)، ولا يستولين عليك اليأس، ولا ينغلقنّ عليك الأمر، ولو رأيت حلقاته قد ضاقت، ولو ظننت أن تسلط الباطل قد بلغ الجبال، لقد فقه موسى ﷺ الدرس، حين قال في أوّل الدعوة:  (قَالَا رَبَّنَاۤ إِنَّنَا نَخَافُ أَن یَفۡرُطَ عَلَیۡنَاۤ أَوۡ أَن یَطۡغَىٰ ۝  قَالَ لَا تَخَافَاۤۖ إِنَّنِی مَعَكُمَاۤ أَسۡمَعُ وَأَرَىٰ)، لقد خاف موسى ﷺ في أول الدعوة، فعلمه ربه ﷻ، فكان مآله أن قالت لك الكلمة العظيمة: (كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ)، فاستشعر معيّة ﷲ له، وهكذا فمن استشعر معيّة ﷲ استهتر بكل باطل، وأيقن باضمحلال أمره، وفي المسند ﻋﻦ اﻟﺒﺮاء ﺑﻦ ﻋﺎﺯﺏ ﻗﺎﻝ: ﺃﻣﺮﻧﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺑﺤﻔﺮ اﻟﺨﻨﺪﻕ، ﻗﺎﻝ: ﻭﻋﺮﺽ ﻟﻨﺎ ﺻﺨﺮﺓ ﻓﻲ ﻣﻜﺎﻥ ﻣﻦ اﻟﺨﻨﺪﻕ، ﻻ ﺗﺄﺧﺬ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻤﻌﺎﻭﻝ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺸﻜﻮﻫﺎ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﺠﺎء ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ فوﺿﻊ ﺛﻮﺑﻪ ﺛﻢ ﻫﺒﻂﺇﻟﻰ اﻟﺼﺨﺮﺓ، ﻓﺄﺧﺬ اﻟﻤﻌﻮﻝ ﻓﻘﺎﻝ: "ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ"، ﻓﻀﺮﺏ ﺿﺮﺑﺔ ﻓﻜﺴﺮ ﺛﻠﺚ اﻟﺤﺠﺮ، ﻭﻗﺎﻝ: "اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ ﺃﻋﻄﻴﺖ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ اﻟﺸﺎﻡ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺇﻧﻲ ﻷﺑﺼﺮ ﻗﺼﻮﺭﻫﺎ اﻟﺤﻤﺮ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻫﺬا"، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ"، ﻭﺿﺮﺏ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻜﺴﺮ ﺛﻠﺚ اﻟﺤﺠﺮ ﻓﻘﺎﻝ: "اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ، ﺃﻋﻄﻴﺖ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﻓﺎﺭﺱ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺇﻧﻲ ﻷﺑﺼﺮ اﻟﻤﺪاﺋﻦ، ﻭﺃﺑﺼﺮ ﻗﺼﺮﻫﺎ اﻷﺑﻴﺾ ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻫﺬا" ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺑﺴﻢ اﻟﻠﻪ"، ﻭﺿﺮﺏ ﺿﺮﺑﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻓﻘﻠﻊ ﺑﻘﻴّﺔ اﻟﺤﺠﺮ ﻓﻘﺎﻝ: "اﻟﻠﻪ ﺃﻛﺒﺮ ﺃﻋﻄﻴﺖ ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ اﻟﻴﻤﻦ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺇﻧﻲ ﻷﺑﺼﺮ ﺃﺑﻮاﺏ ﺻﻨﻌﺎء ﻣﻦ ﻣﻜﺎﻧﻲ ﻫﺬا".

     وفي الصحيحين أن النَّبي ﷺ قدم المدينة فوجد اليهود تصوم هذا اليوم فسألهم، فقالوا: هذا يوم صالح، نجى ﷲ فيه موسى من فرعون فنحن نصومه، فقال النبي ﷺ: نحن أحق بموسى منكم، فصامه.

     فالانتصار على القوم الظالمين، وهلاكهم، وزوال صولتهم؛ نعمة من أعظم النعم، والنعمة تستوجب شكرًا، وأعظم الشكر ما كان بالعمل، وهكذا كان النبي ﷺ يقابل نعم ﷲ عليه بالطاعات شكرًا، كما في الصحيحين عن المغيرة قال: إن ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻟﻴﻘﻮﻡ ﻟﻴﺼﻠﻲ ﺣﺘﻰ ﺗﺮﻡ ﻗﺪﻣﺎﻩ - ﺃﻭ ﺳﺎﻗﺎﻩ - ﻓﻴﻘﺎﻝ ﻟﻪ ﻓﻴﻘﻮﻝ: «ﺃﻓﻼ ﺃﻛﻮﻥ ﻋﺒﺪا ﺷﻜﻮﺭا».

     يوم عاشوراء يوم يعلمنا مخالفة المشركين، والبراءة منهم، ففي صحيح مسلم أن النبي ﷺ أراد مخالفة اليهود في صيامهم، فقال: «لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع».

وهكذا كان النبي ﷺ يخالف المشركين في عباداتهم، فنهى عن الصلاة وقت طلوع الشنس ووقت غروبها، وكان يأمر بالسحور، ويقول: «فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر»، كما في صحيح مسلم، وحين حج وأراد أن ينفر من مزدلفة نفر قبل طلوع الشمس، وخالف المشركين الذين كانوا لا ينفرون حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير، كما رواه البخاري، وأمثلتها في تفاصيل الأحكام الشرعية كثيرة.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

الجمعة، 30 يوليو 2021

التربية القرآنية عند وقوع مصيبة تشويه العرض.

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فلقد كان القرآن يربي المؤمنين في مجتمعهم الأول في المدينة النبوية، فكان يتنزل ليسد خلل الصف، ويزجي العثرات، ويربي النفوس.

     ولقد كان من أشد الأحداث الداهية للصف المسلم الأول مع نبيهم ﷺ حادثة الإفك والافتراء على عائشة رضي الله عنها وقذف العرض النبوي بأبي رسول الله وأمي هو.

     فكيف كانت التربية القرآنية للصف المسلم المبارك وهو يواجه هذه المصيبة الطاعنة؟ وتلك الداهية المدهيّة؟

     لقد جاء سياق آيات قصة الإفك على هذا النحو التربوي:

١ - طمأنة المجتمع المسلم بخيرية الأحداث التي تقع له، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ جَاۤءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةࣱ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرࣰّا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِی تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِیمࣱ).

٢- الأمر بتقديم حسن الظنّ، وعدم الانزلاق في تداول الإفك، وزجر النفس عن سوء الظن، فقال ﷻ: (لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا وَقَالُوا۟ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ مُّبِینࣱ).

٣- الضبط التنظيمي بوجوب الشهادة الرباعية، فقال ﷻ: (لَّوۡلَا جَاۤءُو عَلَیۡهِ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَۚ فَإِذۡ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِٱلشُّهَدَاۤءِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَـٰذِبُونَ).

٤- التذكير بفضل ﷲ وعفوه حين عفا عن تداول الباطل، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمَسَّكُمۡ فِی مَاۤ أَفَضۡتُمۡ فِیهِ عَذَابٌ عَظِیمٌ).

     والتذكير بفضل ﷲ في السياق متكرر في ثلاثة مواطن.

٥- زجر النفس عن التكلم بالسوء، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبۡحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهۡتَـٰنٌ عَظِیمࣱ).

٦- تجريم إشاعة التهم في المجتمع المسلم، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ ٱلۡفَـٰحِشَةُ فِی ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ).

٧- التذكير بفضل ﷲ مرة أخرى، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ).

٨- النهي عن اتباع خطوات الشيطان، فقال ﷻ: ( یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ وَمَن یَتَّبِعۡ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ).

٩- التذكير بفضل الله في معافاة العبد المؤمن، ولما كان الحديث عن التهمة بالفاحشة، فربما ترفعت بعض النفوس عن أهل المعصية ورأت لها فضلا، قال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدࣰا وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یُزَكِّی مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ).

١٠- النهي عن بقاء آثار الانتقام بعد جرائم التعدي، فنُهي أبو بكر أن يوقف عطية مسطح وصدقته عليه، فقال ﷻ: (وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤۡتُوۤا۟ أُو۟لِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ وَلۡیَعۡفُوا۟ وَلۡیَصۡفَحُوۤا۟ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ).

١١- إعادة الحديث عن عقوبة القذف، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡغَـٰفِلَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ).

١٢- التذكير بالسنن الكونية المتعلقة بالقضية التي وقعت، فهنا تذكير بالقضية الكونية القدرية في زكاء البيت النبوي، فقال ﷻ: (ٱلۡخَبِیثَـٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَـٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَـٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا یَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ)، لقد كانت عائشة حبيبة نبينا ﷺ، ولا يمكن للطهر أن يحب إلا طهرًا، لابد أن تكون طاهرة تستحق ذلك الحب الطهري، فسنة ﷲ ماضية في التئام كل شيء إلى ما يشاكله.

١٣- النهي عن السبل التي تفتح باب الفواحش، فافتتح الحديث بالنهي عن دخول بيت الآخرين بغير استئذان، وما يتبع ذلك من أحكام، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتًا غَیۡرَ بُیُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُوا۟ وَتُسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَهۡلِهَاۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ).

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الخميس، 29 يوليو 2021

قوة العقل على العقل!

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

      فلا يمكن أن يفصل الواقع الذي تحيى فيه أمتنا الآن عن آثار الاستعمار، كما يقول سيء الذكر أدوارد سعيد في كتابه [الاستشراق]: "الشرق الحديث أنتجه تفاعل السلطة والمعرفة الأوربيتين" (إدوارد سعيد مهما نقد الاستشراق فهو جزء من المشكلة الاستشراقية! والحديث عنه يطول).
     وذلك الاستعمار له ثقافته وسلطته ونموذجه الإداري ومفكروه وزعماؤه، مما ستكون لها كلمة عليا في التوجيه والتأثير.
     وهذه قضيّة كبرى ذات فروع ممتدة، ولكن سأقف عند جانب واحد من هذا التأثير، التأثير الذي يستلب فيه الإدراك فلا يحوم في خاطر المتأثر حائمة شك أنه مسلوب الإدراك، قد اختط له غيرُه طريق سيره، وكتب له طريقة تفكيره.
     يقول جيريمي بنتام أحد كبار فلاسفة بريطانيا، وصاحب مبدأ: (السعادة المطلقة لأكبر عدد من الأشخاص هي مقياس الصواب والخطأ)، يقول عن فكرة الحجز والحبس المسمّى: سجن بانوبتيكون أي: (المشتمل)، [سجن يكون فيه الحبس على هيئة طوابق مدورة اسطوانيًا، وأبوابها تفتح للوسط، وفي الوسط يوجد برج للرقابة السهلة على الجميع]، يقول: "طريقة جديدة للحصول على قوة العقل على العقل"!
     لا جرم سيقول قائل: ثم ماذا؟ فليضبطوا ما شاؤوا من السجناء، فهو تأثير محدود في عدد محدود! وهذه غفلة عن امتداد هذه الفكرة في الواقع، إن نمط هذا السجن نمط متكرر في كل مؤسسات الضبط في العصر الحديث، لكنها تتلون بحسب مكانها، فجميع مؤسسات المجتمع من مصانع ومدارس وثكنات ومستشفيات تقوم بوظيفة: تخريج أفراد خنوعين وطيّعين، وعلى هذا النحو ولدت المراقبة الاجتماعية الحديثة، التي ترقب المجتمع كله، لتنتقل إلى مرحلة أكثر شمولية يكون المجتمع رقيبًا على نفسه.
     ويرى ميشيل فوكوه [صاحب كتاب: المراقبة والمعاقبة، الذي درس فيه المقارنة بين العقوبات السابقة، والعقاب التأديبي في العصر الحديث، ويمنح العقاب التأديبي كلا من (المعالج النفسي، منفذ البرامج، الضابط في السجن) سلطة على (السجين أو المتعلم أو المريض)، ومما يلفت الانتباه أن المدة التي يتوجب على السجين مثلاً أن يقضيها في السجن تتوقف على رأي المختصين]
     يقول فوكو عن نمط ذلك السجن وما يشابهه في كتابه: "أن هذا النمط من المؤسسات يعد نوعًا جديدًا من السلطة على جسد الإنسان، سلطة لا تؤثر بأدوات التعذيب والقهر، ولكنها تستعمل: تقسيم المكان، وتوزيع الأشخاص، للسيطرة".
     وهذه الطرق الضبطية هي طرق استعمارية تهدف إلى استرقاق الإنسان، ولا يغب عن ذهنك الطرق الانضباطية الجديدة في التدريب العسكري، والاحتجاز في الثكنات العسكرية، التي تخلق قوة عسكرية ذات جبروت امتدت لسائر المجتمع، على نحو ما يذكر تيموثي ميتشل في كتابه: (استعمار مصر)، ص ٣٢.
     وهكذا امتد نظام الضبط والتفتيش والمراقبة إلى كامل المجتمع حتى المجتمع الريفي، بالإشراف على الانتاج الزراعي، والمحاصيل، ثم الحصاد والبيع.
     ومثل ذلك التعليم حين توحد المناهج، ويجبر ويعاقب على انتحالها، لتصبح شكلًا من أشكال الضبط والتفتيش المستمر، الذي ينتج طلابًا معلبين!
     والأمر أعمق من ذلك، فمما يثير ميشيل كوفو في كتابه (المراقبة والمعاقبة)، ذلك الارتباط بين الأماكن الانضباطية كالسجن والمستشفى وبين فروع علمية كعلم النفس، وعلم الجريمة، فالمراقبة والتفتيش وغيرها من أدوات الانضباط تنشئ عوالم من المعرفة.
     إنها حركة انقلابية على الإنسان، تعيد صنع العالم، وتعيد تهيئة الشوارع والمدن والأسواق ليسهل ضبطها والرقابة عليها!
     والآن فإن هذا الحديث بات متخلفًا لما أصبح عليه الأمر الآن، مع الزحف الالكتروني، والسيطرة العالمية على الانترنت، والله المستعان.

الاثنين، 19 يوليو 2021

التعريف بالأمصار.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فقد اختلف العلماء من سلف هذه الأمة وفقهائها، في حكم التعريف بالأمصار، ولزوم المساجد عشية عرفة، والإكثار من الدعاء فيه والذكر، على ثلاثة أقوال:

     • القول الأول: أنه مستحب ينبغي فعله، وقد جاء ذلك عن ابن عباس وعمرو بن حريث وسعيد بن المسيب، والحسن وابن سيرين وثابت البناني ومحمد بن واسع وبكر المزني وفعله يحيى بن معين، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد.

    - وقالوا: قد فعله الصحابة في عهد علي رضي الله عنه، وما فُعل في زمن الخلفاء الراشدين فهو خير، ولا يصح أن يبدع وأن يوصف بالحدَث.

     • القول الثاني: أنه سائغ غير مستحب، من فعله فلا بأس عليه، ولا ينكر على فاعله، ﻗﺎﻝ اﻷﺛﺮﻡ ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﻓﻲ اﻷﻣﺼﺎﺭ ﻳﺠﺘﻤﻌﻮﻥ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻳﻮﻡ ﻋﺮﻓﺔ ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻪ ﺑﺄﺱ ﻓﻌﻠﻪ ﻏﻴﺮ ﻭاﺣﺪ، وقال: هو دعاء، دعهم يكثر الناس، قيل له: فترى أن ينهوا؟ قال: لا، دعهم، لا ينهون.

     وهذا ظاهر تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول حسن.

     • القول الثالث: المنع والكراهة، فكرهه أبو حنيفة ومالك وهو مذهب نافع مولى ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز واﻟﺤﻜﻢ ﺑﻦ ﻋﺘﻴﺒﺔ ﻭﺣﻤﺎﺩ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ اﻟﻨﺨﻌﻲ، والثوري والليث، وهو قولٌ منسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وذهب كثير من هؤلاء إلى أنه بدعة محدثة، لكن قال النووي: (ﻣﻦ ﺟﻌﻠﻪ ﺑﺪﻋﺔ ﻻ ﻳﻠﺤﻘﻪ ﺑﻔﺎﺣﺸﺎﺕ اﻟﺒﺪﻉ ﺑﻞ ﻳﺨﻔﻒ ﺃﻣﺮﻫﺎ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).

     - وقالوا: اﻟﻮﻗﻮﻑ بعرفة ﻋﺒﺎﺩﺓ ﻣﺨﺘﺼﺔ ﺑﻤﻜﺎﻥ ﻣﺨﺼﻮﺹ، ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺩﻭﻧﻪ ﻛﺴﺎﺋﺮ اﻟﻤﻨﺎﺳﻚ.

    - وأيضًا: فمثل ذلك لم يفعله النبي ﷺ ولا كبار صحابته، وما جاء عن الصحابة والتابعين فمحمول على أنه وقع اتفاقًا دون قصد للاجتماع، فمن أين لأولئك الذين نقلوا عن السلف هذا أنهم فعلوه بقصد التشبه بأهل الموقف؟

     •• والذي يظهر أن التعريف يُطلق ويقصد به معاني منها: لزوم المسجد بنيّة التشبه بأهل موقف عرفة، ويضاف إليه زوائد من التشبه ككشف الرأس، والخطبة، واعتقاده عبادة مستقلة مضاهية لوقوف الحجاج بعرفة، فهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه نكير أكثر من جاء عنهم النكير.

     ويُطلق ويقصد به: لزوم المسجد مجردًا عن تلك النية والزوائد، فهذا الذي يُحمل عليه كلام أحمد، وما جاء عن أكثر المستحبين له.

    •  والقدر الذي ينبغي ألا يختلف فيه: أنه يوم عظيم، من أفضل أيام الله، حريٌ أن يعمر بالدعاء والذكر والتكبير، وأن يجتهد فيه باللجأة إلى ﷲ، وكذا من لزم المسجد لجامعيّة قلبه، دون اعتقاد خصوص هذا اللزوم للمسجد عبادة لها وصف معين،  فمثل ذلك لا ينبغي أن يدخل في كلام المانعين، وأعوذ بالله من كثرة الكلام وقلّة العمل، والعلم عند رب العالمين.

الجمعة، 2 يوليو 2021

الرجولة المحرمة!

       حمدًا لك اللهم، أمّا بعد:

     سلامٌ على الرجال! أصحاب الصفقة العادلة! الذين عقدوا العقد مع ربهم، (ومن أوفى بعهده من ﷲ).

     سلام على أولئك الرجال المصبوغين بدهن الرجولة المقدّس!

     الرجال الذين يرفضون أن تمتصّ منهم دماء رجولتهم لتصبغ بها شفاه الحضارة الغربيّة!

     سلامٌ على الرجال الذين أبوا تسليم الرجولة الممنوعة! الرجولة التي يحرّمها أعداؤنا على شبابنا ليصبحوا كيانًا لزجًا يسهل تشكيله.

     سلامٌ على الرجال الذين ذابت عيونهم بأحماض دموعهم على أمتهم، يومًا بعد يوم!

     سلامٌ على أولئك الذين صهرتهم الحياة في أفران البلاء فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا، وما زادهم إلا نقاء في معدنهم!

     سلامٌ على أولئك الأماجد الذين حلّقوا كيف شاؤوا؛ ولم تنحبس نفوسهم خلف خطوط الوهم الشاهقة، التي أقنعتنا بها بريطانيا!

     هم كغيرهم (يحبّون) و (يعشقون)، وتُدير بعقولهم غنج الأنوثة، وتطيح بهم لحظ العيون، لكن ذنبهم الوحيد أنهم رجال!! لا تلهيهم تجارة ولا دراسة ولا نساء عن التضحية!

     سلامٌ عليهم كلما وجدتَ في مُخبآت نفوسهم ذكرياتٍ عن عواطف حرّى، تركت في قلوبهم ندوبًا بعد قصص حبٍّ طاهر، لم يكتمل عقده، ولم يلتئم شمله.

    لقد عاشوا يؤجّلون الشجن إلى أمد مفتوح! لأنهم في رحلة انتقام مفتوحة لأمتهم! وإن كانت خفقات قلوبهم بالشوق والحب تفضحهم بين حين وآخر!

     الرجال العنيدون الذين سلِموا من التبسيط الإجباري، التبسيط الذي يُفرض على الشاب المسلم ليصبح (بسيطًا) بلا وعي، (بسيطًا) بلا هدف، (بسيطًا) بلا قرار!

     الرجال الذين يبصرون ما لا يبصر غيرهم، فأبصروا ثقوب الحضارة الغربية وروحها تتسرب منها، حين كان أكثر الناس مغترين بكبرياء تلك الحضارة التي تخفي تحته خواءها وعدمها.

     الرجال الذين تعافوا من السمّ المدسوس في عسَل الحضارة الماديّة! ولطالما حقن به فتيان الأمة!

     الرجال الذين يستعصون على التنميط، الذي يجعلهم منتجًا مكررًا على وفق المعايير الدولية العلمانية.

     رجال صارمون حفيت أرواحهم وهي تمشي على حدّ السيوف! هل قلت السيوف؟ وأين السيوف؟ لم يعد هناك سيوف! لكنها الراجمات، والصواريخ العابرة للقارات، وقنابل النابالم، وكل ما أنتجته بشاعة حضارتهم!

     سلام على الرجال الذين لا يتوقفون عن العطاء لأمتهم إلا إذا توقّف الجهاز التنفسي، وتعذّرت دقّات القلب!

     أولئك الرجال الذين علّقت أسماؤهم في قوائم المشاغبين! منذ كانوا صغارًا، حين كانوا لا يرتضون نصف اللعبة! وكبروا وكبرت معهم مشاغباتهم التي لا يعرفون معها نصف الحل، ولا يسلكون نصف الطريق، ولا يدينون بنصف الدين!

    سلام على الرجال ذوي العيون الصقرية، الذين ترى في عيونهم لمعة تنطق عن النور الذي في صدورهم، عيون لم تنعسها ملهيات التقانة، ولم تخدّرها مترفات الحياة، ولم تمرضها شبهات الخالفين.

     سلام على الرجال الملتحفين برجولةٍ تقاوم اللاوعي! لتمنع صاحبها أن يتحوّل مع الأيام -دون شعور- إلى مومياء محنّطة تلين للسائس الدولي، ولا تمتنع عن قياد من اعتاد أن يعلف الجماهير الزور، ليربطهم في دائرة الوهم العالمي!

     رجال دخلوا التاريخ -حقًا- من أشرف أبوابه، لكن ضنّت عليهم أمتهم من أن يذكروا في المجامع، وحرموا أن تسطّر مآثرهم في الكتب، وأن تروى بطولاتهم للأطفال! وذهبوا بغصّاتهم، وتسلقوا سلّم البطولات في صمت، ولم يبقَ من أحدهم إلا مصحفه الصغير، وبقايا وصية امتزج حبرها بالحمرة، وذكريات يرويها بعض الأصحاب خلسة! وجمرة في قبضة يد أحدهم!

     سلامٌ عليهم يوم ولدوا، ويوم يموتون، ويوم يبعثون أحياء!

    

الأحد، 27 يونيو 2021

مواعظ الحج: عبوديّة المراغمة.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فمن المواقف الأخاذة في السيرة النبوية في المناسك، ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر، وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة، تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أو بني المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم!

غدا سينزل الصحابة في المكان الذي أئتمر الكافرون فيه على الإسلام!

غدا سيقيم الصحابة الذين لقيهم البلاء والضر واللأواء؛ سيقيمون عبادتهم ومناسكهم بعد العز والتمكين في نفس المكان الذي أراد أهل الباطل أن يكون موضعا من مواضع حرب الإسلام وقهر المؤمنين.

الله

الله

ما أعظمه من موقف!

أي ذكريات كانت تحملها صدور الصحابة وهم ينزلون نفس المكان الذي كان حربا على الحق!

لقد ذهب الباطل وأهل الباطل، وبقي الحق وأهله!

لقد ذهب الضيم والحزن والقهر، وأتى الله بنصره وفتحه!

وأيضا ففيه تذكير بالنعمة الربانية والمنة الإلهية.

لقد كنتم ضعفاء مقهورين يمكر بكم الناس، واليوم ها قد من الله عليكم، وكثركم ونصركم وآواكم، وأورثكم الأرض.

أي جلال هذا الجلال، أن يربط المؤمن بين مكان محاربة الإسلام، وذكرياته، وبين نصر الدين وذكرياته، حتى يأتي لنفس محل الباطل فيجعله محلا للحق ولنصرته.

لابد أن تمتلأ نفوس المؤمنين بالثقة بنصر الله، والوثوق بأن العاقبة للإسلام.

لابد أن يربط المؤمن دائما أوقات النصر والكرامة بالفتح بما كان عليه من قبل، وأن يستعيد تلك الذكريات، فهو أحرى أن يشكر نعمة الله، وأن يزداد ثقة بنصر الله،  وقد كان النبي ﷺ يفعل ذلك، ففي سنن أبي داود عن أﻭﺱ ﺑﻦ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻗﺎﻝ: ﻗﺪﻣﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ ﻭﻓﺪ ﺛﻘﻴﻒ، ﻗﺎﻝ: ﻛﺎﻥ النبي ﷺ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻳﺄﺗﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﻳﺤﺪﺛﻨﺎ، ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮاﻭﺡ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻃﻮﻝ اﻟﻘﻴﺎﻡ - ﻭﺃﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﻳﺤﺪﺛﻨﺎ ﻣﺎ ﻟﻘﻲ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻪ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ، ﻭﻳﺸﺘﻜﻲ ﻗﺮﻳﺸﺎ، ﻭﻳﺸﺘﻜﻲ ﺃﻫﻞ ﻣﻜﺔ، ﺛﻢ ﻳﻘﻮﻝ: «ﻻ ﺳﻮاء ﻛﻨﺎ ﻣﺴﺘﻀﻌﻔﻴﻦ ﻣﺴﺘﺬﻟﻴﻦ»، ﻓﻠﻤﺎ ﺧﺮﺟﻨﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺠﺎﻝ اﻟﺤﺮﺏ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻨﻬﻢ، ﻧﺪاﻝ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻳﺪاﻟﻮﻥ ﻋﻠﻴﻨﺎ»

ولعل هذا الأمر أحد مقاصد ما كان النبي ﷺ يصنعه إذا فتح أرضا، كما ثبت في البخاري ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﻠﺤﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ «ﺃﻧّﻪ ﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻇﻬﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻡ ﺃﻗﺎﻡ ﺑﺎﻟﻌﺮﺻﺔ ﺛﻼﺙ ﻟﻴﺎﻝ».

نعم، هنا سيقام الحق والطاعة والإيمان.

كما أقيم هنا الباطل والمعصية.

ومن اللطيف أنه كان ﷺ يأمر أن يهدم محل عبادة الأوثان ليقام فيه المسجد!

وفي المسند وغيره أن ﻃﻠﻖ بن علي ﻭﻓﺪ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻮﻩ، ﻓﺄﺧﺒﺮﻭﻩ ﺃﻥ ﺑﺄﺭﺿﻬﻢ ﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﺳﺘﻮﻫﺒﻮﻩ ﻣﻦ ﻃﻬﻮﺭﻩ ﻓﻀﻠﻪ، ﻓﺪﻋﺎ ﺑﻤﺎء ﻓﺘﻮﺿﺄ ﻭﺗﻤﻀﻤﺾ، ﺛﻢ ﺻﺒﻪ ﻓﻲ ﺇﺩاﻭﺓ، ﻭﻗﺎﻝ: " اﺫﻫﺒﻮا ﺑﻬﺬا اﻟﻤﺎء، ﻓﺈﺫا ﻗﺪﻣﺘﻢ ﺑﻠﺪﻛﻢ، ﻓﺎﻛﺴﺮﻭا ﺑﻴﻌﺘﻜﻢ ﻭاﻧﻀﺤﻮا ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻤﺎء، ﻭاﺗﺨﺬﻭﻫﺎ ﻣﺴﺠﺪا " ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﻨﺎ: ﻳﺎ ﻧﺒﻲ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﺎ ﻧﺨﺮﺝ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﺴﻤﻮﻡ ﻭاﻟﺤﺮ، ﻭاﻟﻤﺎء ﻳﻨﺸﻒ ﻗﺎﻝ: " ﻓﻤﺪﻭﻩ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻨﻪ ﺷﺪﻳﺪ ﻛﺜﻴﺮ ﺭﻃﺐ " ﻗﺎﻝ: ﻓﺨﺮﺟﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﺑﻠﺪﻧﺎ، ﻓﻜﺴﺮﻧﺎ ﺑﻴﻌﺘﻨﺎ، ﻭﻧﻀﺤﻨﺎ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻤﺎء، ﻭاﺗﺨﺬﻧﺎﻫﺎ ﻣﺴﺠﺪا".

مواعظ الحج: التسليم للشريعة.

      الحمد لله، والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فكم في مواضع الحج من تذكرة، وكم في نصوصه وآياته واحاديثه من عبر ومواعظ، تأمل ما ثبت في البخاري أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر، فقال ابن عمر: «رأيت رسول الله ﷺ يستلمه ويقبله» قال: قلت: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت، قال: «اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله»!

هكذا كان الصحابة يريدون أن يربّوا التابعين عليه.

كان الصحابة يعلمون الناس تعظيم الشريعة، وسرعة الامتثال للأمر والنهي، وعدم افتراض الاعتراضات على الطاعة.

هناك من إذا سمع أمرًا شرعيًا جعل يضع عليه العوائق، التي تعوق عن امتثاله والاستجابة له.

مع أنك لو تأملت الأمور التي ذكرها ذلك الرجل: (أرأيت إذا زحمت)، لوجدته عذرا سائغا، لكن ابن عمر كان يلتفت لمعنى أعظم، كان يريد أن يعلم ذلك التابعي أن ينفذ كالسهم في الطاعة، ولا يلتفت يمينا وشمالا.

مع أن الإجماع منعقد أن تقبيل الحجر ليس واجبا، بل سنة من السنن.

ولكنَّ الصحابي رضي الله عنه، أراد تعليم التابعي كيف يبادر المؤمن عند الطاعات.

وكان هذا الأمر متكررا عند ابن عمر، ففي الترمذي أن اﺑﻦ ﻋﻤﺮ سئل ﻋﻦ اﻷﺿﺤﻴﺔ ﺃﻭاﺟﺒﺔ ﻫﻲ؟ ﻓﻘﺎﻝ ابن عمر: ﺿﺤﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭاﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ، ﻓﺄﻋﺎﺩﻫﺎ ﻋﻠﻴﻪ ذلك الرجل، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺗﻌﻘﻞ؟ ﺿﺤﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ!

ثم لاشك أن المأمورات ليست على رتبة واحدة، وأن الواجب ليس كالسنة، ولكن من الأدب الإيماني ألا يكون المؤمن ممن إذا علم عملا صالحا أكثر السؤال: أواجب هو أم سنة؟ ليتركه إذا كان سنة.

بل يكفيه أنه جاء عن النبي ﷺ، وإنما يستفهم ويسأل عن ذلك إذا حصل منه ترك لهذا العمل، فيسأل عن رتبة ما ترك لئلا يقع في معصية.

ومثل ذلك ما يفعله بعضهم سمع بمنع شرعي، أكثر السؤال أمحرم أم مكروه، وهو يريد أن يفعله إذا كان مكروها.

لا، بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ذلك ممن نهت عنه الشريعة.

هلموا فلنبادر للطاعة، ولنر الله من أنفسنا خيرا، والله المستعان.


مواعظ الحج: تواضع النبي ﷺ.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     لازلنا في مواعظ أحاديث المشاعر، والنفوس في لهفة الشوق لتلك البقاع المباركة، رزقني الله وإياكم من فضله العظيم.

أيها الأفاضل: ثبت في البخاري ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺟﺎء ﺇﻟﻰ اﻟﺴﻘﺎﻳﺔ ﻓﺎﺳﺘﺴﻘﻰ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻌﺒﺎﺱ: ﻳﺎ ﻓﻀﻞ، اﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻣﻚ ﻓﺄﺕ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺑﺸﺮاﺏ ﻣﻦ ﻋﻨﺪﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «اﺳﻘﻨﻲ»، ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﻬﻢ ﻳﺠﻌﻠﻮﻥ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﻓﻴﻪ، ﻗﺎﻝ ﷺ: «اﺳﻘﻨﻲ»، ﻓﺸﺮﺏ ﻣﻨﻪ، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ ﺯﻣﺰﻡ ﻭﻫﻢ ﻳﺴﻘﻮﻥ ﻭﻳﻌﻤﻠﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: «اﻋﻤﻠﻮا ﻓﺈﻧﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻋﻤﻞ ﺻﺎﻟﺢ» ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﺗﻐﻠﺒﻮا ﻟﻨﺰﻟﺖ، ﺣﺘﻰ ﺃﺿﻊ اﻟﺤﺒﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ» ﻳﻌﻨﻲ: ﻋﺎﺗﻘﻪ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﺗﻘﻪ.

هكذا كان النبي ﷺ يعلم صحابته كيف يتعامل المؤمن مع الناس فلا يزوي بنفسه عنهم، ولا يرى له فضلا عليهم، ولا يترفع ولا ينشز!

نعم، اسقني يا عباس!

فما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد!

كما في سنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﺴﻌﻮﺩ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺭﺟﻞ، ﻓﻜﻠﻤﻪ، ﻓﺠﻌﻞ ﺗﺮﻋﺪ ﻓﺮاﺋﺼﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: «ﻫﻮﻥ ﻋﻠﻴﻚ، ﻓﺈﻧﻲ ﻟﺴﺖ ﺑﻤﻠﻚ، ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ اﺑﻦ اﻣﺮﺃﺓ ﺗﺄﻛﻞ اﻟﻘﺪﻳﺪ».

لم يكن النبي ﷺ يصنع ما يتميز به عن الناس في مباح من اللبس أو الموضع أو أي أمر، حتى يحتاج الداخل عليه ممن لا يعرفه أن يسأل عنه لمساواته لصحابته، كما ثبت في البخاري عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ، ﻳﻘﻮﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﺟﻠﻮﺱ ﻣﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﺩﺧﻞ ﺭﺟﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻞ، ﻓﺄﻧﺎﺧﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺛﻢ ﻋﻘﻠﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ: ﺃﻳﻜﻢ ﻣﺤﻤﺪ؟ ﻭاﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﺘﻜﺊ ﺑﻴﻦ ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﻢ، ﻓﻘﻠﻨﺎ: ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻷﺑﻴﺾ اﻟﻤﺘﻜﺊ. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺮﺟﻞ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﻄﻠﺐ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻗﺪ ﺃﺟﺒﺘﻚ». ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺟﻞ ﻟﻠﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺇﻧﻲ ﺳﺎﺋﻠﻚ ﻓﻤﺸﺪﺩ ﻋﻠﻴﻚ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺄﻟﺔ، ﻓﻼ ﺗﺠﺪ ﻋﻠﻲ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻚ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺳﻞ ﻋﻤﺎ ﺑﺪا ﻟﻚ» ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺳﺄﻟﻚ ﺑﺮﺑﻚ ﻭﺭﺏ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻚ، ﺁﻟﻠﻪ ﺃﺭﺳﻠﻚ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻛﻠﻬﻢ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «اﻟﻠﻬﻢ ﻧﻌﻢ». ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺸﺪﻙ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﺁﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻙ ﺃﻥ ﻧﺼﻠﻲ اﻟﺼﻠﻮاﺕ اﻟﺨﻤﺲ ﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ ﻭاﻟﻠﻴﻠﺔ؟ ﻗﺎﻝ: «اﻟﻠﻬﻢ ﻧﻌﻢ»..

لما أراد النبي ﷺ أن يشرب من زمزم أراد عمه العباس أن يعطيه ماء مختصًا به، فأبى ذلك النبي ﷺ.

لقد كان النبي ﷺ قريبا من الناس، خاصّة من كان منهم مستضعفًا.

وفي الصحيحين ﻋﻦ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺮ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺑﺎﻣﺮﺃﺓ ﺗﺒﻜﻲ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﺮ، ﻓﻘﺎﻝ: «اﺗﻘﻲ اﻟﻠﻪ ﻭاﺻﺒﺮﻱ» ﻗﺎﻟﺖ: ﺇﻟﻴﻚ ﻋﻨﻲ، ﻓﺈﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﺼﺐ ﺑﻤﺼﻴﺒﺘﻲ، ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻪ، ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻬﺎ: ﺇﻧﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺄﺗﺖ ﺑﺎﺏ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻓﻠﻢ ﺗﺠﺪ ﻋﻨﺪﻩ ﺑﻮاﺑﻴﻦ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻟﻢ ﺃﻋﺮﻓﻚ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻧﻤﺎ اﻟﺼﺒﺮ ﻋﻨﺪ اﻟﺼﺪﻣﺔ اﻷﻭﻟﻰ».

وهكذا يجب أن يكون المسلم سهلا قريبا من الناس، خاصة من كان من أهل الدعوة منهم والعلماء والمصلحين.


مواعظ الحج: تطييب خواطر المؤمنين.

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     ففي الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻋﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺑﻦ ﺟﺜﺎﻣﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ: ﺃﻧﻪ ﺃﻫﺪﻯ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺣﻤﺎﺭا ﻭﺣﺸﻴﺎ ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻷﺑﻮاء، ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺃﻣﺎ ﺇﻧﺎ ﻟﻢ ﻧﺮﺩﻩ ﻋﻠﻴﻚ ﺇﻻ ﺃﻧﺎ ﺣﺮﻡ».

ما أجلّ خلقه بأبي هو وأمي، وأطيب معاملته، لمّا رأى أنّ هذا الصحابي قد آلمه ردّ النبي ﷺ هديته أراد أن يطيّب خاطره، وأنّ يزيل ما وقع في قلبه.

إنه لم يقل: هذا أمر شرعي، فليغضب من يغضب، وليحزن من يحزن، كلا.

بل بيّن له سبب هذا الرد، ليذهب حزنه، وسلو قلبه.

ومثل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي ﻋﻦ ﺃﻧﺲ، ﺃﻥ ﺭﺟﻼ، ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺃﺛﺮ ﺻﻔﺮﺓ، ﻭﻛﺎﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﻠﻤﺎ ﻳﻮاﺟﻪ ﺭﺟﻼ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﺑﺸﻲء ﻳﻜﺮﻫﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺧﺮﺝ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮ ﺃﻣﺮﺗﻢ ﻫﺬا ﺃﻥ ﻳﻐﺴﻞ ﺫا ﻋﻨﻪ».

أي رآه قد تخلق وصبغ بالزعفران في جسده، وكان هذا مما يتزيّن به النساء، فأراد النبي ﷺ أن ينكر عليه هذا الأمر، ولكنه كره أن يجرح قلبه، فأمر من يبين له هذا.

فالكمال الإيماني أن يبين الشرع وأن يتلطف مع الخلق.

ففيه حفظ لحق الله، ورعاية لحق المخلوقين.

ألم تر أولئك الأجلاف، يخمشون قلوب الناس، ويجرحون نفوسهم؛ ثم لا يرف لهم جفن، ولا يبالون بالناس، ولا يأبهون بأحد.

إنّ من السنن النبوية والآداب الشرعيّة أن يجلّي المؤمن حزن أخيه، ويجتهد في تليين قلبه عليه، خاصة إذا كان قريبا أو ذا رحم له أو كانت زوجة للمؤمن أو كان زوجا للمؤمنة، فإن هذا من اتباع منهج محمد ﷺ.

 ومما له اتصال بذلك أن يجتهد المصلحون والعلماء وأهل الدعوة أن يقرنوا الأحكام الشرعية ببيان التعليلات الفقهية أو المقاصد العقلية أو الحِكَم لتكون القلوب أكثر انقيادا للحق، واستجابة للهدى.

مواعظ الحج: المداومة على الطاعة.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فمن المواعظ التي يغذوها الحج بنصوصه وأحكامه، ما جاء ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﺎﻟﺖ: «ﻧﺰﻟﻨﺎ اﻟﻤﺰﺩﻟﻔﺔ ﻓﺎﺳﺘﺄﺫﻧﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺳﻮﺩﺓ، ﺃﻥ ﺗﺪﻓﻊ ﻗﺒﻞ ﺣﻄﻤﺔ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻛﺎﻧﺖ اﻣﺮﺃﺓ ﺑﻄﻴﺌﺔ، ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻬﺎ، ﻓﺪﻓﻌﺖ ﻗﺒﻞ ﺣﻄﻤﺔ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﺃﻗﻤﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﻨﺎ ﻧﺤﻦ، ﺛﻢ ﺩﻓﻌﻨﺎ ﺑﺪﻓﻌﻪ، ﻓﻸﻥ ﺃﻛﻮﻥ اﺳﺘﺄﺫﻧﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻛﻤﺎ اﺳﺘﺄﺫﻧﺖ ﺳﻮﺩﺓ، ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻲ ﻣﻦ ﻣﻔﺮﻭﺡ ﺑﻪ».

فقد أذن النبي ﷺ لبعض الضعفة أن يدفعوا ليلة مزدلفة قبل زحام الناس، وبقي معه بعضهم، فأما عائشة فبقيت ولم تنفر، فندمت عائشة على ذلك وقالت هذا، وكأنها قالت ذلك والعلم عند الله، لأنّها كرهت أن تغيّر شيئًا عهدت عليه النبي ﷺ أو تترك شيئًا مما فعلته مع النبي ﷺ.

 وهذا الأدب كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يكرهون أن يتركوا شيئا مما عهدوا عليه النبي ﷺ وفارقهم ثهم يعملونه، ولهذا لما رأى النبي ﷺ عبد الله بن عمرو بن العاص يواصل الصيام والقراءة، قال له: «ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ، ﺑﻠﻐﻨﻲ ﺃﻧﻚ ﺗﺼﻮﻡ اﻟﻨﻬﺎﺭ ﻭﺗﻘﻮﻡ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻼ ﺗﻔﻌﻞ، ﻓﺈﻥ ﻟﺠﺴﺪﻙ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﻭﻟﻌﻴﻨﻚ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﻭﺇﻥ ﻟﺰﻭﺟﻚ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﺻﻢ ﻭﺃﻓﻄﺮ، ﺻﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻬﺮ ﺛﻼﺙﺓ ﺃﻳﺎﻡ، ﻓﺬﻟﻚ ﺻﻮﻡ اﻟﺪﻫﺮ» ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥ ﺑﻲ ﻗﻮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺻﻢ ﺻﻮﻡ ﺩاﻭﺩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﺻﻢ ﻳﻮﻣﺎ ﻭﺃﻓﻄﺮ ﻳﻮﻣﺎ " ﻓﻜﺎﻥ عبد الله ﻳﻘﻮﻝ: «ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻨﻲ ﺃﺧﺬﺕ ﺑﺎﻟﺮﺧﺼﺔ".

فمن الأدب الإيماني ألا يترك المؤمن الطاعة إذا بدأها، وألا يتراجع عن فعل الخير إذا اعتاده.

وفي البخاري أن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ اﻟﻌﺎﺹ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﻻ ﺗﻜﻦ ﻣﺜﻞ ﻓﻼﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻡ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﺘﺮﻙ ﻗﻴﺎﻡ اﻟﻠﻴﻞ».

ولذا فينبغي للمؤمن أن يأخذ له من الأوراد والأعمال ما يطيقه ولا يشق عليه، وفي الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ: ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺳﺪﺩﻭا ﻭﻗﺎﺭﺑﻮا، ﻭاﻋﻠﻤﻮا ﺃﻥ ﻟﻦ ﻳﺪﺧﻞ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻋﻤﻠﻪ اﻟﺠﻨﺔ، ﻭﺃﻥ ﺃﺣﺐ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺩﻭﻣﻪا ﻭﺇﻥ ﻗﻞ».


مواعظ الحج: حسن الخاتمة.

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺟﻞ ﻭاﻗﻒ ﺑﻌﺮﻓﺔ، ﺇﺫ ﻭﻗﻊ ﻋﻦ ﺭاﺣﻠﺘﻪ، ﻓﻮﻗﺼﺘﻪ، ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ «اﻏﺴﻠﻮﻩ ﺑﻤﺎء ﻭﺳﺪﺭ، ﻭﻛﻔﻨﻮﻩ ﻓﻲ ﺛﻮﺑﻴﻦ، ﻭﻻ ﺗﺤﻨﻄﻮﻩ، ﻭﻻ ﺗﺨﻤﺮﻭا ﺭﺃﺳﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﻌﺚ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻣﻠﺒﻴﺎ».

لقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا هذا الحديث في باب الاستدلال على منع المحرم من الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس.

واستدل كثير من الفقهاء به على أن الإحرام لا ينقطع بالموت.

لكننا في هذه الموعظة نريد أن نقف مع هذا الحديث وقفة موعظة.

لقد مات هذا الصحابي، صحابي لا يعرف اسمع، رجل من عرض المؤمنين، ولا يعرف يعرف اسمه في شيء من الأحاديث، لكنه معروف في السماء!

لقد وقصته ناقته: والوقص ﻛﺴﺮ اﻟﻌﻨﻖ، فمات وهو محرم، فقال عنه النبي ﷺ هذه المقالة: (يبعث يوم القيامة ملبيا!)، ﺃﻱ ﻋﻠﻰ ﻫﻴﺌﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻣﺎﺕ ﻋﻠﻴﻬﺎ

وهذا المعنى دلت عليه الأدلة:

ففي صحيح مسلم عن ﺟﺎﺑﺮ، ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﻘﻮﻝ: «ﻳﺒﻌﺚ ﻛﻞ ﻋﺒﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻣﺎﺕ ﻋﻠﻴﻪ».

وفي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﻳﻜﻠﻢ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﻤﻦ ﻳﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ، ﺇﻻ ﺟﺎء ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻭﺟﺮﺣﻪ ﻳﺜﻌﺐ، اﻟﻠﻮﻥ ﻟﻮﻥ ﺩﻡ، ﻭاﻟﺮﻳﺢ ﺭﻳﺢ ﻣﺴﻚ».

فهذه موعظة عظيمة، من مات على أمر بعث عليه يوم القيامة.

     فمن أراد أن يختم له بالصالحات، فليكثر من العمل الصالح، والذكر والقرآن والصلاة ونفع الخلق، حتى إذا واتاه الموت أتاه وهو على طاعة، وهذا من توفيق الله للعبد أن يوفقه في آخر عمره للعمل الصالح ويقبض عليه، ففي المسند عن أبي ﻋﻨﺒﺔ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺇﺫا ﺃﺭاﺩ اﻟﻠﻪ ﺑﻌﺒﺪ ﺧﻴﺮا، ﻋﺴﻠﻪ»، ﻗﻴﻞ: ﻭﻣﺎ ﻋﺴﻠﻪ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻳﻔﺘﺢ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻋﻤﻼ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﺗﻪ، ﺛﻢ ﻳﻘﺒﻀﻪ ﻋﻠﻴﻪ».

ﻳﻘﺎﻝ: ﻋﺴّﻞ اﻟﻄﻌﺎﻡ يعسله: ﺇﺫا ﺟﻌﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﺴﻞ، فشبه ﻣﺎ ﺭﺯﻗﻪ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﺬﻱ ﻃﺎﺏ ﺑﻪ ﺫﻛﺮﻩ ﺑﻴﻦ ﻗﻮﻣﻪ ﺑﺎﻟﻌﺴﻞ اﻟﺬﻱ ﻳﺠﻌﻞ ﻓﻲ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻓﻴﺤﻠﻮ ﺑﻪ ﻭﻳﻄﻴﺐ.

ويقابل ذلك أهل الشقاء، ممن أدمنوا المعاصي فلعله أن يأتيه الموت وهو على المعصية ففي صحيح مسلم ﻗﺎﻝ: «اﻟﻨﺎﺋﺤﺔ ﺇﺫا ﻟﻢ ﺗﺘﺐ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﺗﻬﺎ، ﺗﻘﺎﻡ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻭﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﺮﺑﺎﻝ ﻣﻦ ﻗﻄﺮاﻥ، ﻭﺩﺭﻉ ﻣﻦ ﺟﺮﺏ».


مواعظ الحج: إحاطة الفتن بالقلوب!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد، ﷺ، أما بعد: 

ففي سياق الآيات التي خاطب الله بها المؤمنين في حال النسك: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَیَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلصَّیۡدِ تَنَالُهُۥۤ أَیۡدِیكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَخَافُهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ).

فقد دلت هذه الآية الجليلة أن الفتنة والبلاء والامتحان تعرض للعبد حتى وإن كان في حال فاضل من العبادة كالتنسك بالعمرة والحج.

فلا يزال المؤمن في دنيا الامتحان، تعرض له الفتن وتحوطه في أهله وماله، كما جاء في الصحيحين:

عن ﺣﺬﻳﻔﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﺟﻠﻮﺳﺎ ﻋﻨﺪ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻳﻜﻢ ﻳﺤﻔﻆ ﻗﻮﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ الفتنة، ﻗﻠﺖ ﺃﻧﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ: ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻚ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﺠﺮﻱء، ﻗﻠﺖ: «ﻓﺘﻨﺔ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ ﻭﻣﺎﻟﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﺟﺎﺭﻩ، ﺗﻜﻔﺮﻫﺎ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺼﻮﻡ ﻭاﻟﺼﺪﻗﺔ، ﻭاﻷﻣﺮ ﻭاﻟﻨﻬﻲ»، ﻗﺎﻝ: ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﺃﺭﻳﺪ، ﻭﻟﻜﻦ الفتنة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻮﺝ ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻮﺝ اﻟﺒﺤﺮ"

وفي مسلم: ﻗﺎﻝ ﺣﺬﻳﻔﺔ: ﻓﺄﺳﻜﺖ اﻟﻘﻮﻡ، ﻓﻘﻠﺖ: ﺃﻧﺎ، ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺖ ﻟﻠﻪ ﺃﺑﻮﻙ ﻗﺎﻝ ﺣﺬﻳﻔﺔ: ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﻘﻮﻝ: «ﺗﻌﺮﺽ اﻟﻔﺘﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻠﻮﺏ ﻛﺎﻟﺤﺼﻴﺮ ﻋﻮﺩًا ﻋﻮﺩًا، ﻓﺄﻱ ﻗﻠﺐ ﺃﺷﺮﺑﻬﺎ، ﻧﻜﺖ ﻓﻴﻪ ﻧﻜﺘﺔ ﺳﻮﺩاء، ﻭﺃﻱ ﻗﻠﺐ ﺃﻧﻜﺮﻫﺎ، ﻧﻜﺖ ﻓﻴﻪ ﻧﻜﺘﺔ ﺑﻴﻀﺎء، ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺒﻴﻦ، ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻴﺾ ﻣﺜﻞ اﻟﺼﻔﺎ ﻓﻼ ﺗﻀﺮﻩ ﻓﺘﻨﺔ ﻣﺎ ﺩاﻣﺖ اﻟﺴﻤﺎﻭاﺕ ﻭاﻷﺭﺽ، ﻭاﻵﺧﺮ ﺃﺳﻮﺩ ﻣﺮﺑﺎﺩا ﻛﺎﻟﻜﻮﺯ، ﻣﺠﺨﻴﺎ ﻻ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﻌﺮﻭﻓﺎ، ﻭﻻ ﻳﻨﻜﺮ ﻣﻨﻜﺮا، ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﺷﺮﺏ ﻣﻦ ﻫﻮاﻩ».

فانظر إلى سؤال عمر، وحرصه 

     فتأمل إحاطة الفتن بالقلب: «على القلوب كالحصير عودا عودا»:

أرأيت نسج الحصير كيف يكون! 

تحيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، هكذا تحيط الفتن بالقلب بأنواعها (فتن الدنيا، فتنة المدائح، فتنة التضليل، فتنة الأهل والمال والولد، فتنة الأصحاب، وفتن كثيرة لا يزال المؤمن معها في صراع ومجاهدة، ولذلك إذا تبصر المؤمن في هذا الشأن كان أكثر استعداداً وحذراً وتحرزاً، وسيُعدّ للفتنة تجفافاً لأنه يعلم أنه ليس في سبيل سلامةٍ منها!

وقد ثبت في صحيح مسلم في وصفه ﷺ للفتن: "ومنها كرياح الصيف منها صغارٌ ومنها كبار".

أخي المبارك، أختي المباركة، إنَّ الغفلة عن الفتنة وعدم التنبه لأسباب المعاصي قد تكون سببا للقوع في الفتنة، قال ﷻ: {وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا}.

ثم قال بعدُ- : "إن بينك وبينها باباً مغلقاً".

فهذا عمر يخشى الفتنة ويحاذرها ويتطلب علمها ويستعلم صفاتها، فمن يأمن الفتنة لعد عمر؟!وقد دل الدليل أن قبول الفتنة يظلم القلب، قال النبي ﷺ عن أثر الفتن وعاقبة قبول القلب للفتنة: "وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء"رواه مسلم.

وليس من الذين في قلوبهم مرض ومع ذلك تعرض له الفتنة! لكن يختلف صاحب الزيغ ومن في قلبه مرض أنها تسرع إليه الفتنة ولديه قابلية وتشرّب لهذه الفتنةمن كان في قلبه زيغٌ ومرض أسرعت إليه الفتنة أكثر من غيره كما  قال تعالى (يانساء النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)

أي ؛ الذي عنده الإستعداد لأن تخمشه الفتنة بخمشاتها!

هذا في الشهوات.

وأيضاً نفس الأمر في الشبهات:

قال تعالى: ( ليجعل مايلقي الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم)

مواعظ الحج: ذكريات البلاء والانتصار!

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فلقد كان في حجّ النبي ﷺ من المواعظ الإيمانية ما تخشع له نفوس المؤمنين، وتزكوا به أفئدتهم.

     وقد ثبت في وصف جابر لحج النبي ﷺ الذي يسميه أهل العلم: منسك جابر، أنه ﷺ صعد الصفا ﺣﺘﻰ ﺭﺃﻯ اﻟﺒﻴﺖ ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻞ اﻟﻘﺒﻠﺔ، ﻓﻮﺣّﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻛﺒﺮﻩ، وﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ ﻻ ﺷﺮﻳﻚ ﻟﻪ ﻟﻪ اﻟﻤﻠﻚ ﻭﻟﻪ اﻟﺤﻤﺪ ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻗﺪﻳﺮ، ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﺃﻧﺠﺰ ﻭﻋﺪﻩ، ﻭﻧﺼﺮ ﻋﺒﺪﻩ، ﻭﻫﺰﻡ اﻷﺣﺰاﺏ ﻭﺣﺪﻩ» ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﺛﻼﺙ ﻣﺮاﺕ.

     اليوم بعد عذابات السنين، بعد الهجرة وترك الوطن، بعد مفارقة الأهل ومرابع الطفولة، ومعاهد الصبا، بعد الخوف والتشريد، يعود ﷺ إلى مكة، فيثني على ﷲ ﷻ ويقول: أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده!

     لقد صعد ﷺ على الصفا ورقى عليه وألقى ببصره إلى الكعبة، حيث كان يؤذى ﷺ هو وصحابته.

     هناك هناك عند الكعبة كان يلقى السلا على ظهر النبي ﷺ وهو ساجد، كما في الصحيحين ﻋﻦ اﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﺼﻠﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺃﺑﻮ ﺟﻬﻞ ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﻟﻪ ﺟﻠﻮﺱ، ﻭﻗﺪ ﻧﺤﺮﺕ ﺟﺰﻭﺭ ﺑﺎﻷﻣﺲ، ﻓﻘﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺟﻬﻞ: ﺃﻳﻜﻢ ﻳﻘﻮﻡ ﺇﻟﻰ ﺳﻼ ﺟﺰﻭﺭ ﺑﻨﻲ ﻓﻼﻥ، ﻓﻴﺄﺧﺬﻩ ﻓﻴﻀﻌﻪ ﻓﻲ ﻛﺘﻔﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺇﺫا ﺳﺠﺪ؟ فاﻧﺒﻌﺚ ﺃﺷﻘﻰ اﻟﻘﻮﻡ ﻓﺄﺧﺬﻩ، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﺠﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻭﺿﻌﻪ ﺑﻴﻦ ﻛﺘﻔﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﺳﺘﻀﺤﻜﻮا، ﻭﺟﻌﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﻤﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ ﻭﺃﻧﺎ ﻗﺎﺋﻢ ﺃﻧﻈﺮ، ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻲ ﻣﻨﻌﺔ ﻃﺮﺣﺘﻪ ﻋﻦ ﻇﻬﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻭاﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺳﺎﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺮﻓﻊ ﺭﺃﺳﻪ ﺣﺘﻰ اﻧﻄﻠﻖ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻓﺄﺧﺒﺮ ﻓﺎﻃﻤﺔ، ﻓﺠﺎءﺕ ﻭﻫﻲ ﺟﻮﻳﺮﻳﺔ، ﻓﻄﺮﺣﺘﻪ ﻋﻨﻪ، ﺛﻢ ﺃﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺗﺸﺘﻤﻬﻢ“.

     ها هو اليوم بأبي هو وأمي، يردد كلمات النصر، ويثني على ربه ويمدحه بمنته بانتصار جند الحق على جند الباطل: (وهزم الأحزاب وحده).

     أين أبو ﺟﻬﻞ ﺑﻦ ﻫﺸﺎﻡ، أين ﻋﺘﺒﺔ ﺑﻦ ﺭﺑﻴﻌﺔ، أين ﺷﻴﺒﺔ ﺑﻦ ﺭﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﻘﺒﺔ، ﻭﺃﻣﻴﺔ ﺑﻦ ﺧﻠﻒ، ﻭﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ معيط؟ أين كلّ أولئك الذين عارضوا دين ﷲ وحادوا شرعه؟

لقد أفلوا، وبقي دين ﷲ وبقيت شريعته.

     أيها المبتئسون من أحزان الطريق!

     أيّها المكروبون!

     يا من طال عليهم سبيل البلاء، لا تيأسوا، فإن نصر ﷲ آت، ودينه عزيز، وسنة نبيه ﷺ باقية.


مواعظ الحج: من فقه بناء الكعبة!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

ففي خبر بناء البيت في البخاري عن ابن عباس: (ﻛﺎﻥ اﻟﺒﻴﺖ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ ﻣﻦ اﻷﺭﺽ ﻛﺎﻟﺮاﺑﻴﺔ، ﺗﺄﺗﻴﻪ اﻟﺴﻴﻮﻝ، ﻓﺘﺄﺧﺬ ﻋﻦ ﻳﻤﻴﻨﻪ ﻭﺷﻤﺎﻟﻪ.

ﺛﻢ إنه لما كبر إسماعيل ﻗﺎﻝ له: ﻳﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺑﺄﻣﺮ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﺻﻨﻊ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻙ ﺭﺑﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻭﺗﻌﻴﻨﻨﻲ؟ ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﻋﻴﻨﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺑﻨﻲ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺘﺎ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻛﻤﺔ ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻨﺪ ﺫﻟﻚ ﺭﻓﻌﺎ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ، ﻓﺠﻌﻞ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻳﺒﻨﻲ، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا اﺭﺗﻔﻊ اﻟﺒﻨﺎء، ﺟﺎء ﺑﻬﺬا اﻟﺤﺠﺮ ﻓﻮﺿﻌﻪ ﻟﻪ ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻨﻲ ﻭﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﻨﺎﻭﻟﻪ اﻟﺤﺠﺎﺭﺓ، ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}، ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻌﻼ ﻳﺒﻨﻴﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻳﺪﻭﺭا ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}.

     فتأمَّل هذا الدعاء الرقيق، من هذين الرجلين الصالحين، أمرهما ﷲ ﷻ ببناء الكعبة واصطفاهما لهذا العمل الصالح، ومع ذلك كانا متذللين له تعالى، متخشعين لجلاله، يدعوان ربهما أن يتقبل منهما، وهكذا أهل التقوى يعملون العمل الصالح؛ ثم يخافون ألا يتقبل منهم، كما ثبت في الترمذي عن عائشة في قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة).

• ثم إنَّ الكعبة احترقت فأرادت قريش أن تبنيها، كما روى اﺑﻦ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﻓﻲ اﻟﺴﻴﺮﺓ أن قريشا قالت: «ﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﺴﺒﻜﻢ ﺇﻻ اﻟﻄﻴﺐ ﻭﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻬﺮ ﺑﻐﻲ ﻭﻻ ﺑﻴﻊ ﺭﺑﺎ ﻭﻻ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ».

      وفي الصحيحين: فعن ﻋﺎﺋﺸﺔ رضي الله عنه، ﺯﻭﺝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ : ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ: «ﺃﻟﻢ ﺗﺮﻱ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻟﻤﺎ ﺑﻨﻮا اﻟﻜﻌﺒﺔ اﻗﺘﺼﺮﻭا ﻋﻦ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟»، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻻ ﺗﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮﻻ ﺣﺪﺛﺎﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺑﺎﻟﻜﻔﺮ ﻟﻔﻌﻠﺖ».

 وفي لفظ ﻗﺎﻟﺖ: ﺳﺄﻟﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﺠﺪﺭ ﺃﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻫﻮ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻧﻌﻢ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﻟﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻩ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ؟ ﻗﺎﻝ: «ﺇﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻗﺼﺮﺕ ﺑﻬﻢ اﻟﻨﻔﻘﺔ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﺷﺄﻥ ﺑﺎﺑﻪ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻓﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﻗﻮﻣﻚ، ﻟﻴﺪﺧﻠﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا ﻭﻳﻤﻨﻌﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا، ﻭﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻬﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ، ﻓﺄﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺗﻨﻜﺮ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ، ﺃﻥ ﺃﺩﺧﻞ اﻟﺠﺪﺭ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺃﻥ ﺃﻟﺼﻖ ﺑﺎﺑﻪ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﻷﺩﺧﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ.

"وﻷﻧﻔﻘﺖ ﻛﻨﺰ اﻟﻜﻌﺒﺔ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ..".

ﻭفي لفظ قال ﷺ: ﻳﺎ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺜﻮ ﻋﻬﺪ ﺑﺸﺮﻙ، ﻟﻬﺪﻣﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ، ﻓﺄﻟﺰﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺑﻴﻦ: ﺑﺎﺑﺎ ﺷﺮﻗﻴﺎ، ﻭﺑﺎﺑﺎ ﻏﺮﺑﻴﺎ، ﻭﺯﺩﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﺔ ﺃﺫﺭﻉ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ، ﻓﺈﻥ ﻗﺮﻳﺸﺎ اﻗﺘﺼﺮﺗﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﺑﻨﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ ".

ثم إن عبد الله بن الزبير قال: ﺇﻧﻲ ﻣﺴﺘﺨﻴﺮ ﺭﺑﻲ ﺛﻼﺛﺎ، ﺛﻢ ﻋﺎﺯﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻱ، ﻓﻠﻤﺎ ﻣﻀﻰ اﻟﺜﻼﺙ ﺃﺟﻤﻊ ﺭﺃﻳﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻀﻬﺎ.

• فقد ترك النبي ﷺ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لمصلحة تأليف قلوب قريش، وهذه قاعدة شرعية مرعية، ينبغي أن يرقبها أهل الدعوة والإصلاح والتربية، وهو أن هناك من الحق ما قد يترك إذا كان هناك مصلحة أعظم منه يراد تحصليها، أو أن هناك مفسدة أعظم من تلك المصلحة يراد درؤها.

• وتأمل كيف أن قريشا على كفرها كانت تعظم البيت، حتى أخذت ألا تجعل في بنائها شيئا من المال المحرم، وفي ذلك موعظة لكل مؤمن ومؤمنة أن يعظّموا البيت الحرام والشعائر والمناسك، (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).

مواعظ الحج: إن الله لا يضيع أهله!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

ففي الماضي السحيق، كانت مكة وادٍ لا زرع فيه ولا ماء، كانت واديا ينعق فيه الموت! وتصيح فيه الوحشة، لا يسمع فيه إلا عزيف الجن، ودوي القفر.

فجاء إبراهيم ﷺ بأمر  ﷲ ليبني فيه بيته!

فروى البخاري عن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ قال: ﺃﻭﻝ ﻣﺎ اﺗﺨﺬ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻤﻨﻄﻖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، اﺗﺨﺬﺕ ﻣﻨﻄﻘﺎ ﻟﺘﻌﻔﻲ ﺃﺛﺮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﺎﺭﺓ، [اﻟﻤﻨﻄﻖ: ما تلبسه اﻟﻤﺮﺃﺓ وسطها فوق ﺛﻮﺑﻬﺎ وتشده ثم ترسل منه ﻋﻠﻰ اﻷﺳﻔﻞ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻧﺎﺓ اﻷﺷﻐﺎﻝ؛ ﻟﺌﻼ ﺗﻌﺜﺮ ﻓﻲ ﺫﻳﻠﻬﺎ، ﻭﺑﻪ ﺳﻤﻴﺖ ﺃﺳﻤﺎء ﺑﻨﺖ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺫاﺕ اﻟﻨﻄﺎﻗﻴﻦ]

قال ابن عباس: ﺛﻢ ﺟﺎء ﺑﻬﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻭﺑﺎﺑﻨﻬﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﻫﻲ ﺗﺮﺿﻌﻪ، ﺣﺘﻰ ﻭﺿﻌﻬﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺖ ﻋﻨﺪ ﺩﻭﺣﺔ ﻓﻮﻕ ﺯﻣﺰﻡ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻤﻜﺔ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺃﺣﺪ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻬﺎ ﻣﺎء، ﻓﻮﺿﻌﻬﻤﺎ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻭﻭﺿﻊ ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﺟﺮاﺑًﺎ (وهو الوعاء من الجلد) ﻓﻴﻪ ﺗﻤﺮ، ﻭﺳﻘﺎء ﻓﻴﻪ ﻣﺎء، ﺛﻢ ﻗﻔﻰ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻣﻨﻄﻠﻘًﺎ، ﻓﺘﺒﻌﺘﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﺃﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ ﻭﺗﺘﺮﻛﻨﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﻮاﺩﻱ، اﻟﺬﻱ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺇﻧﺲ ﻭﻻ ﺷﻲء؟

ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ﻣﺮاﺭا، ﻭﺟﻌﻞ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻬﺎ

ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ: ﺁﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﻣﺮﻙ ﺑﻬﺬا؟

ﻗﺎﻝ ﻧﻌﻢ!

ﻗﺎﻟﺖ: ﺇﺫﻥ ﻻ يضيعنا! ﺭﺿﻴﺖ ﺑﺎﻟﻠﻪ!

ﺛﻢ ﺭﺟﻌﺖ!

ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﺜﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺮﻭﻧﻪ، اﺳﺘﻘﺒﻞ ﺑﻮﺟﻬﻪ اﻟﺒﻴﺖ، ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﺑﻬﺆﻻء اﻟﻜﻠﻤﺎﺕ، ﻭﺭﻓﻊ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﻘﺎﻝ: (رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ).

ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺗﺮﺿﻊ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﺗﺸﺮﺏ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺎء، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻧﻔﺪ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﻘﺎء ﻋﻄﺸﺖ ﻭﻋﻄﺶ اﺑﻨﻬﺎ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻳﺘﻠﻮﻯ، وﻳﺘﻠﺒﻂ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻘﺖ ﻛﺮاﻫﻴﺔ ﺃﻥ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻮﺟﺪﺕ اﻟﺼﻔﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺟﺒﻞ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻳﻠﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ اﺳﺘﻘﺒﻠﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺗﻨﻈﺮ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪًا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪًا، ﻓﻬﺒﻄﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﺑﻠﻐﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺭﻓﻌﺖ ﻃﺮﻑ ﺩﺭﻋﻬﺎ (لباس تلبسه المرأة شبيه بالقميص القصير) ﺛﻢ ﺳﻌﺖ ﺳﻌﻲ اﻹﻧﺴﺎﻥ اﻟﻤﺠﻬﻮﺩ ﺣﺘﻰ ﺟﺎﻭﺯﺕ اﻟﻮاﺩﻱ، ﺛﻢ ﺃﺗﺖ اﻟﻤﺮﻭﺓ ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻧﻈﺮﺕ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪا -

ﻓﻔﻌﻠﺖ ﺫﻟﻚ ﺳﺒﻊ ﻣﺮاﺕ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﻓﺬﻟﻚ ﺳﻌﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ».

فلما صعدت الصفا تقول: ﻟﻮ ﺫﻫﺒﺖ ﻓﻨﻈﺮﺕ ﻣﺎ ﻓﻌﻞ، ﻓﺬﻫﺒﺖ ﻓﻨﻈﺮﺕ ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻟﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﺸﻎ ﻟﻠﻤﻮﺕ، [اﻟﻨﺸﻎ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻬﻴﻖ]، ﻓﻠﻢ ﺗﻘﺮﻫﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ.
ثم إنها لما ﺃﺷﺮﻓﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺮﻭﺓ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮﺗﺎ، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺻﻪ - ﺗﺮﻳﺪ ﻧﻔﺴﻬﺎ -، ﺛﻢ ﺗﺴﻤﻌﺖ، ﻓﺴﻤﻌﺖ ﺃﻳﻀﺎ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻗﺪ ﺃﺳﻤﻌﺖ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻙ ﻏﻮاﺙ، ﻓﺈﺫا ﻫﻲ ﺑﺎﻟﻤﻠﻚ ﻋﻨﺪ ﻣﻮﺿﻊ ﺯﻣﺰﻡ، ﻓﺒﺤﺚ ﺑﻌﻘﺒﻪ، ﺃﻭ ﺑﺠﻨﺎﺣﻪ، ﺣﺘﻰ ﻇﻬﺮ اﻟﻤﺎء، ﻓﺪﻫﺸﺖ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻓﺠﻌﻠﺖ ﺗﺤﻔﺰ، ﺗﺤﻮّﺿﻪ [ ﺃﻱ ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻪ ﺣﻮﺿﺎ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﻤﺎء]، ﻭﺗﻘﻮﻝ ﺑﻴﺪﻫﺎ ﻫﻜﺬا، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء ﻓﻲ ﺳﻘﺎﺋﻬﺎ ﻭﻫﻮ ﻳﻔﻮﺭ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺗﻐﺮﻑ.
ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ "ﻳﺮﺣﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻟﻮ ﺗﺮﻛﺖ ﺯﻣﺰﻡ - ﺃﻭ ﻗﺎﻝ: ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء -، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺯﻣﺰﻡ ﻋﻴﻨﺎ ﻣﻌﻴﻨﺎ" ﻗﺎﻝ: ﻓﺸﺮﺑﺖ ﻭﺃﺭﺿﻌﺖ ﻭﻟﺪﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ اﻟﻤﻠﻚ: ﻻ ﺗﺨﺎﻓﻮا اﻟﻀﻴﻌﺔ، ﻓﺈﻥ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺖ اﻟﻠﻪ، ﻳﺒﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﻐﻼﻡ ﻭﺃﺑﻮﻩ، ﻭﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻀﻴﻊ ﺃﻫﻠﻪ.

     تخايل ﻫﺎﺟﺮ، ﻭﻫﻲ تنظر إلى اﻟﻤﺎء القليل في القربة، بم كانت تفكر وهي تنظر إليه ينقص شيئا فشيئا وهي تحضن طفلها اﻟﺮﺿﻴﻊ، وتلفحها لهيب صحراء ذلك الوادي ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ، تخايلها وﻫﻲ ﺗﻬﺮﻭﻝ ﺑﻴﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﻭاﻟﻤﺮﻭﺓ ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻜﻬﺎ اﻟﻌﻄﺶ، ﻭﻫﺪﻫﺎ اﻟﺠﻬﺪ، ﻭﺃﺿﻨﺎﻫﺎ اﻹﺷﻔﺎﻕ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﻔﻞ الرضيع!

     وهي تجول مرة بعد أخرى، ﺛﻢ ﺗﺮﺟﻊ ﻓﻲ اﻟﺠﻮﻟﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻭﻗﺪ ﺣﻄﻤﻬﺎ اﻟﻴﺄﺱ، وأحاطت بها الكآبة ﻟﺘﺠﺪ الماء!

لتجد اﻟﻨﺒﻊ يبضّ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﺮﺿﻴﻊ اﻟﻮﺿﻲء!

ﻭﺇﺫا ﻫﻲ ﺯﻣﺰﻡ!

تنبع في هذه الصحراء اللاهبة!

ها هو ﻳﻨﺒﻮﻉ اﻟﺮﺣﻤﺔ ﻓﻲ ﺻﺤﺮاء اﻟﻴﺄﺱ ﻭاﻟﺠﺪﺏ!

     فانظر إلى أثر التسليم لله في أمره، والرضا عن شرعه.

     انظر إلى هاجر لما سلّمت بأمر الله، وقالت: آلله أمرك بهذا؟ فلما قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا!

     لقد تقبلها ﷲ وخلّد اسمها، وأبقى ذكرها، وجعل في ذريتها أعظم نبي ﷺ، بل بارك في مسعاها وخطواتها حتى جعل عفو خطوها الذي سعته بين الصفا والمروة منسكًا للناس يتنسكون به إلى يوم الدين.

وجعل لها ماء مباركًا فيه طعام طعم وبركة، تشتاق نفوس المؤمنين في مشرق الأرض ومغربها منه غرفة.

     يا أيها الموفقون: سلموا لله أمره، واستجيبوا لشرعه، وأبشروا بالبركة والخير وطيب العيش والرضا في الدنيا والآخرة.

     كونوا من أهل الطاعة والسنة والقرآن، فإن الله لا يضيع أهله!

     فمن أخذ بطاعة ﷲ واستمسك بشرعه أكرمه ﷲ بكرامته.

     وكيف يضيع ﷲ من أطاعه وأتبع أمره، والله شكور، يشكر عبده على طاعته، ويمن عليه.

     ثم هنا موعظة للمرأة الصالحة:

كوني عونا لزوجك على طاعة الله، كوني عضيدة له في دعوته وإصلاحه، إذا ضاق بك أمر، أو شق عليك شيء، فانظري موقعه من طاعة ﷲ فإن كان في طاعة، فضحّي وجاهدي نفسك، وأبشري، فإن ﷲ لا يضيع أهله.

     لقد أكرم ﷲ أم إسماعيل بكرامة عظيمة حين سلّمت وأيقنت وقالت مقالتها العظيمة لإبراهيم عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ إذن لا يضيعنا الله.
     لكن انظر أخي الموفق إلى قوله ﷺ: «ﻳﺮﺣﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻟﻮ ﺗﺮﻛﺖ ﺯﻣﺰﻡ، ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺯﻣﺰﻡ ﻋﻴﻨﺎ ﻣﻌﻴﻨﺎ»: 
فقد ﻛﺎﻥ ﻇﻬﻮﺭ ﺯﻣﺰﻡ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻦ ﷲ ﻣﺤﻀﺔ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻤﻞ ﻋﺎﻣﻞ!
فلماذا يا هاجر تحوضين الماء؟
ألم يكرمك ربك فأرسل ملكا من السماء لينبط لك الماء؟
ألم تري فيه آية عظيمة جزاء تسليمك؟
لاجرم، ها أنت حين ﺧﺎﻟﻄﻬﺎ تلك الكرامة ﺗﺤﻮيطك وﺩاﺧﻠﻬﺎ ﻛﺴﺐ اﻟﺒﺸﺮ؛ ستوكلين إلى الجهد البشري، وسينقص من بركته بقدر ما وثق الإنسان بكسبه.
كم من بركة وخير ونور فاتنا بسبب ركوننا على أنفسنا وطاقتنا وذكائنا!
    أيها الدعاة والمصلحون والمربون: إن التوكل على ﷲ والتفويض له باب النصر والغلبة، وبحسب توكل المؤمن يكون له من التأييد والفتح، ولهذا ثبت في البخاري قال ﷺ: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).
وفي المسند: أن سعدا، ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻜﻮﻥ ﺣﺎﻣﻴﺔ اﻟﻘﻮﻡ، ﺃﻳﻜﻮﻥ ﺳﻬﻤﻪ ﻭﺳﻬﻢ ﻏﻴﺮﻩ ﺳﻮاء؟ ﻗﺎﻝ: «ﺛﻜﻠﺘﻚ ﺃﻣﻚ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺃﻡ ﺳﻌﺪ، ﻭﻫﻞ ﺗﺮﺯﻗﻮﻥ ﻭﺗﻨﺼﺮﻭﻥ ﺇﻻ ﺑﻀﻌﻔﺎﺋﻜﻢ».
وفي النسائي: «ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﺼﺮ اﻟﻠﻪ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﺑﻀﻌﻴﻔﻬﺎ، ﺑﺪﻋﻮﺗﻬﻢ ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻭﺇﺧﻼﺻﻬﻢ».
والله أعلم.

الأربعاء، 12 مايو 2021

التكبير لعيد الفطر.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فالتكبير لعيد الفطر مستحب عن الجمهور، لقوله: (وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).

- وهو آكد من تكبير الأضحى، نقل عبد الله بن أحمد عن أبيه في مسائله ﻗﺎﻝ: "ﻳﻮﻡ اﻟﻔﻄﺮ أﺷﺪّ، ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ {ﻭﻟﺘﻜﻤﻠﻮا اﻟﻌﺪﺓ ﻭﻟﺘﻜﺒﺮﻭا اﻟﻠﻪ}، ولذا بلغ أن أوجبه أهل الظاهر.

- وكان النبي ﷺ يأمر به حتى أمر به العواتق والنساء، ففي الصحيحين: قالت أم عطية: "كنّا نؤمر بالخروجِ في العيدين، قالت: الحُيَّض يخرجن فيَكُنّ خلف الناس، يكبرن مع الناس".

وهو مأثور عن الصحابة، فقد روى الدارقطني عن ابن عمر أنه كان يخرج للمصلى فيجهر بالتكبير حتى يخرج الإمام.

ونقله أحمد عن أبي قتادة رضي الله عنه، وكان رحمه ﷲ يفعله عند غدوّه للمسجد.

- ويبدأ من رؤية هلال شوال، عند كثير من السلف، كابن عباس وزيد بن أسلم.

ودلّت الآية على أن التكبير عقب إكمال العدة، وهي عدة الصوم، نصّ عليه أئمة كالشافعي.

- وينقضي بخروج الإمام لصلاة العيد.

- ويجهر بالتكبير عند أكثر أهل العلم، ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ: "ﻭﺃﺣﺐ ﺇﻇﻬﺎﺭ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻭﻓﺮاﺩﻯ"، وروى في الأم عن اﺑﻦ اﻟﻤﺴﻴﺐ ﻭﻋﺮﻭﺓ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ ﻭﺃبي ﺳﻠﻤﺔ ﻭﺃبي ﺑﻜﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ الجهر بالتكبير ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻔﻄﺮ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ.

ﻭاﺳﺘﺤﺐ الجهر ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻹﺳﻼﻡ، ﻭﺗﺬﻛﻴﺮ غيره من المؤمنين.

- ويكبر على نحو ما نقله ابن المنذر عن (عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، أنهما كانا يكبران من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة من آخر أيام التشريق، يقولان: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد"، وقال بهذه الصيغة كثير من السلف، كما جاء عن النخعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.

- وبأي صيغة كبّر المكبّر صح، فإن الأمر جاء في الآية مطلقًا، وقد تعددت صيغ تكبير الصحابة فدلّ على التوسعة، قال أبو داود في مسائله لأحمد: "سمعت أحمد سئل: كيف التكبير يوم الفطر؟ قال: الله أكبر، الله أكبر، قيل لأحمد: ابن المبارك يقول في الفطر، يعني مع التكبير: الحمد لله على ما هدانا، قال: هذا واسع".

وقال ابن تيمية: "صفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة، قد روي مرفوعًا إلى النبي ﷺ: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وإن قال: الله أكبر ثلاثًا جاز. ومن الفقهاء من يكبر ثلاثًا فقط".

- ولا يكبرون جماعة، ولا يكبر واحد منهم والبقية يستمعون، قال الحطاب: "ﺑﺨﻼﻑ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎﺱ اﻟﻴﻮﻡ، ﻓﻜﺄﻥ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺇﻧﻤﺎ ﺷﺮﻉ ﻓﻲ ﺣﻖ اﻟﻤﺆﺫﻥ، ﻓﺘﺠﺪ اﻟﻤﺆﺫﻧﻴﻦ ﻳﺮﻓﻌﻮﻥ ﺃﺻﻮاﺗﻬﻢ باﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪﻡ، ﻭﺃﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺴﺘﻤﻌﻮﻥ ﻟﻬﻢ، ﻭﻻ ﻳﻜﺒﺮﻭﻥ ﻭﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻟﻴﻬﻢ، ﻛﺄﻥ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺇﻧﻤﺎ ﺷﺮﻉ ﻟﻬﻢ، ﻭﻫﺬﻩ ﺑﺪﻋﺔ ﻣﺤﺪﺛﺔ، ﺛﻢ ﺇﻧﻬﻢ ﻳﻤﺸﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺕ ﻭاﺣﺪ ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺪﻋﺔ؛ ﻷﻥ اﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺃﻥ ﻳﻜﺒّﺮ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻭﻻ ﻳﻤﺸﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺕ ﻏﻴﺮﻩ"، ونص على بدعية هذا غيره كالعدوي في حاشيته، والشاطبي في الاعتصام.

والعلم عند ﷲ.

الثلاثاء، 4 مايو 2021

ليلة الجهني

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فمن ليالي الوتر التي ترجى فيها ليلة القدر، وكان يخصها جمع من السلف بمزيد عناية ليلة ثلاث وعشرين.

- فهي إحدى الليالي التي قامها النبي ﷺ بصحابته وأطال القيام، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الترمذي وأبي داود. 

- وكان ينزلها عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من باديته، كما في الموطأ، والمسند، وأبي داود.

- وكانت عائشة رضي الله عنها توقظ شباب التابعين في هذه الليلة، رواه عبد الرزاق.

- وكان بلال رضي الله عنها يراها ليلة ثلاث وعشرين، رواه ابن أبي شيبة.

- وفي مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة: أن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ رضي الله عنهما كان ﻳﻨﻀﺢ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻪ اﻟﻤﺎء ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ.

- وكان قد رأى ابن عباس رضي الله عنهما فيها رؤيا، رواه أحمد.

- وفي مصنف عبد الرزاق أن ﺃﻳﻮﺏ السختياني رحمه الله كان ﻳﻐﺘﺴﻞ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ، ﻭﻳﻤﺲ ﻃﻴﺒًﺎ.

ولا تنس أن أيوب السختياني رحمه ﷲ هو راوي حديث اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻗﺎﻝ: «اﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻣﻦ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، ﻓﻲ ﺗﺎﺳﻌﺔ ﺗﺒﻘﻰ، ﻓﻲ ﺳﺎﺑﻌﺔ ﺗﺒﻘﻰ، ﻓﻲ ﺧﺎﻣﺴﺔ ﺗﺒﻘﻰ»، عند البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهو راوي حديث اﺑﻦ ﻋﻤﺮ رضي الله عنهما أن رجلًا جاء ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺇﻧﻲ ﺭﺃﻳﺖ ﻓﻲ اﻟﻨﻮﻡ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﺃﺭﻯ ﺭﺅﻳﺎﻛﻢ ﻗﺪ ﺗﻮاﻃﺄﺕ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ، ﻓﻤﻦ ﻛﺎﻥ ﻣﺘﺤﺮﻳﻬﺎ ﻣﻨﻜﻢ، ﻓﻠﻴﺘﺤﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ»، رواه عن نافع عن ابن عمر، عند عبد الرزاق.

وهو راوي حديث ليلة الجهني رضي الله عنه، وأن النبي ﷺ سارّه بها، فلا ﻳﺪﺭﻱ ﺃﺣﺪ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻩ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺎﺱ: اﻧﻈﺮﻭا اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻡ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻬﻨﻲ ﻓﻜﺎﻥ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﻧﺰﻝ ﺑﺄﻫﻠﻪ، ﻭﻗﺎﻡ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ»، وهو عند عبد الرزاق وفيه جهالة.

- وكان يتحراها من الصحابة كذلك علي وابن مسعود ومعاوية، رضي الله عنهم.

- وكان الحسن البصري رحمه ﷲ يراها هذه الليلة بعلاماتها، عبد الرزاق.

- وكان مكحول رحمه ﷲ يراها ليلة ثلاث وعشرين، رواه عبد الرزاق.

- وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يخص ليلة ثلاث وعشرين وسبع وعشرين فلا يحيي ليلة كإحيائهما، ذكره المروزي في قيام الليل.

- وكان بعض علماء وعباد المدينة يخص هذه الليلة بمزيد: فكان عمر بن الحسين لا يصلي التراويح مع الناس ثم يصلي معهم هذه الليلة، ذكره المروزي.

وكان ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻳﺠﺘﻬﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ، رواه البيهقي.

والعلم عند الله.

الأحد، 2 مايو 2021

ليلة القدر، بعض أحكامها.


             ليلة القدر -تعيينها، وبعض أحكامها-

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:


• فالذي يدل عليه اختلاف تعيين الأحاديث النبوية لليلة القدر في عهده ﷺ؛ أن ليلة القدر ليست معينة في ليلة لا تتحول كل رمضان، بل هي ليلة متنقلة تكون سنة في ليلة، وسنة أخرى في ليلة، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «رأيت أني ﺃﺳﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺎء ﻭﻃﻴﻦ»، ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ: ﻣﻄﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ، ﻓﻮﻛﻒ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺼﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻨﻈﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻗﺪ اﻧﺼﺮﻑ ﻣﻦ ﺻﻼﺓ اﻟﺼﺒﺢ، ﻭﻭﺟﻬﻪ ﻣﺒﺘﻞ ﻃﻴﻨﺎ ﻭﻣﺎء".

وفي مسلم أنه ﷺ أري علامتها ليلة ثلاث وعشرين.

وفي مسلم أنه ﷺ ذكر أنها ليلة سبع وعشرين، فدل اختلاف هذه الوقائع على أنها تتحول كل ليلة.

 وهذا قول بعض التابعين كأبي قلابة، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وهو قول المزني من أصحاب الشافعي، واختاره ابن خزيمة وقول كثير من فقهاء الأمصار، كابن هبيرة والنووي وابن قدامة والعراقي وابن حجر، وقال المرداوي: ﻭﻫﻮ اﻟﺼﻮاﺏ اﻟﺬﻱ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ.

- فإن قيل: فكيف يلتئم ذلك، وقد دلت الآيات على أن القرآن نزل في ليلة القدر، فهذه فضيلة لليلة ثابتة، فكيف تتحول؟

فيقال: إن نزول القرآن كان في ليلة القدر تلك السنة، وليس في ذلك إحالة أن تتغير في سنة أخرى، فإن فضيلة ليلة القدر ليس بسبب نزول القرآن فيها فقط، ولكن لما لها من فضل نزل القرآن فيها، وليس أنه نزل فيها فاكتسبت الفضيلة.

• ولا يصح أن من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة، معتدلة، لا حر ولا برد.

• ولا يصح أن من علاماتها أنها لا تنبح فيها الكلاب.

• ولا يصحّ أن من علاماتها أنه لا يرمى فيها بشهاب.

• وأصحّ ما جاء في علاماتها حديث زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب: أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها، رواه مسلم.

ورواه بعضهم فلم يذكر هذه العلامة، كما في مسلم عن شعبة عن عبدة عن زر عن أبي.

ولكن قد ثبت في مسلم عن أبي هريرة ﺗﺬاﻛﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ القدر ﻋﻨﺪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﻳﻜﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﺣﻴﻦ ﻃﻠﻊ اﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻫﻮ ﻣﺜﻞ ﺷﻖ ﺟﻔﻨﺔ؟».

وقد جاء ذكر هذه العلامة عند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا عليه. 

ولا يزال أهل العلم من المفسرين وشرّاح الآثار والفقهاء يذكرون هذه العلامة في مصنفاتهم، ولا يستنكرونها، وينوّهون بها لا يدفعون في صدرها، ورواها إمام الصناعة الإمام مسلم، بل صدّر بها قبل الرواية التي لم تذكرها، وهو ينبي عن تأكيده عليها، فكل ذلك مما يجبّن عن القول بضعفها.

فهذا من جهة الرواية، وقد بقي سؤال من جهة الدراية:

فهل هذه العلامة علامة دائمة راتبة لليلة القدر، أم أنها خاصة بليلة سبع وعشرين تلك السنة التي أخبرهم بها النبي ﷺ؟

قولان لأهل العلم.

ولما لم ينقل الصحابي لفظ النبي ﷺ في روايته الحديث، فيتعذّر على المتفقه معرفة دلائل اللفظ وعمومه ومفهومه.

• ويظهر أنَّ سائر الأعمال فيها خير من عمل ألف شهر، وهو مقتضى إطلاق النصوص، وروى الطبري ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻫﺪ في قوله ﷻ: (ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ) ﻗﺎﻝ: ﻋﻤﻠﻬﺎ ﻭﺻﻴﺎﻣﻬﺎ ﻭﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ.

- ونصّ على أن ذلك الفضل لسائر الأعمال كثير من العلماء كابن بطال والعز بن عبد السلام والقرافي.

- وأرجى الأعمال فيها التهجد وقراءة القرآن والدعاء.

وذهب بعض كبار الأمة كالثوري إلى أن الدعاء خير الأعمال فيها، وقد جاء في دعاء ليلة القدر ما روى عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال ﷺ: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

وهذا حديث رواه الخمسة، غير أبي داود، وصححه الترمذي، وأعله آخرون، لأن عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة، ولكن لفظ الدعاء تلوح عليه أنوار الحكمة، وحري أن يكون خارجًا من مشكاة الوحي.

• وفي هذا الدعاء من الأدب الإيماني:

- أن المؤمن ينبغي أن يدعو ربه دعاء ثناء، قبل دعاء المسألة، فقد أثنى ﷺ على ﷲ في أول الدعاء: «إنك عفو».

- الثاني: أن يُسأل ﷲ بأفعاله كما يُسأل بأسمائه؛ فقد دعا ﷺ بقوله: «تحب العفو»، فسأل ربه بمحابّه ﷻ.

- وفيه: أن المسلم إذا اجتهد في الطاعة وزاد في العبادة؛ فعليه أن يعتصم بسؤال المغفرة والعفو، وألا يشمخ أو يفخر؛ فإن عائشة سألت النبي ﷺ عن حال ستقوم فيه ليلة القدر، وستعمرها بالطاعة، ومع ذلك أمرها ﷺ أن تسأل العفو، فإن العبد كلما زاد تنسكه زاد إخباته وتواضعه، وكان ألظّ ما يكون بسؤال ربه المغفرة.

 • وهي ليلة مباركة، والمؤمن مأمور بتحري بركتها، وقد روى أحمد ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قاﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺧﺮﺟﺖ ﺇﻟﻴﻜﻢ ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺖ ﻟﻲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﻭﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ، ﻓﻜﺎﻥ ﺗﻼﺡ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻦ ﺑﺴﺪّﺓ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺄﺗﻴﺘﻬﻤﺎ ﻷﺣﺠﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﺄﻧﺴﻴﺘﻬﻤﺎ، ﻭﺳﺄﺷﺪﻭ ﻟﻜﻢ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺷﺪﻭًا: ﺃﻣﺎ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ؛ ﻓﺎﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻭﺗﺮًا، ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﺃﻋﻮﺭ اﻟﻌﻴﻦ، ﺃﺟﻠﻰ اﻟﺠﺒﻬﺔ، ﻋﺮﻳﺾاﻟﻨﺤﺮ، ﻓﻴﻪ ﺩﻓﺄ».

- ومن لطيف الاستدلالات من هذا الحديث: أن هناك علاقة بين الاختلاف ونقص البركة، ولذا دلت الأدلة أن الدجال يخرج في زمن اختلاف وفرقة وفساد ذات البين.

وفي البخاري عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺑﻦ اﻟﺼﺎﻣﺖ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺧﺮﺝ ﻳﺨﺒﺮ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، فتلاحى ﺭﺟﻼﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «ﺇﻧﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻷﺧﺒﺮﻛﻢ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، ﻭﺇنه تلاحى ﻓﻼﻥ ﻭﻓﻼﻥ، ﻓﺮﻓﻌﺖ، ﻭﻋﺴﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻴﺮا ﻟﻜﻢ، اﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﺒﻊ ﻭاﻟﺘﺴﻊ ﻭاﻟﺨﻤﺲ».

     وبركة ليلة القدر تقابل شؤم الدجال وفتنته، فالفرقة والاختلاف في مثل هذه الليالي ينقص من بركتها، ولذا ففي قوله ﷻ: (سلام هي حتى مطلع الفحر)، ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺮاﺩ ﺑﺎﻟﻤﺼﺪﺭ (سلام) اﻷﻣﺮ، ﻭاﻟﺘﻘﺪﻳﺮ: ﺳﻠﻤﻮا ﺳﻼﻣًﺎ، ﻭاﻟﻤﻌﻨﻰ: اﺟﻌﻠﻮﻫﺎ ﺳﻼﻣًﺎ ﺑﻴﻨﻜﻢ، ﺃﻱ ﻻ ﻧﺰاﻉ فيها ﻭﻻ ﺧﺼﺎﻡ.


والعلم عند الله.

السبت، 1 مايو 2021

شفع الوتر خلف الإمام

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فمن صلى مع إمامه الوتر، وأراد أن يتنفل بعدُ، فالأفضل له أن يقوم فيشفع بركعة، ثم يصلي ما يسره ﷲ له ثم يوتر آخر صلاته، وهذا رواية عن الإمام أحمد.

• وهذه الصورة، فيها تحصيل لأجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف، كما جاء في المسند والترمذي ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺫﺭ ﻗﺎﻝ: ﺻﻤﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ الله ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﺼﻞ ﺑﻨﺎ، ﺣﺘﻰ ﺑﻘﻲ ﺳﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺮ، ﻓﻘﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﺛﻠﺚ اﻟﻠﻴﻞ، ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﺎﺩﺳﺔ، ﻭﻗﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ، ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻘﻠﻨﺎ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ الله ﻟﻮ ﻧﻔﻠﺘﻨﺎ ﺑﻘﻴﺔ ﻟﻴﻠﺘﻨﺎ ﻫﺬﻩ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﺎﻡ ﻣﻊ اﻹﻣﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺼﺮﻑ ﻛﺘﺐ ﻟﻪ ﻗﻴﺎﻡ ﻟﻴﻠﺔ»، ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﺼﻞ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﻘﻲ ﺛﻼﺙ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺮ، ﻭﺻﻠﻰ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ، ﻭﺩﻋﺎ ﺃﻩﻟﻪ ﻭﻧﺴﺎءﻩ، ﻓﻘﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺨﻮﻓﻨﺎ اﻟﻔﻼﺡ، ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻭﻣﺎ اﻟﻔﻼﺡ، ﻗﺎﻝ: اﻟﺴﺤﻮﺭ.

• وفيها أخذ بسنة ختم الصلاة الليلية بالوتر لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال ﷺ: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا».

• وفيها اتقاء لنهي النبي ﷺ من تكرار الوتر، كما في السنن والمسند عن طلق بن علي: «لا وتران في ليلة».

- ولا يقال: إنه إن قام فشفع بركعة لم يدخل في فضيلة من صلى مع إمامه حتى ينصرف، فإن من صلى مع إمامه وزاد الشفع صح أنه لم ينصرف حتى انصرف إمامه وزيادة، والقول بأن من زاد بعد إمامه ليس ممن يدخل في الحديث ظاهرية لا تلائم سياق الحديث وقصته كما سلف، وإن كان قد قال به بعض العلماء.

     وإنما يخرج عن هذه الفضيلة من لم يصل مع إمامه، أو انصرف قبله، وفي ذلك قال البهوتي في كشاف القناع: (ﻓﺈﻥ ﺃﺣﺐ ﻣﻦ ﻟﻪ ﺗﻬﺠﺪ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ الإﻣﺎﻡ ﻓﻲ ﻭﺗﺮﻩ؛ ﻗﺎﻡ ﺇﺫا ﺳﻠﻢ الإﻣﺎﻡ ﻓﺸﻔﻌﻬﺎ -ﺃﻱ ﺭﻛﻌﺔ اﻟﻮﺗﺮ- ﺑﺄﺧﺮﻯ، ﺛﻢ ﺇﺫا ﺗﻬﺠﺪ ﺃﻭﺗﺮ، ﻓﻴﻨﺎﻝ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ الإﻣﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺼﺮﻑ، ﻭﻓﻀﻴﻠﺔ ﺟﻌﻞ ﻭﺗﺮﻩ ﺁﺧﺮ ﺻﻼﺗﻪ).

• وفي هذا الصنيع تأخير للوتر إلى الوقت الفاضل، فإن ﺃﻛﺜﺮ اﻟﺴﻠﻒ على أن الأفضل تأخير الوتر إلى ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ، وهو قول ﻋﻤﺮ ﻭﻋﻠﻲ ﻭاﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ ﻭاﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭاﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ.

     ﻭﻋﻦ اﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺎ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮﻥ ﺃﻥ اﻟﻮﺗﺮ ﻣﻦ ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ ﺃﻓﻀﻞ.

     ﻭقد اﺳﺘﺤﺒﻪ اﻟﻨﺨﻌﻲ ﻭﻣﺎﻟﻚ ﻭاﻟﺜﻮﺭﻱ ﻭﺃﺑﻮ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻭﺃﺣﻤﺪ –ﻓﻲ اﻟﻤﺸﻬﻮﺭ ﻋﻨﻪ - ﻭﺇﺳﺤﺎﻕ.

     ويتأكد ذلك في مثل هذه النازلة التي خففت لها صلاة التراويح في المساجد، ويطمع المؤمن بالازدياد في الصلاة والقراءة والدعاء، ويرغب ختم صلاته بالوتر.

     لاسيما على القول بعدم وجوب متابعة الإمام في نيته وفعله، كما هو مذهب الشافعي وجمع من فقهاء المحدثين، وهو الذي تدل عليه الأدلة.

     بل ربما كانت مستثناة من أصل المنع حتى على القول بالمنع، قال البرهان ابن مفلح في المبدع: (ﺇﺫا ﺻﻠﻰ ﻓﺮﺿًﺎ ﺭﺑﺎﻋﻴﺔ ﺧﻠﻒ ﻣﻦ ﻳﺼﻠﻲ اﻟﻈﻬﺮ ﺃﺭﺑﻌﺎ، ﻭﻗﻴﻞ: ﺃﻭ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﺈﺫا ﺗﻢ ﻓﺮﺿﻪ ﻗﺒﻞ ﺇﻣﺎﻣﻪ، ﻫﻞ ﻳﻨﺘﻈﺮﻩ ﺃﻭ ﻳﺴﻠﻢ ﻗﺒﻠﻪ، ﺃﻭ ﻳﺨﻴﺮ؟ ﻓﻴﻪ ﺃﻭﺟﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺇﺣﺪاﻫﻤﺎ ﺗﺨﺎﻟﻒ اﻷﺧﺮﻯ ﻛﺼﻼﺓ ﻛﺴﻮﻑ، ﻭاﺳﺘﺴﻘﺎء، ﻭﺟﻨﺎﺯﺓ، ﻭﻋﻴﺪ، ﻣﻨﻊ ﻓﺮﺿًﺎ، ﻭﻗﻴﻞ: نفلًا؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺨﺎﻟﻔﺔ ﻓﻲ اﻷﻓﻌﺎﻝ)، فعلّق البهوتي: (ﻓﻴﺆﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﺻﺤﺔ ﻧﻔﻞ ﺧﻠﻒ ﻧﻔﻞ ﺁﺧﺮ ﻻ ﻳﺨﺎﻟﻔﻪ ﻓﻲ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻛﺸﻔﻊ ﻭﻭﺗﺮ ﺧﻠﻒ ﺗﺮاﻭﻳﺢ ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻮﻝ اﻟﺜﺎﻧﻲ).

     ولا يقال: بأن ترك الوتر مع الإمام رأسا هو الأفضل ثم يستدل بأن أبي بن كعب ترك جماعة التراويح، فإن أبي بن كعب كان إمامًا، وإنما موضع الإشكال في المأموم.

     ولا يقال: إن هذا ليس مأثورًا عن الصحابة، فإن جمهور الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون منفردين، ومن صلى جماعة منهم فقد كان يطيل الصلاة.

والعلم عند رب العالمين.

الجمعة، 16 أبريل 2021

علمتنا سورة الكهف

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

- تعلمنا سورة الكهف؛ أن البلاء إذا اشتد، والكرب إذا اسود، وزادت المحن، فالمسلم يحتاج إلى أن يأوي إلى عاصم يعصمه من ذلك، كما أوى الفتية إلى الكهف.

- وتعلمنا سورة الكهف؛ أن الفتن إذا توحشت، وبلغت أعالي الجبال؛ فالمسلم محتاج أن يقرأ أولها، كما ثبت في مسلم، 

- وتعلمنا سورة الكهف؛ أن الطريق إذا أظلم بالشبهات والشهوات فالمسلم يحتاج إلى نور، كما في حديث أبي سعيد.

نزلت سورة الكهف بمكّة، وقد اشتدّ على النبي ﷺ الأذى، وزاد على صحابته البلاء.

- تعلمنا سورة الكهف كما علمتنا سورة يوسف؛ ما للقصص من أثر في التربية الإيمانية، ولذا كانت أكثر مواضيع سورة الكهف قصصا، قصة أهل الكهف، ثم صاحب الجنتين، ثم قصة موسى والخضر، ثم قصة ذي القرنين.

- تعلمنا سورة الكهف؛ أن القرآن نعمة من أعظم النعم تستوجب شكرًا، قال سبحانه في أوّل السورة: {ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ عَلَىٰ عَبۡدِهِ ٱلۡكِتَـٰبَ}، فالقرآن هو النور الذي يحمي من الفتن.

- تعلمنا سورة الكهف أن القرآن ميزان يقيم به كل شيء، توزن به الأفكار والمعتقدات والأفعال والأخلاق، قال سبحانه: {وَلَمۡ یَجۡعَل لَّهُۥ عِوَجَا قَیِّمࣰا}.

- تعلمنا سورة الكهف؛ ألا نحزن ولا نأسى على صاحب الضلالة، قال سبحانه: (فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ یُؤۡمِنُوا۟ بِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَسَفًا)، فالله قد جعل الحياة فتنة.

- ولذا تعلمنا سورة الكهف، (ﺇﻥ اﻟﺪﻧﻴﺎ ﺣﻠﻮﺓ ﺧﻀﺮﺓ، ﻭﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻣﺴﺘﺨﻠﻔﻜﻢ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻴﻨﻈﺮ ﻛﻴﻒ ﺗﻌﻤﻠﻮﻥ، ﻓﺎﺗﻘﻮا اﻟﺪﻧﻴﺎ ﻭاﺗﻘﻮا اﻟﻨﺴﺎء)، قال ﷻ (إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا).

ما الحكمة من هذه الزينة، والفتنة، والصراع بين الحق والباطل.

- وتعلّمنا سورة الكهف أنَّ المؤمن يبتلى ليمتحن صبره، وشكره:

• فقصة أهل الكهف ابتلوا ابتلاء الصبر.

• وقصة صاحب الجنتين ابتلي ابتلاء الشكر.

• وقصة موسى مع الخضر كانت قصة من قصص ابتلاء الصبر.

• وقصة ذي القرنين، كانت قصة من قصص ابتلاء الشكر.

- تعلمنا سورة الكهف أنه ليس شيء عجيب في خلق ﷲ بالنسبة إلى قدرة ﷲ العظيم: (أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا)، والإنسان يعجب من كل ما لم يعتد عليه، ولم يجر على ما عهده، وإلّا فإنَّ خلق السموات والأرض، وزينة الدنيا، ثم جعلها جرزا، أمر عجيب، فليست ﻗﺼﺔ ﺃﻫﻞ اﻟﻜﻬﻒ ﻣﻨﻔﺮﺩﺓ ﺑﺎﻟﻌﺠﺐ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ اﻵﻳﺎﺕ اﻷﺧﺮﻯ.

- علمتنا سورة الكهف أنَّ الصراع بين الحق والباطل صراع تاريخي، فلقد كان الفتية في مجتمع جاهلي شركي، كمجتمع مكة.

وأول ما يدفع به المؤمن الفتن والبلاء؛ أن يلجأ إلى ﷲ بالدعاء: 

(فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا).

- وتعلمنا سورة الكهف: أن من أقبل على ﷲ أقبل ﷲ عليه، (نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡیَةٌ ءَامَنُوا۟ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَـٰهُمۡ هُدࣰى)، فمن أدار ظهره للدنيا وفتنتها وأقبل على ﷲ آتاه الله كل خير.

- وتعلمنا سورة الكهف: أن المؤمن في معركته مع الباطل، ومواجهته للشرك، محتاج مع الهداية إلى سكينة القلب، يعوزها سكينة القلب، وطمأنينة الفؤاد، وشجاعته، ولذا قال ﷲ عن نبيه ﷺ: (إِذۡ هُمَا فِی ٱلۡغَارِ إِذۡ یَقُولُ لِصَـٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِینَتَهُۥ عَلَیۡهِ وَأَیَّدَهُۥ بِجُنُودࣲ لَّمۡ تَرَوۡهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلسُّفۡلَىٰۗ وَكَلِمَةُ ٱللَّهِ هِیَ ٱلۡعُلۡیَاۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمٌ).

- وتعلّمنا سورة الكهف حقيقة الدنيا، وحقيقة فتنتها، فمن قوله تعالى: (إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا ۝)، ينتقل السياق إلى قوله: (وَإِنَّا لَجَـٰعِلُونَ مَا عَلَیۡهَا صَعِیدࣰا جُرُزًا)، ومن أوتي هذه البصيرة في الدنيا لم يفتن بها، وكان في عصمة من فتنة الدجال، وهذا هو الذي جرى مع فتية الكهف، الذين لم تغرهم الدنيا بزينتها، فجافوها في ذات ﷲ.

وإذا تأملت السورة ستجد أن كلمة الزينة جاءت في ثلاثة مواطن فيها، وكلمة الرشد جاءت في أربعة مواطن.

- تعلمنا سورة الكهف، أن المؤمن يجب ألا يخضع لظروفه، ولكن لينطلق ليبحث عن الحلول.

- وتعلمنا سورة الكهف أن الرفقة الصالحة، وكتاب الهدى، مما يعين على اعتزال الباطل وأهله، (أَمۡ حَسِبۡتَ أَنَّ أَصۡحَـٰبَ ٱلۡكَهۡفِ وَٱلرَّقِیمِ كَانُوا۟ مِنۡ ءَایَـٰتِنَا عَجَبًا).

- وتعلمنا سورة الكهف أن من أوى إلى ﷲ فلا خوف عليه ولا حزن، تأمل أن أول كلمة في سياق القصة: (إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ فَقَالُوا۟ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا).

هناك ظلم واضطهاد ووحشة وترك للوطن والأهل والراحة وكهف وخوف، ولكن يصف ﷲ الانطلاقة الإيمانية لتلك الرفقة بقوله ﷻ: (إِذۡ أَوَى ٱلۡفِتۡیَةُ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ)، الإيواء إلى ﷲ هو أهم أمر في السياق، هو النقطة البارزة في القصة، هو لب الحكاية.

- إن مختصر القصة: فتية هربوا إلى ﷲ ودعوا ربهم!

هكذا هي الحكاية.

وهكذا بدأت القصة، ليكون الأمر الذي ينطبع في الذهن هو صورة الإيواء إلى ﷲ والدعاء والالتجاء إليه.

- تعلمنا سورة الكهف أن عقولنا لا تدرك قدرة الله، فالفرج والفتح للمؤمنين والرحمة بأولياء ﷲ قد تكون بأمر لا يتصورونه، فكثير من الناس يظن أن النصر قد يكون بزلزال يضرب مدينة الملك الكافر، أو عاصفة تدمر حرسه، أو مرض أو موت، كلا! لقد كانت الاستجابة: (فَضَرَبۡنَا عَلَىٰۤ ءَاذَانِهِمۡ فِی ٱلۡكَهۡفِ سِنِینَ عَدَدࣰا)!

أتذكر قصة أم موسى! وولهها، وحزنها حين ألقت بابنها في اليم، كيف كان تحقيق وعد ﷲ لها: (إنا رادوه إليك)، هل نزلت ملائكة من السماء فانتزعت الغلام من بين يدي الجنود؟ هل حملته الريح؟ كلا، لقد بدأ الفرج من قوله: (وحرّمنا عليه المراضع).

لقد حفظهم ﷲ بالنوم! نعم بالنوم عصمهم ﷲ من القوم الظالمين!

أنت لا تدري كيف سيكون النصر الباسم، وكيف يدبر ﷲ أمره، إنه يعلم وأنتم لا تعلمون.

- ثم تأمل قوله بعد ذلك: (ثُمَّ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤا۟ أَمَدࣰا)

ليتبين لك نهاية مختصر القصة، قوم آووا إلى ﷲ ودعوه فأنامهم ﷻ ثم أيقضهم ليكونوا آية له في الناس.

- وتعلّمنا سورة الكهف أن الناس لايزالون مختلفين في الحوادث والمواقف، فلا تثق كثيرا في رأيهم، ولا في ضبطهم، (لِنَعۡلَمَ أَیُّ ٱلۡحِزۡبَیۡنِ أَحۡصَىٰ لِمَا لَبِثُوۤا۟ أَمَدࣰا)

أنت وأنا قد تحدث لنا أحداث ومواقف ولا ندرك قدر ما فيها من حكمة ﷲ وقدرته.

فهناك أحداث نراها، ولكننا لا ندرك ما وراءها من القصص والمواقف والأحداث.

- وتعلمنا سورة الكهف أن الإيمان هو وراء كل تلك الأعاجيب، لماذا ضحوا؟ لماذا بذلوا؟ كيف قاموا أمام الملك؟ كيف استعلنوا بمبدئهم؟ لماذا هاجروا؟ لماذا أكرمهم ﷲ بتلك الآية؟ إنه الإيمان! تأمل قوله: (نَّحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡیَةٌ ءَامَنُوا۟ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَـٰهُمۡ هُدࣰى)

- وتعلمنا سورة الكهف أن البداية لابد أن تكون من الإنسان، وأن الله شكور لمن أقبل عليه، تأمل:

(ءَامَنُوا۟ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَـٰهُمۡ هُدࣰى* وَرَبَطۡنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمۡ) متى (إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا)

فالإيمان الأولي كان منهم، والقيام كان منهم، والإقبال كان منهم.

• وعلمتنا سورة الكهف أن المؤمن إذا أيقن بربوبية ﷲ وعظمه هان عليه الباطل، فقولهم: (إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ)، رب السموات والأرض لن يضيعنا، ولن يتركنا.

• وعلمتنا سورة الكهف أن الوعي بالباطل، واستنكاره، ورؤيته على ما هو عليه من القبح من أعظم نعم الله على العبد، قال تعالى عن أهل الكهف: (إِذۡ قَامُوا۟ فَقَالُوا۟ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ لَن نَّدۡعُوَا۟ مِن دُونِهِۦۤ إِلَـٰهࣰاۖ لَّقَدۡ قُلۡنَاۤ إِذࣰا شَطَطًا)، فرأوا الباطل شططا.

هناك من لا يرى مشكلة في الشرك، ولا يرى مصيبة سب ﷲ، فالذي يشغله هو شأن دنياه.

- وتأمل كلمات فتية الكهف -وكلامهم قليل-: (رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ)، وقبل ذلك قالوا: (رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةࣰ وَهَیِّئۡ لَنَا مِنۡ أَمۡرِنَا رَشَدࣰا)، وقالوا بعد ذلك: (قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُوا۟ لَبِثۡنَا یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۚ قَالُوا۟ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ): فكلامهم كله مبدوء بوصف الربوبية، ففي أول أمرهم:

- دعاء.

- ثم حين دعوتهم لقومهم واعتراضهم عليهم قالوه.

- ثم حين التسليم لله.

 • علمتنا سورة الكهف أن المؤمن يجب أن يطلب الحجة والدليل على كل قضية، قال ﷻ:(هَـٰۤؤُلَاۤءِ قَوۡمُنَا ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةࣰۖ لَّوۡلَا یَأۡتُونَ عَلَیۡهِم بِسُلۡطَـٰنِۭ بَیِّنࣲۖ فَمَنۡ أَظۡلَمُ مِمَّنِ ٱفۡتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِبࣰا).

• وتعلمنا سورة الكهف: أن الإيمان لا يمنع نزول الابتلاء، ولا وقوع المحنة، ولكن المؤمن إذا أقبل على ﷲ أنزل عليه الرحمة.

قد تجد من يقول: نحن مؤمنون، ومع ذلك ينزل ﷲ رحمته وفضله وسكينته، (وَإِذِ ٱعۡتَزَلۡتُمُوهُمۡ وَمَا یَعۡبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأۡوُۥۤا۟ إِلَى ٱلۡكَهۡفِ یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا).

• وتعلمنا سورة الكهف أن أهل الإيمان أهل يقين برحمة الله وفضله، تأمل كلامهم: (یَنشُرۡ لَكُمۡ رَبُّكُم مِّن رَّحۡمَتِهِۦ وَیُهَیِّئۡ لَكُم مِّنۡ أَمۡرِكُم مِّرۡفَقࣰا).

بل تأمل قولهم: (یَنشُرۡ) لترى عظيم ثقتهم في ﷲ.

• وتعلّمنا السورة ألا ينشغل الإنسان بالنقاش والجدل فيما ليس وراءه هدى: (وَكَذَ ٰ⁠لِكَ بَعَثۡنَـٰهُمۡ لِیَتَسَاۤءَلُوا۟ بَیۡنَهُمۡۚ قَالَ قَاۤىِٕلࣱ مِّنۡهُمۡ كَمۡ لَبِثۡتُمۡۖ قَالُوا۟ لَبِثۡنَا یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۚ قَالُوا۟ رَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثۡتُمۡ).

• وتعلمنا هذه السورة الكريمة، أن المؤمن يجب ألا يشغله البلاء عن طلب الرزق الحلال، (فَٱبۡعَثُوۤا۟ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمۡ هَـٰذِهِۦۤ إِلَى ٱلۡمَدِینَةِ فَلۡیَنظُرۡ أَیُّهَاۤ أَزۡكَىٰ طَعَامࣰا فَلۡیَأۡتِكُم بِرِزۡقࣲ مِّنۡهُ).

• وتعلمنا السورة أن المؤمن يجب أن يكون حكيما في المواقف، ذا فقه في التصرف،  (وَلۡیَتَلَطَّفۡ وَلَا یُشۡعِرَنَّ بِكُمۡ أَحَدًا).

• تعلمنا سورة الكهف أن الأمر لله، وهو عالم الغيب، يعلم كل ما يحدث في هذا الكون، هناك حين اضطهد هؤلاء المؤمنون، وأوذوا، وابتلوا، فالله عليم بهم.

 (قُلِ ٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِمَا لَبِثُوا۟ۖ لَهُۥ غَیۡبُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِۖ أَبۡصِرۡ بِهِۦ وَأَسۡمِعۡۚ مَا لَهُم مِّن دُونِهِۦ مِن وَلِیࣲّ وَلَا یُشۡرِكُ فِی حُكۡمِهِۦۤ أَحَدࣰا)


مع سورة الماعون

    الحمد لله، أما بعد:

    ألست تعجب من ذلك الاستهلال لسورة الماعون؟ (أرأيت الذي يكذب بالدين)؟ أرأيت يا محمد، ذاك المكذب بالدين والحساب والعقاب؟

     ربما لو قرأ السورة من لم يكن حافظا لها، واستمع صدر السورة لأول مرة، لتخايل على البداهة أن قوله ﷻ: (أرأيت الذي يكذب بالدين) سيعقب بحديث قاصف عن طغاة قريش، وأكابر مجرمي مكة، وربما ظن على الارتجال أن ذلك المكذب بالدين الذي ستتحدث عنه هذه السورة هو فرعون أو هامان أو طاغية من جنسهم، لكن الأمر لم يكن كذلك! وكل ذلك لم يكن!

     لقد جاءت الآية الثانية: (فذلك الذي يدعّ اليتيم)! يدعّ اليتيم! والدع هو الدفع بزجر من الخلف! فهو يدفعه عن حقه، ويقهره! لقد كانت أول صفة وصف بها هذا المكذب للدين هو قسوته على الضعفاء والأيتام!

     ثم قال سبحانه: (ولا يحضّ على طعام المسكين)! فذمته الآية لقصوره عن الفاعلية الإيجابية في مجتمعه! فهو لا يدعو ولا يدعم ولا يحث ولا يحض على إطعام المساكين! فذمه ﷲ لعدم قيامه برتبة التأثير البناء، وذلك ذم لتارك إطعام المسكين بطريق الأولى! فما أجل هذا المعنى

     أرأيت يا محمد الذي يكذّب بالدين! إن من صفاته تلك القسوة على الضعفاء، والجفوة عن مسح آلامهم، وتخفيف أحزانهم! فهو لا يحنو على اليتيم ولا يمسح دمعته، ولا يربت على كتف المستضام، ولا يدري عن آلام الناس وأحزانهم ومصابهم!

     ونحن نعلم أن التفريط في حق اليتيم وعدم الحث والحض على إطعام المساكين ليس مكفرا مخرجا من الملة، ولكنه كمال هذه الشريعة التي أتت بحفظ حق ﷲ وحق البشر! فالكمال الإيماني يكون بالقيام بالحقين!

     ثم رجع السياق القرآني: (فويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون)، لقد رجع السياق يتحدث عن التفريط في حق ﷲ! فإذا الذكر الحكيم في السورة يتناوب بين هذين الحقين!

     إياك أن تظن أن الدين صلاة في المسجد فقط، أو تلبية في المشاعر فحسب! كلا، فالأمر ليس كذلك!

     (عن صلاتهم ساهون): فهو لاهٍ عن صلاته، منشغل عنها، فيؤخرها عن وقتها، ويتشاغل عنها، ويصليها بتثاقل،فالصلاة ليست قضية مركزية في حياته!

     ثم عادت السورة في ختامها تتحدث عن حق الخلق مرة أخرى: (ويمنعون الماعون) فليس من أهل الإعانة للخلق، بل يمنع ما فيه معونة للناس! ليس إيجابيا متعاونا، بل تراه منجمعا على نفع نفسه، لا يعطي الناس ما يطلبونه مما لا يضره، ولا يشاركهم ما يحتاجونه، ولا يحسن بجاهه، ولا يعير عارية، ولا يعطي ولا يبذل، فيمنع ما يتعاونه الناس بينهم!

     ﺇﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺴﻮﺭﺓ (قليلة الآيات) تبين أن المؤمن الصادق لابد أن يندفع إلى البر بالخَلق، وتؤكد أن القيام بحق الخالق يدعو للقيام بحق الخلق!

     إنها تبين حقيقة هذا الدين، الذي تتكامل فيه العبادة المحضة بالعبادات الاجتماعية.

- تأمل هذا العطف بين أفعال المعرضين، (عن صلاتهم ساهون الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون)، فمن أضاع الصلاة أضاع حقوق الخلق، من أضاع حي على الصلاة، أضاع كل حق وفضيلة.

- (فويل للمصلين)! إنها صلاة أهل التقصير، والسهو، صلاة من لا يقيمها فلا تزكو نفسه، ولا ترقى لنفع الناس والإحسان إليهم.

     من صلى صلاة لا روح فيها كانت حياته ﺣﻴﺎﺓ لا روح فيها، وأصبحت حياة لا تقوم على شعور التكافل والكرم والفزعة وطهارة السلوك.

     وهكذا كانت سورة الماعون، تتحدث عن القيام بالحقّين، حقّ الخالق وحقّ الخلق، بمثل هذا التناوب العذب، والحديث الآسر.


الثلاثاء، 23 مارس 2021

علمتنا سورة يوسف

       الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فهذه سورة يوسف، قصة البلاء الطويل، وحكاية لوعة الفؤاد، وسلسلة حرقة القلب، إنها سورة أحسن القصص: (نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ)، ولقد كانت سورة فريدة في موضوعها، فقد اشتملت قصة واحدة من أولها إلى آخرها، وابتدأت برؤيا يوسف وانتهت بتأويلها، وعرضت السورة أحوال يوسف في أنحاء مختلفة، فذكرته غلاما صغيرا يخاف عليه أبوه الحاني ﷺ، وعرضته مملوكا متعففا في القصور والترف، وعرضته سجينا محسنا للسجناء داعيا لهم، ثم عرضته عزيزا لمصر متصرفا في أموالها وخزائنها.

     إنها السورة التي طالما وجد فيها أهل البلاء سلوتهم، ولقوا فيها عزاءهم:

     لقد كان نزولها على النبي ﷺ في مكة، في وقت شدة قريش عليه، وامتحانهم له ولصحابته رضوان ﷲ عليهم، فنزلت تسلية للقلوب من وقدة الألم.

     ومن اللطيف أن ابن الجوزي رحمه الله كان في سنوات سجنه يقرؤها كل يوم، وكان له ابن يحبه اسمه: يوسف.

    • تأمل قصة يوسف سترى أنها حكاية للبلاء الطويل الموحش، البلاء بأنواعه المؤلمة، وتقلباته الموجعة، وتلوناته المفجعة:

    - بلاء كيد الإخوة: (قَالَ یَـٰبُنَیَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡیَاكَ عَلَىٰۤ إِخۡوَتِكَ فَیَكِیدُوا۟ لَكَ كَیۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ)!

     - وبلاء الخوف حين ألقي في الجب.

   - وبلاء فراق الوالد الرؤوف والأم الرؤوم والأهل، وفراق مراتع الصبا ومعاهد الطفولة.

    - وبلاء الرق والعبودية وسلب الحرية.

    - وبلاء فتنة القصر، وتعرض امرأة العزيز، وضغط الشهوات.

    - وبلاء كيد النسوة والتهمة بالسوء ومحاولة تلطيخ العرض للابتزاز.

   - ثم بلاء السجن والحبس، والانتقال من خفض العيش ولينه إلى وحشة السجن وخشونة الحبس وقسوة السجان.

   - ثم بلاء الملك والوزارة والسلطان بعد خروجه من السجن!

     • تعلمنا سورة يوسف أن الحياة بلاء ومحنة، وأن الإنسان في كبد، وأن هذه الدنيا طبعت على كدر، فمن نظر لها هكذا لم تفجأه بمحنها، ولم تطح به بمصائبها، ولهذا فمعرفة حال الدنيا مما يقوي القلب على الصبر، وتحمله على الاستعداد.

     • علمتنا سورة يوسف أنَّ القصة أسلوب تربوي دعوي، ومنهج إيماني، فليسلكه الآباء والأمهات، والمربون والدعاة.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن الأب ينبغي أن يكون قريبًا متحببًا لأبنائه، ولو كان منشغلًا بعظيم الهموم، ولو كان ممتلئ اليد بالأعمال، ألا يتراءى لك يعقوب ﷺ وهو نبي ﷲ وصفيه، ومع هذا جلس يستمع لرؤيا ابنه: (إني رأيت أحد عشر كوكبا).

     • تعلمنا سورة يوسف أن ذكر العيب للتحذير ليس من الغيبة المحرمة، فلقد قال يعقوب ﷺ: (قَالَ یَـٰبُنَیَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡیَاكَ عَلَىٰۤ إِخۡوَتِكَ فَیَكِیدُوا۟ لَكَ كَیۡدًا)، فذكر عيبهم بالكيد تحذيرًا ليوسف.

      • وتعلمنا سورة يوسف أن الصراع الشيطاني مع الإنسان مستمر لا يسلم منه إلا بتقوى لله وصلاح للقلب واستعاذة ولجأة، فتأمل ما جاء في بداية القصة؛ قال يعقوب ﷺ ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو)، وانظر ما جاء في نهاية القصة قال يوسف: (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، فالشيطان هو العنصر الأخطر في بأساء الإنسان، فاحذروه.

     • علمتنا سورة يوسف أن الله إذا اجتباك واصطفاك واختارك فكل كيد وضر إلى زوال، لقد كاد يوسف إخوته، وكادته المرأة، وسجن، وأبعد، وقهر، ولكن: (وكذلك يجتبيك ربك)، وكانت له ﷺ العاقبة، ففي مؤتمر القتل ارتفع صوت (لا تقتلوا يوسف)، وفي غيابة الجب جاء صوت (يا بشرى)، وفي أول طريق العبودية جاء أمر العزيز (أكرمي مثواه)، وفي آخر السجن جاء اعتراف: (أنا راودته عن نفسه).

     •تعلمنا سورة يوسف أن نتمسك بإخوتنا معهما بغوا! (لقد كان في يوسف وإخوته)! مهما جار عليك أخوك فسيبقى أخاك!

     • تعلمنا سورة يوسف ألا نكون رهنًا لسطوة الأكثرية: (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)، إنها مشكلة البشرية الدائمة، إنها مشكلة اعتقاد أحقية الأكثر وأصوبيتهم دائما، مشكلة الأرقام الكبيرة، والانبهار بها، وتقديسها.

     • تعلمنا سورة يوسف أنه قد يتهم الأقل من هو خير منه بالضلال، فليخفف المؤمن على نفسه ولا يبتئس إذا رأى عتوّ أهل الضلالة على أهل الحق، ففي بداية القصة قال الفتية: (إن أبانا لفي ضلال مبين)، وفي آخرها قالوا: (إنك لفي ضلالك القديم)!

     • تعلمنا سورة يوسف أنّ من أمراض القلوب القاتلة مرض حب العلو في الأرض، وحب التميز والتفرد، فلقد قال إخوة يوسف: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم)، [يخل لكم] إنه حب الاستحواذ، وحب الذات، داء البشرية القديم، ومشكلة الناس الأبدية.

     • وتكشف لنا سورة يوسف عن جانب من الحيل الشيطانية لتزيين الباطل في النفوس، فقد قال أخوة يوسف: (وتكونوا من بعده قوما صالحين)، فما أعجب هذا! إنها تنبينا أن أخبث الأفكار قد تقبل وتروج إذا لطفت بزخرف من الخير.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن البلاءات باب التمكين، قال سبحانه: (وَقَالَ ٱلَّذِی ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦۤ أَكۡرِمِی مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰۤ أَن یَنفَعَنَاۤ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدࣰاۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ)! فذكر ﷻ ما لحقه من بلاء الرق، ثم قال: (وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ)! ثم تأمل قوله ﷻ: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ)، فهو محيط بأمور العباد يدبّر شأنهم ويقضي لهم، ثم لعلهم أن يكرهوا بعض ما يجدون، ولا يعلمون أن الخير فيما يدبر لهم ربهم.

     • تعلمنا سورة يوسف بشرية المجتمع! ولو كان مجتمعا صالحا، إنها تبين لنا حال الأب الصالح في لهفته على ابنه، وتذكر لنا الأبناء في بيت الصلاح وهم يحسدون أخاهم، وتقص علينا قصة الشاب الذي تثور فيه رغبات الرجولة ويكبتها، وتحكي لنا حكاية السجين التقي وهو يتمنى الخلاص! هكذا تعلّمنا السورة دون تسامٍ متكلف على الطبع البشري، ولا عيش جانح في المثاليات.

     • وعلمتنا سورة يوسف أن الأخذ بالسبب قد لا ينتج النتيجة:

     - فقد احتاط يعقوب فقال: (لا تقصص رؤياك)، ولكنه قصّ الرؤيا ووقع المحذور.

    - وقال يوسف لصاحبه الذي ظن أنه ناج: (اذكرني عند ربك)، ولكن صاحبه نسي ولم يذكره عند الملك.

    - وقال يعقوب: (لا تدخلوا من باب واحد)، خوفا عليهم، ومع هذا غاب عنه ابنه الثاني.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن التدبير الإلهي للأمور ربما كانت على خلاف ما يتوقع:

     - فنهاية حب يعقوب ﷺ ليوسف ﷺ؛ كانت مكر إخوته به.

   - ونهاية إلقائهم له في الجب؛ كان الإعزاز في بيت العزيز.

   - ونهاية السجن؛ الملك العظيم لمصر، فلا تتذمر مما تلاقي من المحن، ولا تجزع لها.

     • وعلمتنا سورة يوسف أنَّ الحديث عن النعمة قد يكون له آفة:

ولذا قال يعقوب ﷺ لابنه: (لا تقصص رؤياك على إخوتك)، وأما التحدث المحمود بنعمة ﷲ الذي جاء في قوله ﷻ: (وأما بنعمة ربك فحدث)، فالمقصود أن من الشكر أن يذكر الإنسان ما أكرمه ﷲ به من نعمه، إظهارًا للامتنان والشكر، فإن خشي حسدًا أو بغيًا فليحذر.

     • وعلمتنا سورة يوسف أن الخلوة مبعث الشهوة، ومحرك الطمع في الحرام، ولذا طمعت امرأة العزيز وتعرضت ليوسف وعصمه ﷲ.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن الإخلاص ينجي العبد الصالح، قال ﷻ: (وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَاۤ أَن رَّءَا بُرۡهَـٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلۡفَحۡشَاۤءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِینَ)، وفي قراءة سبعية: (المخلِصين)، من الإخلاص.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن المؤمن يجب عليه ألا يعرض نفسه لمواطن الفتن، وأنه يجب أن يفر من موضع الفتنة ومكانها، ولهذا لما عرضت الفتنة على يوسف فرّ وهرب: (وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِیصَهُۥ مِن دُبُرࣲ)، وفي سنن أبي داود ﻋﻤﺮاﻥ ﺑﻦ ﺣﺼﻴﻦ، ﻳﺤﺪﺙ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﻣﻦ ﺳﻤﻊ ﺑﺎﻟﺪﺟﺎﻝ ﻓﻠﻴﻨﺄ ﻋﻨﻪ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﺇﻥ اﻟﺮﺟﻞ ﻟﻴﺄﺗﻴﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﺤﺴﺐ ﺃﻧﻪ ﻣﺆﻣﻦ ﻓﻴﺘﺒﻌﻪ، ﻣﻤﺎ ﻳﺒﻌﺚ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﺒﻬﺎﺕ».

     • وتعلمنا سورة يوسف أنّ المؤمن داعية إلى الخير ولو كان في بأس وألم، انظر إلى يوسف عليه السلام وهو في البلاء لم تنسه المحنة والكرب أن يدعو إلى التوحيد، فقال: (یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ).

     وقد سلك معهما مسالك لطيفة في الدعوة:

     - فدعاهما بتقبيح الباطل فقال: (أأرباب متفرقون).

    - وقرن الدعوة بنفعهما تأويل الرؤيا، ليقبلا عليه بتيقظ، وليشعرا بالامتنان له والشكر.

     - وبدأ بذكر ما منّ ﷲ عليه به من العلم، وما اختصه من الحكمة، ليعلمهما أنه لا يتكلم بجهالة، (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما)

     - وخاطبهما بصفة الصلة المماثلة (صاحبي)، توكيدًا للألفة.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن الداعية الناجح، والمصلح النابه، هو الذي يبتدئ الناس بالبذل والعطاء والعطف والإحسان، فإنهم إذا رأوه على هذا الخلق قبلوا دعوته، ومالوا إليه، ولذا قال الرجلان له حين سألا تأويل الرؤيا: (نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِیلِهِۦۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ)!، وهذا دليل أنهما رأيا من إحسانه ما حملهما لوصفه بذلك.

     • بل إن سورة يوسف تؤكد على المؤمن أن يكون خلقه الإحسان في كل أحواله، قال له صاحبا السجن في السجن: (إنا نراك من المحسنين)، وقالها له إخوته وهو في أبهة الملك وعزّ السلطان: (إنا نراك من المحسنين)، ومن اللطيف أن إحسان يوسف اتسع ليشمل عدوه! الظالم له، فإن سجّانه بعث إليه في سجنه يستفتيه في الرؤيا! فهل امتنع عن العطاء؟ هل توقف عن الإحسان إلى القوم الذين ظلموه وآذوه؟ لا، وليس ذلك له بخلق ﷺ، بل عبّر لهم رؤياهم، وأفتاهم، وأعطاهم تلك الاستشارة الاقتصادية التي جنّبت بلادهم أزمة اقتصادية ضخمة، فماذا كانت عاقبة المحسنين؟ لقد كافأه ﷲ والله يحب المحسنين وخرج ممكنًا في الأرض، عزيزًا لمصر.

     وأخيرًا: بماذا ختمت سورة يوسف؟ السورة التي سماها الله أحسن القصص، سورة الإبتلاءات، ابتلاءات الكيد والجب والرق وكيد النساء والاتهام والسجن ثم الامتحان بالملك والسلطة والمال، سورة الإحسان، الإحسان في حال الاستضعاف والإحسان في حال البلاء والسجن، والإحسان في حال الملك والقوة، سورة الدعوة في مراحل الحياة الخافضة والرافعة، سورة الثبات في مواجهة الإغراء، والثبات في السجن، والثبات عند فتنة الخروج من السجن بغير تبرئة، والثبات عند حصول الملك والقوة، السورة التي نزلت بعد موت أبي طالب وخديجة، سورة الفراق المحرق، واللهفة الأبوية، والحزن الطويل على الابن الأثير والعين الباكية، وآلام السنين، ثم روعة اللقاء وفرحة الاجتماع بالأبوين والإخوة والأهل.

لقد ختمت هذه السورة بخاتمة جليلة: ختمت بالدعاء بالثبات!كما قال ﷻ عن دعاء يوسف: (رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِیِّۦ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ).

الأحد، 31 يناير 2021

حضارتهم

 أعوذ بالله من خبث حضارتهم!

أما بعد:

     فقد استحييت أن أبدأ هذه المقالة بحمد الله! ثم أنقل شيئًا قليلًا من خبر (ديمقراطية اللذة) على نحو تعبير الدكتور المسيري.

- لا تزال المجتمعات الغربيّة (غير المكبوتة!) تتطور صعودًا في تحقيق الإغراء وإشباع المتعة وتطويع السياسة لنيلها، ففي تلك الدول بدأت تنتشر ظاهرة نشوء أحزاب سياسية (جنسية)، وحصدت الأصوات في دول مثل هولندا!

- وفي استراليا يقول: بيونا باتين، أحد قيادات (الحزب الجنسي) إن السياسة المحافظة لسياسيي إستراليا منعت الإبداع في هذا الشأن! 

- كان الحزب قد اختار في واحدة من النشاطات الانتخابية؛ متجرًا لبيع الدمى الجنسية، للدعاية لأهدافه.

- (وديمقراطية) اللذة لها أهدافها السياسية الفلسفية، وعلى نحو ذلك تستنكر على الدول إغلاق المواقع الإباحيّة.

- وفي هولندا كان من الأهداف المعلنة لهذا الحزب:  تخفيض السن الأدنى للزنا إلى ١٢ عامًا، ووضع القوانين لركوب الفاحشة مع الحيوانات.

- وفي أسبانيا كان الأمر يتجاوز الوعود الانتخابية إلى العروض التخفيضية للناخبين بتخفيض سعر المضاجعة إلى نصف السعر! مع الوعود الانتخابية بتقديم دعم مالي لخفض أسعار الغرف الفندقية للفتيان الصغار.

- وهناك في الولايات المتحدة الأميركية (دولة الحروب واللذة) كانت التسهيلات من نوع آخر، المكافأة للجنود العائدين من الحروب، وقال المتحدث باسم إحدى تلك الجمعيات: "حب الوطن" يستدعي ذلك.

- وأما البرلمانية الإيطالية "إيلونا ستالر"، ممثلة الإباحية التي كان خلع ملابسها من ضمن دعايتها الانتخابية، فقد تجاوزت ذلك، واستعملت أداتها السياسية هذه بدعوة صدام حسين للمضاجعة المجانيّة لتجنيب الشرق الأوسط الحروب!

- وهناك في أرض تقديس العمل، حيث يذوب الإنسان في سبيل الإنجاز والانتاج، وحيث ظهر مصطلح: (كاروشي) أي: الموت بسبب الإرهاق من العمل، هناك في بلاد عجائب التقنية، في اليابان حيث العلم المادي، والتقدم الدنيوي، ستجد وكالات خدمة (وكاريساسيا [متاجر الوداع])، التي يمكن أن تجعلها أنموذجًا لآثار البعد عن هدي الوحي والرسالة.

(وكاريساسيا) هي مكاتب إنهاء العلاقات بين الرجل والمرأة -زوجيّة أو سفاحية-.

إنها وكالات تقوم تعاقداتها بين العميل (الزوج مثلا) والوكالة، ليقوم موظف الوكالة بمحاولات إيقاع الزوجة (مثلًا) في علاقة غرامية (وهمية) ثم توثيق ذلك، ليكون ذريعة في كف الزوج لينهي علاقته بزوجته بعذر خيانتها! أو ليقدمها دليلًا في المحكمة ليثبت الطلاق.

مئات المكاتب المنتشرة، وآلاف المخبرين السريين لهذه الوكالات، وآخرون يدافعون عن أخلاقية هذه التعاقدات!