الاثنين، 20 يناير 2020

علم نفس (الثبات والتحوّل)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أمران من مظاهر اعتلال القلوب: 
- كثرة التحوّل في الرأي، والتلوّن في الدين، والتغير في المعتقد.
- ويقابله صفة من علامات مرض القلب، وهو دوام التمسك بالرأي، مع ظهور الأدلة وصحة الاستدلال!.
وكثيرا ما يلبس الشيطان صفة التحوّل لباس التجرد والحياد. 
وكثيرا ما يلبس الشيطان صفة الثبات لباس الثبات على الديانة. 
وأكثر من يبتلى بالتحول والتبدل أهل الذكاء والتميز وحب الإبداع.
وأكثر من يُبتلى بالثبات الدائم صاحب التعظيم للقديم والوفاء للماضي، من ذوي الأناة والرزانة. 

والانتقال عن الرأي أو الثبات عليه ليس صفة مدح ولا ذم ذاتي، إلا إذا اقترن بأمور: 
- أن يكون أحد الوصفين سمة غالبة على الشخص.
 - أن يغلب التحول في مسائل الأصول وكبار القضايا، ويغلب التمسك والثبات في دِق المسائل وصغارها.
- أن يكون التحوّل مستتبعا للتغيّر في الظروف والأحداث. 

• وأصل الداء في صفة التحول والتغيّر؛ حب التفرد، فهناك من يحب الانفراد في الرأي والسلوك، فإذا أخذ الناس برأي حُبّب إليه الرأي المخالف، وزُيّنت له خصومتهم. 
• وأصل الداء في صفة التمسك بالقديم والثبات عليه على أي نحو؛ الجبن عن كشف الغلط وكراهية الانكشاف للنفس.

والحمد لله.

الاثنين، 13 يناير 2020

نبأ إبراهيم ﷺ (١)


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فحين سمع ذلك الرجل اليمني -حديث العهد بالإسلام- معاذ بن جبل يقرأ في صلاة الفجر قول ﷲ: (وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا)، لم يملك نفسه أمام شدهة المنزلة، وعظم الرتبة، وجلال الثناء، فقال بفطرته وبداهة نظره: (لقد قرّت عين أم إبراهيم)! رواه البخاري.

ولم يأت ثناء في القرآن على نبي من الأنبياء بعد الثناءات على محمد ﷺ كما جاء على إبراهيم عليه وعلى سائر الأنبياء صلوات ﷲ وسلامه.

وهنا وقفات يسيرة مع هذه الصفات الإبراهيمية، ومواعظها وهداياتها:

• فمن الصفات الإبراهيمية: 
١) العناية بالبرهنة في تقرير التوحيد، والحفاوة بالحجاج بأنواعه في محاجّة المشركين.
فمّما هو ظاهر في السيرة النبوية الإبراهيمية تلك المراجعة لقومه بالحجج، والمرادّة بالبراهين، والمناقضة بالاستدلالات، فكان ﷺ ينقض باطل المشركين بالحجة ويكسر قولهم بالدليل العقلي:
- فانظر سيرته في دعوته لأبيه وقومه وهو فتى صغير، فلقد رتّب في دعوته الأمر على أنحاء:
- فابتدأ بالنقض والتزييف للباطل ومنهجه، وتبرأ من الخرافة ونفض يده منها بشدة، وجابه أباه وقومه بمقالته: (إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ)!
ثم ذهب ينظر ويبحث.
ولما كان قد علم بفطرته كمال الرب وكمال صفاته فقد اتجه للعلو يبحث ويطلب الحجة على الربوبية.
وسواء كان كلامه نظرا أو مناظرة فإن المقصد التنبيه على العناية بالحجة العقلية في البحث والنظر والمحاجة.
قال ﷻ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ).
لكن النجم العالي أفل وذهب!
فأنكر إبراهيم أن يكون من ليس شاهدا قيوما على خلقه إلها!
فكما أن الرب لا يمكن أن يكون ذلك الصنم الزائف القبيح القمئ!، ولابد أن يكون عاليا، فلابد أن يكون شهيدا قيوما على الخلائق.
وتكرر الأمر على إبراهيم، يقول ﷲ: (فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ) 
فالرب لابد أن يكون جميلا مع علوه وشهوده.
وتكرر المغيب، (فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ).
 ولما علم أن الرب لابد أن يكون هاديا، يهدي من طرَق بابه، وأتى إليه، وتوسّل عنده، واستمر إبراهيم في طلب الأمر، قال ﷻ: (فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ).
فاستدل بالأكبرية على الربوبية، فالرب لابد أن يكون أكبر من كل شيء وأعظم.
فقادته فطرته أن يعلم أن الرب هو (العالي الشهيد الجميل الهادي الكبير)، وحينها أشرق القلب بالتوحيد، وانتقل من مقام تزييف الباطل المجرد إلى إعلان البراءة منه والتوجه لله ﷻ.
ثم في محاجّته مع قومه يقول ﷲ: (وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).
وهذا السياق يقتضي أنهم أوردوا عليه شبها يتعلّلون بها على باطلهم، وحججا يتحججون بها على شركهم، فكان رد إبراهيم غاية في الاعتزاز الإيماني.
(أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ)!
يا الله
ما أعظم الكلمة!
إنه ﷺ يشير إليهم باستعلاء المؤمن على الجاهلية وتفاهات شبهاتها يقول: كيف تجادلوني في ﷲ وأنتم في شرككم وكفركم؟ كيف تجادلون في ﷲ وليس معكم حجة على زيفكم وباطلكم؟
كيف تجادلوني في ﷲ وأنا أجد شاهد ربوبيته في نفسي، وفي هدايته لي، وفي النور الذي أجده يشرق في قلبي؟
هكذا ينظر الموحد في شموخ وإباء إلى أهل الجاهلية وهم يشغبون بشبهاتهم التافهة فيبصبص لهم بأصبعه يقول لهم: أنتم كيف تجرؤون على مجادلتي في التوحيد وأنتم في زيف جاهليتكم وضلالة باطلكم!

- ومنها ما كان في محاجّته لقومه حين كسّر الأصنام، فإنه ﷺ  احتج على عدم ربوبيتها بعجزها وعدم قدرتها:
١- فبيّن عجزها عن السمع: (قَالَ هَلۡ یَسۡمَعُونَكُمۡ إِذۡ تَدۡعُونَ).
٢- ثم لما أحال قومه لمعرفة من كسّر الأصنام إلى كبيرهم زيف ربوبيتها بإثبات عدم القدرة على الكلام: (قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُوا۟ یَنطِقُونَ).
٣- وعدم القدرة على الإضرار والنفع: (قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَضُرُّكُمۡ).

- ومن ذلك محاجّته للملك الكافر: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ).
- فإنه قد جاء هنا أمران من وجوه المحاجة على إثبات الرب:
- الاستدلال على وجود الرب بفعله الذي لا يشاركه غيره فيه.
- الانتقال من دليل إلى آخر أوضح منه عند مغالطة الخصم، وعدم التمسك بالدليل الذي أورد عليه الخصم معاندته.

- ومن ذلك محاجته لأبيه، فإنه حاجه فنقض عليه ربوبية آلهته بعجزها عن السمع والبصر والنفع والضر، قال ﷻ عنه: (إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا).

• ومن صفاته التي ذكره بها القرآن: المضاء في الحق والعزيمة عليه، ولقد كان إبراهيم ﷺ -مع ما وصف به من الحلم- قويّا في مبادئه، ذا ثبات وعزمة، وإن فتى غضا صغيرا يؤذى بالتحريق ومحاولات القتل، وهو راسخ لم يتزلزل دليل على عجيبة التوحيد إذا وقر في الفؤاد.
انظره حين جبَه أباه وقومه في مبدأ دعوته:(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ)!
(ضلال مبين)
هكذا بلا اختباء وراء الألفاظ العائمة، وتستر خلف التعابيرة الموهمة، هكذا تراه لا يجمّل الباطل بلفظ، ولا يجامله بكلمة.

• وجاء الثناء على إبراهيم بالقيام بالشريعة والوفاء لمقتضاها، فقال ﷻ: (وَإِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ)، وأنت ترى أن أوّل ذكر لإبراهيم في القرآن جاء في هذا الشأن، قال ﷻ: (وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّۖ)، والوفاء للمبادئ والقيام بها شأن شريف يقل حاملوه، لكن أصحابه موعودون في آخر أمرهم بالإمامة، وذاك 
فكان عاقبة الوفاء للأمر والالتزام بالشرع والثبات؛ الاصفاء للإمامة، فقال ﷻ: (إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ).

• ومما يؤنقني وأنا أقرأ في النبأ القرآني عن إبراهيم ذلك الحديث الآسر المتكرر عن حرص إبراهيم ﷺ على الامتداد الإيماني في ذريته، وبقاء الدين والتوحيد في أبنائه، انظر رجاءه لربّه وسؤاله حين نبأه بالاصطفاء للإمامة فقال ﷻ: (إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّیَّتِیۖ قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ)، لقد كان هذا الأمر أول ما حكاه ﷲ عنه حين أخبره باختياره له، قال: ﻭﻣﻦ ﺫﺭﻳﺘﻲ ﻓﺎﺟﻌﻞ ﻣﺜﻞ اﻟﺬﻱ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ ﺑﻪ، ﻣﻦ اﻹﻣﺎﻣﺔ ﻟﻠﻨﺎﺱ.
وهذا أمر تراه حاضرا في دعائه، فكان من دعواته حين بنى الكعبة قوله وابنه إسماعيل عليهما السلام: (رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ).
وأيضا في قوله ﷺ: (وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ).
وقال: (رَبِّ ٱجۡعَلۡنِی مُقِیمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّیَّتِیۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَاۤءِ).
وكان يضم خير الدنيا إلى خير الآخرة في دعائه، فيدعو لهم بسعة المعاش والرزق فقال: (فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ)، ولقد كنت أقف مع خاتمة الآية متعجّبا من جمال ذلك الدعاء، وربطه بشأن الآخرة وتعليله بأمر له تعلق بالعبادة فقال: (لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ)، فأهل الآخرة فشغلهم الشاغل هم الآخرة!، وقلوبهم مهتمة بها، فإذا سألوا أمرا من الدنيا وشأنها من شؤونها فإنما يسألونه لصلاح دينهم ولتكون عونا على الطاعة والبر والقربة.

• ومما سيلفت نظرك في النبأ القرآني عن إبراهيم عليه السلام تلك الأوبة لأمر ربه حين ينهاه بغير تباطؤ، فحين سأل الإمامة لذريته وعلّمه ربه: (قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ)، أتى في دعائه بعد ذلك بالأدب والامتثال فقال: (وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ)، فقصر دعوته لأهل الإيمان دون أهل الكفر.
ومثله حين نهاه ربه عن الاستغفار لأبيه، قال ﷲ: (وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ عَدُوࣱّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَأَوَّ ٰ⁠هٌ حَلِیمࣱ)، ولهذا أثنى عليه ﷻ بقوله: (إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَحَلِیمٌ أَوَّ ٰ⁠هࣱ مُّنِیبࣱ)
[سورة هود 75]
ولقد ظللت كثيرا أتأمل الثناء على إبراهيم ﷺ باسم الأوّاه مقترنا مرة مع صفة الحلم ومرة مع الإنابة، ولعلّ الله أن يفتح بفتح فيها.

والحمد لله.

الأحد، 12 يناير 2020

علم نفس الانحراف -رؤية قرآنية-

     بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله، أما بعد:
فللقرآن طريقة جليلة في تربية النفوس، وتزكيتها، وتطهيرها، ويظهر بعض ذلك عند ذكر شبهات المنحرفين، وأسباب توليد تلك الشبهات، وبواعث تلك الضلالات، وقد جاء في مواضع كثيرة من القرآن حديث طويل عن أسباب الانحراف وطرقه، كما تراه في سورة المؤمنون حين ذكر ﷲ أسباب معارضة الوحي، وشبهات المعرضين عن الدعوة فقال سبحانه: (أَفَلَمۡ یَدَّبَّرُوا۟ ٱلۡقَوۡلَ أَمۡ جَاۤءَهُم مَّا لَمۡ یَأۡتِ ءَابَاۤءَهُمُ ٱلۡأَوَّلِینَ ۝  أَمۡ لَمۡ یَعۡرِفُوا۟ رَسُولَهُمۡ فَهُمۡ لَهُۥ مُنكِرُونَ ۝  أَمۡ یَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَاۤءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَـٰرِهُونَ ۝  وَلَوِ ٱتَّبَعَ ٱلۡحَقُّ أَهۡوَاۤءَهُمۡ لَفَسَدَتِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰ⁠تُ وَٱلۡأَرۡضُ وَمَن فِیهِنَّۚ بَلۡ أَتَیۡنَـٰهُم بِذِكۡرِهِمۡ فَهُمۡ عَن ذِكۡرِهِم مُّعۡرِضُونَ ۝  أَمۡ تَسۡـَٔلُهُمۡ خَرۡجࣰا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَیۡرࣱۖ وَهُوَ خَیۡرُ ٱلرَّ ٰ⁠زِقِینَ ۝  وَإِنَّكَ لَتَدۡعُوهُمۡ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ)
[سورة المؤمنون 68 - 73].
وهنا ذكر ﷲ ﷻ خمسة أسباب تعطّل عن الاستجابة لأمر الله:
١ - (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ).
٢ - (أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ).
٣ - (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ..).
٤ - (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ..).
٥ - (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ..).

فذكر في شبهاتهم مما هو من أسباب الضلالة خمسة أمور:
١ - عدم فهم المنهج والكتاب والشريعة، والبعد عن تدبر قول ﷲ، فإن من أعرض عن هذا الوحي العظيم حقيق بأن يضل! فبأي حديث وتذكير وموعظة سيهتدي؟ ولذا يقول ﷲ ﷻ بعد ذكر الآيات المرئية والمقروءة في سورة الجاثية: (تِلۡكَ ءَایَـٰتُ ٱللَّهِ نَتۡلُوهَا عَلَیۡكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَبِأَیِّ حَدِیثِۭ بَعۡدَ ٱللَّهِ وَءَایَـٰتِهِۦ یُؤۡمِنُونَ) [سورة الجاثية 6]،  ولعل تقدم عدم تدبر القول على البقية، لأن الحق يعرف من ذاته أكثر من الأمور الخارجة عنه، فتخلف تدبر القرآن سبب كل ضلالة.
٢ - اعتقاد ابتداع الدين، وجِدّتِه وحدوثه، فكثيرا ما يدّعي المبطلون أن الدعوة والرسالة أتت بما لم يعرفه الأولون، واستحدثت مخترعا من المخترعات، فإن النفوس مائلة إلى أخذ ما عليه الآباء، وانتحال ما مضى عليه السابقون، ولذا ذكر ﷲ في حجج المبطلين عند ركوب الفواحش والمآثم، فقال:(وَإِذَا فَعَلُوا۟ فَـٰحِشَةࣰ قَالُوا۟ وَجَدۡنَا عَلَیۡهَاۤ ءَابَاۤءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَاۗ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَأۡمُرُ بِٱلۡفَحۡشَاۤءِۖ أَتَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ) [سورة الأعراف 28]، فاحتجوا بما عليه الآباء والأجداد.
٣ - الجهل بصاحب الدعوة، وإنكار تاريخه وزكاء منبته، فطهارة التاريخ، ونصاعة السمعة سبب للقبول.
٤ - القدح بعقله، واتهامه بالجنون وفساد التفكير.
٥ - القدح بسلوكه ونزاهته وبعده عن الدنيا، وأنه يريد نفعا دنيويا وخراجا ماديا.

• ومن عجيب ما ذكره القرآن في سبب الضلالة: ما جاء فيما ضرب ﷲ من مثل المعترضين على الشريعة، المفرّقة بين ما ذكر اسم ﷲ عليه وما لم يذكر قال: (كَذَ ٰ⁠لِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ ۝  وَكَذَ ٰ⁠لِكَ جَعَلۡنَا فِی كُلِّ قَرۡیَةٍ أَكَـٰبِرَ مُجۡرِمِیهَا لِیَمۡكُرُوا۟ فِیهَاۖ)
فذكر للضلال سببين:
- تزيين الباطل في النفوس، فإن الباطل لا يروج حتى يطرّى بزينة.
- مكر أكابر الناس في البلاد، فالناس كثيرا ما تغلب على عقائدها وتسلب إرادتها، فتتبع مكر الأكابر.

• ومن ذلك ما عقَّب الله به قوله تعالى: (فَمَا لَهُمۡ عَنِ ٱلتَّذۡكِرَةِ مُعۡرِضِینَ)، فإنه ذكر سببين من أسباب الضلالة والانحراف، وردّ الحق، والإعراض عن تذكرة الوحي، فقال: (بَلۡ یُرِیدُ كُلُّ ٱمۡرِئࣲ مِّنۡهُمۡ أَن یُؤۡتَىٰ صُحُفࣰا مُّنَشَّرَةࣰ ۝  كَلَّاۖ بَل لَّا یَخَافُونَ ٱلۡآخِرَةَ)!
- محبة الاختصاص بالفضل، وحسد الذين أتوا بالحق، وسبقوا إليه، والرغبة في العلو، فقد أحبت نفوسهم أن يكون لها حظ في النبوة والرسالة.
- عدم الخشية والخوف والرهبة من الآخرة، فذكر ﷻ أن الأمر ليس في عدم اختصاصهم بالكتب، بل في عدم خوفهم ووجلهم.
ومن ذلك ما ذكره ﷻ في قوله: (ذَ ٰ⁠لِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّوا۟ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)، فإنه قال قبلها ﷻ: (مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِیمَـٰنِهِۦۤ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَىِٕنُّۢ بِٱلۡإِیمَـٰنِ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرࣰا فَعَلَیۡهِمۡ غَضَبࣱ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِیمࣱ)، في سورة النحل، فقد ذكر من أسباب الكفر بعد الإيمان استحباب الحياة الدنيا، والميل لها، والرغباء إلى زينتها.

• وبعد ذلك فهل كان المنحرف يدرك قبيح ما هو عليه من انحراف؟ وهل يعلم عظيم الجناية التي تلطخت بها جوارحه وهو يكفر بالله ورسله؟
إن صاحب الباطل لا يتقلب في باطله إلا على صوف من احتيال! يخاتل نفسه التي بين جنبيه بأنواع من الحيل الخداعات، وقد قصّ ﷲ في سورة (ص) من ذلك خبرا، فذكر في صدر السورة من تعلّلات المشركين لردّ الوحي صورا تكشف هذا الشأن، فقال ﷻ: (بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ صۤۚ وَٱلۡقُرۡءَانِ ذِی ٱلذِّكۡرِ ۝ بَلِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی عِزَّةࣲ وَشِقَاقࣲ ۝ كَمۡ أَهۡلَكۡنَا مِن قَبۡلِهِم مِّن قَرۡنࣲ فَنَادَوا۟ وَّلَاتَ حِینَ مَنَاصࣲ ۝ وَعَجِبُوۤا۟ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا سَـٰحِرࣱ كَذَّابٌ ۝ أَجَعَلَ ٱلۡـَٔالِهَةَ إِلَـٰهࣰا وَ ٰ⁠حِدًاۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءٌ عُجَابࣱ ۝ وَٱنطَلَقَ ٱلۡمَلَأُ مِنۡهُمۡ أَنِ ٱمۡشُوا۟ وَٱصۡبِرُوا۟ عَلَىٰۤ ءَالِهَتِكُمۡۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءࣱ یُرَادُ ۝ مَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِی ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ إِنۡ هَـٰذَاۤ إِلَّا ٱخۡتِلَـٰقٌ ۝ أَءُنزِلَ عَلَیۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَیۡنِنَاۚ بَلۡ هُمۡ فِی شَكࣲّ مِّن ذِكۡرِیۚ بَل لَّمَّا یَذُوقُوا۟ عَذَابِ).
فذكر منها خمسة أمور أيضا:
١- قال ﷻ عنهم: (وَعَجِبُوۤا۟ أَن جَاۤءَهُم مُّنذِرࣱ مِّنۡهُمۡۖ وَقَالَ ٱلۡكَـٰفِرُونَ هَـٰذَا سَـٰحِرࣱ كَذَّابٌ):
فاتهموه بوصف يحمل شناعة يُنفّر منه الناس، فوصفوه بالسحر، وهي طريقة أهل الباطل في كل وقت مع أهل الحق في كل حين.
٢- قلب التعليل العقلي، بجعل غير المعقول معقولا ثم الظهور بمظهر الرجيح العاقل المتعجب من الغلط، قال ﷲ: (أَجَعَلَ ٱلۡـَٔالِهَةَ إِلَـٰهࣰا وَ ٰ⁠حِدًاۖ إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءٌ عُجَابࣱ)
وإلا فإن الدلالة العقلية تنفي تعدد الآلهة.
٣- ومنه ما قاله ﷻ: (إِنَّ هَـٰذَا لَشَیۡءࣱ یُرَادُ)!
فاتهموا أهل الحق أن لهم مآرب ومرادات وراء دعوتهم.
٤- ومنه اتهام أصحاب الحق بأنهم يأتون بالجديد الذي لا يعرف من قبل، قال ﷻ عن مقالتهم: (مَا سَمِعۡنَا بِهَـٰذَا فِی ٱلۡمِلَّةِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ)
٥- ومن تعللات أهل الباطل التي حكاها القرآن عنهم في مواطن كثيرة، وذكرها هنا في أول (ص) شموخ أنفسهم أن يتبعوا رجلا مثلهم، وهذا أمر يتكرر في كل وقت، يقول أحدهم: هذا مثله مثلنا فلماذا نتبعه، قال ﷻ: (أَءُنزِلَ عَلَیۡهِ ٱلذِّكۡرُ مِنۢ بَیۡنِنَاۚ)!.


الجمعة، 10 يناير 2020

الاستدلال بقول الله: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) على إباحة الفتيا لكل أحد

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
مما يكثُر ترداده على ألسنة بعضهم في إفساح الطريق لنفسه ليتكلم في دين الله بما شاء وأراد؛ الاستدلال بقوله تعالى: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر"، وتراهم يستدلون بهذه الآية على:
- أن الفتيا في الشريعة مباحة لكل أحد، لا تحتاج لدراسة وتعلم وضبط ومهَرَة.
- وأن (كلّ) آيات القرآن يفهمها (كل) أحد على حال واحد.
- وأنه لا يحقُّ لأحد أن يحجز أحدًا عن الكلام في الفتيا، ولا أن يحجر على من يتكلم في القرآن ويفهمه بفهمه وينزّله على أي تنزيل شاء.
  ولا شك أنه ﷻ قد ‏أنزل كتابه وخاطب ﷺ أمته بكافة التكاليف والشرائع، ولكن أخبر الله ﷻ بتفاوت المكلفين في الأخذ بالوحي فقال: "يرفعِ الله الذين ءامنوا منكم 
والذين أوتوا العلم درجات ".
وذلك أن ‏الأدلة والدلالات على رتبتين:
‏- فما كان من أصول التوحيد وقواعد الديانة مما تعظم حاجة الناس له فتجده تتكاثر أدلته وتتضح بحسبه.
‏- وما ليس كذلك مما يختص ببعض المكلفين ولا يعم الخطاب به جميعهم فاتضاح مسائله ودلائله دون ذلك.
‏ثم إن معرفة الحكم الشرعي واقع على منازل:
‏- وجود النص
‏- ثم ثبوت النص
‏- ثم العلم بإحكامه ونسخه
‏- ثم النظر في وجوه معانيه من النصوص الأخرى
‏- ثم الرجوع لمعانيه في لسان العرب
‏-ثم استعمال قواعد الاستدلال وطرق الجمع ووجوه الترجيح .
     فإن قيل: ‏أليس في هذه الرتب الاستدلالية التي ذكرتَها آنفا معارضة ليسر الشريعة وتوسعتها وما يدل عليه قول الله : " ولقد يسّرنا القرآن للذكر"، ‏فما هو الجواب؟
و‏قبل الجواب عن ذلك أود أن أقول بين يدي هذا الأمر قولا:
وذلك أني رأيت ‏عامة من يستشكل هذا الأمر؛ هو ممن لم يطلب العلم ولم يعان مسائله ولم يطلع على قواعد الاستدلال ومسالك التعليل.
ولقد ‏كنتُ أُورد -على من يناقش في هذا- بعض الأدلة وأتناقش معه في دلالتها على الأحكام الشرعية، فإذا نبهته إلى مسالك الاستدلال لمعت عينه وعرف خلل الاستدلال بغير أصول وآلة.
وأما ما ذكر من ‏يسر الشريعة فلابد أن نعلم أن له جانبين، عملي وعلمي:
‏فاليسر العملي كرفع الحرج ودفع المشقة، وصور ذلك في العبادات لا تحصى، والرخص لأهل الأعذار من أوضح أمثلته.
‏وأما اليسر العلمي في هذه الشريعة له وجوه:
‏- فهناك من دلالات الكتاب والسنة ما لا تخفى على من قرأها، بل كل قارئ لها فلابد أن يجد من نورها بحسبه.
‏- ومن وجوه اليسر العلمي لنصوص الوحي ما ذكره الله 
في هذه الآية :"ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر"
‏قال قتادة رحمه الله: "ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﺐ ﺧﻴﺮ ﻳﻌﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ"، ‏فقوله ﷻ: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر"، ‏ليس فيه أن يتقحم كل أحد القول في كتاب ﷲ بلا علم، إنما المراد أن من بذل للتذكر أعانه الله.
‏وأنتَ إذا تأملت سائر أنواع العبادات وجدت أن الناس متفاوتون في تحصيل علمها بحسب كل مسألة، وسأضرب أمثلة في تناويع العبادات تبين شيئا من هذا:
ف‏كل مسلم يعلم فرض الصلاة، ثم إذا سألت آحاد المسلمين عن أحكام سجود السهو وجدت تفاوتا في معرفتها ثم إذا سألت في أحكام الكسوف زاد التفاوت وهلمّ فكل مسلم يعلم فرض الصيام عليه، وإذا سألت عن صحة صيام من أغمي عليه كل يومه وجدت تفاوتا في علم ذلك، ثم إذا سألت عن حكم فطر المرضع فكذلك وهلمّ.
‏     وإذا انتقلت لمعرفة أحكام النوازل الحادثة في الصيام - مثلا - مما لم تكن على عهده ﷺ وجدت تفاوت الناس في علمها، فكيف يفتي فيها من لم يتخصص؟
ف‏في الصيام، (بخاخ الربو، أقراص تحت اللسان، منظار المعدة، الحقن العلاجية، إدخال القسطرة، المنظار المهبلي، سحب الدم)
‏كيف يفتي فيها آحاد الناس؟
‏‏وقل مثل ذلك في الزكاة، فكل مسلم فرضها عليها، ويقرأ أدلتها في الكتاب وما استطاع من قراءته  من السنة، ولكن تفاصيل الأدلة لا يقرأها كل أحد .
وفي نوازل الزكاة: ‏(زكاة الراتب الشهري، زكاة السندات، زكاة الصناديق الاستثمارية، زكاة الحقوق المعنوية)
‏هل يفتي فيها من لم يعرف طرق الاستدلال؟
‏‏وهكذا في سائر ما يحتاجه الناس من شأن دينهم، هل يكفي أن يقول القائل:
‏إن الدين يسر - وعلى ذلك - لا أحتاج لطلب العلم حتى أعرف تفاصيل الأحكام؟
و‏لا شك أن المسلمين من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا لازالوا يرجعون - فيما يشكل إليهم من مسائل دينهم - إلى أهل العلم والفقه في الدين.
ف‏إذا علمنا هذا فلماذا نسمع مضيغ الماضغين ممن يدعون إلى فتح باب الكلام في دين الله بغير علم لكل أحد؟
‏ماذا يريدون؟
‏وما هو مشروعهم؟
‏وغايتهم؟
وفي مقابل ذلك فمن المسلمات الشرعية في فقه الفتيا أن ‏لا تجوز لعالم شرعي فتيا من فتاويه في مسألة طبية حتى يعرف حدود فهمها من طبيب مختص، ولا في مسألة اقتصاد حتى يرجع لمختص، وهكذا في كل علم يستخبر أهله.
وكثير من الأبحاث الفقهية المُحَكمة والفتاوى المجمعية المتعلقة بنوازل معاصرة في مثل علوم الطب والاقتصاد يشارك فيها مختصون من ذلك الفرع العلمي.
وتجد من ينازعك في فكرة التخصص؛ وربما لم يطلع كم يبذل عالم الشريعة من وقت وجهد في سؤال أهل التخصص الطبي حين يريد كتابة بحث في مسألة طبية - مثلا -.
وإني لأعرف من علماء الشريعة عند كتابة بحثه الفقهي الطبي؛ يسائل علماء الطب ويحضر مؤتمراتهم، بل كان يدخل معهم غرف العمليات ليتم تصوره للمسألة.
ف‏أي احترام للتخصص أعظم من القول: ( بحرمة الفتيا ) في مسألة علمية قبل أخذ رأي أهل الاختصاص لبيان وجهها الواقعي، لتعطى حكمها الشرعي بعد ذلك.‏
وهذا الأمر قبل أن يكون احتراما للتخصص؛ فهو خضوع لأمر الله وتعظيم لحدوده، فلا يُحَرّم على الناس ولا يُحَل إلا بعد الاجتهاد في تصور الواقعة.
وهنا فلن أتجاوز ما استدلوا به، وأستدل بها على أن الفهم القرآني ليس على رتبة واحدة، وسأنصب الكلام حول معنى هذه الآية، ليتبين أن هذه الآية التي يستدلون بها يتفاوت الناس في فهمها، ويتدرج مراتب النظر فيها بحسب ملكات الناظرين وعلومهم، وأن الاستدلال عائد على صاحبه معكوس عليه.
وذلك أن فهم القرآن والسنة يأتي على رتب بحسب نصيب كل ناظر من العلم.
فمنهم من يفهم فهمًا عامًا مجملًا، ومنهم من يزيد فيفهم منها معنى أعلى، وسيتبيَّن بالنظر لهذه الآية أن استنباط معاني الآيات ودلالاتها تتفاوت بحسب مكَنة الناظر وتدبره وصلاحه وابتهاله لله وغير ذلك من وسائل تفهم مراد ﷲ.

- فحين تقرأ قوله ﷻ: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر" في أول أمرك؛ لعلَّك فهمت منها معنى عامًا بأن ﷲ قد سهّل ﻟﻔﻈ القرآن، ﻭﻳَﺴَّﺮ ﻣﻌﻨﺎﻩ.

- فإذا أعدتَ النظر ستجد أنه جاء ما يؤكد التيسير ب(قد) فإنها تفيد التأكيد في لسان العرب، وسترى كيف دخلت عليها اللام، التي تفيد التأكيد إذا دخلت على فعل ماض متصرف مقرون بقد، فهذه فائدة قد تفوت على بعضهم.

- ثم يقال: أرأيت (الواو) في الآية في قوله {ولقد}، ما صفتها؟ فإن الواو تأتي في لسان العرب على وجوه كثيرة.
- ويقال أيضا: قد تكررت هذه الآية في هذه السورة بعد قصة نوح وعاد وثمود ولوط، وهذه ﻓﺎﺋﺪﺓ أخرى ربما تفوت على من ليس عارفًا بالسورة وورود الآية فيها، فإن اﻟﺘﻜﺮاﺭ ﻳﺠﺪﺩ للمستمع ﻋﻨﺪ ﺳﻤﺎﻉ ﻛﻞ ﻧﺒﺄ اﺗﻌﺎﻇًﺎ، ﻭﻛﺮﺭ معها ﻗﻮﻟﻪ: (ﻓﺬﻭﻗﻮا ﻋﺬاﺑﻲ ﻭﻧﺬﺭ)، ﻟﻴﻨﺒّﻪ اﻟﺴﺎﻣﻊ ﻋﻨﺪ ﻛﻞ ﻗﺼﺔ، ﻓﻴﻌﺘﺒﺮ ﺑﻬﺎ ﺇﺫ ﻛﻞ ﻗﺼﺔ ﻣﻦ اﻟﻘﺼﺺ اﻟﺘﻲ ﺫﻛﺮﺕ ﻋﺒﺮﺓ ﻭﻣﻮﻋﻈﺔ، ﻓﺨﺘﻢ ﻛﻞ ﻭاﺣﺪﺓ ﺑﻤﺎ ﻳﻮﻗﻆ اﻟﺴﺎﻣﻊ ﻣﻦ اﻟﻮﻋﻴﺪ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: ﻓﻜﻴﻒ ﻛﺎﻥ ﻋﺬاﺑﻲ ﻭﻧﺬﺭ.

- ثم يقال: ما معنى (الذكر) في الآية، وكيف يكون معنى الآية إذن؟ وما هو الذكر الذي يُسّر له القرآن؟ 
فإذا رجعت لكلام أهل اللغة ستجد أن منهم من قال في الذكر: أي يسرناه لمن أراد تذكره مع حفظه، ﺑﺎﻻﺧﺘﺼﺎﺭ ﻭﻋﺬﻭﺑﺔ اﻟﻠﻔﻆ، وليس ذلك إلا لهذه الأمة دون الأمم السالفة التي لا تحفظ كتبها، فهص هذه الأمة بحفظ كتابها لما اﺷﺘﻤﻞ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺣﺴﻦ اﻟﻨﻈﻢ ﻭﺳﻼﻣﺔ اﻟﻠﻔﻆ، ﻭﻋُﺮﻭّﻩ ﻋﻦ اﻟﺤﺸﻮ، ﻭميّزه بشرف اﻟﻤﻌﺎﻧﻲ ﻭﺻﺤﺘﻬﺎ، ﻓﻠﻪ ﺗﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻘﻠﻮﺏ، ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻣﺪّﻛﺮ: ﺃﻱ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﺐ ﻟﺤﻔﻈﻪ ﻟﻴﻌﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﺗﻜﻮﻥ ﺯﻭاﺟﺮﻩ ﻭﻋﻠﻮﻣﻪ ﺣﺎﺿﺮﺓ ﻓﻲ اﻟﻨﻔﺲ.
فهو ميسّر  ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﻟﻴﺬﻛﺮﻭا ﻣﺎ ﻓﻴﻪ، ﺃﻱ ﻳﻔﺘﻌﻠﻮا اﻟﺬﻛﺮ، ﻭاﻻﻓﺘﻌﺎﻝ ﻫﻮ ﺃﻥ ﻳﻨﺠﻊ ﻓﻴﻬﻢ ﺫﻟﻚ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﻴﺮ ﻛﺎﻟﺬاﺕ ﻭاﻟﺘﺮﻛﻴﺐ ﻓﻴﻬﻢ، وهناك معان أخرى، كقول من جعل المعنى: ولقد يسرناه للتذكر والعظة والاعتبار.

-ثم تعيد النظر وتقول: فما وجوه التيسير في القرآن؟ فهو ميسر في حفظه ميسر في تلاوته ميسر في الاتعاظ، ﻳﻌﻠﻖ ﺑﺎﻟﻘﻠﻮﺏ ﻭﻳﺴﺘﻠﺬ ﺳﻤﺎﻋﻪ، ﻭﻻ ﻳﺴﺄﻡ ﻣﻦ ﺳﻤﻌﻪ ﻭﻻ ﻳﻘﻮﻝ ﻗﺪ ﻋﻠﻤﺖ ﻓﻼ ﺃﺳﻤﻌﻪ، ﺑﻞ ﻛﻞ ﺳﺎﻋﺔ ﻳﺰﺩاﺩ ﻣﻨﻪ ﻟﺬﺓ ﻭﻋﻠﻤﺎ. 

- وأيضًا: فإن صاحب العلم والبصيرة سيرى أن كلمة (ﻓﻬﻞ) وهي ﻛﻠﻤﺔ اﺳﺘﻔﻬﺎﻡ ﺗﺴﺘﺪﻋﻲ ﺃﻓﻬﺎﻣﻬﻢ، فالام ﻣﻦ (ﻓﻬﻞ) للاﺳﺘﻌﺮاض، ﻭاﻟﻬﺎء للاﺳﺘﺨﺮاﺝ، وفيه نوع جليل من اﻟﻤﻼﻃﻔﺔ، فإنه استعمل أسلوب الاستفهام المومئ للعرض.

- ثم ينظر في حكمة مجيئ هذه الآية بعد ذكر عقوبات المكذبين، فإن ذلك يشير بالوعيد لمن لم يتفهم القرآن الذي يسرت سبل تفهمه.

- ومن فوائد ذكر القرآن بعد قصص الأمم التذكير بأنه معجزة النبي ﷺ ففيه ﺗﺬﻛﺮﺓ ﻟﻜﻞ ﺃﺣﺪ.

- وأيضا فلما ذكر معجزة القمر في أول السورة جاء بذكر معجزة تبقى ﻋﻠﻰ ﻣﺮﻭﺭ اﻟﺪﻫﻮﺭ، ﻭﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﻛﻞ ﻣﻦ ﻳﺤﻀﺮه ﺇﻟﻰ ﺩﻋﺎء ﻭﻣﺴﺄﻟﺔ ﻓﻲ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﻣﻌﺠﺰﺓ، ﻭﻻ ﻳﻨﻜﺮه ﺃﺣﺪ ﻛﻤﺎ ﻳﻨﻜﺮ اﻟﺒﻌﺾ اﻧﺸﻘﺎﻕ اﻟﻘﻤﺮ.
ﻭاﻹﺧﺒﺎﺭ ﻋﻦ اﻟﻜﺘﺎﺏ ﺑﺄﻧﻪ ﻗﺮﺁﻥ ﻣﺒﺎﻟﻐﺔ ﻓﻲ ﻛﻮﻥ ﻫﺬا اﻟﻜﺘﺎﺏ ﻣﻘﺮﻭءا، ﺃﻱ ﻣﻴﺴﺮا.
ﻭﻗﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻣﺪّﻛﺮ) ﺃﻱ ﻣﺘﺬﻛﺮ ﻷﻥ اﻻﻓﺘﻌﺎﻝ ﻭاﻟﺘﻔﻌﻞ ﻛﺜﻴﺮا ﻣﺎ ﻳﺠﻲء ﺑﻤﻌﻨﻰ، ﻭﻋﻠﻰ ﻫﺬا ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻝ ﻗﺎﺋﻞ: ﻫﺬا ﻳﻘﺘﻀﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺃﻣﺮ ﺳﺎﺑﻖ ﻓﻨﺴﻲ، ﺗﻘﻮﻝ: ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﻔﻄﺮﺓ ﻣﻦ اﻻﻧﻘﻴﺎﺩ ﻟﻠﺤﻖ ﻫﻮ ﻛﺎﻟﻤﻨﺴﻲ ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻣﺪﻛﺮ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻰ ﻣﺎ ﻓﻄﺮ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻗﻴﻞ: ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻣﺪﻛﺮ ﺃﻱ ﺣﺎﻓﻆ، ﺃﻭ ﻣﺘﻌﻆ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻓﺴﺮﻧﺎ ﺑﻪ.
وأيضا فهو ﺇﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﻇﻬﻮﺭ اﻷﻣﺮ ﻓﻜﺄﻧﻪ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻧﻜﺮ، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺃﻣﺮ ﺣﺎﺻﻞ ﻋﻨﺪﻩ ﻻ ﻳﺤﺘﺎﺝ ﺇﻟﻰ ﻣﻌﺎﻭﺩﺓ ﻣﺎ ﻋﻨﺪ ﻏﻴﺮﻩ.

- وأيضا فلما ﻛﺎﻧﺖ ﻫﺬﻩ اﻟﻨﺬاﺭﺓ ﺑﻠﻐﺖ ﺑﺎﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭاﻟﻤﺸﺮﻛﻮﻥ ﻣﻌﺮﺿﻮﻥ ﻋﻦ اﺳﺘﻤﺎﻋﻪ قد حرموا ﺃﻧﻔﺴﻬﻢ ﻣﻦ ﻓﻮاﺋﺪﻩ ﺫﻳﻞ ﺧﺒﺮﻫﺎ ﺑﺘﻨﻮﻳﻪ ﺷﺄﻥ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﺑﺄﻧﻪ ﻣﻦ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﺃﻥ اﻟﻠﻪ ﻳﺴﺮﻩﻭﺳﻬﻠﻪ ﻟﺘﺬﻛﺮ اﻟﺨﻠﻖ ﺑﻤﺎ ﻳﺤﺘﺎﺟﻮﻧﻪ ﻣﻦ اﻟﺘﺬﻛﻴﺮ ﻣﻤﺎ ﻫﻮ ﻫﺪﻯ ﻭﺇﺭﺷﺎﺩ، ﻭﻫﺬا اﻟﺘﻴﺴﻴﺮ ﻳﻨﺒﻰء ﺑﻌﻨﺎﻳﺔ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ.

- وأيضا فالادّكار في السورة نوعان، اﺩﻛﺎﺭ اﻋﺘﺒﺎﺭ ﻋﻦ ﻣﺸﺎﻫﺪﺓ ﺁﺛﺎﺭ اﻷﻣﺔ اﻟﺒﺎﺋﺪﺓ، واﺩﻛﺎﺭ ﻋﻦ ﺳﻤﺎﻉ ﻣﻮاﻋﻆ اﻟﻘﺮﺁﻥ اﻟﺒﺎﻟﻐﺔ ﻭﻓﻬﻢ ﻣﻌﺎﻧﻴﻪ ﻭاﻻﻫﺘﺪاء ﺑﻪ.
فهذه بعض معاني هذه الآية، أتيت ببعضه من كلام أهل العلم، وتركت ما لم أفهمه من كلامهم فيها، والله المستعان.

الخميس، 9 يناير 2020

أوراق فقهية (٢٠): ضابط السرف.

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله:
أما بعد:
فقد تكاثرت نصوص الوحي في ذم السرف وإنكاره وتبشيعه، وبيان عقوبته في الدنيا والآخرة، لكن مما يُحتاج إليه في تمام فقه هذه النصوص معرفة ضابط السرف وحدِّه وقدره.
وقد جاء في ذلك أقوال في ضبطه عن بعض أهل العلم، أنقل هنا بعض ما يمكن أن يضبط به السرف في النفقات:
١) مجاوزة الحد، وقد نقله الطبري عن جمع من السلف. (تفسيره ١٩ / ٢٩٩) 
فيكون السرف كل ما تجاوز به صاحبه للحد، وقد ضبطه بذلك الجويني، وزاد قيدا فيه فقال: فيما لا يكسب أجرا. (نهاية المطلب ١١ / ٥٥٤).
وممن ضبطه بذلك: ابن تيمية، كما نقله ابن مفلح في الآداب الشرعية (٣ / ١٩٧).
• ومن أمثلته التي ذكرها أهل العلم: الأكل فوق الشبع. (أحكام القرآن للجصاص ٤ / ٢٠٧، المبسوط للسرخسي ٢٤ / ٩).
- وهل يحرم الأكل فوق الشبع أم يكره؟ نقل القرطبي فيه قولين. (تفسير القرطبي ٧ / ١٩١) 
- بل جاء عن عمر -رضي ﷲ عنه- ما هو أشدّ، فثبت في الزهد لأحمد عن عمر أنه قال: "كفى بالمرء إسرافا أن يأكل كل ما اشتهى". (الزهد لأحمد ص ١٠٢)
- فإن قيل: فما هو الضَّابط للقدر الذي يُعَدّ تجاوزا للحدّ، ويذمّ تجاوزه؟
فيقال: يضبطه النظر إلى ما يليق بحال المنفق وبقدر ماله، فما كان لا يليق به عرفا فهو سرف محرم.
وفي مصنف ابن أبي شيبة ﻋﻦ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ: "ﻭﻻ ﺗﻨﻔﻖ ﻧﻔﻘﺔ ﻳﻘﻮﻝ اﻟﻨﺎﺱ: ﺇﻧﻚ ﺃسرفت ﻓﻴﻬﺎ".
(المصنف ٢٤٨٧٩). 
وهذا مذهب جمع من الفقهاء، كما هو مذهب الشافعية، نسبه لهم ابن حجر في الفتح (١٠ / ٤٠٨).
وممن ذكر تقييده بالعرف ابن مفلح (الآداب الشرعية ٣/ ٤٢٥).
• ومن الضوابط كذلك: ألّا يضيّع ما هو أولى منه، كالديون والنفقات الواجبة، نحو النفقة على الزوجة والأولاد، وفي المسند والسنن ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: "ﻛﻔﻰ ﺑﺎﻟﻤﺮء ﺇﺛﻤﺎ ﺃﻥ ﻳﻀﻴﻊ ﻣﻦ ﻳﻘﻮﺕ".
(رواه أحمد ٦٤٩٥، وأبو داود ١٦٩٢).

والله أعلم.

الأحد، 5 يناير 2020

عمل المرأة في ضوء قصة موسى ﷺ

     
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن مواعظ قصة موسى ﷺ ما جاء في حادثة خروجه لمدين، وسقاية الماء للمرأتين، ومنها تلك التنبيهات المتعلقة بعمل المرأة المسلمة وخروجها من بيتها، فقد جاء فيها ذكر لآداب المرأة الصالحة، وأخلاق الفتاة المؤمنة حين تخرج من بيتها طالبة للكسب، باحثة عن الرزق، ومنها:
١- عدم الاختلاط بالرجال:
قال ﷻ: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاس يسقون ووجدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ ۖ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا ۖ قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاءُ ۖ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [سورة القصص : ٢٣] 
فتأمل قولها: (لا نَسْقِي حَتَّىٰ يُصْدِرَ الرِّعَاء). 

٢- الخروج للحاجة كعدم وجود من يقوم عليها.
تأمل: (وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ). 

٣- ملازمة الحياء.
قال ﷻ: (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ۚ فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ ۖ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [سورة القصص : ٢٥]
تأمل: (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ). 

٤- انتهاز الفرصة للبقاء في البيت، فإن وجدت من يكفيها العمل مكثت.
قال ﷻ: (قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [سورة القصص : ٢٦].

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

الجمعة، 3 يناير 2020

أوراق فقهية (١٩): (الأشباه والنظائر، المعنى والفرق)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه ورقة مختصرة أحاول فيها معرفة الفرق والعلاقة بين علم الأشباه والنظائر وكتبها وبين علم الفروق الفقهية.
فيحسن أن أذكر تعريف الفروق لغة واصطلاحا، ثم أعقب بدراسة لكتب الأشباه والنظائر، باعتبار أنها هي الفن المشكل، ليتبين لنا علاقة العلمين ببعضهما.

• تعريف الفروق الفقهية:
تعريف الفروق لغة: 
الفروق جمع فرق ومعناه: التمييز والفصل بين الأشياء، قال ابن فارس: الفاء والراء والقاف أصل صحيح يدل على تمييز وتزييل بين شيئين. (القاموس المحيط ص ١١٨٣، مقاييس اللغة ٤ / ٤٩٣  مادة  - فرق - ) .

• وفي الاصطلاح: "هو الفن الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويراً ومعنى، المختلفة حكماً وعلة".
( الأشباه والنظائر للسيوطي ٧ ) 

• وأما تعريف الأشباه والنظائر في اللغة:
- الأشباه في لسان العرب جمع شبه، بسكون الباء وفتحها، وهو المثل، ﻭاﻟﻤﺸﺘﺒﻬﺎﺕ ﻣﻦ اﻷﻣﻮﺭ: اﻟﻤﺸﻜﻼﺕ، ﻭاﻟﻤﺘﺸﺎﺑﻬﺎﺕ: اﻟﻤﺘﻤﺎﺛﻼﺕ.
[ القاموس المحيط ١٢٤٧، لسان العرب  ١٣ / ٥٠٤ ] .

- وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: "اﻟﺸﻴﻦ ﻭاﻟﺒﺎء ﻭاﻟﻬﺎء؛ ﺃﺻﻞ ﻭاﺣﺪ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺗﺸﺎﺑﻪ اﻟﺸﻲء ﻭﺗﺸﺎﻛﻠﻪ ﻟﻮﻧﺎ ﻭﻭﺻﻔﺎ".
[ مقاييس اللغة ٣ / ٢٤٣ ] 

• وبعض أهل اللغة يفرقون بين المثل والشبه، قال العسكري في الفروق :" اﻟﻔﺮﻕ ﺑﻴﻦ اﻟﺸﺒﺔ ﻭاﻟﻤﺜﻞ، ﺃﻥ اﻟﺸﺒﻪ ﻳﺴﺘﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﻣﺎ ﻳﺸﺎﻫﺪ ﻓﻴﻘﺎﻝ اﻟﺴﻮاﺩ ﺷﺒﻪ اﻟﺴﻮاﺩ ﻭﻻ ﻳﻘﺎﻝ اﻟﻘﺪﺭﺓ ﺷﺒﺔ اﻟﻘﺪﺭﺓ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﻣﺜﻠﻬﺎ".
[ الفروق للعسكري ١٥٥ ] .


• تعريفه في الاصطلاح:
لم يعتنِ كثير من المصنفين بذكر تعريف للأشباه ولا للنظائر، ولكن عرفه بعضهم، وذكر بعضهم في تقدمات كتبهم ما يمكن أن نعرف به تعريفه لهذا الاصطلاح.

- فعرّف الحموي في "غمز عيون البصائر " الأشباه فقال :
" المسائل التي تشبه بعضها بعضا، مع اختلافها في الحكم، لأمور خفية أدركها الفقهاء بدقة نظرهم" .
[ غمز عيون البصائر ١ / ٥٣ ].
وهذا يدل على أن الحموي جعل فن الأشباه هو فن الفروق الفقهية أو قريب منه، ويؤيد ذلك أنه قال  : " قوله : ( الفن السادس من الأشباه والنظائر الفروق ) وقع في بعض النسخ ( في ) بدل ( من ) وكأنه أراد أن يسمي الفن بالأشباه والنظائر.
ولعل أصل العبارة : الفن السادس في الفروق وهو فن الأشباه والنظائر ".
[ ٣ / ٣٣٧] 
لاسيما إذا علمنا أن ابن نجيم قال في بداية كتابه الأشباه والنظائر: "تسميته بالأشباه والنظائر تسمية له باسم بعض فنونه ".
[ غمز عيون البصائر ١ / ٥٧، وقد انتقد الدكتور يعقوب صنيع ابن نجيم حين أدخل في كتابه الأشباه والنظائر ما ليس له علق بالأشباه والنظائر كالألغاز والحكايات، وذكر الدكتور أن ابن نجيم " أراد أن كل ما ذكره كان في الأشباه والنظائر " وهذا غير دقيق، ولعل الدكتور ذهل بصره عن نص ابن نجيم أنه سمى كتابه ببعض فنونه، القواعد الفقهية ٩٨  ] .
وهذا يدل على أن اصطلاح الأشباه والنظائر عند ابن نجيم وكذا الحموي أخص من مطلق المسائل المتشابهة التي يجمعها رابط ومعنى واحد.
- وعرف شيخنا يعقوب الباحسين الأشباه: "الفروع الفقهية التي أشبه بعضها بعضا في حكمه".
[ القواعد الفقهية ٩٣ ]  
• وقد ظهر لي - والعلم عند الله - أن مصطلح الأشباه في استعمال العلماء - أو كثير منهم - مرادف لمصطلح النظائر، وجعلوه من باب عطف الترادف، ولهذا تجد ابن السبكي في مقدمة كتابه يقول عن زياداته على كتاب ابن الوكيل: "وجمعت عليه من الأشباه نظائر " .
[ الأشباه والنظائر لابن السبكي ٢ / ٧ ، وانظر ما قاله نعيم أشرف - محقق كتاب غمز عيون البصائر - ١ / ١٠ المقدمة ] .
وهو ما يدل عليه كلام السيوطي في مقدمة كتابه الأشباه والنظائر [ ١/ ٥٨ ]، حين بيّن كلام عمر: "اعرف الأمثال والأشباه ثم قس الأمور عندك، فاعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى ة" .
[ رواه الدارقطني في سننه برقم ٤٤٧١ ]
 قال السيوطي: "فيه إشارة إلى أن من النظائر ما يخالف نظائره في الحكم، لمدرك خاص به، وهو الفن المسمى بالفروق الذي يذكر فيه الفرق بين النظائر المتحدة تصويرا ومعنى المختلفة حكما وعلة"
وهذا السياق يقتضي أمرين:
- أن الأشباه بمعنى النظائر، لأنه فسّر لفظ عمر بذلك.
- أن علم الفروق فن من فنون الأشباه والنظائر، وليس مرادفا له ولا مباينا أيضا.
[ هذا مع أن السيوطي قد ذكر ما يخالف ذلك في فتاويه فقال: "اﻟﻤﻤﺎﺛﻠﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ اﻟﻤﺴﺎﻭاﺓ ﻣﻦ ﻛﻞ ﻭﺟﻪ، ﻭاﻟﻤﺸﺎﺑﻬﺔ ﺗﻘﺘﻀﻲ اﻻﺷﺘﺮاﻙ ﻓﻲ ﺃﻛﺜﺮ اﻟﻮﺟﻮﻩ ﻻ ﻛﻠﻬﺎ، ﻭاﻟﻤﻨﺎﻇﺮﺓ ﺗﻜﻔﻲ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ اﻟﻮﺟﻮﻩ ﻭﻟﻮ ﻭﺟﻬﺎ ﻭاﺣﺪا، ﻳﻘﺎﻝ: ﻫﺬا ﻧﻈﻴﺮ ﻫﺬا ﻓﻲ ﻛﺬا، ﻭﺇﻥ ﺧﺎﻟﻔﻪ ﻓﻲ ﺳﺎﺋﺮ ﺟﻬﺎﺗﻪ" الحاوي للفتاوي للسيوطي ٢ / ٣٢٩ ] .
وهذا أيضا ظاهر استعمال أبي الحسن الأنصاري في نظمه والسجلماسي في شرح ذلك النظم.
[ كما سيأتي ].
• ونستفيد من النظر في مقدمات المصنفين لكتب - الأشباه والنظائر - معنى النظائر ، فإني وجدته يأتي على ثلاثة مسالك:
١ - فمنهم من يجعل الأشباه بمعنى القواعد الفقهية كما قد يفهم من مقدمة ابن الملقن لكتابه الأشباه والنظائر، فإنه قال:
"فإن الاشتغال بالأشباه والنظائر والقواعد لما تحتوي من الفرائد والفوائد وتحد الأذهان وتظهر النظر وقد هذب العلماء جملة منها، واعتنوا بها، فمنهم: عز الدين بن عبد السلام، وشهاب الدين القرافي، وللعلامة عصرّينا صدر الدين محمد بن المرحل فيه مصنف حسن هذبه ورتبه ابن أخيه زين الدين، وهو الذي أبرزه ولشيخنا الحافظ العلامة صلاح الدين ابن العلائي فيه مصنف مفرد". [الأشباه والنظائر لابن الملقن ٩]
ذكر بعض الباحثين أن بعض نسخ "الأشباه والنظائر" لابن السبكي جاءت بعنوان: "قواعد ابن السبكي" كما ذكره: مصطفى الأزهري - محقق كتاب الأشباه والنظائر لابن الملقن ، ١ / ٦٢ - ( ملاحظة) العبارة المنقولة عن ابن الملقن فيها قلق، يظهر أنه من المحقق، فإني رأيت إغلاقا وعدم وضوح في بعض العبارات في مواطن  ] .
فظاهر ذلك أنه لا يجعله مختلفا عن القواعد.
٢ - ومنهم من يجعل الأشباه مرادفة للفروق كما قد يفهم من صنيع الحموي، فإنه قال بعد تعريفه للأشباه: "المسائل التي تشبه بعضها بعضا، مع اختلافها في الحكم، لأمور خفية أدركها الفقهاء بدقة نظرهم، وقد صنفوا لبيانها كتبا، كفروق المحبوبي والكرابيسي" فانظر كيف جعل كتاب الكرابيسي والمحبوبي أمثلة على هذا الفن.
[ غمز عيون البصائر ١ / ٥٣ ] .

٣ - ومنهم من يجعل فن الأشباه شاملا لكل الفنون التي تذكر مسائل تتشابه وتتماثل في معنى من المعاني، كصنيع ابن السبكي والسيوطي والأنصاري وشارحه السلجماسي، سواء اتحدت هذه الأشباه حكما وتعليلا، واتفقت في علة واحدة، وصاغ لها الفقهاء صيغة كلية أو أغلبية جمعت صورها، فهي التي يُطلق عليها القاعدة الفقهية، فإن المسائل:
- جواز أكل الميتة للمضطر.
- وجواز كلمة الكفر للإكراه.
- وجواز هجرة المسلمة من دار الحرب بغير محرم كلها تجمعها علة واحدة، وهي الاضطرار وعدم الاختيار في ركوب المحرم، وهي مندرجة تحت قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات).
وجميع المصنفين في الأشباه والنظائر يضمنون كتبهم هذه القواعد، حتى جعل السيوطي عُظْم كتابه مبني عليها ، فذكرها في الأبواب الثلاثة الأولى منه، وطوى فيها قريبا من نصف كتابه .
أو كان الاتفاق في أمر عام يجمع فروعا تحته، من دون أن يكون بينها علة جامعة، أو ضابط فقهي يحيط بها، فهي عندهم من جملة الأشباه، وهذا وجه عقد السيوطي للكتاب الرابع في كتابه : " أحكام يكثر دورها ويقبح بالفقيه جهلها كأحكام الناسي والجاهل والمكره والنائم والمجنون .. " .
[ الأشباه والنظائر للسيوطي ١ / ٣٩١ ] فهذا الباب مسرد للأحكام الفروعية المختصة بجنس واحد، فهي من الأشباه باعتبار أنها أحكام لأمر واحد .
ومن أمثلته ما يضمنه بعض المصنفين في كتبهم كمثل قولهم :
- المسائل المتشابهة التي قدم فيها النادر على الغالب .
[ شرح اليواقيت الثمينة ١/ ١٧٥، وقد سماها بالنظائر ] .
- الأشباه التي اغتفر فيها القليل .
[ شرح اليواقيت   ١ / ٢٣٨ ، وقد سماها بالنظائر ] .

• ولعل هذا الأمر سيتضح إذا نظرنا لما ضمنه - المصنفون في الفن - كتبهم، فإنا نجدهم كلهم يضمنون كتبهم فصولا تجمع المسائل المتشابهة في معنى واحد أو تحت أصل معين - سواء اتفقت في العلة والحكم أم لا -  ولعل ذلك يتضح على النحو الآتي : 
• يذكر العلماء في كتب الأشباه والنظائر القواعدَ الفقهية ويأتون على كثير منها، وخاصة القواعد التي يسميها العلماء  بالقواعد الكبرى :
- كقاعدة : " الأمور بمقاصدها " .
[ الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ٥٤، والأشباه والنظائر للسيوطي ٦٥ ] .
- وكقاعدة : " لا يزال الشك باليقين " . [الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ١٣، والأشباه والنظائر لابن الملقن  ١ / ١٣٥ ، الأشباه والنظائر للسيوطي ١٥١ ] .
* وكذلك يذكرون القواعد التي تلي هذه الكبرى في أهميتها :
- كقاعدة : " الميسور لا يسقط بالمعسور " .
 [ الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ١٥٥،  والأشباه لابن الملقن  ١ / ١٧٤، والسيوطي  ] .
- وكقاعدة : " الاجتهاد لا ينقض باجتهاد " .
[ الأشباه والنظائر للسيوطي ١ / ٢٣٩ ] .

• بل يضمنون كتبهم قواعد أصولية أيضا :
- فأول قاعدة صدّر بها مفترع هذا الاسم وأبو بُجدته - ابن المرحل - في كتابه الأشباه والنظائر :
" قاعدة : إذا دار فعل النبي ﷺ بين أن يكون جبليا وبين أن يكون شرعيا فهل يحمل على الجبلي لأن الأصل عدم التشريع أو على الشرعي لأنه ﷺ بعث لبيان الشرعيات ؟ " .
[  الأشباه والنظائر لابن المرحل ١٣ ] 
- وكقوله :" قاعدة : العرف الخاص هل يلحق بالعرف العام " .
[ الأشباه والنظائر، لابن المرحل ٢٠٩ ] .
- وكما ذكر السبكي : " قاعدة : لا يجوز أن يستنبط من النص معنى يعود عليه بالإبطال " .
[ الأشباه والنظائر للسبكي ١ / ١٥٢ ، وقد عقد ابن السبكي كتابا بعنوان :" أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية "
وذكر تحته جملة من الأصول الكلامية كمسألة الاسم والمسمى ٢ / ٥، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين ٢ / ٢٠، وذكر أيضا كثيرا من المباحث الأصولية كمباحث أحكام التكليف ٢ / ٧٨، وحقيقة الرخصة ٢ / ٩٧ وغيرها كثير جدا من المباحث الأصولية ] .
- وكذكرهم لقاعدة : " هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة " .
[الأشباه والنظائر لابن السبكي ٢ / ١٠١ ،الأشباه والنظائر لابن الملقن ٢/ ٩٢ ] 
- وكقول ابن الملقن : " قاعدة : قول الصحابي : أمرنا بكذا ونهينا عن كذا .. " [ الأشباه والنظائر لابن الملقن ١/ ٩٢ ] .

• وأيضا نجدهم يضمنون كتبهم ما هو من باب الضوابط الفقهية :
وقد ذكر ابن السبكي في المقدمة أن الغالب إطلاق الضابط على القاعدة التي في باب خاص .
[ ثم اعتذر عن وجه إطلاق بعض أهل العلم للقاعدة أو الضابط على بعض الفروع الفقهية، فبين أن ذلك إنما يطلق إذا ذكر في الفرع المأخذ والتعليل الذي بني عليه الفرع، الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ١١ ]
- وقد جعله ابن السبكي في باب مستقل سماه : " القواعد الخاصة " وجعل تحته كثيرا من الضوابط الفقهية مرتبا على أبواب الفقه، وأطال فيه جدا .
[ الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ٢٠٠ ] .
وربما كان كتاب ابن الملقن أولى تلك الكتب بالاختصاص بالضوابط الفقهية لأنه جعل القواعد مرتبة على أبواب الفقه .
[ الإمام ابن الملقن في هذا الكتاب - مع أنه بناه على نشر القواعد على الترتيب الفقهي - إلا أن كثيرا من القواعد ليست مختصة بالباب الذي ذكرت تحته، وهو أمر تفرضه طبيعة القاعدة الفقهية من جهة انتشارها في أبواب شتى، وهو الذي فارقت به الضابط الفقهي على ما استقر عليه الاصطلاح، وليس يصح أن يقال : ربما كان ابن الملقن غير معتبر لهذا الاصطلاح، فإن ابن الملقن كان قد أشار إلى ذلك في كتابه : " نواضر النظائر فقال في تعريفه بالقاعدة وأخواتها : " ومنها ما يختص بباب كقولنا : كل كفارة سببها معصية فهي على الفور ، والغالب فيما اختص بباب .. أن يسمى ضابطا .. " ثم ذكر معنى آخر للضابط . ١ / ٢٦ ] .
 ومن ذلك ضابط :
- ما لا يبطل عمده لا يسجد لسهوه . [ وذكره بقريب منه ابن السبكي في قاعدة :
" ﻣﺎ ﻗﻀﻰ ﻋﻤﺪﻩ اﻟﺒﻄﻼﻥ اﻗﺘﻀﻰ ﺳﻬﻮﻩ اﻟﺴﺠﻮﺩ ﺇﺫا ﻟﻢ ﻳﺒﻄﻞ " ١ / ٢١٨ - وفي الأشباه والنظائر لابن الملقن ١ / ٢٤٣ ] .
- وضابط : " إذا سهى الإمام في صلاته لحق سهوه المأموم " .
[ الأشباه والنظائر لابن السبكي ١ / ٢٢٠ ] .
- وضابط : " العارية مضمونة .
[ الأشباه والنظائر لابن الملقن ٢ / ٢٣ ] . 

• ويضمنون كتبهم أيضا ما هو من باب التقاسيم :
- كقول ابن المرحل :" المقدرات الشرعية أربعة أقسام وذكرها " .
[ الأشباه والنظائر لابن المرحل ١١٠ ] .
- وكقول ابن الملقن قاعدة : " العدول عن المستقر إلى الأصل المهجور فيه صور .. " وذكرها .
[ الأشباه والنظائر ١ /١٠٢ ] .
- وقوله قاعدة : " ورد الشرع باستعمال الحجر في الاستنجاء وفي رمي الجمار في الحج وبالماء في طهارة الحدث .. " . [ الأشباه لابن الملقن ١٤٣ / ١  ] .
- وكما ذكر السيوطي في أقسام العقود فقسمها أقساما باعتبارات ست .
[ ٢ / ٥٣٧ ]

• بل إنهم ربما يعقدون فصلا في أنواع من المسائل يجمعها جامع مطلق :
- كما صنع السيوطي حين عقد كتابا عن المسائل التي يقبح بالفقيه جهلها .
[ ١ / ٣٩١ ] .
- وكما عقد ابن السبكي فصلا في كتابه سماه :
( كلمات نحوية يترتب عليها مسائل فقهية ) .
 [ الأشباه والنظائر ٢ / ٢٠٢ ]
وذكر تحته مسائل نحوية شتى كالمعرفة والنكرة .
 [ ٢ / ٢٣٢ ]، الاستثناء [ ٢ / ٢٣٩ ]   .


والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

أوراق فقهية (١٨): الإمام القرافي: (الإبداع، والتفرّد)

         بسم الله الرحمن الرحيم 
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا  
أما بعد:
فقد كان الإمام القرافي مبدعا في تأليفه، سالكا فجا لا يسلكه كثير غيره، ينسج على غير منوال، ويجري على غير مثال. وليس يكبره في نفسي من المالكية إلا قليل، فإذا رأيت كلامه وجدت عليه ما لا أجد لكثير.
وإذا أردت أن يظهر لك الفرق بين كلامه وكلام غيره فهذه ورقة حاولت فيها المقارنة بين كلامه وكلام غيره في التقعيد الفقهي لقاعدة من عرض قواعد الفقه، سيتبين بهذا المثال القريب شيء مما أردت بيانه، ويظهر بعض ما كنت أريد أقوله.
فقارنت بين كلامه رحمه الله وبين كلام أئمة تحدثوا عن قاعدة من قواعد الفقه، فتظرت في قاعدة (اعتبار الغالب، ولحوق النادر بالغالب).
وأتيت بكلامه وكلام السجلماسي والزركشي والسيوطي حول تلك القاعدة.
•• أولا:
قال القرافي: "الفرق بين قاعدة: ما اعتبر من الغالب، وبين ما ألغي من الغالب".
• شرح الفرق:
- ذكر القرافي هنا قاعدتين:
الأولى: (أن الأصل في الشريعة اعتبار الغالب وتقديمه على النادر )، وهو كثير في الشريعة لا يحصى كثرة، كما يقدم الغالب في طهارة المياه فالغالب الطهارة، ويرخص بالقصر في السفر إذ الغالب المشقة، ويمنع من شهادة الأعداء لغلبة الحيف. 
[ وتأتي هذه القاعدة على ألسنة الفقهاء والأصوليين على نحو:
- العبرة بالغالب والنادر لا حكم له ( البحر الرائق ٢ / ٣٣٩ )، ( حاشية البجيرمي ٢ / ٥١) ، ( المبدع ٦ / ١٢٥ ).
- الأقل يتبع الأكثر ( البناية شرح الهداية ١٢ / ٤٥٦ )، ( الفواكه الدواني ٢ / ١٦١ )، - الحكم للأغلب ( الكافي لابن عبد البر ٢ / ٥٤٠ )، ( المجموع ١٨ / ٢٢٢ )، ( المغني ١ / ٤٢٢). 
- العبرة بالغالب الشائع لا بالقليل النادر ( موسوعة القواعد الفقهية ٧ / ٣٨٢ )] .

الثانية: أن هذا الغالب قد يلغى، رحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم.
- ولهذا ينبغي لمن قصد إثبات حكم الغالب دون النادر أن ينظر: هل ذلك الغالب مما ألغاه الشرع أم لا؟
فإن العمل بالغالب في جميع صوره خلاف الإجماع.
فإذا وقع غالب لا تدري هل هو من قبيل ما ألغي أو من قبيل ما اعتبر؛ فالطريق أن تستقرئ موارد النصوص والفتاوى استقراءً حسنا، فإذا لم يتحقق لك إلغاؤه فاعتقد أنه معتبر.

- فالقرافي هنا ذكر أصلا وقيدا:
- فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
- والقيد: أنه قد تأتي بعض الصور - لمقتضى معين - يلغى فيه حكم الغالب وتخرج عن هذا الأصل فتلحق بالنادر. 

• وقد جعل القرافي هذا الإلغاء يأتي على نوعين:
- قسم يلغى فيه الغالب ويعتبر النادر.
- وقسم يلغى فيه الغالب والنادر معا.

أ ) فالقسم الأول: (الذي ألغي فيه الغالب واعتبر النادر) مثل:
١ - طين المطر في الممرات والطرقات الغالب عليه وجود النجاسة من حيث الجملة، والنادر سلامتها، ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب وأثبت حكم النادر توسعة على العباد.
٢ - الغالب صدق دعوى الصالح الولي التقي على الفاجر الشقي الظالم درهما، والنادر كذبه، ومع ذلك قدم الشرع حكم النادر على الغالب، وجعل القول قول الفاجر ما لم يأت المدعي على قوله ببينة، سدا لباب الفساد والظلم.
- وقد ذكر تحت هذا القسم عشرين فرعا.

ب ) والقسم الثاني: ( الذي ألغي فيه الغالب والنادر) مثل:
١ - الغالب صدق شهادة الجمع الكثير من النساء في أحكام الأبدان، والنادر كذبهن، لاسيما مع العدالة، وقد ألغى صاحب الشرع صدقهن فلم يحكم به، ولا بكذبهن لطفا بالمدعى عليه.
٢ - الغالب براءة الرحم بالقرء الواحد في العدد، والنادر شغله، ولم يحكم الشارع بواحد منهما حتى ينضاف إليه قرءان آخران. [ الفروق للقرافي ٤ / ٢١٢ ].
- وقد ذكر أيضا تحت هذا القسم عشرين فرعا .

•• ثانيا:
ذكر السجلماسي هذه القاعدة في (شرح اليواقيت الثمينة) وقد نقل الناظم كلام القرافي من الفروق وتقسيمه وكل الفروع التي ذكرها، وسردها الشارح بنصها ولم يأت في القاعدة بجديد.

•• ثالثا:
ذكر الزركشي قاعدة :( النادر هل يلحق بالغالب ؟ ). [ المنثور للزركشي ٣ / ٢٤٣ ] 
وكما ترى فليست في صياغتها على كمال صياغة الإمام القرافي، فإن كتاب القرافي جاء على طريقة الفروق؛ التي تصاغ بذكر فرق بين أصلين أو جنسين أو قاعدتين أو مسألتين.
وقد جعل الزركشي -رحمه الله- الأقسام أربعة:
١ - ما يلحق بالغالب قطعا.
٢ - ما لا يلحق قطعا.
٣ - ما يلحق بالغالب على الأصح [ سقط من المطبوع التقسيم، ولكن أخذته من سياق الكلام وذكر الأمثلة ٣ / ٢٤٣ - ٢٤٤ ] .
٤ - ما لا يلحق به على الأصح.

• واكتفى الزركشي بذكر فروع الأقسام هذه، ولم يشرح القاعدة بما يبينها كما صنع القرافي، ولكنه جعل قسمتها بحسب الوفاق والخلاف كما سبق؛ فجعل القسم الأول قسمين:
ما يجزم ويقطع بدخولها في صورة القاعدة، وما لا يجزم بذلك ولكن يرجح ويصحح دخوله.
وكذا ما يخرج من القاعدة، قسّمه إلى قسمين:
ما يقطع بخروجه من القاعدة ، وإلى ما لا يقطع بخروجه ولكن المصحح خروجه.
فكانت عناية الزركشي منصبة على تفصيل المسائل باعتبار مراتبها في ذاتها، وهذا ما لم يشر إليه القرافي رحمهم الله جميعا.

- وقول الزركشي: ما يلحق بالغالب قطعا يقصد به: ما قدم النادر فيه وأُثْبت حكمه دون حكم الغالب، وهو القسم الأول عند القرافي.
فمقصوده باللحاق هنا أي أن هذا النادر اعتبر ولم يهدر، ومقصوده بعدم اللحاق أي أن الغالب هنا هو المعتبر والنادر ملغى.
وقد ذكر الزركشي أمثلة على كل قسم من الأقسام الأربعة:
- فمن أمثلة القسم الأول:
من خلقت بلا بكارة، فهي داخلة في حكم الأبكار في الاستئذان قطعا. [ أي يستأذنها وليها في النكاح] .
فهنا قدم النادر وأثبت حكمه.

- ومن أمثلة القسم الثاني:
وهو ما ألغي فيه حكم النادر على سبيل الجزم، وقال الزركشي هنا: ( ما لا يلحق بالغالب قطعا ):
كالأصبع الزائدة لا تلحق الأصلية في الدية.

- ومن أمثلة القسم الثالث:
نقض الوضوء بمس الذكر المقطوع إلحاقا بالغالب المتصل على الأصح، وقيل: لا يلحق للندرة.

- ومن أمثلة القسم الرابع:
ما يتسارع إليه الفساد في مدة الخيار، لا يثبت فيه خيار الشرط على الأصح.

• وقد ذكر الزركشي ضابطا مهما ينفع في تصور ما يعطى حكم الغالب وما لا يعطى؛ وهو الديمومة، فالنادر إذا دام فيعطى حكم الغالب بخلاف ما لم يدم، وذكر أمثلة للنوعين. [ ٣ / ٢٤٤ ] 

•• رابعا:
أما السيوطي فذكر قاعدة: "النادر هل يلحق بجنسه أو بنفسه"، وذكر فيها أمثلة:
- من خلقت بلا بكارة لها حكم الأبكار.
- من أتت بولد لستة أشهر ولحظتين يلحق قطعا مع ندوره.
- الأصبع الزائدة هل تلحق بالأصلية؟
وغيرها من الأمثلة التي ذكرها أيضا الزركشي في المنثور.
- ولم يتوسع السيوطي بذكر شرح أو قيود.[ ١٨٣ ] .
فإذا رأيت ذلك رأيت فضل كلام القرافي مع تقدمه، وتبين لك ما عنده من مزية على غيره، وهو تميز يغشي كل كلامه رحمه الله تراه باديا في غالب تقريراته ومصنفاته.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

الأربعاء، 1 يناير 2020

أوراق فقهية (١٧): دفع الوهم الفقهي في صفة السجود.

        بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
• فقد انتشر كلام لأحد الفضلاء في: صفة السجود، والقدر المجزئ للسجود على الأعضاء السبعة.
وقرر أنه يجب استيعاب السجود على كل أجزاء العضو في السجود، فإنه ألحق الوعيد الوارد في ترك غسل بعض عضو الوضوء؛ بمن ترك بعض عضو السجود، فقال: ويل للأصبع الصغيرة من النار إذا لم تسجد وتمس الأرض.

• فلو أن هذا الفاضل أبقاه على السنة والكمال المستخب فلربما كان له مساغ، ولكن أن يجعله مما يعلق عليه الوعيد والذم فهذا خلل بيّن، يظهر لك بمعرفة ترتيب المسألة على النحو هذا:
قد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم، الجبهة -وأشار بيده على أنفه- واليدين والركبتين وأطراف القدمين (البخاري ٨١٢ ، ومسلم ٤٩٠)

• وقد اختلف أهل العلم في القدر الواجب في السجود من جهتين:
١) الواجب من الأعضاء في السجود:
- فقالت طائفة: يجب السجود على جميعها، وهو أحد القولين للشافعي، ومذهب أحمد، وأكثر أصحابه لم يحك عنه فيه خلافا، وهذا قول عند المالكية وإسحاق. 
ويدل على هذا القول: هذه الأحاديث الصحيحة بالأمر بالسجود على هذه الأعضاء كلها، والأمر للوجوب.

-وقالت طائفة: إنما يجب بالجبهة فقط لا يجب بغيرها، وهو قول أبي حنيفة وصاحبيه والقول الثاني للشافعي، وحكي رواية عن أحمد.
وقالوا: فإن السجود في كلام العرب وضع الجبين.
والأعضاء الأخرى أتت على سبيل التبع فتحمل على السنية.
 (حاشية الطحطاوي ٢٣٤ ، منح الجليل ١/٢٥٠، نهاية المحتاج ١/٥١٢، حاشية البجيرمي ٢/٣٥، شرح الزركشي على الخرقي ١/٥٦٨)
واختلفوا بعد ذلك هل يجزئ الأنف عن الجبهة أم لا؟ على قولين، ليس من شأننا في هذه التوة ذكر تفصيل ذلك.

٢) ثم اختلف القائلون بوجوب السجود على كل الأعضاء في القدر المجزئ من كل عضو:
وعامة أهل العلم أنه يجزئ في السجود بعض العضو لا كله، فمن سجد على بعض جبهته أو بعض أنفه أو بعض يديه ورجليه أجزأ عندهم ذلك. (حاشية الطحطاوي ٢٣٤ ، منح الجليل ١/٢٥٠، المجموع شرح المهذب ٣/٤٢٨) 

-قالوا: لأن الحديث لم يقيد ذلك. (شرح منتهى الإرادات ١/١٩٨)

-ولأنه لا يمكن استيعاب كل الجبهة ضرورة، فإن حد الجبهة إلى ما انحنى من الجبينين ولا يسجد عليها بلا إشكال.

-ولأن من صلى بالخف فلا يمكن أن يسجد على جميع أصابع قدمه. 

-وقد حكي الإجماع على ذلك. (فتح الباري لابن رجب ٧/ ٢٥٤)

-وقد جاء عن بعض أهل العلم إيجاب استيعاب الكفين كما حكي عن بعض الحنابلة: أنه يجب استيعاب الكفين بالسجود عليهما، وهو قول أبي خيثمة بن حرب والطبري ونص على عدم بطلان الصلاة بذلك. (تهذيب الآثار ١/ ٢٠٩، فتح الباري لابن رجب ٧ / ٢٥٤)

وأما استيعاب السجود على أصابع الأقدام فلا تكاد تجد من يشير لذلك.

• فإذا نظرت لمختصر كلام أهل العلم في ذلك؛ تبين لك الإشكال في كلام ذلك الفاضل.
وأما إلحاقه الوعيد -في ترك بعض أجزاء العضو في الوضوء- بترك بعض العضو في السجود؛ فذاك مما لا يجري على منوال القياس الصحيح، وتصوره كاف في رده، وليس مما يستحق أن يتكلف نقضه لخروجه عن قانون الفقه، وقائل ذلك مطالب بذكر العلة الجامعة بين الصورتين، ونفي الفارق بينهما وتنقيح مناط الحكم.
وأما تعضيد رأيه وتقويته بذكر الرؤيا التي رآها، وأن رؤيا الأولياء والصالحين من الوحي؛ فهو يحتاج لمقدمتين:
-المقدمة الأولى: أن يجزم بأنها من الرؤى وليست من حديث النفس أو إلقاء الشيطان.
-والمقدمة الثانية: أن يثبت أن الرؤى مما يعتمد عليها في أصل إثبات الأحكام، فإن الرؤى مرجح خارج عن المرجحات الشرعية.
ولئن جاز الاطمئنان إليها بعد تقرير الحكم بالدلائل الشرعية فإنه لا يجوز أن تنفرد بتقرير أصل الحكم الذي ذكره الشيخ الفاضل، ولقد وددت لو لم يأت الشيخ بمثل ذلك الأمر الذي سيدخل أهل الأهواء بجنسه لتقويض الشريعة.
والله المستعان.