الجمعة، 30 يوليو 2021

التربية القرآنية عند وقوع مصيبة تشويه العرض.

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فلقد كان القرآن يربي المؤمنين في مجتمعهم الأول في المدينة النبوية، فكان يتنزل ليسد خلل الصف، ويزجي العثرات، ويربي النفوس.

     ولقد كان من أشد الأحداث الداهية للصف المسلم الأول مع نبيهم ﷺ حادثة الإفك والافتراء على عائشة رضي الله عنها وقذف العرض النبوي بأبي رسول الله وأمي هو.

     فكيف كانت التربية القرآنية للصف المسلم المبارك وهو يواجه هذه المصيبة الطاعنة؟ وتلك الداهية المدهيّة؟

     لقد جاء سياق آيات قصة الإفك على هذا النحو التربوي:

١ - طمأنة المجتمع المسلم بخيرية الأحداث التي تقع له، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ جَاۤءُو بِٱلۡإِفۡكِ عُصۡبَةࣱ مِّنكُمۡۚ لَا تَحۡسَبُوهُ شَرࣰّا لَّكُمۖ بَلۡ هُوَ خَیۡرࣱ لَّكُمۡۚ لِكُلِّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُم مَّا ٱكۡتَسَبَ مِنَ ٱلۡإِثۡمِۚ وَٱلَّذِی تَوَلَّىٰ كِبۡرَهُۥ مِنۡهُمۡ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِیمࣱ).

٢- الأمر بتقديم حسن الظنّ، وعدم الانزلاق في تداول الإفك، وزجر النفس عن سوء الظن، فقال ﷻ: (لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا وَقَالُوا۟ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ مُّبِینࣱ).

٣- الضبط التنظيمي بوجوب الشهادة الرباعية، فقال ﷻ: (لَّوۡلَا جَاۤءُو عَلَیۡهِ بِأَرۡبَعَةِ شُهَدَاۤءَۚ فَإِذۡ لَمۡ یَأۡتُوا۟ بِٱلشُّهَدَاۤءِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡكَـٰذِبُونَ).

٤- التذكير بفضل ﷲ وعفوه حين عفا عن تداول الباطل، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمَسَّكُمۡ فِی مَاۤ أَفَضۡتُمۡ فِیهِ عَذَابٌ عَظِیمٌ).

     والتذكير بفضل ﷲ في السياق متكرر في ثلاثة مواطن.

٥- زجر النفس عن التكلم بالسوء، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ قُلۡتُم مَّا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـٰذَا سُبۡحَـٰنَكَ هَـٰذَا بُهۡتَـٰنٌ عَظِیمࣱ).

٦- تجريم إشاعة التهم في المجتمع المسلم، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یُحِبُّونَ أَن تَشِیعَ ٱلۡفَـٰحِشَةُ فِی ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمࣱ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۚ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ وَأَنتُمۡ لَا تَعۡلَمُونَ).

٧- التذكير بفضل ﷲ مرة أخرى، فقال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفࣱ رَّحِیمࣱ).

٨- النهي عن اتباع خطوات الشيطان، فقال ﷻ: ( یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّبِعُوا۟ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِۚ وَمَن یَتَّبِعۡ خُطُوَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ فَإِنَّهُۥ یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِ وَٱلۡمُنكَرِۚ).

٩- التذكير بفضل الله في معافاة العبد المؤمن، ولما كان الحديث عن التهمة بالفاحشة، فربما ترفعت بعض النفوس عن أهل المعصية ورأت لها فضلا، قال ﷻ: (وَلَوۡلَا فَضۡلُ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ وَرَحۡمَتُهُۥ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنۡ أَحَدٍ أَبَدࣰا وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یُزَكِّی مَن یَشَاۤءُۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمࣱ).

١٠- النهي عن بقاء آثار الانتقام بعد جرائم التعدي، فنُهي أبو بكر أن يوقف عطية مسطح وصدقته عليه، فقال ﷻ: (وَلَا یَأۡتَلِ أُو۟لُوا۟ ٱلۡفَضۡلِ مِنكُمۡ وَٱلسَّعَةِ أَن یُؤۡتُوۤا۟ أُو۟لِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱلۡمُهَـٰجِرِینَ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِۖ وَلۡیَعۡفُوا۟ وَلۡیَصۡفَحُوۤا۟ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن یَغۡفِرَ ٱللَّهُ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمٌ).

١١- إعادة الحديث عن عقوبة القذف، فقال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ یَرۡمُونَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡغَـٰفِلَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ لُعِنُوا۟ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ).

١٢- التذكير بالسنن الكونية المتعلقة بالقضية التي وقعت، فهنا تذكير بالقضية الكونية القدرية في زكاء البيت النبوي، فقال ﷻ: (ٱلۡخَبِیثَـٰتُ لِلۡخَبِیثِینَ وَٱلۡخَبِیثُونَ لِلۡخَبِیثَـٰتِۖ وَٱلطَّیِّبَـٰتُ لِلطَّیِّبِینَ وَٱلطَّیِّبُونَ لِلطَّیِّبَـٰتِۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا یَقُولُونَۖ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَرِزۡقࣱ كَرِیمࣱ)، لقد كانت عائشة حبيبة نبينا ﷺ، ولا يمكن للطهر أن يحب إلا طهرًا، لابد أن تكون طاهرة تستحق ذلك الحب الطهري، فسنة ﷲ ماضية في التئام كل شيء إلى ما يشاكله.

١٣- النهي عن السبل التي تفتح باب الفواحش، فافتتح الحديث بالنهي عن دخول بيت الآخرين بغير استئذان، وما يتبع ذلك من أحكام، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَدۡخُلُوا۟ بُیُوتًا غَیۡرَ بُیُوتِكُمۡ حَتَّىٰ تَسۡتَأۡنِسُوا۟ وَتُسَلِّمُوا۟ عَلَىٰۤ أَهۡلِهَاۚ ذَ ٰ⁠لِكُمۡ خَیۡرࣱ لَّكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ).

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

الخميس، 29 يوليو 2021

قوة العقل على العقل!

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

      فلا يمكن أن يفصل الواقع الذي تحيى فيه أمتنا الآن عن آثار الاستعمار، كما يقول سيء الذكر أدوارد سعيد في كتابه [الاستشراق]: "الشرق الحديث أنتجه تفاعل السلطة والمعرفة الأوربيتين" (إدوارد سعيد مهما نقد الاستشراق فهو جزء من المشكلة الاستشراقية! والحديث عنه يطول).
     وذلك الاستعمار له ثقافته وسلطته ونموذجه الإداري ومفكروه وزعماؤه، مما ستكون لها كلمة عليا في التوجيه والتأثير.
     وهذه قضيّة كبرى ذات فروع ممتدة، ولكن سأقف عند جانب واحد من هذا التأثير، التأثير الذي يستلب فيه الإدراك فلا يحوم في خاطر المتأثر حائمة شك أنه مسلوب الإدراك، قد اختط له غيرُه طريق سيره، وكتب له طريقة تفكيره.
     يقول جيريمي بنتام أحد كبار فلاسفة بريطانيا، وصاحب مبدأ: (السعادة المطلقة لأكبر عدد من الأشخاص هي مقياس الصواب والخطأ)، يقول عن فكرة الحجز والحبس المسمّى: سجن بانوبتيكون أي: (المشتمل)، [سجن يكون فيه الحبس على هيئة طوابق مدورة اسطوانيًا، وأبوابها تفتح للوسط، وفي الوسط يوجد برج للرقابة السهلة على الجميع]، يقول: "طريقة جديدة للحصول على قوة العقل على العقل"!
     لا جرم سيقول قائل: ثم ماذا؟ فليضبطوا ما شاؤوا من السجناء، فهو تأثير محدود في عدد محدود! وهذه غفلة عن امتداد هذه الفكرة في الواقع، إن نمط هذا السجن نمط متكرر في كل مؤسسات الضبط في العصر الحديث، لكنها تتلون بحسب مكانها، فجميع مؤسسات المجتمع من مصانع ومدارس وثكنات ومستشفيات تقوم بوظيفة: تخريج أفراد خنوعين وطيّعين، وعلى هذا النحو ولدت المراقبة الاجتماعية الحديثة، التي ترقب المجتمع كله، لتنتقل إلى مرحلة أكثر شمولية يكون المجتمع رقيبًا على نفسه.
     ويرى ميشيل فوكوه [صاحب كتاب: المراقبة والمعاقبة، الذي درس فيه المقارنة بين العقوبات السابقة، والعقاب التأديبي في العصر الحديث، ويمنح العقاب التأديبي كلا من (المعالج النفسي، منفذ البرامج، الضابط في السجن) سلطة على (السجين أو المتعلم أو المريض)، ومما يلفت الانتباه أن المدة التي يتوجب على السجين مثلاً أن يقضيها في السجن تتوقف على رأي المختصين]
     يقول فوكو عن نمط ذلك السجن وما يشابهه في كتابه: "أن هذا النمط من المؤسسات يعد نوعًا جديدًا من السلطة على جسد الإنسان، سلطة لا تؤثر بأدوات التعذيب والقهر، ولكنها تستعمل: تقسيم المكان، وتوزيع الأشخاص، للسيطرة".
     وهذه الطرق الضبطية هي طرق استعمارية تهدف إلى استرقاق الإنسان، ولا يغب عن ذهنك الطرق الانضباطية الجديدة في التدريب العسكري، والاحتجاز في الثكنات العسكرية، التي تخلق قوة عسكرية ذات جبروت امتدت لسائر المجتمع، على نحو ما يذكر تيموثي ميتشل في كتابه: (استعمار مصر)، ص ٣٢.
     وهكذا امتد نظام الضبط والتفتيش والمراقبة إلى كامل المجتمع حتى المجتمع الريفي، بالإشراف على الانتاج الزراعي، والمحاصيل، ثم الحصاد والبيع.
     ومثل ذلك التعليم حين توحد المناهج، ويجبر ويعاقب على انتحالها، لتصبح شكلًا من أشكال الضبط والتفتيش المستمر، الذي ينتج طلابًا معلبين!
     والأمر أعمق من ذلك، فمما يثير ميشيل كوفو في كتابه (المراقبة والمعاقبة)، ذلك الارتباط بين الأماكن الانضباطية كالسجن والمستشفى وبين فروع علمية كعلم النفس، وعلم الجريمة، فالمراقبة والتفتيش وغيرها من أدوات الانضباط تنشئ عوالم من المعرفة.
     إنها حركة انقلابية على الإنسان، تعيد صنع العالم، وتعيد تهيئة الشوارع والمدن والأسواق ليسهل ضبطها والرقابة عليها!
     والآن فإن هذا الحديث بات متخلفًا لما أصبح عليه الأمر الآن، مع الزحف الالكتروني، والسيطرة العالمية على الانترنت، والله المستعان.

الاثنين، 19 يوليو 2021

التعريف بالأمصار.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فقد اختلف العلماء من سلف هذه الأمة وفقهائها، في حكم التعريف بالأمصار، ولزوم المساجد عشية عرفة، والإكثار من الدعاء فيه والذكر، على ثلاثة أقوال:

     • القول الأول: أنه مستحب ينبغي فعله، وقد جاء ذلك عن ابن عباس وعمرو بن حريث وسعيد بن المسيب، والحسن وابن سيرين وثابت البناني ومحمد بن واسع وبكر المزني وفعله يحيى بن معين، وهو مذهب الشافعية، ورواية عن أحمد.

    - وقالوا: قد فعله الصحابة في عهد علي رضي الله عنه، وما فُعل في زمن الخلفاء الراشدين فهو خير، ولا يصح أن يبدع وأن يوصف بالحدَث.

     • القول الثاني: أنه سائغ غير مستحب، من فعله فلا بأس عليه، ولا ينكر على فاعله، ﻗﺎﻝ اﻷﺛﺮﻡ ﺳﺄﻟﺖ ﺃﺑﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﻦ اﻟﺘﻌﺮﻳﻒ ﻓﻲ اﻷﻣﺼﺎﺭ ﻳﺠﺘﻤﻌﻮﻥ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻳﻮﻡ ﻋﺮﻓﺔ ﻗﺎﻝ: ﺃﺭﺟﻮ ﺃﻥ ﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻪ ﺑﺄﺱ ﻓﻌﻠﻪ ﻏﻴﺮ ﻭاﺣﺪ، وقال: هو دعاء، دعهم يكثر الناس، قيل له: فترى أن ينهوا؟ قال: لا، دعهم، لا ينهون.

     وهذا ظاهر تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو قول حسن.

     • القول الثالث: المنع والكراهة، فكرهه أبو حنيفة ومالك وهو مذهب نافع مولى ابن عمر، وعمر بن عبد العزيز واﻟﺤﻜﻢ ﺑﻦ ﻋﺘﻴﺒﺔ ﻭﺣﻤﺎﺩ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ اﻟﻨﺨﻌﻲ، والثوري والليث، وهو قولٌ منسوب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وذهب كثير من هؤلاء إلى أنه بدعة محدثة، لكن قال النووي: (ﻣﻦ ﺟﻌﻠﻪ ﺑﺪﻋﺔ ﻻ ﻳﻠﺤﻘﻪ ﺑﻔﺎﺣﺸﺎﺕ اﻟﺒﺪﻉ ﺑﻞ ﻳﺨﻔﻒ ﺃﻣﺮﻫﺎ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).

     - وقالوا: اﻟﻮﻗﻮﻑ بعرفة ﻋﺒﺎﺩﺓ ﻣﺨﺘﺼﺔ ﺑﻤﻜﺎﻥ ﻣﺨﺼﻮﺹ، ﻓﻼ ﻳﻜﻮﻥ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺩﻭﻧﻪ ﻛﺴﺎﺋﺮ اﻟﻤﻨﺎﺳﻚ.

    - وأيضًا: فمثل ذلك لم يفعله النبي ﷺ ولا كبار صحابته، وما جاء عن الصحابة والتابعين فمحمول على أنه وقع اتفاقًا دون قصد للاجتماع، فمن أين لأولئك الذين نقلوا عن السلف هذا أنهم فعلوه بقصد التشبه بأهل الموقف؟

     •• والذي يظهر أن التعريف يُطلق ويقصد به معاني منها: لزوم المسجد بنيّة التشبه بأهل موقف عرفة، ويضاف إليه زوائد من التشبه ككشف الرأس، والخطبة، واعتقاده عبادة مستقلة مضاهية لوقوف الحجاج بعرفة، فهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه نكير أكثر من جاء عنهم النكير.

     ويُطلق ويقصد به: لزوم المسجد مجردًا عن تلك النية والزوائد، فهذا الذي يُحمل عليه كلام أحمد، وما جاء عن أكثر المستحبين له.

    •  والقدر الذي ينبغي ألا يختلف فيه: أنه يوم عظيم، من أفضل أيام الله، حريٌ أن يعمر بالدعاء والذكر والتكبير، وأن يجتهد فيه باللجأة إلى ﷲ، وكذا من لزم المسجد لجامعيّة قلبه، دون اعتقاد خصوص هذا اللزوم للمسجد عبادة لها وصف معين،  فمثل ذلك لا ينبغي أن يدخل في كلام المانعين، وأعوذ بالله من كثرة الكلام وقلّة العمل، والعلم عند رب العالمين.

الجمعة، 2 يوليو 2021

الرجولة المحرمة!

       حمدًا لك اللهم، أمّا بعد:

     سلامٌ على الرجال! أصحاب الصفقة العادلة! الذين عقدوا العقد مع ربهم، (ومن أوفى بعهده من ﷲ).

     سلام على أولئك الرجال المصبوغين بدهن الرجولة المقدّس!

     الرجال الذين يرفضون أن تمتصّ منهم دماء رجولتهم لتصبغ بها شفاه الحضارة الغربيّة!

     سلامٌ على الرجال الذين أبوا تسليم الرجولة الممنوعة! الرجولة التي يحرّمها أعداؤنا على شبابنا ليصبحوا كيانًا لزجًا يسهل تشكيله.

     سلامٌ على الرجال الذين ذابت عيونهم بأحماض دموعهم على أمتهم، يومًا بعد يوم!

     سلامٌ على أولئك الذين صهرتهم الحياة في أفران البلاء فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا، وما استكانوا، وما زادهم إلا نقاء في معدنهم!

     سلامٌ على أولئك الأماجد الذين حلّقوا كيف شاؤوا؛ ولم تنحبس نفوسهم خلف خطوط الوهم الشاهقة، التي أقنعتنا بها بريطانيا!

     هم كغيرهم (يحبّون) و (يعشقون)، وتُدير بعقولهم غنج الأنوثة، وتطيح بهم لحظ العيون، لكن ذنبهم الوحيد أنهم رجال!! لا تلهيهم تجارة ولا دراسة ولا نساء عن التضحية!

     سلامٌ عليهم كلما وجدتَ في مُخبآت نفوسهم ذكرياتٍ عن عواطف حرّى، تركت في قلوبهم ندوبًا بعد قصص حبٍّ طاهر، لم يكتمل عقده، ولم يلتئم شمله.

    لقد عاشوا يؤجّلون الشجن إلى أمد مفتوح! لأنهم في رحلة انتقام مفتوحة لأمتهم! وإن كانت خفقات قلوبهم بالشوق والحب تفضحهم بين حين وآخر!

     الرجال العنيدون الذين سلِموا من التبسيط الإجباري، التبسيط الذي يُفرض على الشاب المسلم ليصبح (بسيطًا) بلا وعي، (بسيطًا) بلا هدف، (بسيطًا) بلا قرار!

     الرجال الذين يبصرون ما لا يبصر غيرهم، فأبصروا ثقوب الحضارة الغربية وروحها تتسرب منها، حين كان أكثر الناس مغترين بكبرياء تلك الحضارة التي تخفي تحته خواءها وعدمها.

     الرجال الذين تعافوا من السمّ المدسوس في عسَل الحضارة الماديّة! ولطالما حقن به فتيان الأمة!

     الرجال الذين يستعصون على التنميط، الذي يجعلهم منتجًا مكررًا على وفق المعايير الدولية العلمانية.

     رجال صارمون حفيت أرواحهم وهي تمشي على حدّ السيوف! هل قلت السيوف؟ وأين السيوف؟ لم يعد هناك سيوف! لكنها الراجمات، والصواريخ العابرة للقارات، وقنابل النابالم، وكل ما أنتجته بشاعة حضارتهم!

     سلام على الرجال الذين لا يتوقفون عن العطاء لأمتهم إلا إذا توقّف الجهاز التنفسي، وتعذّرت دقّات القلب!

     أولئك الرجال الذين علّقت أسماؤهم في قوائم المشاغبين! منذ كانوا صغارًا، حين كانوا لا يرتضون نصف اللعبة! وكبروا وكبرت معهم مشاغباتهم التي لا يعرفون معها نصف الحل، ولا يسلكون نصف الطريق، ولا يدينون بنصف الدين!

    سلام على الرجال ذوي العيون الصقرية، الذين ترى في عيونهم لمعة تنطق عن النور الذي في صدورهم، عيون لم تنعسها ملهيات التقانة، ولم تخدّرها مترفات الحياة، ولم تمرضها شبهات الخالفين.

     سلام على الرجال الملتحفين برجولةٍ تقاوم اللاوعي! لتمنع صاحبها أن يتحوّل مع الأيام -دون شعور- إلى مومياء محنّطة تلين للسائس الدولي، ولا تمتنع عن قياد من اعتاد أن يعلف الجماهير الزور، ليربطهم في دائرة الوهم العالمي!

     رجال دخلوا التاريخ -حقًا- من أشرف أبوابه، لكن ضنّت عليهم أمتهم من أن يذكروا في المجامع، وحرموا أن تسطّر مآثرهم في الكتب، وأن تروى بطولاتهم للأطفال! وذهبوا بغصّاتهم، وتسلقوا سلّم البطولات في صمت، ولم يبقَ من أحدهم إلا مصحفه الصغير، وبقايا وصية امتزج حبرها بالحمرة، وذكريات يرويها بعض الأصحاب خلسة! وجمرة في قبضة يد أحدهم!

     سلامٌ عليهم يوم ولدوا، ويوم يموتون، ويوم يبعثون أحياء!