الجمعة، 16 مارس 2018

مسألة: (الترحم على المشركين)

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه:
أما بعد:
فمن الناس من هو مولع بكل غريبة، يلذّ له مخالفة المؤمنين، ويطرب لسلوكه غير سبيلهم، ويتمايل لبخبخة العلمانيين والليبراليين.
ففي حينٍ ترى المسلمين من أتباع الوحي على شأن مجتمع في مسألة قد استقروا عليها في دينهم، تراه يتقافز يتشعب بهم فيها بتمويه ودلَسات كما سأذكر هنا بإذن ﷲ.
وقد جاء اليوم من يجوّز الترحم على الكافر بعد موته! ولكنه رأى أن أدلة المنع من الاستغفار لا يقدر على ردّها لقطعيتها أخذ يفرّق بين الاستغفار والترحم بغير حجة، وجاء يستدل على ذلك بما لا تقوم به حجة، ثم زاد فزعم عدم ثبوت دليل في منع الترحم على الكفار وهكذا في هوَر الاحتجاجات ووهائها.

•• فأما المنع من الترحم على الكفار فقد دل على ذلك حجج من وجوه:
• الوجه الأول: أنه قد صح امتناع النبي ﷺ عن ذلك للكفار الأحياء فضلا عن الأموات، كما ثبت في المسند والترمذي عن حكيم بن ديلم عن أبي بردة عن أبي موسى قال: "ﻛﺎﻧﺖ اليهود ﻳﺘﻌﺎﻃﺴﻮﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺭﺟﺎء ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻬﻢ: ﻳﺮﺣﻤﻜﻢ اﻟﻠﻪ! ﻓﻜﺎﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻬﻢ: "ﻳﻬﺪﻳﻜﻢ اﻟﻠﻪ ﻭﻳﺼﻠﺢ ﺑﺎﻟﻜﻢ"، وقال الترمذي: (حسن صحيح) ورجاله أئمة كبار غير حكيم بن ديلم وهو ثقة مأمون كما قال الثوري وغيره.
والترك هنا ليس تركا مجردا، بل ترك على خلاف أصل التشميت، فينحل إلى النهي، وبابه التحريم لا مطلق المنع.

• الوجه الثاني: أن ﷲ قد أخبر بحجب رحمته عن الكفار في الآخرة وآيسهم من رحمته، كما قال تعالى: "والذين كفروا بآيات ﷲ ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي".

الوجه الثالث: أن ﷲ قد حرّمها عليهم، فقال: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون".
وقد تقرر أن من الاعتداء في الدعاء؛ الدعاء بالممنوع شرعا وكونا.

• الوجه الرابع: أن الرحمة أعظم من المغفرة، فإذا جاء القطع بمنع الدعاء بالمغفرة فالمنع من الدعاء بالرحمة أولى، ولو جاز ما قاله: من أن الدعاء بالرحمة لتخفيف بعض العذاب، لصح أن يقال: ويجوز أن يدعى بمغفرة الذنب دون الشرك ليخفف عنه العذاب، كما قد قاله بعضهم.

الوجه الخامس: أن المخالف حين يريد نفي الإجماع في المسألة ينتقل إلى مسألة أخرى، وهي مسألة: اختلاف السلف في تخفيف العذاب على الكافر في النار، وتلك دلسة من الدلسات، فالحديث عن الدعاء للكافر بالرحمة، وليس في وقوع الخلاف في حقيقة التخفيف على بعضهم في النار، فهي خلافية بلا إشكال، وأما الأولى فالخلاف فيها من الشذوذ لمخالفته النص والإجماع المتقدم.

الوجه السادس: أن المخالف يرد في مسألة خارجة عن نزاع المسلمين المتبعين للسنة مع المترحمين على الكفرة، فإن المترحم على الكافر يجوّز دخول الكافر الجنة وقد ظهر ذلك في ردوده وتعليقاته، فتطوّع المخالفون للاستدلال في مسألة لم يقصدها الطرفان، وذاك فضول استدعاه حب المخالفة والتشغيب.

• الوجه السابع: يردد المخالفون في مثل هذه المسائل الحديث عن الخلاف كلما نوقشوا وأبلسوا من الأدلة ويتكئ عليه كأنه حجة مستقلة في المسائل، وهنا إجماع لا يوجد خلاف معتبر، وإنما جاء الخلاف في تكفير من استغفر للمشركين، والرحمة أعظم فهي أولى بالتكفير، فهل سيراعون الخلاف هنا؟

• الوجه الثامن: أن الأصل المنع من الدعاء لأموات الكفار لقوله تعالى: "ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره".
والقيام على القبر كما قال ابن الجوزي: "قال المفسرون: ﻛﺎﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺇﺫا ﺩﻓﻦ اﻟﻤﻴﺖ ﻭﻗﻒ ﻋﻠﻰ ﻗﺒﺮﻩ ﻭﺩﻋﺎ ﻟﻪ ﻓﻨﻬﻲ ﻋﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻲ ﺣﻖ اﻟﻤﻨﺎﻓﻘﻴﻦ".
والدعاء عبادة، والأصل فيها التوقيف فالمطالب بالدليل هو المخترع المبتدع لهذا التفريق، الذي كان يميل بعنقه كلما ناقشه أحد يقول برزانة سوداء: هاتوا الدليل على التحريم! مع أنه هو المطالب بالدليل والحجة الخاصة على جواز ذلك. 

وبقي هناك وجوه من وجوه الاستدلال والرد تركتها اكتفاء بما مضى، فإن صاحب الاتباع يكفيه حرف واحد من الكتاب والسنة ليسلم، وصاحب الباطل لو أتيته بكل آية لوّاها عن وجهها وقعد يفتل الأغلوطات على الأدلة والله المستعان.

السبت، 10 مارس 2018

طبائع الفتن



الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.. أما بعد:
• فمن حكمة الله تعالى ابتلاء المؤمنين بتعاقب الفتن وتتابعها، وقد جاءت أدلة تبين وجوها من ذلك:
فانظر قول ﷲ ﷻ عن كلام هاروت وماروت: "إنما نحن فتنة"، فإنه دال على أن من قضاء ﷲ الكوني ترتيب الفتن في الأرض، اختبارا لإيمان العباد وتمييزا للصف وامتحانا لهم، ولذلك نظائر دلت عليها الأدلة.

وإن من استحكام الغفلة على القلب؛ الأمن من مواقعة الفتنة وعدم محاذرة آثارها، وقد ثبت في الصحيحين أن عمر كان يسأل الصحابة:
‏"أيكم يحفظ حديث النبي ﷺ في الفتنة؟
‏فأجابه حذيفة:
‏أنا
-ثم قال بعدُ- : "إن بينك وبينها باباً مغلقاً".
فهذا عمر يخشى الفتنة ويحذرها ويتطلب علمها ويستعلم صفاتها، وهو عمر ومن يأمن الفتنة بعد عمر؟!
وقد دل الدليل على أن قبول الفتنة يظلم القلب كما ثبت في مسلم أن النبي ﷺ قال عن أثر الفتن وعاقبة قبول القلب لها: "وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء".

وقد دلت الأدلة على تنوع الفتن وكثرتها، وأن منها أنواعا لا يسلم منه أحد، كما ثبت في الصحيحين لما سأل عمر الصحابة عن الفتن، فقال حذيفة: "فتنة اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﺟﺎﺭﻩ ﺗﻜﻔﺮﻫﺎ اﻟﺼﻼﺓ، ﻭاﻟﺼﺪﻗﺔ ﻭاﻟﻤﻌﺮﻭﻑ" (البخاري ١٤٣٥، ومسلم ١٤٤).
فهي فتن منوعة ذات تلاوين واختلاف، ‏كفتنة الولد وفتنة الدنيا وفتنة العلم، وفتنة الاضطهاد وفتن سلطان الجمهور وفتن زلة العالم، وهلم هلم من أنواعها.

وقد جاء ذكر تفاوتها كما في مسلم، قال ﷺ في وصف الفتن: "ﻭﻣﻨﻬﻦ ﻓﺘﻦ ﻛﺮﻳﺎﺡ اﻟﺼﻴﻒ ﻣﻨﻬﺎ ﺻﻐﺎﺭ ﻭﻣﻨﻬﺎ ﻛﺒﺎﺭ" (٢٨٩١).

والفتن في ذاتهما نوعان:
فتن شهوات وفتن شبهات، وقد جمعهما الله في قوله تعالى: (كالذي من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا ).
وفتن الشهوات تدفع بالصبر، وفتن الشبهات تدفع باليقين، ولذلك جمع الله بين الصبر واليقين في قوله تعالى (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون).
- ومن أنواع الفتن: الفتن العلمية!
- وقد كان لمتقدمي هذه الأمة من الفحص عن دقيق علم الفتن! ما يتعجب منه أمثالنا.
ومن ذلك ما جاء عن سحنون وكانت تأتيه المسائل المشهورة فيأبى الجواب فيها، فسئل عن ذلك فقال:
‏سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال".
‏ترتيب المدارك ١/ ٣٥٧
وقد دلت الأدلة أيضا أن العلماء الصالحين مغاليق للفتن في كل زمان، فقد روى البزار في مسنده أن أبا ذر كان يقول لعمر رضي الله عنهما: "يامغلاق الفتنة"، وإنما ذلك -والعلم عند الله- لما يعلمون من الكمالات التي وهبها ﷲ عمر، في العلم والعمل، وهو إذن لكل من نال نصيبا من العلم والعمل.

ومن الفتن العلمية: الفتنة بكلمة الضلالة، يقوم ناشرا للعلم يبثه ويتقفره ثم يميل بكلمة ضلالة يتبعه عليها خلائق، وقد ‏روى الدارمي عن ﺯﻳﺎﺩ ﺑﻦ ﺣﺪﻳﺮ ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﻋﻤﺮ: "ﻫﻞ ﺗﻌﺮﻑ ﻣﺎ ﻳﻬﺪﻡ اﻹﺳﻼﻡ؟
‏ﻗﻠﺖ: ﻻ!
‏ﻗﺎﻝ: ﻳﻬﺪﻣﻪ ﺯﻟﺔ اﻟﻌﺎﻟﻢ، ﻭﺟﺪاﻝ اﻟﻤﻨﺎﻓﻖ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺣﻜﻢ اﻷﺋﻤﺔ اﻟﻤﻀﻠﻴﻦ".
الدارمي (٢٢٠).
وسواء عليها أكانت زلة فرَطَت منه وندرت بغير قصد، أو كانت أحموقة ركبها بإصرار وعلم، فهي فتنة للخلق.
وزلة العالم فتنة لطائفتين:
‏- طائفة تقلده دينها فتشرب زلَلَه.
‏- وطائفة تجعل من زلَلِه مثابة تشنيع على أهل العلم، وترك بياض الحق لديه لسواد الزلة.
ولهذا كان العلماء يعلمون المبوأ الذي نزلوه، فيتحصنون غاية التحصّن أن يغدو أحدهم بابا لضلالة، ولما امتحن أحمد قال:
‏"رأيت العلماء ممن كان معي يميلون!
‏قلت:
‏من أنا؟
‏وما أقول لربي غداً إذا وقفت بين يديه فقال:
‏بعت دينك كما باعه غيرك!".
‏المقصد الأرشد ١/٣٢٨
ومن الفتن العلمية العظيمة: فتنة طلب الممادح، وحب الشرف، ولقد كان يشتهر في مدح العلماء الصادقين أنهم قد استوى مادحهم وذامهم في ذات الله، كما جاء في ترجمة ابن تيمية : "وكان مادحه وذامه في الحق عنده سواء".
الرد الوافر ٦٦، الشهادة الزكية ٣٣.
وهذه تراجمهم وتواريخهم ملئت بأخبار تجردهم من حب المدح وخلوصهم من تأثير المدح والجرح على أقوالهم.

• ومن أعظم ما ينبغي أن يتنبه له السائر إلى الله في أنواع الفتن؛ أن يتنبه إلى أن الفتن والابتلاء على نوعين:
الابتلاء الشرعي، والابتلاء الكوني القدري.
فمن الابتلاء الشرعي ما يكون من حكمة تشريع بعض العبادات والشرائع، ألم ترَ إلى قوله تعالى عن تحويل القبلة: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه"!
فمن أعظم مقاصد تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ليعلم الله من يتوجه إلى الكعبة ممن ينكص على عقبيه ويشك في دينه ويقول أي دينٍ هذا الذي تحولنا فيه من قبلةٍ إلى قبلة!

وأبلغ من ذلك أن الله جعل في القرآن من الآيات فتنة لمن قلبه زيغ،  كما قال تعالى: "فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"!

وأما الابتلاء الكوني فكما جاء في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيءٍ من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب )!
فانظر كيف تعرض الفتنة على العبد وهو في حال التنسك والحج، وليس في حال إدبار وإعراض!
لكن صاحب الزيغ ومن في قلبه مرض تسرع إليه الفتنة لما في قلبه من قابلية للزيغ، وتشرّب لهذه الفتنة، فمن كان في قلبه زيغٌ ومرض أسرعت إليه الفتنة أكثر من غيره كما  قال تعالى (يانساء النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)، فمن كان كذلك كان عنده الاستعداد لأن تخمشه الفتنة بخمشاتها!
هذا في الشهوات.
وأيضاً يقال ذلك في الشبهات:
قال تعالى: (ليجعل مايلقي الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم).

وهنا مأخذ عظيم:
فقد يقول قائل: كيف يكون في القرآن العظيم والنور المبين سبب واصل للضلالة؟!
قال تعالى: "وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا.."، ثم قال: "وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم"
وقال: " ولا يزيد الظالمين إلا خسارا".

وللفتن طبائع، ولها صفات وصبغة، لا يسلم للعبد تعبد حتى ينال حظا من علم ذلك.
فمن طبائع الفتن: أن أسرع من تنصبّ إليه الفتن من ابتلي بقسوة القلب، يقول ﷲ: "ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم ".

ومن طبائع الفتن: إنها تؤثر في القلوب حتى لو زالت ودفعت، لا تعود كل القلوب كما كانت عليه!
 بل إن هناك من القلوب مايبقى فيها أثرٌ من الفتنة!، وقد دل على ذلك ماثبت في مسند الإمام أحمد من حديث حذيفة وهو يسأل النبي ﷺ  وهل بعد هذا الخير من شرّ؟
قال: "نعم، صلح على دخن وجماعةٌ على أقذاء"، قلت يارسول الله ومادخنه؟ قال: "لا ترجع كثيرٌ من القلوب إلى ماكانت عليه".
فتضعف القلوب عن العبادة وتضعف عن التسليم، وتتربى شكوك، وتغذو معارضات القطعيات.
حتى لو أنه قام قائم العلم والدعوة والجهاد فقمع البدعة ودمغها فزالت ستبقى هناك من القلوب يفوح فيها دخَنٌ من تلك الفتنة!

ومن طبائعها: أنها ربما أزاغت القلب في أعظم أمرٍ وفي أقصر مدة!
كما في مسلم: "يمسي مؤمناً ويصبح كافرا، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً".

ومن طبائع الفتن أنها إذا حضرت عزبت النصوص عن كثير من الناس، حتى لربما عزبت عن فضلاء من فضلاء القوم كما ثبت في البخاري من حديث عائشة في وفاة النبي ﷺ، حين أنكر ذلك من أنكره من الصحابة.

ومن طبائع الفتن عظم إحاطتها بالقلب، وقد جاءت الأدلة أيضا بذكر إحاطتها للقلب، كما في سياق مسلم ‏قال ﷺ: "تُعْرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا " (١٤٧).
وفيه أنها تعرض على القلوب كنسج الحصير، فإن الناسج ينسجها بالعود بعد العود يتابع فيه نسجا بعد نسج.

وفي قول النبي ﷺ: "فأيما قلبٍ أنكرها نُكتت فيه نكتة بيضاء" دلالة على أن قلب المؤمن إذا قوي على دفع الفتنة الأولى، قوي قلبه على رد مابعدها، ثم لا يزال يرد الفتن حتى يقوى قلبه على رد كل الفتن.

وفي قوله ﷺ: "حتى تكون القلوب على قلبين: أبيض كالصفا لاتضره فتنة مادامت السماوات والأرض"، وصف لقلب المؤمن الذي جمع بين الطهارة و الصلابة في الحق، جزاء رده للفتن، فينجو من كل مدلهمة، ويسلم من كل فتنة، سواء كانت من فتن الدنيا أو فتن القبر أو فتن الآخرة.
بخلاف القلب الثاني فهو: "أسود مربادًّا كالكوز مجخياًّ لا يعرفُ معروفاً ولا يُنكر منكراً"
أسود: ظلماتٌ بعضها فوق بعض.
مرباد: كما قال القاسم بن سلام: بين السواد والغُبرة.
مُجخياً: أي مقلوباً لا ينفذ فيه الماء ولا يدخله.
كذلك ذلك القلب حين قَبِل الفتنة بعد الفتنة بعد الفتنة، أصبح قلبه لا يقبل الحق! ولا يعرف معروفاً، ولا يرى نوره، وكذلك لا ينكر منكراً، ولا يرى ظلام المنكر!.

ألم ترهم؟! في هذه الأيام -وقبل ذلك وبعد ذلك- يردون القطعيات من الشريعة!
تتعجب كيف تنكر قلوبهم واضحات المعاني في كتاب الله وسنّة رسوله ﷺ، لكنهم أذنوا للفتنة أن تلج قلوبهم! ثم لا تزال قلوبهم تضعف وتسوَدّ حتى غدت بذلك النحو.

• ولكن من رحمة ﷲ تقدير العواصم التي تعصم المكلف من آثار الفتن وتحفظه من شينها، ومن تلك العواصم:
- الفقه في الدين:
‏ولذا أخبر النبي ﷺ أن الجهالة قد تكون سببا للتشديد القدري والشرعي، وفي سنن أبي داود عن أنس عن النبي ﷺ قال: "لا تشددوا على أنفسكم فيشدد ﷲ عليكم".
 فالعلم بالكتاب والسنة، فإن العلم حصن حصينٌ من الفتن، وقد جاء عن حذيفة في حديث عند أبي شيبة قال: "لا تضرك  الفتنة ماعلمت دينك، إنما إذا التبس عليك الحق والباطل".
وإنما نعني به العلم النافع، الذي يعود على القلب بالتقوى، وأما العلوم التي لا نفع فيها في دنيا وآخرة، فقال فيها الشاطبي: "ﻋﺎﻣﺔ المشتغلين ﺑﺎﻟﻌﻠﻮﻡ اﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺘﻌﻠﻖ ﺑﻬﺎ ﺛﻤﺮﺓ ﺗﻜﻠﻴﻔﻴﺔ؛ ﺗﺪﺧﻞ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﻔﺘﻨﺔ ﻭاﻟﺨﺮﻭﺝ ﻋﻦ اﻟﺼﺮاﻁ اﻟﻤﺴﺘﻘﻴﻢ ﻭﻳﺜﻮﺭ ﺑﻴﻨﻬﻢ اﻟﺨﻼﻑ " الموافقات ١ / ٥٣

- ومن العواصم: العمل الصالح، ولهذا قرن النبي ﷺ بينهما اقتران السبب بالمسبب، فجاء في مسلم من حديث أبي هريرة: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل".
فالمبادرة إلى الطاعة وليس الطاعة المجردة!
فلا يدري المؤمن في تأجيله ما يعرض له من إضعاف للقلب، إذا راث عنه المدد الرباني.

- ومن عواصم الفتن: الصبر: فقد ثبت في السنن أن النبي ﷺ  قال: (إن السعيد لمن جُنّب الفتن ولمن ابتلي فصبر فواهاً) فمن عُرّض للفتن فصبر فواهاً لعلو منزلته وعلو رتبته وشريف مقامه.

- ومن العواصم التي بيّن ﷺ عصمتها للأمة عن الفتن: الجهاد، وقد بوّب أبو داود في سننه: "باب ارتفاع الفتنة عند الملاحم"، وأسند فيه حديث عوف بن مالك قال النبي ﷺ: "لايجمع الله على أمتي سيفين، سيفا منها وسيفا من عدوها".

- ومن العواصم من الفتن كثرة الإنابة إلى ﷲ بالتوبة، فقد ‏ذكر الله في سورة ص قصص ابتلاء أنبيائه، ثم ذكر سبب الخلوص من الفتنة، فوصف كل واحد بوصف الإنابة والتوبة، فقال: "نعم العبد إنه أواب".

أسأله ﷻ أن يعصمنا من الفتن، وأن يرحم حالنا وضعفنا وقلة حيلتنا، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.