الثلاثاء، 23 مارس 2021

علمتنا سورة يوسف

       الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فهذه سورة يوسف، قصة البلاء الطويل، وحكاية لوعة الفؤاد، وسلسلة حرقة القلب، إنها سورة أحسن القصص: (نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَیۡكَ أَحۡسَنَ ٱلۡقَصَصِ بِمَاۤ أَوۡحَیۡنَاۤ إِلَیۡكَ هَـٰذَا ٱلۡقُرۡءَانَ وَإِن كُنتَ مِن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلۡغَـٰفِلِینَ)، ولقد كانت سورة فريدة في موضوعها، فقد اشتملت قصة واحدة من أولها إلى آخرها، وابتدأت برؤيا يوسف وانتهت بتأويلها، وعرضت السورة أحوال يوسف في أنحاء مختلفة، فذكرته غلاما صغيرا يخاف عليه أبوه الحاني ﷺ، وعرضته مملوكا متعففا في القصور والترف، وعرضته سجينا محسنا للسجناء داعيا لهم، ثم عرضته عزيزا لمصر متصرفا في أموالها وخزائنها.

     إنها السورة التي طالما وجد فيها أهل البلاء سلوتهم، ولقوا فيها عزاءهم:

     لقد كان نزولها على النبي ﷺ في مكة، في وقت شدة قريش عليه، وامتحانهم له ولصحابته رضوان ﷲ عليهم، فنزلت تسلية للقلوب من وقدة الألم.

     ومن اللطيف أن ابن الجوزي رحمه الله كان في سنوات سجنه يقرؤها كل يوم، وكان له ابن يحبه اسمه: يوسف.

    • تأمل قصة يوسف سترى أنها حكاية للبلاء الطويل الموحش، البلاء بأنواعه المؤلمة، وتقلباته الموجعة، وتلوناته المفجعة:

    - بلاء كيد الإخوة: (قَالَ یَـٰبُنَیَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡیَاكَ عَلَىٰۤ إِخۡوَتِكَ فَیَكِیدُوا۟ لَكَ كَیۡدًاۖ إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لِلۡإِنسَـٰنِ عَدُوࣱّ مُّبِینࣱ)!

     - وبلاء الخوف حين ألقي في الجب.

   - وبلاء فراق الوالد الرؤوف والأم الرؤوم والأهل، وفراق مراتع الصبا ومعاهد الطفولة.

    - وبلاء الرق والعبودية وسلب الحرية.

    - وبلاء فتنة القصر، وتعرض امرأة العزيز، وضغط الشهوات.

    - وبلاء كيد النسوة والتهمة بالسوء ومحاولة تلطيخ العرض للابتزاز.

   - ثم بلاء السجن والحبس، والانتقال من خفض العيش ولينه إلى وحشة السجن وخشونة الحبس وقسوة السجان.

   - ثم بلاء الملك والوزارة والسلطان بعد خروجه من السجن!

     • تعلمنا سورة يوسف أن الحياة بلاء ومحنة، وأن الإنسان في كبد، وأن هذه الدنيا طبعت على كدر، فمن نظر لها هكذا لم تفجأه بمحنها، ولم تطح به بمصائبها، ولهذا فمعرفة حال الدنيا مما يقوي القلب على الصبر، وتحمله على الاستعداد.

     • علمتنا سورة يوسف أنَّ القصة أسلوب تربوي دعوي، ومنهج إيماني، فليسلكه الآباء والأمهات، والمربون والدعاة.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن الأب ينبغي أن يكون قريبًا متحببًا لأبنائه، ولو كان منشغلًا بعظيم الهموم، ولو كان ممتلئ اليد بالأعمال، ألا يتراءى لك يعقوب ﷺ وهو نبي ﷲ وصفيه، ومع هذا جلس يستمع لرؤيا ابنه: (إني رأيت أحد عشر كوكبا).

     • تعلمنا سورة يوسف أن ذكر العيب للتحذير ليس من الغيبة المحرمة، فلقد قال يعقوب ﷺ: (قَالَ یَـٰبُنَیَّ لَا تَقۡصُصۡ رُءۡیَاكَ عَلَىٰۤ إِخۡوَتِكَ فَیَكِیدُوا۟ لَكَ كَیۡدًا)، فذكر عيبهم بالكيد تحذيرًا ليوسف.

      • وتعلمنا سورة يوسف أن الصراع الشيطاني مع الإنسان مستمر لا يسلم منه إلا بتقوى لله وصلاح للقلب واستعاذة ولجأة، فتأمل ما جاء في بداية القصة؛ قال يعقوب ﷺ ليوسف: (لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدًا إن الشيطان للإنسان عدو)، وانظر ما جاء في نهاية القصة قال يوسف: (من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي)، فالشيطان هو العنصر الأخطر في بأساء الإنسان، فاحذروه.

     • علمتنا سورة يوسف أن الله إذا اجتباك واصطفاك واختارك فكل كيد وضر إلى زوال، لقد كاد يوسف إخوته، وكادته المرأة، وسجن، وأبعد، وقهر، ولكن: (وكذلك يجتبيك ربك)، وكانت له ﷺ العاقبة، ففي مؤتمر القتل ارتفع صوت (لا تقتلوا يوسف)، وفي غيابة الجب جاء صوت (يا بشرى)، وفي أول طريق العبودية جاء أمر العزيز (أكرمي مثواه)، وفي آخر السجن جاء اعتراف: (أنا راودته عن نفسه).

     •تعلمنا سورة يوسف أن نتمسك بإخوتنا معهما بغوا! (لقد كان في يوسف وإخوته)! مهما جار عليك أخوك فسيبقى أخاك!

     • تعلمنا سورة يوسف ألا نكون رهنًا لسطوة الأكثرية: (ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة)، إنها مشكلة البشرية الدائمة، إنها مشكلة اعتقاد أحقية الأكثر وأصوبيتهم دائما، مشكلة الأرقام الكبيرة، والانبهار بها، وتقديسها.

     • تعلمنا سورة يوسف أنه قد يتهم الأقل من هو خير منه بالضلال، فليخفف المؤمن على نفسه ولا يبتئس إذا رأى عتوّ أهل الضلالة على أهل الحق، ففي بداية القصة قال الفتية: (إن أبانا لفي ضلال مبين)، وفي آخرها قالوا: (إنك لفي ضلالك القديم)!

     • تعلمنا سورة يوسف أنّ من أمراض القلوب القاتلة مرض حب العلو في الأرض، وحب التميز والتفرد، فلقد قال إخوة يوسف: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم)، [يخل لكم] إنه حب الاستحواذ، وحب الذات، داء البشرية القديم، ومشكلة الناس الأبدية.

     • وتكشف لنا سورة يوسف عن جانب من الحيل الشيطانية لتزيين الباطل في النفوس، فقد قال أخوة يوسف: (وتكونوا من بعده قوما صالحين)، فما أعجب هذا! إنها تنبينا أن أخبث الأفكار قد تقبل وتروج إذا لطفت بزخرف من الخير.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن البلاءات باب التمكين، قال سبحانه: (وَقَالَ ٱلَّذِی ٱشۡتَرَىٰهُ مِن مِّصۡرَ لِٱمۡرَأَتِهِۦۤ أَكۡرِمِی مَثۡوَىٰهُ عَسَىٰۤ أَن یَنفَعَنَاۤ أَوۡ نَتَّخِذَهُۥ وَلَدࣰاۚ وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ)! فذكر ﷻ ما لحقه من بلاء الرق، ثم قال: (وَكَذَ ٰ⁠لِكَ مَكَّنَّا لِیُوسُفَ فِی ٱلۡأَرۡضِ وَلِنُعَلِّمَهُۥ مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ)! ثم تأمل قوله ﷻ: (وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ)، فهو محيط بأمور العباد يدبّر شأنهم ويقضي لهم، ثم لعلهم أن يكرهوا بعض ما يجدون، ولا يعلمون أن الخير فيما يدبر لهم ربهم.

     • تعلمنا سورة يوسف بشرية المجتمع! ولو كان مجتمعا صالحا، إنها تبين لنا حال الأب الصالح في لهفته على ابنه، وتذكر لنا الأبناء في بيت الصلاح وهم يحسدون أخاهم، وتقص علينا قصة الشاب الذي تثور فيه رغبات الرجولة ويكبتها، وتحكي لنا حكاية السجين التقي وهو يتمنى الخلاص! هكذا تعلّمنا السورة دون تسامٍ متكلف على الطبع البشري، ولا عيش جانح في المثاليات.

     • وعلمتنا سورة يوسف أن الأخذ بالسبب قد لا ينتج النتيجة:

     - فقد احتاط يعقوب فقال: (لا تقصص رؤياك)، ولكنه قصّ الرؤيا ووقع المحذور.

    - وقال يوسف لصاحبه الذي ظن أنه ناج: (اذكرني عند ربك)، ولكن صاحبه نسي ولم يذكره عند الملك.

    - وقال يعقوب: (لا تدخلوا من باب واحد)، خوفا عليهم، ومع هذا غاب عنه ابنه الثاني.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن التدبير الإلهي للأمور ربما كانت على خلاف ما يتوقع:

     - فنهاية حب يعقوب ﷺ ليوسف ﷺ؛ كانت مكر إخوته به.

   - ونهاية إلقائهم له في الجب؛ كان الإعزاز في بيت العزيز.

   - ونهاية السجن؛ الملك العظيم لمصر، فلا تتذمر مما تلاقي من المحن، ولا تجزع لها.

     • وعلمتنا سورة يوسف أنَّ الحديث عن النعمة قد يكون له آفة:

ولذا قال يعقوب ﷺ لابنه: (لا تقصص رؤياك على إخوتك)، وأما التحدث المحمود بنعمة ﷲ الذي جاء في قوله ﷻ: (وأما بنعمة ربك فحدث)، فالمقصود أن من الشكر أن يذكر الإنسان ما أكرمه ﷲ به من نعمه، إظهارًا للامتنان والشكر، فإن خشي حسدًا أو بغيًا فليحذر.

     • وعلمتنا سورة يوسف أن الخلوة مبعث الشهوة، ومحرك الطمع في الحرام، ولذا طمعت امرأة العزيز وتعرضت ليوسف وعصمه ﷲ.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن الإخلاص ينجي العبد الصالح، قال ﷻ: (وَلَقَدۡ هَمَّتۡ بِهِۦۖ وَهَمَّ بِهَا لَوۡلَاۤ أَن رَّءَا بُرۡهَـٰنَ رَبِّهِۦۚ كَذَ ٰ⁠لِكَ لِنَصۡرِفَ عَنۡهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلۡفَحۡشَاۤءَۚ إِنَّهُۥ مِنۡ عِبَادِنَا ٱلۡمُخۡلَصِینَ)، وفي قراءة سبعية: (المخلِصين)، من الإخلاص.

      • وعلمتنا سورة يوسف أن المؤمن يجب عليه ألا يعرض نفسه لمواطن الفتن، وأنه يجب أن يفر من موضع الفتنة ومكانها، ولهذا لما عرضت الفتنة على يوسف فرّ وهرب: (وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّتۡ قَمِیصَهُۥ مِن دُبُرࣲ)، وفي سنن أبي داود ﻋﻤﺮاﻥ ﺑﻦ ﺣﺼﻴﻦ، ﻳﺤﺪﺙ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﻣﻦ ﺳﻤﻊ ﺑﺎﻟﺪﺟﺎﻝ ﻓﻠﻴﻨﺄ ﻋﻨﻪ، ﻓﻮاﻟﻠﻪ ﺇﻥ اﻟﺮﺟﻞ ﻟﻴﺄﺗﻴﻪ ﻭﻫﻮ ﻳﺤﺴﺐ ﺃﻧﻪ ﻣﺆﻣﻦ ﻓﻴﺘﺒﻌﻪ، ﻣﻤﺎ ﻳﺒﻌﺚ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﺒﻬﺎﺕ».

     • وتعلمنا سورة يوسف أنّ المؤمن داعية إلى الخير ولو كان في بأس وألم، انظر إلى يوسف عليه السلام وهو في البلاء لم تنسه المحنة والكرب أن يدعو إلى التوحيد، فقال: (یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ).

     وقد سلك معهما مسالك لطيفة في الدعوة:

     - فدعاهما بتقبيح الباطل فقال: (أأرباب متفرقون).

    - وقرن الدعوة بنفعهما تأويل الرؤيا، ليقبلا عليه بتيقظ، وليشعرا بالامتنان له والشكر.

     - وبدأ بذكر ما منّ ﷲ عليه به من العلم، وما اختصه من الحكمة، ليعلمهما أنه لا يتكلم بجهالة، (قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما)

     - وخاطبهما بصفة الصلة المماثلة (صاحبي)، توكيدًا للألفة.

     • وتعلمنا سورة يوسف أن الداعية الناجح، والمصلح النابه، هو الذي يبتدئ الناس بالبذل والعطاء والعطف والإحسان، فإنهم إذا رأوه على هذا الخلق قبلوا دعوته، ومالوا إليه، ولذا قال الرجلان له حين سألا تأويل الرؤيا: (نَبِّئۡنَا بِتَأۡوِیلِهِۦۤۖ إِنَّا نَرَىٰكَ مِنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ)!، وهذا دليل أنهما رأيا من إحسانه ما حملهما لوصفه بذلك.

     • بل إن سورة يوسف تؤكد على المؤمن أن يكون خلقه الإحسان في كل أحواله، قال له صاحبا السجن في السجن: (إنا نراك من المحسنين)، وقالها له إخوته وهو في أبهة الملك وعزّ السلطان: (إنا نراك من المحسنين)، ومن اللطيف أن إحسان يوسف اتسع ليشمل عدوه! الظالم له، فإن سجّانه بعث إليه في سجنه يستفتيه في الرؤيا! فهل امتنع عن العطاء؟ هل توقف عن الإحسان إلى القوم الذين ظلموه وآذوه؟ لا، وليس ذلك له بخلق ﷺ، بل عبّر لهم رؤياهم، وأفتاهم، وأعطاهم تلك الاستشارة الاقتصادية التي جنّبت بلادهم أزمة اقتصادية ضخمة، فماذا كانت عاقبة المحسنين؟ لقد كافأه ﷲ والله يحب المحسنين وخرج ممكنًا في الأرض، عزيزًا لمصر.

     وأخيرًا: بماذا ختمت سورة يوسف؟ السورة التي سماها الله أحسن القصص، سورة الإبتلاءات، ابتلاءات الكيد والجب والرق وكيد النساء والاتهام والسجن ثم الامتحان بالملك والسلطة والمال، سورة الإحسان، الإحسان في حال الاستضعاف والإحسان في حال البلاء والسجن، والإحسان في حال الملك والقوة، سورة الدعوة في مراحل الحياة الخافضة والرافعة، سورة الثبات في مواجهة الإغراء، والثبات في السجن، والثبات عند فتنة الخروج من السجن بغير تبرئة، والثبات عند حصول الملك والقوة، السورة التي نزلت بعد موت أبي طالب وخديجة، سورة الفراق المحرق، واللهفة الأبوية، والحزن الطويل على الابن الأثير والعين الباكية، وآلام السنين، ثم روعة اللقاء وفرحة الاجتماع بالأبوين والإخوة والأهل.

لقد ختمت هذه السورة بخاتمة جليلة: ختمت بالدعاء بالثبات!كما قال ﷻ عن دعاء يوسف: (رَبِّ قَدۡ ءَاتَیۡتَنِی مِنَ ٱلۡمُلۡكِ وَعَلَّمۡتَنِی مِن تَأۡوِیلِ ٱلۡأَحَادِیثِۚ فَاطِرَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تِ وَٱلۡأَرۡضِ أَنتَ وَلِیِّۦ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ تَوَفَّنِی مُسۡلِمࣰا وَأَلۡحِقۡنِی بِٱلصَّـٰلِحِینَ).