الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

المصالح في ميزان الشريعة


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد :
فإن مبنى الشريعة على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد ، وكل مسألة خرجت عن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بنوع من التأويل .(¹)

وقد بلغ من استقرار هذا الأمر في نفوس عامة أهل العلم وخاصتهم مبلغًا لا يُحتاج معه إلى تنويه وتنبيه .

ولكنْ .. كثيرًا ما يتوهم الناس أن الشيء ينفع في الدين والدنيا؛ وتجده عند تحقيق الأمر ذا منفعة مرجوحة بالمضرة ، كما قال تعالى : " قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما " .(²)

وأَعْرَضُ الدعاوى ادعاء المصلحة في الاجتهاديات، وما شاء أحد أن يرد من أمر الديانة ما شاء إلا تسوّر ذلك بدعوى المصلحة في بحثه وتقريره، وهو ادعاء مشترك بين عديد من العاملين في الساحة الإسلامية .

والعصمة موكولة بضبط ميزان الشريعة للمصالح والمفاسد، فإن الاشتباه واقع في هذا الشأن لأسباب منها :
- عدم تحقيق المعتبر والملغى من المصالح في الشريعة
- عدم ضبط مراتبها على منوال ما قررته النصوص
- عدم ضبط مراتب ما يرتكب من المفاسد لاسيما إذا اجتمعت في محل واحد .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إذا اختلطت الحسنات بالسيئات وقع الاشتباه والتلازم، فأقوام قد ينظرون إلى الحسنات فيرجحون هذا الجانب وإن تضمن سيئات عظيمة، وأقوام قد ينظرون إلى السيئات فيرجحون الجانب الآخر وإن ترك حسنات عظيمة، والمتوسطون الذين ينظرون الأمرين، قد لا يتبين لهم أو لأكثرهم مقدار المنفعة والمضرة، أو يتبين لهم فلا يجدون من يعنيهم العمل بالحسنات وترك السيئات لكون الأهواء قارنت الآراء " .(³)

والجاري في العادة أن طروء الخلل في التصرفات الفقهية - في هذا الباب - ليس يأتي من إهدار المصالح وإلغائها؛ بقدر ما يأتي من إعمالها على غير قانون الوحي ومجافاتها له .

وهذا التجافي عن قانون الوحي - في هذا الباب - يقع على أنواع  :
• فمن ذلك عدم الالتفات للمصالح القلبية الإيمانية في مقابل المصالح الدنيوية المحسوسة، فإنه لما كان للمصالح الشرعية المدركة بالمعقول؛ داعية في الطبع تدعو إلى حياطتها وحفظها؛ جاء الخلل بإهدار بعض المصالح الإيمانية المتعلقة بأمر غيبي مما ليس يدرك بمباشرة المحسوسات .
فقد ثبت في مسلم ﻋﻦ ﻋﻤﺮاﻥ ﺑﻦ ﺣﺼﻴﻦ ﻗﺎﻝ : ( ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ ﺃﺳﻔﺎﺭﻩ، ﻭاﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﻧﺎﻗﺔ، ﻓﻀﺠﺮﺕ فلعنتها، ﻓﺴﻤﻊ ﺫﻟﻚ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ : " ﺧﺬﻭا ﻣﺎ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﺩﻋﻮﻫﺎ، ﻓﺈﻧﻬﺎ ملعوﻧﺔ "
ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮاﻥ : ﻓﻜﺄﻧﻲ ﺃﺭاﻫﺎ اﻵﻥ ﺗﻤﺸﻲ ﻓﻲ اﻟﻨﺎﺱ، ﻣﺎ ﻳﻌﺮﺽ ﻟﻬﺎ ﺃﺣﺪ ) .
(⁴)

فهذا نص في اعتبار مصلحة المباعدة عن الأعيان الملعونة، لدخولها في الشر والشؤم ونقص البركة واليمن باللعن، وهي مصلحة لها نظائر مما اعتبرتها نصوص الوحي .
فإن للمعاصي - واللعن بخاصّة - من التأثير على المكلفين والديار والعجماوات ما جعل الشريعة تهدر مالية هذه الأعيان ومنفعتها توقيا من ذاك التأثير .(⁵)

وهذا باب عظيم من أبواب المحافظة على تلك المصلحة بهذا الزاجر المالي، فإن رؤية الصحابة للناقة لا يتعرض لها، وسلب ماليتها ومنع الانتفاع بها - مع عظم حاجة الصحابة - وهم في سفر طاعة - فإن كل أسفار النبي ﷺ كانت في غزو أو نسك - فمع الداعية الحاجيّة لحرز المال وصونه في مثل تلك الحال، ولكن النبي ﷺ لم يعتبر هذه المصلحة في مقابل دفع تلك المفسدة .(⁶)


ومن هذا ما ثبت في الصحيحين عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﺃﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻧﺰﻟﻮا ﻣﻊ رسول الله ﷺ ﺃﺭﺽ ﺛﻤﻮﺩ، اﻟﺤﺠﺮ، ﻓﺎﺳﺘﻘﻮا ﻣﻦ ﺑﺌﺮﻫﺎ، ﻭاﻋﺘﺠﻨﻮا ﺑﻪ، ﻓﺄﻣﺮﻫﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﻥ يهريقوا ﻣﺎ اﺳﺘﻘﻮا ﻣﻦ ﺑﺌﺮﻫﺎ، ﻭﺃﻥ ﻳﻌﻠﻔﻮا اﻹﺑﻞ اﻟﻌﺠﻴﻦ، ﻭﺃﻣﺮﻫﻢ ﺃﻥ ﻳﺴﺘﻘﻮا ﻣﻦ اﻟﺒﺌﺮ اﻟﺘﻲ ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺩﻫﺎ اﻟﻨﺎﻗﺔ ".(⁷)

 قال ابن هبيرة :" فإن البركة تؤثر في الأرض والماء، وكذلك اللعنة والعذاب " (⁸)

وفيه دليل على جواز إهدار المصلحة المالية لمثل هذا الاعتبار .

وفي هذا المعنى الشريف يقول ابن تيمية :" ﻭﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻘﺼﺮ ﻧﻈﺮﻩ ﻋﻦ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺎ ﻳﺤﺒﻪ اﻟﻠﻪ ﻭﺭﺳﻮﻟﻪ ﻣﻦ ﻣﺼﺎﻟﺢ اﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭاﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﻣﻔﺎﺳﺪﻫﺎ، ﻭﻣﺎ ﻳﻨﻔﻌﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﻘﺎﺋﻖ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭﻣﺎ ﻳﻀﺮﻫﺎ ﻣﻦ اﻟﻐﻔﻠﺔ ﻭاﻟﺸﻬﻮﺓ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ( ﻭﻻ ﺗﻄﻊ ﻣﻦ ﺃﻏﻔﻠﻨﺎ ﻗﻠﺒﻪ ﻋﻦ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭاﺗﺒﻊ ﻫﻮاﻩ ﻭﻛﺎﻥ ﺃﻣﺮﻩ ﻓﺮﻃﺎ )، ﻭﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: ( ﻓﺄﻋﺮﺽ ﻋﻦ ﻣﻦ ﺗﻮﻟﻰ ﻋﻦ ﺫﻛﺮﻧﺎ ﻭﻟﻢ ﻳﺮﺩ ﺇﻻ اﻟﺤﻴﺎﺓ اﻟﺪﻧﻴﺎ ) ( ﺫﻟﻚ ﻣﺒﻠﻐﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻢ )، ﻓﺘﺠﺪ ﻛﺜﻴﺮا ﻣﻦ ﻫﺆﻻء ﻓﻲ ﻛﺜﻴﺮ ﻣﻦ اﻷﺣﻜﺎﻡ ﻻ ﻳﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﻭاﻟﻤﻔﺎﺳﺪ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻋﺎﺩ ﻟﻤﺼﻠﺤﺔ اﻟﻤﺎﻝ ﻭاﻟﺒﺪﻥ " (9)

• ومن فروع ما سبق ما يتصوره بعضهم من أن المصالح إنما شرع حفظها لجلب النفع ودفع الضر الدنيويين، ويغفل عن كونها شرعت للمحافظة على (مقصود الشارع) بإصلاح القلوب وإخراجها من تحكمات الهوى وتسلطه .
يقول الشاطبي :  " إن  الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم حتى يكونوا عبادا لله وهذا المعنى إذا ثبت لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء  النفوس وطلب منافعها العاجلة كيف كانت وقد قال ربنا سبحانه: ( ولو اتبع الحق  أهواءهم لفسدت السموات والأرض ومن فيهن ) .. ومن أمثلة ذلك الجهاد قال تعالى: ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) " .(10)

وهذا لا ينافي أن الشريعة قد جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت لهم حظوظهم ..(11)

ولهذا فتأمل ما ثبت في الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺃﻥ اﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﺯﻭﺟﺖ اﺑﻨﺘﻬﺎ، ﻓﺘﻤﻌﻂ ﺷﻌﺮ ﺭﺃﺳﻬﺎ، ﻓﺠﺎءﺕ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺬﻛﺮﺕ ﺫﻟﻚ ﻟﻪ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﺇﻥ ﺯﻭﺟﻬﺎ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺻﻞ ﻓﻲ ﺷﻌﺮﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: " ﻻ، ﺇﻧﻪ ﻗﺪ ﻟﻌﻦ اﻟﻤﻮﺻﻼﺕ " (12)


فمع أن التزين للزوج من محاسن ما أباحته النصوص، ورعيه يؤول إلى مقصد المودة بين الزوجين، وهو من مباح رغبات النفس وحظوظها، وهنا فلم تبدر - تلك الصحابية - بالوصل دون حاجة، بل قد تضايق بابنتها الحال بالمرض، وتمزق شعرها وهي تريد إدخالها على زوجها، ولكن مع كل ذلك لم يعتبر ﷺ كل تلك المنافع في مقابل مصلحة رياضة النفس بالخروج عن هواها ورغباتها المحرمة .

ويدل على ذلك ما روى الشيخان عن ﻋﺒﺎﻳﺔ ﺑﻦ ﺭﻓﺎﻋﺔ ﺑﻦ ﺭاﻓﻊ، ﻋﻦ ﺟﺪﻩ ﺭاﻓﻊ ﺑﻦ ﺧﺪﻳﺞ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﻣﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺑﺬﻱ اﻟﺤﻠﻴﻔﺔ، ﻓﺄﺻﺎﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﺟﻮﻉ، ﻓﺄﺻﺒﻨﺎ ﺇﺑﻼ ﻭغنما، ﻭﻛﺎﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻲ ﺃﺧﺮﻳﺎﺕ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻌﺠﻠﻮا ﻓﻨﺼﺒﻮا القدور، ﻓﺪﻓﻊ ﺇﻟﻴﻬﻢ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺄﻣﺮ ﺑﺎلقدور ﻓﺄﻛﻔﺌﺖ ". (13)

فإنك إذا تأملت هذا الحديث ثم رأيت كيف أن النبي ﷺ لم يوسع للمجاهدين من صحابته - مع حاجتهم - في أكل ما ذبحوه قبل القسمة، بل أمر بإتلافه، ولم يعصم ماليته، ولم يعتبر مصلحة حفظ المال، مع أن هذا المال في آخر أمره من مال الغانمين في الجملة، ومع هذا تجد أنه ﷺ عاقبهم بحرمانهم منه مع تعلق قلوبهم وقرمهم إليه ليكون أبلغ في الزجر، وآكد في التنبيه على مصلحة إصلاح القلب بالبعد عن المعاصي، .
(14)


- ولأنه قد استقر في الشرع تعظيم ( الأموال وعصمتها ) فربما عظم بعضهم ذلك فوق رعاية مصلحة ( خروج النفس عن هواها ) ، حتى تجد من يستشكل أن يتلف النبي ﷺ هذا الطعام، فيقول المهلب : ( واعلم أن اﻟﻤﺄﻣﻮﺭ ﺑﻪ ﻣﻦ ﺇﺭاﻗﺔ القدﻭﺭ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺇﺗﻼﻑ ﻟﻨﻔﺲ اﻟﻤﺮﻕ ﻋﻘﻮﺑﺔ ﻟﻬﻢ، ﻭﺃﻣﺎ ﻧﻔﺲ اﻟﻠﺤﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﺘﻠﻔﻮﻩ !
ﺑﻞ ﻳﺤﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﺟﻤﻊ ﻭﺭﺩ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﻐﻨﻢ ﻭﻻ ﻳﻈﻦ ﺃﻧﻪ ﷺ ﺃﻣﺮ ﺑﺈﺗﻼﻓﻪ، ﻷﻧﻪ ﻣﺎﻝ ﻟﻠﻐﺎﻧﻤﻴﻦ، ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻰ ﻋﻦ ﺇﺿﺎﻋﺔ اﻟﻤﺎﻝ ﻣﻊ ﺃﻥ اﻟﺠﻨﺎﻳﺔ ﺑﻄﺒﺨﻪ ﻟﻢ ﺗﻘﻊ ﻣﻦ ﺟﻤﻴﻊ مستحقي اﻟﻐﻨﻴﻤﺔ إذ ﻣﻦ ﺟﻤﻠﺘﻬﻢ ﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﺨﻤﺲ ﻭﻣﻦ اﻟﻐﺎﻧﻤﻴﻦ ) .
(15)


ولست أشك أن ما قاله المهلب - وتتابع عليه جمع من الشراح دون تعقب - غير صحيح، فليس في إراقة المرق واستبقاء اللحم زاجرة تزجر من وقع في المخالفة، وهو خلاف ظاهر النص الذي لم يفصل في الواقعة، و يقوي ذلك ما جاء في سنن أبي داود عن رجل من الأنصار قال : " ثم جعل يرمل اللحم بالتراب " .(16)

وفي هذا أيضا ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي ﷺ نهى وفد عبد قيس عن الانتباذ في الأوعية، فسئل : فيم ننتبذ يا رسول الله ؟
ﻗﺎﻝ: " ﻓﻲ ﺃﺳﻘﻴﺔ اﻷﺩﻡ اﻟﺘﻲ ﻳﻼﺙ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻮاﻫﻬﺎ "
ﻗﺎﻟﻮا: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥ ﺃﺭﺿﻨﺎ ﻛﺜﻴﺮﺓ اﻟﺠﺮﺫاﻥ، ﻭﻻ ﺗﺒﻘﻰ ﺑﻬﺎ ﺃﺳﻘﻴﺔ اﻷﺩﻡ
ﻓﻘﺎﻝ ﻧﺒﻲ اﻟﻠﻪ ﷺ : " ﻭﺇﻥ ﺃﻛﻠﺘﻬﺎ اﻟﺠﺮﺫاﻥ، ﻭﺇﻥ ﺃﻛﻠﺘﻬﺎ اﻟﺠﺮﺫاﻥ، ﻭﺇﻥ ﺃﻛﻠﺘﻬﺎ اﻟﺠﺮﺫاﻥ " (17)
فلم يأذن النبي ﷺ لهم في الانتباذ في أول الأمر، مع ما ذكروا من عذرهم .

• وقد يدخل الخلل حين لا تستبشع المفسدة على نحو استبشاع الشرع لها، فيوسع المتفقه العذر بارتكابها بغير موجب .
فتأمل ما رواه الشيخان عن ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ قالت : ﺟﺎءﺕ اﻣﺮﺃﺓ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥ اﺑﻨﺘﻲ ﺗﻮﻓﻲ ﻋﻨﻬﺎ ﺯﻭﺟﻬﺎ، ﻭﻗﺪ اﺷﺘﻜﺖ عينها، ﺃﻓﺘﻜﺤﻠﻬﺎ ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ : " ﻻ .. " ﻣﺮﺗﻴﻦ ﺃﻭ ﺛﻼﺛﺎ، ﻛﻞ ﺫﻟﻚ ﻳﻘﻮﻝ : " ﻻ "
ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ : " ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﺃﺷﻬﺮ ﻭﻋﺸﺮ، ﻭﻗﺪ ﻛﺎﻧﺖ ﺇﺣﺪاﻛﻦ ﻓﻲ اﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ ﺗﺮﻣﻲ ﺑﺎﻟﺒﻌﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺱ اﻟﺤﻮﻝ " .(18)
فلم يأذن النبي ﷺ لمن اشتكت عينها أن تكحلها في الإحداد، مع رعاية الشريعة لحفظ الأبدان، ولكن لما كان كحل الزينة لا يتعين طريقا للشفاء، لم يوسع النبي ﷺ فيه .
وقد روي في سنن أبي داود ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻲ ﺭﺳﻮﻝ الله ﷺ ﺣﻴﻦ ﺗﻮﻓﻲ ﺃﺑﻮ ﺳﻠﻤﺔ، ﻭﻗﺪ ﺟﻌﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻋﻴﻨﻲ ﺻﺒﺮا، ﻓﻘﺎﻝ :
" ﻣﺎ ﻫﺬا ﻳﺎ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ ؟ "
ﻓﻘﻠﺖ :
ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻮ ﺻﺒﺮ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﻃﻴﺐ  .
ﻗﺎﻝ: " ﺇﻧﻪ ﻳﺸﺐ اﻟﻮﺟﻪ ﻓﻼ ﺗﺠﻌﻠﻴﻪ ﺇﻻ ﺑﺎﻟﻠﻴﻞ، ﻭﺗﻨﺰﻋﻴﻨﻪ ﺑﺎﻟﻨﻬﺎﺭ ".(19)
فلما احتيج لذلك قيد بقيود عند جمع من فقهاء الأمة :
بكونه كحلا غير ذي زينة
مما يحتاج إليه
وتضعه بالليل
فهذه قيود ثلاثة ينص عليها جمع منهم .(20)


• ومثله عدم ضبط مراتب المصالح على النحو الذي جاءت به الأدلة، وذلك بالاسترسال في تعظيم مصلحة - معتبرة في الجملة - بأكثر مما عظمتها الشريعة، والواجب أن يكون " اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها "(21)

واعْتَبر ذلك فيما لو سئل بعضهم عن مفسدة ( الرجوع في الهبة ) في مقابل ( مصلحة حفظ فرس؛ أعطيت لمن يجاهد بها ) ، فلربما وجدت من لا يتردد في الجزم بأن مقاصد الشريعة تدل على وجوب شراء الفرس - التي أعدت للجهاد - وأخذها من يد من لم يحفظها، لتكون فيما أعدت له، وربما عضد قوله بذكر ما للخيل من شرف أكّدت عليه النصوص، حتى حفظ جنسه بمنع إنزاء الحمير عليها(22)


لكن إذا ﺳﻤﻌﺖ حديث ﻋﻤﺮ أنه قال : ﺣﻤﻠﺖ ﻋﻠﻰ ﻓﺮﺱ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ، ﻓﺄﺿﺎﻋﻪ اﻟﺬﻱ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻩ، ﻓﺄﺭﺩﺕ ﺃﻥ ﺃﺷﺘﺮﻳﻪ ﻭﻇﻨﻨﺖ ﺃﻧﻪ ﻳﺒﻴﻌﻪ ﺑﺮﺧﺺ، ﻓﺴﺄﻟﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ : " ﻻ ﺗﺸﺘﺮﻱ، ﻭﻻ ﺗﻌﺪ ﻓﻲ ﺻﺪﻗﺘﻚ، ﻭﺇﻥ ﺃﻋﻄﺎﻛﻪ ﺑﺪﺭﻫﻢ، ﻓﺈﻥ اﻟﻌﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﺻﺪﻗﺘﻪ ﻛﺎﻟﻌﺎﺋﺪ ﻓﻲ ﻗﻴﺌﻪ".(23)
وربما قيل : ولكن النبي ﷺ لم يمنع غير عمر من شرائه، قيل : نعم، لتخلف المفسدة المقابلة، فالمقصود هو ذكر تقابل مصلحة مع مفسدة الرجوع في الهبة .

وإنما يحصل ذلك لقصور فهوم العباد عن كمال تصور المصالح وما يضادها، قال الشاطبي :"ﺇﻥ اﻟﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﺑﻬﺎ ﺃﺣﻮاﻝ اﻟﻌﺒﺪ ﻻ ﻳﻌﺮﻓﻬﺎ ﺣﻖ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ ﺇﻻ ﺧﺎﻟﻘﻬﺎ ﻭﻭاﺿﻌﻬﺎ، ﻭﻟﻴﺲ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﺑﻬﺎ ﻋﻠﻢ ﺇﻻ ﻣﻦ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﺟﻮﻩ، ﻭاﻟﺬﻱ ﻳﺨﻔﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ اﻟﺬﻱ ﻳﺒﺪﻭ ﻟﻪ؛ ﻓﻘﺪ ﻳﻜﻮﻥ ﺳﺎﻋﻴﺎ ﻓﻲ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻦ ﻭﺟﻪ ﻻ ﻳﻮﺻﻠﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ، ﺃﻭ ﻳﻮﺻﻠﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻋﺎﺟﻼ ﻻ ﺁﺟﻼ، ﺃﻭ ﻳﻮﺻﻠﻪ ﺇﻟﻴﻬﺎ ﻧﺎﻗﺼﺔ ﻻ ﻛﺎﻣﻠﺔ، ﺃﻭ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻔﺴﺪﺓ ﺗﺮﺑﻲ ﻓﻲ اﻟﻤﻮاﺯﻧﺔ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺼﻠﺤﺔ؛ ﻓﻼ ﻳﻘﻮﻡ ﺧﻴﺮﻫﺎ ﺑﺸﺮﻫﺎ، ﻭﻛﻢ ﻣﻦ ﻣﺪﺑﺮ ﺃﻣﺮا ﻻ ﻳﺘﻢ ﻟﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﻤﺎﻟﻪ ﺃﺻﻼ، ﻭﻻ ﻳﺠﻨﻲ ﻣﻨﻪ ﺛﻤﺮﺓ ﺃﺻﻼ، ﻭﻫﻮ ﻣﻌﻠﻮﻡ ﻣﺸﺎﻫﺪ ﺑﻴﻦ اﻟﻌﻘﻼء" ( الموافقات ١/٥٣٧)

وترتيب المصالح على نحو ما جاء في نصوص الوحي من خاصّ الفقه، وعسى أن يكون إدمان النظر في النصوص داعيا لضبط الترتيب الشرعي للمصالح، فإن بادئ الرأي قد يقدم ما أخرته الشريعة ويؤخر ما قدمته، ألست تجد في نفسك أن مصلحة استماع خطبة الجمعة، والإنصات لها وعدم التشاغل عنها أعظم من مصلحة ركعتي التحية لولا ما جاء في الحديث الذي خرجه الشيخان عن ﺟﺎﺑﺮ ﻗﺎﻝ :
ﺩﺧﻞ ﺭﺟﻞ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻭاﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﺨﻄﺐ
ﻓﻘﺎﻝ : " ﺃﺻﻠﻴﺖ؟ "
ﻗﺎﻝ : ﻻ
ﻗﺎﻝ : " ﻗﻢ ﻓﺼﻞ ﺭﻛﻌﺘﻴﻦ "(24)
فلو وكلنا إلى نظرنا ورأينا فربما قال قائل :
استماع الخطبة مصلحة مقصودة خاصة، وهي مقدمة على ركعتي تحية المسجد فإنها عبادة لا تختص بيوم الجمعة، فتقدم تلك المصلحة ! .

ومثل ذلك ما قد يقع في النظر بتقديم مصلحة إدراك أول الصلاة على مصلحة المشي بسكينة وخشوع للمسجد، فقد يقال :
إدراك الصلاة مع الإمام مصلحة معتبرة متعلقة بذات العبادة، والاضطراب والسعي مفسدة متعلقة بهيئة المشي للصلاة، فتقدم تلك المصلحة، لولا أن رجوعنا للنص يضبط لنا ذلك، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال النبي ﷺ :" ﺇﺫا ﺃﻗﻴﻤﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻓﻼ ﺗﺄﺗﻮﻫﺎ ﺗﺴﻌﻮﻥ، ﻭﺃﺗﻮﻫﺎ ﺗﻤﺸﻮﻥ، ﻋﻠﻴﻜﻢ اﻟﺴﻜﻴﻨﺔ، ﻓﻤﺎ ﺃﺩﺭﻛﺘﻢ ﻓﺼﻠﻮا، ﻭﻣﺎ ﻓﺎﺗﻜﻢ ﻓﺄﺗﻤﻮا " (25)

إذا سمعت ذلك عقلت شيئا من الترتيب المصلحي في النصوص، وعلمت أن الفقيه الذي يريد معايرة درجات المصالح لابد أن يردد النظر كثيرا في رتبها، وخصال اعتبارها على نحو قانون الشرع، وليس بحسب ما يصول في النفوس .

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

كتبه / أبو المثنى محمد آل رميح

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(¹) : [ إعلام الموقعين ٣ / ١١  ]
(²) : [ مجموع الفتاوى ١١ / ٣٤٥ ]
(³) : [ مجموع الفتاوى ٢٠ / ٥٨ ] .
(⁴) : [ مسلم ٢٥٩٥ ].
(⁵) : [ كشف مشكل الصحيحين لابن الجوزي ١ / ٤٨٧ ] .
(⁶) : [ معالم السنن ٢ / ٢٥١ ، إكمال المعلم ٨ / ٦٧، شرح النووي على مسلم ١٦ /١٤٧، وقد ذكر - رحمه الله - أن النهي مقتصر على المصاحبة دون سائر الانتفاعات ]. والقول الثاني : أن المنع هنا منصب على سائر وجوه الانتفاع - سواء كان ذلك على سبيل التحريم أو الكراهة - وقد خُرّج في مذهب أحمد وجوب اعتاق العبد والتصدق بالمال إذا لعنه صاحبه الفروع ٩ / ٣٣٣، وانظر شرح حديث لبيك اللهم - لابن رجب، ٤٨ ].
(⁷) : [ رواه البخاري ٣٣٧٩، ومسلم  ٢٩٨١ ] .
(⁸) : [ الإفصاح ٤ / ٨٧ ، ولذلك منع كثير من الفقهاء الطهارة به ، مواهب الجليل ١ / ٤٩، مجموع النووي ١ / ٩١، كشاف القناع ١ / ٢٩ ].
(⁹) : [ مجموع فتاوى ابن تيمية ٣٢ / ٢٣٣ ]
(10)[ الموافقات  ٢ / ٦٣ ] .
(11) : [ الموافقات ٢ / ٢٩٤ ] .
(12) : [ رواه البخاري ٥٢٠٥، ومسلم ٢١٢٣ ] .
(13) : [ رواه البخاري ٢٤٨٨، ومسلم ١٩٦٨ ] .
(14) : [ الإعلام لابن الملقن ١٠ / ١٦١ ] .
(15) :  [ شرح ابن بطال ٥ / ٢٣٦ ، شرح النووي لمسلم ١٣ / ١٢٧ ] .
(16) : [ رواه أبو داود ٢٧٠٥ ، وقد بوّب البخاري على هذا الحديث
 ( باب : إذا أصاب قوم غنيمة فذبح بعضهم إبلا أو غنما بغير أمر أصحابهم لم تؤكل ) ، وقد انفصل ابن حزم بقول رأى فيه اطرادا وسلامة من الإشكال، فقال : بحرمته لأنه كالميتة المحلى ٦ / ٩٢ وهو جار على أصوله رحمه الله باقتضاء النهي للفساد، وربما دل عليه ما جاء في سنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺛﻌﻠﺒﺔ ﺑﻦ الحكم ﻗﺎﻝ : ﺃﺻﺒﻨﺎ ﻏﻨﻤﺎ ﻟﻠﻌﺪﻭ ﻓﺎﻧﺘﻬﺒﻨﺎﻫﺎ، ﻓﻨﺼﺒﻨﺎ ﻗﺪﻭﺭﻧﺎ، ﻓﻤﺮ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺑﺎﻟﻘﺪﻭﺭ، ﻓﺄﻣﺮ ﺑﻬﺎ ﻓﺄﻛﻔﺌﺖ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ : " ﺇﻥ اﻟﻨﻬﺒﺔ ﻻ ﺗﺤﻞ " ابن ماجه ٣٩٣٨ . ]
(17) [ رواه مسلم ١٨ ]
(18) : [ البخاري ٥٠٢٥ ومسلم  ١٤٨٨ ].
(19) : [ رواه أبو دواد ٢٣٠٥، وفيه مقال ].
(20) :[ التوضيح لابن الحاجب ٥ / ٦٧، المجموع شرح المهذب ١٨ / ١٨٢، المغني ٩ / ١٤٩، شرح ابن بطال ٧ / ٥٠٥ ، الإحكام لابن دقيق العيد ٢ / ١٩٧ ،  فتح الباري ٩ / ٤٨٨ ] .
(21) : [ مجموع الفتاوى ٢٨ / ١٢٩، وأفواه الأصوليين رطبة بذكر ذلك في شروط العمل بالمصلحة، فيشترطون أن لا تعارض مصلحة أرجح، وليس شأني هنا ذكر ذلك وبيانه، ولكن الشأن التأكيد على ضبط رتب المصالح ودرجاتها، وتصحيح النظر في وزن هذه المصالح ] .
(22) : [ كما جاء من النهي عن حمل الحمير على الخيل، رواه أبو داود  ٢٥٦٥، حفاظا على نسلها ، معالم السنن ٢ / ٣٥١ ] .
(23) : [ رواه البخاري ١٤٩٠، ومسلم ١٦٢٠ ، وقد عمل بذلك جمع من الفقهاء فمنعوا الرجوع في الهبة ولو تلفت عند من وهبت له، الشرح الكبير للدردير ٤ / ١١٢، المغني ٢ / ٤٨٦  ].
(24) رواه البخاري ٩٣١ - ومسلم ٨٧٥
(25) رواه البخاري ٩٠٨ - ومسلم ٦٠٢ 

(ولاية الرجل على المرأة.. بين إحكام الدين وتأويل المبطلين)

             بسم الله الرحمن الرحيم
              
     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أسمعتم ذلكم الضجيج؟
أسمعتم أولئك الذين يريدون أن تلقى الحبال على الغوارب؟
أرأيتم دعوات المطالبين بإسقاط ولاية الرجل عن المرأة؟
أرأيتم هجنة قولهم؟ وشناعة مطالبهم؟ كيف يميلون بأعناقهم ويروغون، حتى زعم زاعمهم أن ولاية الرجل عادة ما أنزل الله بها من أثارة من علم؟!
• وهذه مقالة مختصرة في بيان بعض حكم هذه المسألة، وسرد بعض أدلتها، ليعلم القوم أن ولاية الرجل على المرأة شريعة مُحْكمة، جاءت النصوص بحفظها وتقريرها، وتكاثرت أدلتها، وأجمعت على جنسها الأمة.
وفيها رد على زعم المبطلين حين زعموا أنها أعراف وعادات فرضها الرجال على النساء بغير بينة، وتسلط ذكوري كما يريد أن يصَوّرها المبطلون.
وستجد أنها ليست مسألة اجتهادية؛ اجتهدها علماء المسلمين في عصر من العصور وقلدهم فيها المقلدون، كما يكيد المبدلون أن ينشروه ليهون على الناس ردها بعد ذلك.
وسأختمها بخاتمة أنبّه فيها أنه قد أُلصق بالولاية ما ليس منها، وضم إليها ما ليس يثبته دليل، وجعلها بعض الظلمة سبيلا يظلم بها المرأة، ويعسفها عن حقها.
- والولاية هنا جنس يدخل تحتها فروع من الأحكام:
كوجوب طاعة الزوج في غير ما معصية ﷲ ولا مضارّة على الزوجة، وولاية النكاح، وولاية التأديب التي جاءت بها الآية، وولاية حل عقدة النكاح بالطلاق، ووجوب المحرم في سفرها، وغيرها.
ولما كانت مسألة (طاعة الزوج على الزوجة) من أوضح ما ردّه هؤلاء المبطلون من مسائل الولاية وناكدوا فيه، وأرادوه على التبديل والتغيير؛ فسأنصب الحديث في شأنها، وسأذكر من الأدلة ما يظهر زيف دعوى القوم، ويهتك حُجُب قولهم، ويعري زعمهم، ليصبح نِضوا بغير ستارة.

• اقرأ قول ﷲ تعالى: "واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن (فإن أطعنكم) فلا تبغوا عليهن سبيلا".
وتأمل قوله تعالى: (فإن أطعنكم)
ثم انظر كيف جعله الله غايةً يقف عندها التأديب، وحدا ينتهي إليه، فإنك إذا تأملت ذلك علمت دلالة هذه الآية على وجوب طاعة الزوج على زوجته، حتى اقتضى التأديب إن تخلّفت الطاعة، وفرّطت المرأة فيها.

• وتأمل أيها المؤمن ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال: قال النبي ﷺ: "ﺇﺫا اﺳﺘﺄﺫﻧﻜﻢ ﻧﺴﺎﺅﻛﻢ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻓﺄﺫﻧﻮا ﻟﻬﻦ".
ففيه دليل بيّن على أن أمر الاستئذان للخروج من البيت بيد الرجل، حتى وجب ذلك على المرأة إذا أرادت الخروج إلى أشرف الأماكن، وفي هذا دلالة على وجوبه فيما دون ذلك من الخروج للأمر المباح.

• وانظر أيضا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي ﷺ: "ﻻ ﻳﺤﻞ ﻟﻠﻤﺮﺃﺓ ﺃﻥ تصوم ﻭﺯﻭجها ﺷﺎﻫﺪ ﺇﻻ ﺑﺈﺫﻧﻪ".
فانظر كيف أُمِرت المرأة أن تستأذن زوجها في عبادة من عبادات التطوع، ونافلة من النوافل، فإنه لعظيم حق زوجها عليها أُمِرت أن لا تكون على حال قد تمتنع عن فراشه ولو بمانع شرعي كالصوم إلا بإذنه، وفي هذا دلالة على ما دون ذلك من أمور المباحات كالخروج من البيت والسفر ونحوه.

• ومما يزيد هذا الأمر وضوحا ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال النبي ﷺ: "وﻻ ﻳﺤﻞ للمرأة أن ﺗﺄﺫﻥ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ ﺇﻻ ﺑﺈﺫﻧﻪ".
وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة النبي ﷺ في حجة الوداع في ذكر حق الزوج قال: "ﻭﻟﻜﻢ ﻋﻠﻴﻬﻦ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻮﻃﺌﻦ ﻓﺮﺷﻜﻢ ﺃﺣﺪا ﺗﻜﺮﻫﻮﻧﻪ".
وهذا يدل على أن طاعة الزوج تعظم على الزوجة حتى لا يحل لها أن تأذن لأحد يدخل عليها، ولو من أقاربها ممن يكرههم الزوج، وإذا حرم على الزوجة أن تدخل أحدا في بيت زوجها بغير إذنه، فكيف بخروجها هي بغير إذنه؟
• وفي الصحيحين قال النبي ﷺ: "ﺇﺫا ﺩﻋﺎ اﻟﺮﺟﻞ اﻣﺮﺃﺗﻪ ﺇﻟﻰ ﻓﺮاﺷﻪ ﻓﺄﺑﺖ، ﻓﺒﺎﺕ ﻏﻀﺒﺎﻥ ﻋﻠﻴﻬﺎ، ﻟﻌﻨﺘﻬﺎ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺣﺘﻰ ﺗﺼﺒﺢ".
وأنت إذا علمت أن حق الفراش مشترك بين الزوج والزوجة، علمت عظيم حق الزوج، حين جاء هذا التغليظ الشديد لامتناعها عن أمر من مقتضى عقد النكاح، مع أن الزوج لو فرّط في حق زوجته في الفراش كان آثما أيضا، وإنما جاء ترتيب تغليظ التقصير بحسب رتبة الفضل.

• وقد كان زوجات النبي ﷺ على هذا الأمر الرشيد، فتأمل ما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة وهي تحكي قصة الإفك، حين أخبرتها أم مسطح بما يخوض به أهل الإفك، ﻓﻘﻠﺖ للنبي ﷺ: ﺃﺗﺄﺫﻥ ﻟﻲ ﺃﻥ ﺁﺗﻲ ﺃﺑﻮﻱ؟
ﻗﺎﻟﺖ: ﻭﺃﺭﻳﺪ ﺃﻥ ﺃﺳﺘﻴﻘﻦ اﻟﺨﺒﺮ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻟﺖ: ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ".

يا الله!
فمع عظم ما أصاب الصديقة بنت الصديق، وكبر ما سمعته عائشة رضي الله عنها، وشدته على نفسها، وكان مقصدها التثبت مما سمعت، ومع هذا لم تخرج من بيتها إلا بإذن النبي ﷺ.

• وقد كانت زوجات النبي ﷺ يحافظن على ذلك حتى في أمر عبادتهن كالاعتكاف، فقد ثبت في البخاري ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ: "ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺫﻛﺮ ﺃﻥ ﻳﻌﺘﻜﻒ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻣﻦ ﺭﻣﻀﺎﻥ فاﺳﺘﺄذنته ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻬﺎ".

• وأما استئذان زوجاته في الأمر من أمور دنيانهن؛ فقد ثبت في صحيح مسلم عن ﺟﺎﺑﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺃﻥ ﺃﻡ ﺳﻠﻤﺔ اﺳﺘﺄﺫﻧﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ اﻟﺤﺠﺎﻣﺔ، ﻓﺄﻣﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﺑﺎ ﻃﻴﺒﺔ ﺃﻥ ﻳﺤﺠﻤﻬﺎ"، قال: حسبت أنه كان أخوها، أو غلاما لم يحتلم".

• وأمر الولاية ليس خاصا بمن تحرم على الولي فحسب، فثبت في الصحيحين عن عروة أنه سأل عائشة عن قوله تعالى :" وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء "، قالت: "هي اليتيمة في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها، فيريد أن يتزوجها بأدنى من سنة نسائها، فنهوا عن نكاحهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، ثم استفتى الناس رسول الله ﷺ بعد، فأنزل الله :"ويستفتونك في النساء".

• والولاية ليست تختص بولاية النكاح كما يريد أن يموه به المبطلون، بل ثبت في مسلم عن عمران بن الحصين في قصة الجهنية التي زنت وحملت وأرادت أن يقام عليها الحد، قال: "فدعا النبي ﷺ وليها، فقال: أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها"، ففعل.
فهذا حديث يظهر لك وظيفة من وظائف الولي في الشريعة، وأنها مرتبة إحسان ورعاية وقيام على المرأة.

فإذا نظرت في وجوه هذه الأدلة وتصفحت مآخذها ودلالاتها، رأيت موقعها من هذه الشريعة المطهرة.
وعلمت أن هؤلاء المنادين بإسقاط ولاية الرجل عن المرأة قد أتوا أمرا منكرا بردهم للأدلة الظاهرة في هذا.
وأنهم -في دعوتهم هذه- ليسوا يعارضون اجتهاد عالم أو قول فقيه! ولكنهم يعارضون قول رب العالمين، ويخالفون سنة نبيهم ﷺ.
ولكن أصحاب الهوى لا يأتون كفاحا فيردون دلالات الكتاب والسنة بواضحات الألفاظ، فهم يعلمون أن ذلك مجلبة لشناعة الناس عليهم، ونفرتهم منهم، ولكنهم يريْمون بين ذلك، وسبيلهم أن يدّعي مدعيهم: ما أردنا إلا ترك العادات المعارضة للحقوق!، ويقول قائلهم: إنما نبغي تنقية الدين من التقاليد!، ويأتي بعضهم يتكايس يقول: إنما نريد أن ندفع ظلم المرأة وأن نحفظ حقها، ليسهل بعد ذلك نقبهم لسياج الأمة وثلمهم لتدين المسلمين.
• هذا من جهة أصل حكم القوامة والولاية، فمن أخذها بحدودها في نصوص الوحي فقد استمسك بالميثاق، ومن اتخذها سبيلا لظلم موليته، والبغي عليها، وبسط الكف على حقها، فتلك كبيرة من كبائر الذنوب، ومعصية من عظائم المعاصي، ويكفي وازعا للمؤمن عن ظلم موليته ختام آية: "الرجال قوامون على النساء" فقد وعظ الله المؤمنين بقوله: "إن الله كان عليا كبيرا"!!، فما من أحد بغى على المرأة بولايته، وتسلط عليها بالظلم والتعنيف إلا لنقص استشعار علو الله وكبره في نفسه، وما هم بخيار هذه الأمة والله.
ولذا فليس من الولاية أن يتصرف الولي بما فيه مضرة بيّنة على موليته، وليس من الولاية أن يقبض على مالها بغير مقتضى من الشريعة، وليس من الولاية أن لا تخرج الفتاة من السجن إلا بإذن وليها، وليس من الولاية أن يمنعها مما جرى عرف مثيلاتها أنه من حق المولي، وليس من ولاية الأخ أن يطالب بما هو من حقوق الأب بما هو قدر زائد على الولاية، والتفاصيل التي تتبين ما يدخل في الولاية وما لا يدخل فيها منشور مذكور في كتب الفقه، وليس من شأن مقالة مختصرة كهذه أن تحيط بأطرافها، ولكن المقصود التنبيه أن ولاية الرجل كغيرها من الولايات لها حد وضبط، وربما بغى الولي بما لم تأذن له فيه الشريعة، فيأتي من يرى خطأه فيرد أصل الحكمالحكم، وذاك حنَف عن الطريقة وميل عن الجادة.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
كتبه/ أبو المثنى محمد آل رميح.
الرياض 
1437/11/17

المنهج القرآني في نقد أهل الفضل .


     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :
أما بعد ..
فمما قد علم في بداهة المعتقد أن مطلق العصمة منتفية عن غير الأنبياء، وما من صاحب فضل وشرف إلا وهو محل نقد وتعقب .

والمتأمل للنقد القرآني لأهل السابقة والتضحية والغَنَاء في الإسلام؛ يجده يعلو على غيره بحسب مالهم من الشرف والرفعة .
فتأمل ما جاء في سورة البقرة في قصة الصحابة حين قاتلوا في الشهر الحرام، فشنّع عليهم المشركون، وقالوا :" محمد وأصحابه يحلون الشهر الحرام"
(تفسير الطبري ٣ / ٦٥٤)
فكيف كان النقد القرآني لهذا الغلط ؟
• لقد بين القرآن خطأهم، ولم يهدر بيان الحق فقال الله :" قل قتال فيه كبير" .
• لكن تأمل الاقتران العظيم في ذلك العتاب الكريم؛ لقد اتبع ذلك بذم الكافرين والطغاة المتجبرين من قريش، وذم فعالهم، حتى لا ينحاز الذهن على المصلحين حين النقد، فيتكره لهم ولا يتزن معيار الخطأ، فقال تعالى : "وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل" .
فإذا قرأ أحد هذا النقد اطلع أيضا وعرف من هو أعظم جرماً وخطأً .
وإذا رأيت من يسعى ويحفد في نقد أهل الفضل؛ يجهد في تتبع سقطاتهم ويركض في البحث عن نقائصهم، ثم رأيته يغضي عن أهل الفساد فقد ركب مركب جهالة، وخالف كمال الاتباع لمنهج النقد القرآني.

• ثم تأمل معي كيف عُقّب ذلك النقد بذكر المدائح والفضائل، فحين عتب الله على المؤمنين في صنيعهم وبين خطأهم وزللهم، أتى لذكر منقبتهم وثنى بفضلهم، وهذا من حفظ اتزان التصور، وضبط مشاعر الحب والبغض، فإنه ربما سبق إلى القلب جهامة النقص الذي وقعوا فيه؛ واستولى سلطان النقد على النفس، دون استصحاب للمدائح والمآثر وتذكر للفضائل والمناقب، فقال: " إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله" .

•• ثم تدبر معي ما جاء في قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً " 
• ففيها عتاب رباني للصحابة الذين تأولوا، فقتلوا رجلاً مسلماً بعدما سلم عليهم، ظنوه كافرا .
( البخاري ٤٥٩١ - ومسلم ٣٠٢٥ )

 لكن انظر كيف عقب الله ذلك بأعظم الآيات في مدحهم : "لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله .. "
وهذا ارتباط عظيم، يجلي لك منهجاً غائباً عن بعض الناقدين لأهل الفضل والعلم، فإن اقتران النقد بذكر الفضيلة مما يحمي النفس أن تتجنف عن إخوانها إذا رأت عيوبهم ولم تبصر خيرهم وفضلهم .

وهي طريق قرآنية متكررة في عتاب أصحاب الرتب الإيمانية العالية؛ من الأنبياء فمن دونهم، ففي عتاب الله لنوح : " إني أعظك أن تكون من الجاهلين" 
عُقب السياق بقوله تعالى :" يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك".
ومثله ما جاء في عتاب النبي ﷺ في سورة الأحزاب، حين قال تعالى عن نبيه ﷺ : "وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه" 
فلم يخلُ السياق من التنويه بشأنه ﷺ وذكر علو مقامه عند ربه، فقال الله بعد ذلك بآيات : "إن الله وملائكته يصلون على النبي "

ومثل ذلك ما جاء في عتاب الله لنبيه ﷺ في قوله تعالى: " ولا تكن للخائنين خصيماً " في قصة بني أبيرق المشهورة، فجاء بعدها ببضع آيات : "وعلمك مالم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً "
إذا تأملت هذا بان لك عظيم شطط من تراه صاعر الخد على أهل الدين؛ ضارع الجبين على المفسدين، إن وجد فجوة على أهل الفضل والسابقة والتضحية نصّ وإن وجد حسنة غصّ .

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه .

الغلاة : كلمة عوراء من بيان أعرج

الحمد لله..
وبعد
فإن من بركة إنكار المنكرات -مُنكرات المحدثات والأهواء- أن يكُف أهلُ الانحراف كفوفهم، فيُدفعوا في صدورهم ليرجع متوثبهم ولو قليلاً.
أما سمعتَ كلمة لسان الغلاة الملتاث، وهو يحكم بكفر من قاتله وقاتل كيانه؟
معللاً ذلك المناط البدعي المخترَع؛ بأن مقاتلتهم تفضي إلى خلو الأرض من القائمين بحكم الشريعة.
وأن كل شبر ينفلت منهم فإنه سيحكم بغير دين الإسلام!.
-لقد لقيت الأمة في تاريخها المديد من أهل البدع؛ البَرح والعنت.
يقوم جهال أهل البدع يلقي أحدهم الكلمة من كلمات الضلالة فيبيت الناس يدوكون فيها.
أما أهل العلم والسنة فيعلمون كلمة الضلالة بسيماها، فيقوم قائمهم يذودها عن حياض الأمة ذود الإبل الغريبة، ويلطم وجهها لطمة فيسمها بوسم البدعة، فلا تخفى بعدُ على طالب الحق وصاحب الاتباع.
-ويبقى هناك من يطير بكلمة صاحب الضلالة، يتشربها ويذيعها وربما ذهب يطلب لها من الأدلة المعاذير.
ولقد بات الناس بعد كلمة لسان الغلاة في شَدهَة وتعجب من عظم تلك القالة السوداء.
فأنكرها أهل الفضل والديانة والاتباع واشتد نكيرهم لها، فكان من بركة ذلك ما رأينا من تسويغاتهم التي تلت كلمة ناطقهم!
وأنه لم يقصد تكفير كل من قاتل!
ولكنه قصد تكفير من قاتل ليحكم بغير الدين.
وزعموا أن جميع من أنكر عليهم: أساء فهماً فأساء إجابة ورداً، وزعموا أن ناطقهم لم يجعل المناط المكفر هو مجرد مقاتلة كيانه، ولكنه أناط التكفير بتحكيم غير الشرع، وأن سياقه دال عليه.
ولاجرم أن القوم سيسوغون ما قال صاحبهم وإن قال هُجراً.
فهل رأيناهم يوماً أنكروا قالةً من أقوال قادتهم؟ 
وهل عهدناهم يرفعون أصواتهم برد ظلم كيانهم وبغيه ولو في حادثة واحدة؟
-والآن فهل كانت كلمة لسانهم قيداً قيّد به إطلاقه الأعور كما يزعمون؟

وهل أراد ناطقهم أن يفصل في أنواع المقاتلين، فغفل عن التصريح والتبيين، وغدره عِيُه ففات عليه التأكيد على هذا المعنى إذ أن سياقه يتحدث عن تبديل الحكم بما أنزل الله؟
-ليس يشك من يعلم دلالات الألفاظ ويدرك سياقاتها أن قوله ذلك ليس قيداً واحترازاً لمناطه المخترع البدعي ولكنه تعليل لذلك المناط فحسب.
فأما تكفيره لمن قاتله فقد فرغ منه!
ولكنه علل تكفيره لجميع من قاتله (ومن سيقاتله!) بأنكم جميعاً ستخرجون الأرض من حكم الشريعة إلى حكم الطاغوت الوضعي!.
فجمع ضغثاً وإبّالة!
وكفّر اليوم خصمه بما سيحدث في غدٍ!
-ولست أخفيكم أنه قد سرني منهم تلك ( الخطوة ) القصيرة التي خطوها للخلف، بنفيهم عن ناطقهم تلك الشنيعة، وقولهم أنه لم يقصد تكفير كل من قاتلهم مطلقاً، مع أنها خطوة غير ذات معنى!
لأنهم يكفرونهم بمناطات أخرى والله المستعان.
والمقصود هنا أن أبين للقوم أن تكفير صاحبكم لمن قاتله مبني على مقدمتين باطلتين:

المقدمة الأولى:
أن كيانهم يحكم بالشرع يقوم فيه الدين كله لله ليس يحكم غيرهم بالشرع، وهذا أمر يكذبه الواقع، وكثير من خصومهم لم يقاتلوهم لحكمهم بالشريعة، بل إن كثيراً من خصومهم إنما قاتلوهم لبغيهم وفجورهم وعتوهم وغلوهم
ولكن ناطقهم لا يرى الجذع في عين كيانه وامتلأ سَحَرُه بالعُجب فغدا يرى نفسه وكيانه من الزكاء بمكان جعل من خاصمه إنما خاصمه لحكمه بالشرع.
ووالله لو كانوا قائمين بحكم الشريعة من غير جور وبدعة لكان مقاتلهم لا يكفر بقتاله لهم ونحن نراه ينادي بالشرع.
-ولكن أصل الأمر أن القوم جعلوا ما ليس مكفراً مكفراً، كالاستعانة بكافر على كافر أو جلوس مع كافر، أو تأجيل لإقامة الحدود في أرض الغزو -بتسميته تنحية للشرع-، أو تحييد كافر بعيد غير صائل بعدم استفزازه بما يهيجه على المسلمين في وقت تشاغلهم بالكافر النصيري الصائل، وربما سمعوا كلمةً قالها قائد من القادة في لقاء أو صحيفة يحيّد فيها الغرب من صراع حاضر، فجعلوها كلمة ردة وكفر بما يلازم ذلك من اللوازم، وصاحوا بأن ذلك ترك للبراءة من الكفر، ونبذ للجهاد بتطمين الكفار، وهكذا كفروه بلازم قوله الذي ينفيه ويبرأ منه.
وغيرها من الأحداث الماضية تسنو مسناها، يكفرون بغير مكفر، ثم يركبون عليه ذلك التركيب الأعرج.
قالوا:
ما دام هؤلاء بهذا الفعل قد كفروا، فإنهم يريدون بقتال كياننا إقامة كفرهم، إذن هذا مناط آخر لكفرهم!.
وليس هذا الأمر مما أدعيه عليهم، وإلا فهل هناك ممن يقاتلهم لم يكفروه قبل بيان لسانهم؟
فانظر إلى البدعة كيف تدعو أختها وتأخذ بعنقها إليها
"قل بئسما يأمركم به إيمانكم" وأما المقدمة الثانية التي ركبوا عليها ذلك الحكم المرباد؛ فهو أن غيرهم جزماً حكم وسيحكم بغير الشرع!
وهذه نفثة من نفثات بدعتهم الأولى!

فالقوم قد فرغوا من زمن بتسمية خصومهم كلهم صحوات، وعليه فمن أكيد الرأي أن الصحوات يريدون غير الشرع وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان
فما دام أنهم قد نزوا على خصومهم فألبسوهم لبوس الصحوات، فما الذي يمنعهم أن يجعلوا خصومهم ممن لا يريد حكم الشريعة؟
وهذا الذي جعل نفوسهم واسعة رحبة بتكفير خصومهم، ضيقة حرجة في إعذارهم، فهم يزعمون أن واقع الفصائل الصحوي (في نظرهم الأعشى) أكبر شاهد على أن خصمهم لا يريد حكم الشرع المطهر.
وهكذا البدعة تبذر بذرتها في قلب صاحبها فما تزال تُسقى بماء الهوى حتى تغدو شجرة خبيثة تدعو كل قول فاسد ليستظل تحتها.


كتبه : محمد آل رميح
@mohdromih


الزلل عند زلل الأفاضل

بسم الله الرحمن الرحيم..

حمداً لك اللهم..
وبعد:
لن تخطئ عينك -في كثير من الأحداث التي تنزل بالأمة في تعلقها بأحد من أهل الفضل- أن ترى:
مشايعاً "لآل ذلك البيت من أهل الدعوة أو العلم" يواليهم وينتصر لهم ويدفع في صدور خصومهم، قد أعطاهم ثمرة قلبه وفؤاده..
يقابله آخر قد ناصب "الآل" العداء وتبغّض لهم وطوى على الضغينة قلبه، وفتل "للآل" فتيل الخصام.
إن ثنائية "التشيع والنصب" تصيح بأصحابها تجرهم بخطام التحزب ليصبح الناس أمام طائفتين اثنتين:
-مشايع (لآل ذلك البيت)، حدود ولائه وبرائه قطر دائرة "الآل".
يلوي رقبته عن كل سوءة، ويُرَفِئ لهم كل فتق، ويسورهم -عملياً- سوار أهل العصمة، بل ربما ألبس عثراتهم لبوس البر، فالتحزب -أيها المؤمنون- أعور كالليل يغطي كل قبيح..
-ويقابله من يناصب العداء "لآل ذاك البيت" يوْسعهم من سوء ظنه تهماً، يعظم أخطاءهم ويصغي لقالة السوء فيهم؛ فيقدح فيهم ب(أنباء مسربة)، ويرميهم بتمييع القضية وبيع المبادئ، ويمد دلالات الألفاظ ما لا تحتمله من المعاني.
وكلما زادت مناصبة أولئك (للآل) زاد تشيع الآخرين ومحاباتهم لهم.
والله أعلم.

( أوراق فقهية - ٩ - ) : رايات الشعوب المسلمة واتخاذ الراية السوداء .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد ..
* فقد روي اتخاذ النبي ﷺ للرايات السوداء في أحاديث متعددة :
- فجاء عند الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال:"كانت راية النبي ﷺ سوداء، ولواؤه أبيض" ‘¹‘.
الترمذي (1681)، ابن ماجه (2818) ..
- وعن البراء قال:"كانت راية النبي ﷺ سوداء مربعة من نمرة " .
الترمذي (1680) أبو داود (2591) ، .
- وفي المسند والترمذي عن الحارث بن يزيد البكري قال:"بعث النبي بعثاً فرأيت رايات سود تخفق في مسجد النبي ﷺ ".
المسند (15953) والترمذي (3274) .
- وفي المسند عن أنس:"أن ابن أم مكتوم كان يحمل راية سوداء يوم القادسية".
المسند (12344)، ونحوه في النسائي في الكبرى (8551)، وفي مسند أبي يعلى (3110)، في أحاديث لا تسلم آحادها من معارضة من جهة الصناعة الحديثية، وإن كان مجموعها صالحا للاستشهاد .
* إذا تمهد هذا فهل اتخاذ السواد في الرايات والشعارات والألوية من شمائل التعبد والاقتداء ؟
وهل ذلك سنة تتبع وشريعة تسلك ؟
أم أنه من ضروب أفعال العادات الجارية على غير مقتضى التشريع، ومن جملة التصرفات التي لا يلوح فيها معنى القربة والعبادة ؟
وذلك أن من المقرر في هيئة المتابعة للنبي ﷺ أن يفعل مثلما فعل النبي ﷺ على الوجه الذي فعل.
( اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 275/2، مجموع الفتاوى 280/1، 248/24)..
فلابد في الاقتداء بالفعل النبوي من أمرين:
- اقتداء في صورة العمل .
- ومتابعة في القصد بالعمل من جهة التشريع أو عدمه.
فإن الفعل النبوي بالجملة يحتمل أن يكون من باب :
- التشريع وهو الأغلب في الباب، فإن الأصل حمل الأفعال النبوية على التشريع والعبادة والأسوة، ما لم يعارض ذلك ما هو أقوى منه .
(الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 249/1، قواطع الأدلة 304/1، المسودة 72/1، المحصول 245/3) ..
- ويحتمل أنه من خصائص النبي ﷺ ..
- ويحتمل أنه ﷺ فعل ذلك بمقتضى بشريته ..
- وقد يقع التردد بين كونه من أفعال القربة والتشريع أو من أفعال الجبلة وما يصدر بمقتضى البشرية أو العرف أو العادة أو نحوها .

قال الناظم :
وفعله المركوز في الجبلة ** كالأكل والشرب فليس ملة 
من غير لمح الوصف والذي احتمل ** شرعاً ففيه قل تردد حصل 
فالحج راكباً عليه يجري ** كضجعةٍ بعد صلاة الفجر
- فالنوع الأخير مما له تعلق بالعبادة أو بوسيلة العبادة هو محل حديثنا هنا ومنه: الركوب في الحج والاضطجاع بعد الفجر ودخول مكة من كداء والتحصيب واتخاذ الجُمّة والتختم والاكتحال والتطيب بعد الإحلال من الإحرام وغيرها ..
فهنا يقع تردد بين إلحاقها بباب التعبدات فيقتدى ويتقرب بها، أم أنها مما وقع اتفاقاً بمقتضى البشرية أو العرف والعادة دون قصد التشريع للأمة .
* وفي مسألتنا هذه فالظاهر أن اتخاذ الرايات السوداء ليس مما يجري مجرى السنة والتعبد لأمور :
1 - لأنه لم يكن له ﷺ راية واحدة، بل جاء - أيضاً - أنه اتخذ رايات أخرى ولها ألوان أخرى :
- كما روي عند الترمذي وأبي داود من حديث جابر:" أن النبي ﷺ دخل مكة ولواؤه أبيض".
وقال الترمذي حديث غريب (1679)، أبو داود (2592) وصححه بعضهم .
- وروي في أبي داود والبيهقي:" كانت راية النبي ﷺ صفراء ". 
أبو داود عن رجل (2593)، البيهقي (13063) .
- وفي الطبراني:"عقد راية بني سليم حمراء" كريز بن أسامة، في الكبير (425).
2- أن الكفار كانوا يتخذون الرايات السوداء أيضاً :
- فعند أحمد عن جابر:"أنه رأى رجلاً ضخماً من هوازن يقاتلهم، في يده راية سوداء".
أحمد (15027) ..
3- أن اتخاذ الراية بهذه الهيئة كان لمقصد ليس له نفوذ في التعبد وإنما لمقصد آخر، كما في شرح السير الكبير قال :"وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاً والرايات سوداً .. ثم قال: وإنما يستحب ذلك لأن السواد في ضوء النهار أبين ..
فأما من حيث الشرع فلا بأس بأن تجعل الرايات بيضاً أو صفراً..".
شرح السير الكبير (72/1) .
- ويقول ابن القيم في فقه قصة وفد صداء على النبي ﷺ :"ﻓﻔﻴﻬﺎ: اﺳﺘﺤﺒﺎﺏ ﻋﻘﺪ اﻷﻟﻮﻳﺔ ﻭاﻟﺮاﻳﺎﺕ ﻟﻠﺠﻴﺶ، ﻭاﺳﺘﺤﺒﺎﺏ ﻛﻮﻥ اﻟﻠﻮاء ﺃﺑﻴﺾ، ﻭﺟﻮاﺯ ﻛﻮﻥ اﻟﺮاﻳﺔ ﺳﻮﺩاء ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻛﺮاﻫﺔ" (زاد المعاد ٥٨٣/3).
4- أن النبي ﷺ كان في بعثه وغزواته يعقد عدة ألوية ورايات لقبائل صحابته، وفي بعض الأحوال كان يضع للمهاجرين راية وللأنصار راية.(المسند 3486، زاد المعاد ٢٣٠/3، فتح الباري ٨/8) .
  1. فتنوع الرايات واختلافها ليس مذموماً في ذاته، وعليه فليس من الحكمة الإيمانية أن تعتدي جماعة أو قبيلة أو كيان على راية جماعة أخرى ما لم ترفعها مناهضة للشرع .

* فإن قيل: فقد جاء المدح في الآثار للرايات السود التي ستخرج في آخر الزمان من قبل المشرق فالجواب من وجهين:
- أولاً: أن أحاديث خروج الرايات السود في آخر الزمان من قبل المشرق أحاديث ضعاف لا تصح، وأمثلها ما جاء في المسند وابن ماجه عن ثوبان:"إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي" .
(المسند22387 ، ابن ماجه 4084)
فهو حديث ضعيف معلول، فأما رواية المسند ففيها عدة علل:
فيها شريك وابن جدعان وإرسال أبي قلابة، وأما رواية ابن ماجه ففي المنتخب للخلال :"ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ - أي ابن أحمد بن حنبل - : ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻲ ﻗﺎﻝ: ﻗﻴﻞ ﻹﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﻌﻨﻲ: اﺑﻦ ﻋﻠﻴﺔ - ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻛﺎﻥ ﺧﺎﻟﺪ ﻳﺮﻭﻳﻪ، ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺘﻔﺖ إليه، ﺿﻌﻒ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺃﻣﺮﻩ، ﻳﻌﻨﻲ: ﺣﺪﻳﺚ ﺧﺎﻟﺪ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻗﻼﺑﺔ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺃﺳﻤﺎء ﻋﻦ ﺛﻮﺑﺎﻥ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻲ: اﻟﺮاﻳﺎت "(المنتخب ٢٧٣)
وابن علية خصيص بالحذاء عارف بحديثه.
- ثانياً: ثم إنها لو ثبتت لم يكن فيها دليل على المطلوب، فإن الحديث خبر عن أحاديث آخر الزمان، وليس فيه حض أو حث أو أمر لاقتفاء ذلك وتطلبه، كسائر أحاديث الإخبارات عن وقائع آخر الزمان، فهي من الإخبار بالقدر الكوني، وليس هو من الأمر الشرعي الامتثالي .
- وفي مقابل ذلك تلك الرايات التي تتخذها الشعوب المسلمة في أقطارها، هل هي من باب المباحات التي تجري مجرى التوسعة وعدم الحرج، أم أنها بخلاف هذا ..
- ولاشك أن حديثنا ليس عن الراية بمعنى المنهج والقيادة والهدف الذي يدل عليه ما ثبت في المسند وصحيح مسلم:"ﻭﻣﻦ ﻗﺎﺗﻞ ﺗﺤﺖ ﺭاﻳﺔ عمية ﻳﻐﻀﺐ ﻟﻌﺼﺒﺔ، ﺃﻭ ﻳﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﻋﺼﺒﺔ، ﺃﻭ ﻳﻨﺼﺮ ﻋﺼﺒﺔ ﻓﻘﺘﻞ ﻓﻘﺘﻠﺔ ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ" .
( المسند 7944، مسلم 1848 ).
فالمراد بالراية هنا أي غاية القتال ومراده وهدف قتاله وقيادته، فليس مقصدي هنا الحديث عن ذلك .
- كما أن الحديث هنا ليس عن راية وشعار قد عرف بأنها من شعارات الباطل.
- وليس حديثنا - أيضاً - عن راية وشعار يشتمل على مؤاخذة شرعية في ذاته ..
وإنما حديثنا عن راية يرفعها المسلمون وينصبها روادهم ابتداءً في بلد من بلاد المسلمين، ويجعلونها رمزاً لهم وشعاراً عاماً.
فأرى أن من غير الرشد استفزاز المسلمين بإهانة وازدراء راياتهم التي لا تختص بباطل، لأن الرافعين لمثل هذه الرايات ليسوا على ظهيرة واحدة بل هم طرائق قدد، لا تجمعهم مخالفة الشرع.
وليس يخفى أن للراية في نفوس الناس أثراً،“²“ وربما جعل كثير منهم الاستخفاف بها استخفافا ببلادهم وتضحياتهم، والراية كما يقول ابن خلدون في تاريخه: " ﺗﺤﺪﺙ ﻓﻲ اﻟﻨﻔﻮﺱ ﻣﻦ التهويل ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ الإﻗﺪاﻡ ﻭﺃﺣﻮاﻝ اﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﺗﻠﻮﻳﻨﺎﺗﻬﺎ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻭاﻟﻠﻪ اﻟﺨﻼﻕ اﻟﻌﻠﻴﻢ" . (٣٢٠)
وإنما تعامل هذه الرايات بحسب قيام أهلها بالشرع المطهر، وليس يجوز أن يتبغض المصلحون للناس بالإزراء بما يعظم في نفوسهم مما لا يخالف الوحي.
بخلاف الشعارات التي اختصت بأحزاب وتكتلات وكيانات معارضة للإسلام والمسلمين عدوة لهم.
والعلم عند الله .

كتبه: محمد آل رميح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن اللواء غير الراية لظاهر هذا الحديث فاللواء ما يعقد في طرف العمود ويلوى عليه، والراية ما يترك طرفه يخفق كما قال ابن العربي، وقيل الراية يتولاها صاحب الحرب وجنح الترمذي إلى التفرقة ولذا ترجم لكل في باب. (فتح الباري 126/6) .
وذكر إبراهيم الحربي أن اللواء هو لواء الأمير الأعظم والرايات ألوية صغار.
غريب الحديث (776/2) .
وفي النهاية أنهما سواء 279/4 وكذا في اللسان 266/15 .
٢- ولا زالت الدول والملوك في تاريخ الأمة تتخذ شعارات ورايات مختلفة فكانت بنو أمية تتخذ الخضرة، كما جاء في مآثر الإنافة قال:"ﻭﻗﺪ ﺣﻜﻰ ﺻﺎﺣﺐ ﺣﻤﺎﺓ ﻋﻦ اﻟﻤﻠﻚ اﻟﺴﻌﻴﺪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻴﻤﻦ اﻟﻤﻘﺪﻡ ﺫﻛﺮﻩ ﺃﻧﻪ ﺣﻴﻦ اﺩﻋﻰ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻭﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻟﺒﺲ اﻟﺨﻀﺮﺓ" (٢٣٥/2).
وكانت بنو العباس تتخذ السواد، وهكذا سائر الملوك والدول، وقد ذكر الماوردي الشافعي في ذلك لطيفة تاريخية قال:"ﻭﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺃﺣﺪﺙ اﻟﺴﻮاﺩ ﺑﻨﻮ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﻓﻲ ﺧﻼﻓﺘﻬﻢ ﺷﻌﺎﺭا ﻟﻬﻢ، ﻭﻷﻥ اﻟﺮاﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻘﺪﺕ ﻟﻠﻌﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﻓﺘﺢ ﻣﻜﺔ ﻭﻳﻮﻡ ﺣﻨﻴﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻮﺩاء، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺭاﻳﺎﺕ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﺻﻔﺮاء"(الحاوي ٤٤٠/2) .
وقال ابن خلدون في تاريخه:"ﻓﺈﻥ ﺭاﻳﺎﺗﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻮﺩاً ﺣﺰﻧﺎً ﻋﻠﻰ ﺷﻬﺪاﺋﻬﻢ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻭﻧﻌﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻬﻢ ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺳﻤﻮا اﻟﻤﺴﻮﺩﺓ، ﻭﻟﻤﺎ اﻓﺘﺮﻕ ﺃﻣﺮ اﻟﻬﺎﺷﻤﻴﻴﻦ ﻭﺧﺮﺝ اﻟﻄﺎﻟﺒﻴﻮﻥ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺒﺎﺱﻳﻴﻦ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﻬﺔ ﻭﻋﺼﺮ ﺫﻫﺒﻮا ﺇﻟﻰ ﻣﺨﺎﻟﻔﺘﻬﻢ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﺗﺨﺬﻭا اﻟﺮاﻳﺎﺕ ﺑﻴﻀﺎ ﻭﺳﻤﻮا اﻟﻤﺒﻴﻀﺔ"(٣٢١

"ولكنكم تستعجلون.."

                     " ولكنكم تستعجلون .. "
     هكذا قال النبي ﷺ لذلك الصحابي الذي أمضّه البلاء، وأرهقته المحن وعض قلبَه الضرُ ..
جاء الصحابي الجليل بنفس منهوكة وفؤاد جريح، يحمل على كتفيه أثقال التعذيب وأحزان البأساء، جاء إلى النبي ﷺ يرجو منه أن يواسي الأسى ويمسح الألم ..

جاء وقد ظن أن أول مس للمحنة كافٍ في القفز على السنن الكونية للدعوة ..
وأن بداية الألم هو نهاية الطغاة !
لم يطق ذلك الصحابي انتفاشة الباطل ولم يصبر على تقلب الذين كفروا في البلاد ..
لقد أراد من النبي ﷺ دعوةً تحصد زرع الباطل وكفى !..
أراد الصحابي أن يستنصر النبي ﷺ ربَه .. فيتنزل النصر سهلاً رُخاء بلا كلفة ولا تبعة ولا شُقة ..
أليس الله على كل شيء قدير ؟
أليس الله بكافٍ عبده ؟
إذن ..
فلمَ يستأخر النصر وَ يبطئ الفتح ؟
لِمَ يتطاول الطريق وترهق النفوس ويأكل القهر الفؤاد من أطرافه ؟!
هل تدري ماذا لقي ذلك الصحابي من الأذى في ذات الله، والبلاء والكرب ؟
روى أبو ﻧﻌﻴﻢ ﻓﻲ اﻟﺤﻠﻴﺔ ﻗﺎﻝ:
"ﺳﺄﻝ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﺑﻼﻻً ﻋﻤﺎ ﻟﻘﻲ ﻣﻦ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺧﺒﺎﺏ: ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮ اﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ اﻧﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻇﻬﺮﻱ ..
ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮ: ﻣﺎ ﺭﺃﻳﺖ ﻛﺎﻟﻴﻮﻡ !
ﻗﺎﻝ خباب: ﺃﻭﻗﺪ المشركون ﻟﻲ ﻧﺎﺭاً ﻓﻤﺎ ﺃﻃﻔﺄﻫﺎ ﺇﻻ ﻭَﺩَﻙ ﻇﻬﺮﻱ !"
لقد جاء خباب بن الأرت إلى النبي ﷺ كما في البخاري ..
ﻗﺎﻝ: ﺷﻜﻮﻧﺎ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭﻫﻮ ﻣﺘﻮﺳﺪ ﺑﺮﺩﺓ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻇﻞ اﻟﻜﻌﺒﺔ ..
ﻗﻠﻨﺎ ﻟﻪ :
ﺃﻻ ﺗﺴﺘﻨﺼﺮ ﻟﻨﺎ ؟ !
ﺃﻻ ﺗﺪﻋﻮ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﺎ ؟ !
ﻗﺎﻝ:" ﻛﺎﻥ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻴﻤﻦ ﻗﺒﻠﻜﻢ ﻳﺤﻔﺮ ﻟﻪ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ..
ﻓﻴﺠﻌﻞ ﻓﻴﻪ ﻓﻴﺠﺎء ﺑﺎﻟﻤﻨﺸﺎﺭ ..
ﻓﻴﻮﺿﻊ ﻋﻠﻰ ﺭﺃﺳﻪ ..
ﻓﻴﺸﻖ ﺑﺎﺛﻨﺘﻴﻦ ..
ﻭﻣﺎ ﻳﺼﺪﻩ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻳﻨﻪ !
ﻭﻳﻤﺸﻂ ﺑﺄﻣﺸﺎﻁ اﻟﺤﺪﻳﺪ ﻣﺎ ﺩﻭﻥ ﻟﺤﻤﻪ ﻣﻦ ﻋﻈﻢ ﺃﻭ ﻋﺼﺐ ..
ﻭﻣﺎ ﻳﺼﺪﻩ ﺫﻟﻚ ﻋﻦ ﺩﻳﻨﻪ !
ﻭاﻟﻠﻪ ﻟﻴﺘﻤﻦ ﻫﺬا اﻷﻣﺮ.. ﺣﺘﻰ ﻳﺴﻴﺮ اﻟﺮاﻛﺐ ﻣﻦ ﺻﻨﻌﺎء ﺇﻟﻰ ﺣﻀﺮﻣﻮﺕ ﻻ ﻳﺨﺎﻑ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﺃﻭ اﻟﺬﺋﺐ ﻋﻠﻰ ﻏﻨﻤﻪ..
ﻭﻟﻜﻨﻜﻢ ﺗﺴﺘﻌﺠﻠﻮﻥ ! "..
ولكنكم تستعجلون ..
وتنسون أن لله سنةً لا تتخلف، وقدراً مكتوباً لا يتأخر، تنسون ويزيغ البصر عن أن النصر مع الصبر ..
ولكنكم تستعجلون ..
فتظنون أن النصر منحة سهلة مبذولة لكل أحد !
تظنون أن الفتح شأن قريب يطوله كل من مدّ يده ..
ولكنكم تستعجلون ..
فتغفلون عن موانع النصر، وعوائق الفتح ..
يطلب أحدهم النصر وقد ألقى معاصيه عقباتٍ في طريق نصره !
ولكنكم تستعجلون ..
وتريدون النصر قبل أن يغربل الصف، ويتميز الصادقون، ويُنفى عن الطريق كل فسل خَرِب القلب؛ يشوّه بناء الأمة الصقيل، وبناء الأمة لا يقبل الخبث .
ولكنكم تستعجلون ..
وتنسون أنه قد بقيت بقية مع أهل الطغيان، سيأتي بهم الله ويهديهم، وسيكونون من أهل الصدق والبلاء الحسن، ولو تم ما تعجلتم به لما كان ذلك .
ولكنكم تستعجلون ..
وتطمعون في نصر قريب سهل يذبل في نفوسكم وهجُه فيسهل عليكم تضييعه !
والنفوس مجبولة على الضِّنة بكل أمر تعبت في تحصيله وبذلت جَهدها في بلوغه، أما الكسب السريع الميسور فيهون إفلاته ولا يشق تضييعه .
ولكنكم تستعجلون ..
فتبغون فتحاً لم تطهره الدماء والدموع، ولم تبذل فيه المهج والأموال.
فلا تتعجلوا ..
وانظروا للمُثُل الأولى، انظروا إلى السابقين في هذا الطريق، إلى الأسوة الحسنة.. فيمن كان قبلكم..
ولقد كانت الدلالة النبوية - للأسوة الحسنة من السالفين - عظيمة في تربية القلب عالية في بنائه ..
فإن المؤمن لا يزال يطمح ببصره إلى من سلف، كلما طأطأ برأسه لينقش من قدمه شوكةً من البلاء ! عاد فرفع رأسه ينظر إلى من سبقه في الطريق ليحث السير ويتابع الخُطا ويلحق بالأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين - الذين سبقوه - وحسن أولئك رفيقاً .
ولو كان النصر نفحة ميسورة تتنزل بمجرد صدق صاحب المبدأ في مبادئه؛ لكان أولى الناس بذلك الأنبياء وأتباعهم الذين : " مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله " ..
- محمد آل رميح ..

الرخصة والعزيمة في العمل الإسلامي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد..
- فإن أدلة التوسعة على المكلفين ودفع الحرج عن الأمة ورفعه عن المؤمنين بلغت في الشرع مبلغ القطع، وتواترت وتأيدت لفظاً ومعنى، ومِن أفراد ما تواردت عليه النصوص في هذا الباب: رفع الجناح والإثم، ونفي العنت، ووضع الآصار، ومنع الضرر والضرار، والأمر باليسر والرفق، وتعليق التكليف بالقدرة والاستطاعة، والنهي عن الغلو والدلالة على أن كل ما عمّت بليته خفت قضيته، وغيرها من وجوه التخفيفات الشرعية.
ولقد كان النبي ﷺ يتقي المشقة والعنت على أمته، وفي وصف الله له:"عزيز عليه ما عنتم".
ولذا ثبت في الصحيحين:" أنه ﷺ امتنع من الخروج في ليالي رمضان لصلاة في الليل خشية أن يفرض على الأمة".
وعند الترمذي:"أن النبي ﷺ خرج من عند عائشة قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليها وهو حزين!
فسألته..
فقال:"إني دخلت الكعبة، وودت أني لم أكن فعلت!
إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي".
وكره الرسول ﷺ سؤال من سأل عن فرض الحج:"أفي كل عام" كما ثبت في مسلم.

- ولكن لابد إذن من ضبط معنى العزيمة، حتى يسوغ تناول هذا المعنى بعد فهمه وتصوره.
فإن العزيمة: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً، ولزم بإيجاب الله، خالٍ من معارض راجح .
- وإذا علمت هذا المعنى تبين لك وجه غلط من قال: إن العزيمة لا تلزم بها الأمة، وإنما للمكلف أن يلزم نفسه بها دون أن يعنت بها المسلمين! .
فإن أمارة العزيمة وعلامتها وبابها (الأصالة في الحكم) الذي يقابله الاستثناء، ومن الغلط أن يظن أنها تجري دائماً على منوال القوة والشدة الذي يقابلها التوسعة.
- ولذا فمن العزائم ما يكون بخلاف التصلب والقوة كتحريم سب آلهة المشركين مثلاً.
ويكشف سجف هذا الأمر ما يمثل به بعض الفقهاء من أمثلة العزائم بأنه كل ما دعت إليه المصلحة مما شأنه الرفق بالمكلفين والتوسيع عليهم كالبيع والمضاربةونحوها.
- ولهذا استشكل بعض أهل العلم وسم الرخص بالوجوب، ووجه هذا الاستشكال ظنهم أن الوجوب مما لا يلائم الرخص وإنما هو شأن العزائم، فاستشكل بعضهم وجوب بعض الرخص..
وأجاب بعض أهل العلم على مثل هذا الإيراد: أن الرخص إنما وجبت ها هنا لمّا جذبتها عزيمة أخرى، ففي إيجابهم لأكل لحم الميتة للمضطر وهو من باب الرخص، أجيب في ذلك؛ بأنها قد جذبتها عزيمة أخرى وهو وجوب المحافظة على النفس، كما استروح له الشاطبي في الموافقات، وفيه يقول ابن دقيق العيد:"لا مانع أن يطلق عليه رخصة من وجه، وعزيمة من وجه، فمن حيث الدليل المانع نسميه رخصة، ومن حيث الوجوب نسميه عزيمة".
- ويأتي الإشكال هنا بعدم ضبط معنى الرخصة أيضاً، أو بإنزالها قبل أن تستوفى شرائطها.
- فالرخصة: ما شرع على خلاف الدليل لعذر يشق، باستثناءٍ من أصل كلي يقتضي المنع عامة أو خاصة.
فهي طلب لفعل أو استباحة لمحظور خارج عن الوضع الأصلي لعارض.
- ولقد نعى ابن عاشور على العلماء إغفالهم للرخص العامة، بمقابل احتفالهم بالرخص العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار، مع أنها أولى بالتقديم على رخص الأفراد عند التعارض.
ومن لازم ذلك تقديم مقتضى الرخصة العامة وإن جلب العنت والمشقة على الخاصة، وله أمثلةٌ ذكرها بعض أهل العلم:
كإباحة رمي الأسرى المسلمين إن تترس بهم العدو - متى علمنا أن الكف عنهم يفضي إلى كسر المسلمين وتلدن شوكتهم - هذا مع لحوق العنت على طائفة من المسلمين -كالأسرى هنا- .
ومن ذلك المشقة الخاصة المقارنة للحدود والعقوبات الشرعية على بعض أفراد الأمة، فهي مشقة وعنت خاص اغتفر رعياً لمصلحة عامة الأمة.
- ومن ذلك إيجاب الجهاد على الأمة مع ما فيه من سفك لدماء بعض أفراد الأمة وفوت بعض دنياهم لما يتحصل من المصالح العظيمة للأمة بدفع عدوها وحكم شريعتها وبسط سلطان الله في الأرض وقيام هيبتها في العالمين.
- ومن دقيق المعاني التي يجب مراعاتها في العمل الإسلامي؛ أن ينظر إلى ما يترتب على الترخص من مفاسد على عبودية المكلف.
ويكشف ذلك الشاطبي في حديثه عن تعارض مفسدة التلفظ بكلمة الكفر مع مفسدة إزهاق الروح بالقتل، فجاءت الرخصة ثَمّ لأن الضرر اللاحق بالنفس عند الخوف من القتل ضرر (ظاهر ومعنى) بإتلاف الروح.
وأما في التلفظ بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان؛ فهو ضرر في الظاهر دون المعنى والباطن، فما فات فيه من حق الله في الظاهر ليس يفوت في المعنى لانشراح قلبه بالإيمان .
- ومن المسائل التي لا يجوز إغفالها عند الحديث عن الرخص في العمل الإسلامي؛ أن المشقة لا تجلب التيسير دائماً!.
إذ أن من المشاق ما احتملته الشريعة في عمل المكلفين، فإن العبادات لا تنفك غالباً عن مشقة، حتى قال ابن نجيم وهو يرسم حدود هذه المشقة:"المشقة إنما تعتبر في موضوع لا نص فيه".
وحينئذ فإن المشقة إن عورضت بما هو أوثق منها كإحكام النص وصراحة دلالته لم تعتبر مسقطة للحكم، ولذا لما أمر الله بالجهاد -وفيه غاية المشقة من فقد المال والولد وفراق الوطن وفقد النفوس- أعقبه بنفي الحرج فقال:"وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج".
- ومما يجب تداوله في ساحات العمل الإسلامي، ما نبّه عليه الشاطبي: بأن من اعتاد الترخص صار يلقى من كل عزيمة مشقة وحرجاً، ولم يستطع بعدُ أن يقوم بالعزائم، وتَطَلب طريق خروجه منها.
كما أن من تأبت نفسه الرخص مع قيام موجبها ربما غشيه الملل والسآم، فنفر من العبادة وكره العمل، بل ربما عوقب بنقيض فعله حين أبى صدقة الله عليه كما أشار ابن تيمية إلى طرف من ذلك.
- محمد آل رميح .