الثلاثاء، 26 سبتمبر 2017

الإحسان المالي الواجب لغير القريب.

         بسم الله الرحمن الرحيم
      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
فمن نظر في نصوص الوحي نطقت له بأعظم بيان وأجلاه على رعاية حق المسلم على أخيه وعلو شأنه وأرفعية قدره، وسيرى ناظر ذلك؛ كم كان الشرع حفيّا ببسط أسباب الإحسان منوّها بها فاتحا لذرائعها، وسيدلك على ذلك تواطؤ التصرفات الشرعية على ذكر وجوه الحقوق الأخوية والتأكيد عليها، وسيظهر لك ذلك على غايةٍ من ظهور؛ إذا رأيت التأكيدات الشرعية تبلغ إلى إيجاب حقوق في مال المسلم على أخيه بمقتضى الأخوة الدينية فحسب؛ وإن لم تجب بزكاة أو عقد أو ملك أو نفقة قرابة أو نكاح.

وهذه وجوه مسفرة عن تلك الأحكام الشرعية، وإشارات سائرة إلى هذه المسائل الدينية، دون استقصاء أو ضرورة ترجيح -فتحقيق القول في مثل هذه المسائل وتطلب المرجحات ليس مقصدا في هذه الورقة- إنما هو التنويه بحق المسلم والإشادة برفعة قدره وعلو شأنه في هذه الشريعة المطهرة:

1- الضيافة، فمن الحقوق المالية للمسلم على أخيه المسلم، ضيافته، وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر قال: قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك تبعثنا، فننزل بقوم لا يقرونا، فما ترى فيه؟ فقال لنا: «إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف»[1] 
وقد ذهب إلى وجوبها الليث وأحمد، خاصة عند الحاجة للقرى والاستضافة، ولاسيما في القرى والبوادي حيث يندر الاتجار بالطعام وتنعدم كراء خانات المساكن والبيوتات وهو قول ابن جرير عند الاحتياج، واختاره ابن حزم.[2]

2- استنقاذ المضطر، فإذا اضطر المسلم لبقاء مهجته إلى طعام أو شراب وعجز عن ثمنه ثم خُشي هلكه بالتراخي في بذله له وجب بذله، وهذا محل إجماع[3].

3- بذل منفعة المرافق للجار إن لم يكن على صاحب المرفق ضرر واحتاج الجار لذلك، فقد بلغ حق المسلم على أخيه مبلغا جاء فيه الأمر ببذل المسلم لأخيه المنفعة ولو كان عليه فيه شيء من ضرر يسير، ليحصل لجاره منفعة أعظم من الضرر اليسير الذي نزل به، كما في وضع الجار خشب بيته على جدار جاره إذا احتاج لذلك، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يمنع جار جاره أن يغرز خشبه في جداره»، ثم يقول أبو هريرة: «ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم».[4]
ومقتضاه وجوب بذل هذه المنفعة، وهو قول أحمد والقديم للشافعي ومذهب بعض أهل الحديث.[5]
ومن ذلك ما ثبت في الموطأ عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه؛أن الضحاك بن خليفة ساق خليجا له من العريض، فأراد أن يمر في أرض محمد بن مسلمة فأبى محمد فقال الضحاك: لم تمنعني؟ وهو لك منفعة تشرب منه أولا وآخرا، ولا يضرك!
فأبى محمد، فكلم الضحاك عمر بن الخطاب فدعا عمر محمد بن مسلمة, فأمره أن يخلي سبيله، فقال: لا، فقال عمر: لمحمد بن مسلمة لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك منفعة، تشرب به أولا وآخرا ولا يضرك؟ فقال محمد بن مسلمة: لا والله!
فقال عمر - رضي الله عنه -: والله ليمرن به، ولو على بطنك، فأمر عمر أن يمر به، ففعل الضحاك.[6].
 وإيجاب بذل المنفعة للمحتاج مذهب أحمد وغيره، واختاره ابن تيمية.[7]

4- وضع الجوائح: وهو حط ثمن المبيع من الثمر إن أصابته آفة سماوية، لحديث جابر في مسلم والسنن: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح".[8]
والقول بالوجوب مذهب المالكية والحنابلة وأهل الحديث.

6 - بذل العارية، مع غنى مالكها، واحتاج إليها أخوه المسلم ممن يؤتمن عليها، وأجمعوا على مشروعيتها، ووقع الخلاف في وجوبها، والقول بوجوبها قول في مذهب أحمد اختاره ابن تيمية.[9]
والأصل فيها قول الله جل جلاله: "ويمنعون الماعون"، قال عبد الله بن مسعود : «كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عور الدلو والقدر»، وبوب عليه أبو داود : باب : في حقوق المال[10].
وشرعة العارية من محاسن الشريعة، وفيها يقول ابن رشد –وهو ممن يقول بسنية بذلها-:"عارة المتاع من عمل المعروف وأخلاق المؤمنين، فينبغي للناس أن يتوارثوا ذلك فيما بينهم ويتعاملوا به ولا يشحوا به ويمنعوه، ومن منع ذلك وشح به فلا إثم عليه ولا حرج؛ إلا أنه قد رغب عن مكارم الأخلاق ومحمودها، واختار لئيمها ومذمومها"[11]
ومما يحسن أن نذكر هنا أن نظر الشرع للعارية بلغ في تحقيق الإحسان بها أن جعلها زكاة مال، فإن عارية الذهب زكاته عند جمع من الصحابة والتابعين.[12]

7 - بذل السكن لمن يحتاجه، مع وجود فضل السكن للمسلم، قال ابن تيمية: "إذا قدر أن قوما اضطروا إلى سكنى بيت إنسان لم يجدوا غيره؛ فعليه أن يسكنهم".[13]

8 – منع الاحتكار، وإجباره على بيع سلعته، وهذا إرفاق بالمسلمين مع ما فيه من تقييد لاستعمال الحق، وقد ثبت في مسلم: "لا يحتكر إلا خاطئ".[14]
ونصوص الفقهاء متكاثرة في وجوب بيعه بنحو سعر مثله.[15]

9 – الشفعة للشريك، فإن للشريك حقا في انتزاع نصيب شريكه ممن انتقل إليه بعوض مالي، وقد ثبت في الصحيحين من حديث جابر :" قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل ما لم يقسم ".[16]
وهي محل إجماع عند الفقهاء[17].

10 - نزع الملكية للمصلحة العامة؛ فقد روى الأزرقي في أخبار مكة للأزرقي عن ابن جريج، قال: "كان المسجد الحرام ليس عليه جدرات محاطة، إنما كانت الدور محدقة به من كل جانب، غير أن بين الدور أبوابا يدخل منها الناس من كل نواحيه، فضاق على الناس، فاشترى عمر بن الخطاب رضي الله عنه دورا فهدمها، وهدم على من قرب من المسجد وأبى بعضهم أن يأخذ الثمن، وتمنع من البيع، فوضعت أثمانها في خزانة الكعبة حتى أخذوها بعد، ثم أحاط عليه جدارا قصيرا، وقال لهم عمر: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم، ثم كثر الناس في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه فوسع المسجد، واشترى من قوم، وأبى آخرون أن يبيعوا، فهدم عليهم فصيحوا به فدعاهم، فقال: «إنما جرأكم علي حلمي عنكم، فقد فعل بكم عمر هذا فلم يصح به أحد فاحتذيت على مثاله فصيحتم بي» ، ثم أمر بهم إلى الحبس حتى كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد فتركهم"[18].

11 – إطراق الفحل ومنحة اللبن، وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب إبل، ولا بقر، ولا غنم، لا يؤدي حقها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الظلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن» قلنا: يا رسول الله، وما حقها؟ قال:"إطراق فحلها، وإعارة دلوها، ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله".[19]
وظاهر الحديث وجوب بذل فحل الأنعام لمن طلب ضرابه، ووجوب منيحتها وحلَبها لمن احتاج، وقد ذهب جمع من السلف إلى ذلك، كما هو مذهب عطاء مجاهد والشعبي والحسن وهو اختيار ابن تيمية.[20]
واللطيف في هذا الشأن أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذلك من العبادات التي يؤمر بها من خشي أن لا يقدر على عزائم الأمر ومؤكدات الشريعة!! فقد ثبت في البخاري عن أبي سعيد، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن الهجرة، فقال: «ويحك إن الهجرة شأنها شديد، فهل لك من إبل؟» قال: نعم، قال:«فتعطي صدقتها؟»، قال: نعم، قال: «فهل تمنح منها شيئا؟»، قال: نعم، قال: «فتحلبها يوم وردها؟»، قال: نعم، قال:«فاعمل من وراء البحار، فإن الله لن يترك من عملك شيئا»([21])، وهذا معنى لطيف يأخذ بيدك لتنظر إلى أي حال بلغ احتفال الشرع المطهر بالمعونة والتواسي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشفق على هذا الأعرابي أن لا يقوى على الهجرة، وما فيها من ضغطة مفارقة الوطن، ومع ذلك رغبه في القيام بحقوق المسلمين، وحثه على حلب إبله للمحتاجين ومنحه للمعوزين.

12 - الأكل من البستان لمن دخله، ففي المسند أحمد عن أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم حائطا فأراد أن يأكل، فليناد: يا صاحب الحائط ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل فأراد أن يشرب من ألبانها، فليناد يا صاحب الإبل - أو يا راعي الإبل - فإن أجابه وإلا فليشرب.[22]
وعن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دخل حائطا فليأكل، ولا يتخذ خبنة"[23].
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى أحدكم على ماشية فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه , فإن أذن له فليحتلب وليشرب , وإن لم يكن فيها فليصوت ثلاثا , فإن أجابه فليستأذنه , وإلا فليحتلب وليشرب ولا يحمل"[24]
وقد ذهب أحمد وإسحاق إلى جواز الأخذات من الثمر بغير إذن صاحب الشجر أو الزرع، إذا لم يكن له حائط يحوطه، سواء عليه أكان مضطرا أم لا.[25]
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
6/ 1/ 1439
الرياض
ــــــــــــ
([1]) البخاري 2461، ومسلم 1727
([2]) البيان والتحصيل 18/146، كشاف القناع 6/202، المحلى 8/146، مختصر اختلاف العلماء 5/230.
([3]) بل ذهب إلى تضمينه المالكية والحنفية، المبسوط 24/142، حاشية الدسوقي 2/368، الحاوي 18/ 141، المغني 9/216 – 422، وثبت في البيهقي: "أن رجلا أتى أهل ماء فاستسقاهم فلم يسقوه حتى مات عطشا فأغرمهم عمر الدية " برقم 118541
([4]) البخاري 2463، ومسلم 1609
([5]) البيان في فقه الشافعي للعمراني 6/262، المغني لابن قدامة 4/376، وينظر : شرح مشكل الآثار 6/205، والاستذكار 7/191، وشرح ابن بطال للبخاري 6/587
([6]) الموطأ 2/467، والعريض بضم العين واد في المدينة، شرح الزرقاني على الموطأ 4/70
([7]) مجموع الفتاوى 28/99
([8]) رواه مسلم برقم 1554، وأبو داود 3374، والنسائي 4529،– المقدمات 2/540، بداية المجتهد 2/202، التاج والإكليل 6/460، المغني 4/80، كشاف القناع 3/284
([9])المبسوط 11/ 135، الكافي 2/808، مغني المحتاج 3/312، الفروع 7/197، الإنصاف 6/102
([10]) سنن أبي داود 1657، وينظر بحث الطحاوي للمسألة في شرح مشكل الآثار 1/267
([11]) المقدمات 2/469
([12]) زكاة الذهب عاريتُه : هو مذهب ابن عمر وجابر وسعيد بن المسيب والشعبي وغيرهم وهو رواية عن أحمد، الأموال لابن زنجويه 1795، مصنف عبد الرزاق برقم 7045، سنن البيهقي الكبرى 4/236، المغني 3/42
([13]) مجموع  الفتاوى 28/29
([14]) رواه مسلم 1605
([15]) بدائع الصنائع 5/129،المنتقى شرح الموطأ 5/17، نهاية المحتاج 3/472، شرح منتهى الإرادات 2/27
([16]) البخاري 2257، ومسلم 1608
([17]) الإقناع لابن المنذر 1/267
([18]) أخبار مكة للأزرقي 2/69
([19]) مسلم 988
([20]) التمهيد 4/212، وحمل الجمهور الحديث على الأدب والندب، شرح النووي على مسلم 7/66، وذكر العراقي في طرح التثريب أن زيادة "إطراق فحلها .." مرسلة، طرح التثريب 4/11
([21]) البخاري 2633
([22])11044
([23]) رواه الترمذي 1287
([24]) أبو داود 2619، الترمذي 1296
([25]) سنن الترمذي 2/ 581، معالم السنن 4/238، والجمهور على عدم جواز ذلك إلا بإذن صاحبه، المجموع شرح المهذب 9/54، شرح الزركشي على الخرقي 6/ 682

الأربعاء، 20 سبتمبر 2017

نزول المصائب بالصالحين ومن دونهم.. الأسباب والآثار.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
     أما بعد:
   فعند نزول المصائب والبأساء والبلايا الخاصة والعامة -كالغرق والحرَق والزلازل- يختلف ميزان نظر الناس لها بحسب الاهتداء بنور الوحي ‏والرجوع للأدلة، ويدور على ألسنة الناس أسئلة عن أسبابها ونتائجها، فيكثر السؤال عن سبب المصيبة:
    هل للمعاصي أثر في ذلك؟
    هل يبتلى بالمصائب عقوبة؟ أم ربما كانت لتكفير السيئات ورفعة الدرجات؟
   وإذا كانت المعاصي سببًا للمصائب فلماذا نرى بعض الكفار في بلنهية من العيش وخفض وسعة؟
     وهنا ذكر لأصول شرعية يجب رعيها وتفهمها عند الحديث عن أسباب المصائب والبلايا وآثارها:

     • الأصل الأول: أنه ما من مصيبة تنزل بالعباد إلا بذنوبهم، كما قال ﷻ: (وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ).
     وكما قال ﷻ: (وما أصابك من سيئة فمن نفسك)، وقد روى ابن جرير عن ابن عباس: "السيئة ما أصاب يوم أحد".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في تفسير هذه الآية: "ﻭﻣﺎ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﻣﻦ اﻟﺸﺮ ﻓﺒﺬﻧﻮﺑﻪ ﻭﻣﻌﺎﺻﻴﻪ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: {ﻭﻣﺎ ﺃصابكم ﻣﻦ ﻣﺼﻴﺒﺔ ﻓﺒﻤﺎ ﻛﺴﺒﺖ ﺃﻳﺪﻳﻜﻢ} (مجموع الفتاوى ٨/ ٦٨)
     وقال: (ﻭﻗﻮﻟﻪ {ﻭﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻚ} ﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻛﺎﻑ اﻟﺨﻄﺎﺏ ﻟﻪ ﷺ - كما ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻭﻏﻴﺮﻩ - ﻭﻫﻮ اﻷﻇﻬﺮ، ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺑﻌﺪ ﺫﻟﻚ، {ﻭﺃﺭﺳﻠﻨﺎﻙ ﻟﻠﻨﺎﺱ ﺭﺳﻮﻻ}، ﻭﺇﻣﺎ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻥ ﻟﻜﻞ ﻭاﺣﺪ ﻣﻦ اﻵﺩﻣﻴﻴﻦ، ﻛﻘﻮﻟﻪ {ﻳﺎ ﺃﻳﻬﺎ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻣﺎ ﻏﺮﻙ ﺑﺮﺑﻚ اﻟﻜﺮﻳﻢ}، ﻟﻜﻦ ﻫﺬا ﺿﻌﻴﻒ، ﻓﺈﻧﻪ ﻟﻢ ﻳﺘﻘﺪﻡ ﻫﻨﺎ ﺫﻛﺮ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻻ ﻣﻜﺎﻧﻪ. ﻭﺇنما ﺗﻘﺪﻡ ﺫﻛﺮ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻗﺎﻟﻮا ﻣﺎ ﻗﺎﻟﻮﻩ، ﻓﻠﻮ ﺃﺭﻳﺪ ﺫﻛﺮﻫﻢ: ﻟﻘﻴﻞ ﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﺣﺴﻨﺔ ﻓﻤﻦ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﺎ ﺃﺻﺎﺑﻬﻢ ﻣﻦ ﺳﻴﺌﺔ، ﻟﻜﻦ ﺧﻮﻃﺐ اﻟﺮﺳﻮﻝ ﺑﻬﺬا، ﻷﻧﻪ ﺳﻴﺪ ﻭﻟﺪ ﺁﺩﻡ، ﻭﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻫﺬا ﺣﻜﻤﻪ: ﻛﺎﻥ ﻫﺬا ﺣﻜﻢ ﻏﻴﺮﻩ ﺑﻄﺮﻳﻖ اﻷﻭﻟﻰ ﻭاﻷﺣﺮﻯ).
     وقد تعجب الصحابة من وقوع مصيبة الهزيمة والقتل في أحد، فأنزل ﷲ: "أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا، قل هو من عند أنفسكم".
‏     وعتب ﷲ على الصحابة بعد هزيمة أحد فقال: "إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا".

     فإن قال قائل: أليس قد صح عن النبي ﷺ أنه قال: "يبتلى المرء على حسب دينه"؟
قيل: نعم، قد صح ذلك عنه عند أهل السنن من حديث سعد بن أبي وقاص، ولو أكمل الحديث لبان لك صدره وانكشف لك فجره!
     فقد ثبت عن سعد أنه قال: ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻱ اﻟﻨﺎﺱ ﺃﺷﺪ ﺑﻼء؟ ﻗﺎﻝ: "اﻷﻧﺒﻴﺎء ﺛﻢ اﻷﻣﺜﻞ فاﻷﻣﺜﻞ، ﻓﻴﺒﺘﻠﻰ اﻟﺮﺟﻞ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺩﻳﻨﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻥ ﺩﻳﻨﻪ ﺻﻠﺒﺎ اﺷﺘﺪ ﺑﻼﺅﻩ، ﻭﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺩﻳﻨﻪ ﺭﻗﺔ اﺑﺘﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﺩﻳﻨﻪ، ﻓﻤﺎ ﻳﺒﺮﺡ اﻟﺒﻼء ﺑﺎﻟﻌﺒﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺘﺮﻛﻪ ﻳﻤﺸﻲ ﻋﻠﻰ اﻷﺭﺽ ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﻴﺌﺔ".
     فتأمل كيف ذكر أن عاقبة ذلك أنه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة.
    ولهذا حين بوّب البخاري في صحيحه (ﺑﺎﺏ: ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼء اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﺛﻢ اﻷﻣﺜﻞ فاﻷﻣﺜﻞ) أورد تحته حديث ابن مسعود ﻗﺎﻝ: ﺩﺧﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭﻫﻮ ﻳﻮﻋﻚ، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﻚ ﻟﺘﻮﻋﻚ ﻭﻋﻜﺎ ﺷﺪﻳﺪا؟
ﻗﺎﻝ: «ﺃﺟﻞ، ﺇﻧﻲ ﺃﻭﻋﻚ ﻛﻤﺎ ﻳﻮﻋﻚ ﺭﺟﻼﻥ ﻣﻨﻜﻢ»
ﻗﻠﺖ: ﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﻟﻚ ﺃﺟﺮﻳﻦ؟
ﻗﺎﻝ: «ﺃﺟﻞ ﺫﻟﻚ ﻛﺬﻟﻚ، ﻣﺎ ﻣﻦ ﻣﺴﻠﻢ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﺃﺫﻯ، ﺷﻮﻛﺔ ﻓﻤﺎ ﻓﻮﻗﻬﺎ، ﺇﻻ ﻛﻔﺮ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ ﺳﻴﺌﺎﺗﻪ، ﻛﻤﺎ ﺗﺤﻂ اﻟﺸﺠﺮﺓ ﻭﺭﻗﻬﺎ».
      فتأمل آخرة الحديث، مع أنه قد ذكر فيه رفع الدرجات ثم بيّن النبي ﷺ أن ذلك مع تكفير السيئات.
     ويعضده ما ثبت في الترمذي ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: "ﻣﺎ ﻳﺰاﻝ اﻟﺒﻼء ﺑﺎﻟﻤﺆﻣﻦ ﻭاﻟﻤﺆﻣﻨﺔ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﻣﺎﻟﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﻠﻘﻰ اﻟﻠﻪ ﻭﻣﺎ ﻋﻠﻴﻪ ﺧﻄﻴﺌﺔ".
وقال الترمذي: ﻫﺬا ﺣﺪﻳﺚ ﺣﺴﻦ ﺻﺤﻴﺢ.
     فتشديد البلاء على الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل ليس لكثرة ذنوبهم، ولكن ليعظم تكفير الذنوب، فيكثر بلاؤهم ليكثر تكفير ذنوبهم، وإلا فذنوبهم أقلّ من ذنوب غيرهم، ثم لا تستوحش من هذا، فتقول: وهل للأنبياء ذنوب؟! فإن الأدلة دالة على تجويز الصغائر على الأنبياء دون أن يقرّوا عليها، وعلى هذا عامة السلف، والقول بعصمتهم من الصغائر قول حادث، قال ﷻ: (وعصى آدم ربه فغوى)، وقال: (فاعلم أنه لا إله إلا ﷲ واستغفر لذنبك).

     • الأصل الثاني: إذا تقرر أن كل بلاء وعقوبة فبذنب؛ فليس يلزم أن يعاقب العبد بكل ذنب، بل إن كثيرًا من الذنوب لا يؤاخذ ﷲ بها العباد، كما قال سبحانه: "وما أصابكم ‏من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير".
وهذه الآية اجتمع فيها أصلان:
- أن المصائب من الذنوب.
- ولكن لا يلزم العقوبة على كل ذنب.

     وإنك واجد عند وقوع المصيبة تسلطًا وسخرية من تسبيب العقوبات بالذنوب؛ وربما يقول قائلهم: انظر إلى الكفار يأتون أعظم الذنوب ولم ينزل بهم ما نزل ببعض المسلمين!، وإن نزل بالكفار مصيبة قال: لا تقل إن ذلك بذنبهم، فقد نزل بالمسلمين مثلما نزل بهم.

     وهذه غفلة عظيمة عن أصل في ‏الباب، فإن الأدلة جاءت بأن البلاء قد ينزل ببعض المؤمنين تكفيرًا لذنبه، وقد يترك بعض الكفار استدراجًا له، قال ﷺ: "لا يصيب المؤمن من مصيبة ‏حتى الشوكة إلا قص الله بها من خطاياه أو كفر بها من خطاياه" رواه مسلم.
     بل إنه يشدّد على المؤمنين كما سبق، كما قال ﷺ: "إن الصالحين يشدد عليهم، وأنه ‏لا يصيب مؤمناً نكبة من شوكة فما فوق ذلك إلا حطت به عنه خطيئة، ورفع له بها درجة" رواه أحمد.
وفيه قال ﷺ: "إﻥ ﻣﻦ ﺃﺷﺪ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻼء اﻷﻧﺒﻴﺎء، ﺛﻢ ‏ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ، ﺛﻢ اﻟﺬﻳﻦ ﻳﻠﻮﻧﻬﻢ".
     وأما الكافر فقد يستدرجه ﷲ كما قال ﷻ: "والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وأملي لهم".

     • الأصل الثالث: أنّ من أصيب بمصيبة وبلاء من أهل الإيمان فلا يجوز تعييره والسخرية بمصابه.
وإن من شؤم السخرية بمن نزل به البلاء من المؤمنين أن تجد من احتملته غضبته حتى أنكر أثر الذنب في المصيبة، انتصارًا للذي عيّر أهل البلاء حين نزلت بهم مصيبة.

     • ومن الأصول المهمة: أن يُعلم أن نزول البلاء قد يكون خيرًا للعبد، فإنه قد يكون سببًا في رجوعه إلى ﷲ، كما قال ﷻ: "ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب  الأكبر ‏لعلهم يرجعون".
     وكثير من الناس ينسى النعم وتعظُم لديه المصيبة، قال ﷲ: "إن الإنسان لربه لكنود" قال الحسن: "يعد المصائب وينسى النعم".

     • ومن الأصول في هذا الباب: أن البلاء قد ينزل فيعم الصالح والفاسد، ففي الصحيحين قال ﷺ: "ﺇﺫا ﺃﻧﺰﻝ اﻟﻠﻪ ﺑﻘﻮﻡ ﻋﺬاﺑﺎ ﺃﺻﺎﺏ اﻟﻌﺬاﺏ ﻣﻦ ﻛﺎﻥ ﻓﻴﻬﻢ، ﺛﻢ ﺑﻌﺜﻮا ﻋﻠﻰ ﺃﻋﻤﺎﻟﻬﻢ".

     • من الأصول العظيمة أيضا: أن النعمة قد تكون بلاء، يبتلي ﷲ العبد بالنعم فيقسو قلبه ويغفل عن ذنبه ولو عوقب لربما رجع، فيمكر به ويزداد في الغيّ.

     • أخيرا: فليس الحديث عن أثر الذنب تزكية للنفس بل كلنا أهل ذنب وتقصير، وما أصبنا من مصائب فبذنوبنا وسيئاتنا، وﷲ يتجاوز ويغفر ولا يؤاخذنا.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.