الأحد، 26 مارس 2017

• (طليعة: الألفاظ الأعجمية في لسان الفقهاء).

           بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه طليعة (بحث: الألفاظ الأعجمية في لسان الفقهاء)، أتيت فيه بمقيدات وفوائد في التعريب وأقسامه وأسبابه وأمثلته؛ كنت قد كتبتها لنفسي وقيدتها لأستفيد منها في خاصة أمري، وضعتها عفو القلم، لم أقصد بها استقصاء ولا تحريرا وإنما وقعت لي شيئا بعد شيء، فانتظمت على هذا الترتيب الذي ستراه، وأنت فستجد في قراءتك لها، أنها على نحو التذكرة والتعليقة التي قد يستفيد منها غير المتخصص ويستغني عنها المتخصص، فأحببت أن يشركني أمثالي من أخواني بما لعله لا يخلو من فائدة.

لقد استعملت العرب للدلالة على الألفاظ الأعجمية كلمات ومصطلحات عدة، ومنها:
- المعرّب بتشديد الراء، ويقولون المعرَب بالتسهيل، ولم يستعمل سيبويه إلا التسهيل ولكن استقر الأمر في كتب اللغة على التشديد.
والمعرّب: هو الكلمة الأعجمية التي أخضعتها العرب لقواعد العربية، وقيل بل المعرب ما عربته العرب في عصر الاستشهاد، وقالوا: فأما ما عرب بعد ذلك فهو المولد .

- والدخيل: قيل هو مرادف للمعرب، ولهذا سمى الخفاجي كتابه :" شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل "، إلا أنه ربما أطلق على ما هو أعم من المعرب، فهو كل ما دخل اللغة وإن كان بعد عصر الاستشهاد.
- والأعجمي: يطلق على الكلمات الأعجمية التي لم يخضعها العرب لقواعد اللغة مثل تلفزيون.
- والمولد: هي الكلمات التي استعملها المولدون ، وقيل المولد هو: كل ما تكلم به المولدون سواء بتعريب أو اشتقاق من كلمة عربية أو ارتجال.

• ومنهم من قسّم تقسيما قريبا من ذلك:
١ - المعرّب: وهو ما أخضعته العربية لقواعدها وقبلته في عصور الاحتجاج .

٢ - الدخيل: هو ما لم تخضعه العربية لقواعدها ، وإنما نقلته في عصور الاحتجاج.

٣ - المولّد: ما نُقل بعد عصور الاحتجاج، ويشمل كل تغيير جَدّ في العربية كالتعريب والنحت والاشتقاق.


• كيفية معرفة الأعجمي من الكلمات:
١ - النص على ذلك في الكتب:
فقد درج بعض العلماء على النصّ في كتبهم أن الكلمة غير عربية، كما نرى بعض المفسرين ينص على أن هذه الكلمة موجودة في لغات أخرى ، بالإضافة إلى أن هناك كتباً أُلّفت في حصر الكلمات المعربة أو عقدت فيها فصول لبيان ذلك مثل:
* عقد سيبويه في كتابه بابا بعنوان (هذا باب ما أعرب من الأعجمية)، وكذا عقد أبو عبيد القاسم في كتابه الغريب، وابن قتيبة والثعالبي وغيرهم كثير.
* كتاب المعرّب للجواليقي.
* حاشية ابن بري.
* المهذب للسيوطي.
* قصد السبيل للمحبي.
* شفاء الغليل للخفاجي وغيرها.


٢ - التتبّع التاريخي:
عند تتبع تاريخ الكلمة ومقارنتها باللغات الأخرى يتضح مدى أصالة الكلمة أو استعارتها من لغة أخرى أقدم من اللغة المدروسة.

٣ - النظام الصوتي:
وذلك لأن لكل لغة نظاماً صوتياً تتميز به :
أ - إمّا في نوع الأصوات، فإن هناك حروفا في العربية يقلّ وجودها في غيرها كمثل: (ح ، غ ، ض ، ء ، هـ).

كما أن هناك أحرفاً لا توجد في اللغة العربية مثل:
- الگاف الفارسية، التي يسميها سيبويه: الحرف بين الكاف والجيم مثل: ( لگام عربت بلجام)، ( گورب عربت بجورب)، - ومثل الباء المثقلة پ، ( P )، ويسميها سيبويه: الحرف بين الباء والفاء، مثل: (فالوذج أصلها پالوده).

- ومثل حرف الجيم الفارسية چ في مثل: (چك عربته العرب صك).

- ومثل الفاء المثقلة، ڤ ( V ).

- مع أنهم قد يبدلون الحرف بغيره مع وجوده في لسانهم، كما في (تازه عربتها العرب بطازج) و (كنده عربوها بخندق) و (لشكر عربوه بعسكر).
وقد نصّ القلقشندي في "صبح الأعشى" على أن حروف العربية الفصيحة ثمانية وعشرين (٢٨) حرفًا، وإنها مع غير الفصيحة ثمانية وأربعين (٤٨) حرفًا.

ب - وإما بطريقة تأليف الأصوات فيها:
قال الخليل: "أي كلمة رباعية أو خماسية ليس فيها حرف من أحرف الذلاقة - وهي المجموعة في قوله (مر بنفل) - فليست عربية، على أنه استثنى في معجم (العين) بعض الألفاظ، مثل: عسجد.
 -  قال الجواليقي: لا يجتمع في العربية قاف وجيم ( جلّق، منجنيق)، ولا صاد وجيم (صولجان، جصّ) ، ولا طاء وجيم (طاجم) ، ولا قاف وكاف (قراتكيني).
- ليس في العربية كلمة مبدوءة بنون وَراء أصليتين مثل (نرجس) ، فهذه كلمة أعجمية.
-  لا يجتمع في كلمة السين والذال.
- لا يجتمع الطاء والجيم في كلمة.
- ليس في العربية كلمة مختومة بدال فزاي ، مثل (مهندز): (تعريبها مهندس).
- ليس في جذر عربي نون بعده راء (نرجس).


٤ - النظام المقطعي، فهناك مقاطع لا توجد في العربية، مثل المقطع التالي:
مهراجا: مه را جا
ص + ح + ص ص + ح ح ص + ح ح
فتجده هنا: (مغلق مفتوح طويل مفتوح طويل)
فتوالي المقاطع بهذه الصورة يدل على أن هذه الكلمة ليست عربية، فهي هندية بمعنى الرئيس.

٥ - النظام التصريفي:
- إذا لم يعرف للكلمة أصل اشتقاقي فهي أعجمية مثل:
( تَنّور ): نصّ عليها الجوهري: لأن مادة (تنر) مهملة، ويرى العلامة أحمد شاكر أنها عربية لورودها في القرآن، وقد أوضح ذلك في تتبعه للجواليقي، وقد ورد في المعجمات مشتقات لهذه الكلمة، ومنها : اصطبل - منجنيق .

- كما أن مجيء الكلمة على وزن غير مستعمل في العربية يحكم بعدم عربيتها، مثل: إبريسم، خراسان، إسماعيل، إزميل.

٦ - النظام النحوي: لكل لغة نظام نحوي تتميز به، ومما تتميز به العربية:
- أن الكلمات الأعجمية تمنع من الصرف للعلمية و العجمة، مثل إبراهيم، إسماعيل.
- أن الكلمات الأعجمية لا تدخلها الألف و اللام ،كما زعم بعض العلماء، فأي كلمة لا تدخلها "ال" فهي أعجمية ، نص على ذلك ابن جني في المحتسب.


• • وانتقال المفردات من لغة إلى أخرى ضرورة لغوية اجتماعية، فإن تجاور اللغات وتداخل الأمم والفتوح والهجرات وتنوع المنتج العلمي والطبي والتقني يقتضي دخول الكلمات من لغة إلى أخرى، ولأن اللغة العربية لغة اشتقاقية فقد تنوع تعامل العرب مع الدخيل من الكلمات أو المعاني ( فإن اللغات أنواع:
(اشتقاقية - وجامدة - ولاصقة)، ومن وسائل التوسع اللغوي تلك الطرق التي يسلكها اللغويون في التعريب بأنواعه.


• والتعريب ينقسم إلى:
١ - المعرّب الصوتي: وهو الكلمات الأعجمية التي أخضعتها العربية لقواعدها نحو: تلفاز .
٢ - المعرب المعنوي: وهو الكلمات التي نقلت معانيها إلى العربية بإيجاد بديل عربي (ترجمة الكلمة).
• فمن القسم الأول (المعرب الصوتي):
١ - قسم عربته العرب مما هو على أبنيتها، ولهذا فهو يعامل معاملة الكلمات العربية مثل:
- دينار، درهم، ولهذا قيل: فلان مُدَرهم ( كثير الدراهم )، دَرْهَم فلان.
- بهرج (زائف)، يقال بَهْرَجَ فلان، ودرهم مُبَهْرَج.
- ومنه سرداب، فالآب الماء، وسرد بارد.
- وميزاب "فالآب" الماء، و "ميز" مسيل، فتعريبه ليس يحتاج إلى تغيير، وهذا القسم قليل في كلامهم.
• ويستدلّ أبو حيان في الارتشاف، لذلك بما روي عن الخليل أنه قال: "الباشق فارسية معربة تعني الأجدل الصغير ( طائر )، ويجوز لك أن تقول : بَشَقَ".
فقد أجاز الخليل الاشتقاق من الكلمات الأعجمية وأبى ذلك آخرون كما يقول: ابن السراج ، ويزعم بأن من يجيزه كمن زعم أن الطير ولد الحوت!
وفي ذلك يقول ابن فارس: "والأصل في هذه الأبواب - يعني الرباعي المنحوت - أن كل ما لم يصح وجهُه من الاشتقاق الذي نذكره فمنظور فيه، إلاّ ما رواه الأكابر الثقات " (مقاييس اللغة ٢ / ١٤٨)
* وهذا يدل على عدم لزوم تغيير بنية الكلمة في التعريب، بل لا يشترط أن يغيّروا كل ما ليس على أبنية كلامهم، ولذا قال سيبويه: ( وربما تركوا الاسم على حاله، إذا كانت حروفه من حروفهم كان على بناء كلامهم أو لم يكن)، وكذا قال إمام العربية ابن فارس.
وقد خالفهم غيرهم من علماء اللغة، كما قال الجوهري : (وتعريب الاسم الأعجمي أن تتفوه به العرب على منهاجها)، ونُسب ذلك إلى ابن جني، وممن تشدد في ذلك الحريري ولذا تجدهم يوجبون: ( كسر أول سرداب ليلحق بشمراخ، وضم أول دستور ليلحق ببهلول)، وقد تعقبه الخفاجي فقال: "وزعم أن المعرّب لابد أن يرد إلى نظائره من أوزان العربية، والذي صرح به النحويون خلافه .. وذكر كلام سيبويه السابق" .

٢ - قسم غيّرته العرب لكنها لم تلحقه بأبنيتها، وكثيرا ما يغيرون فيه ما يجعله على قانون مجانس لكلامهم إما:
أ - بنقص بعض حروفه ( نشاسته = نشا ) ( بُريده دم = بريد).
ب - زيادة حروف (جوكان = صولجان ).
ج - إبدال حروفه ( براذه = فرزدق ) ( طازه = طازج ) وتعني الطيب الخالص، و ( برنامه = برنامج) و ( كوسه = كوسج ) و ( بنفسه = بنفسج) و ( شكر = سكر) و ( فُندق = وهو مفتوح القاف في لغته الأصلية، أبدل بضم القاف )، ( ساده = ساذج، وهو الأبله المجنون ، أو طيب القلب ) ( استبره = استبرق ).

د - التغيير مع مراعاة تصريف الكلمة في لغة العرب، ومنها: (مقاليد فإن مفرده إقليد، وهو معرب كليد)، فأبدلت الهمزة ميما في حال الجمع رعاية لاسم الآلة فإنه يأتي بالميم في كلامهم.
٣ - قسم لم تغيّره العرب وإنما نقلته على صورته:
مثل : تنّور ، كُرْكُم ، زنجبيل ، خراسان.

• ومن القسم الثاني ( التعريب المعنوي):
١ - التعريب بالاشتقاق: ومن أمثلته :( ناسوخ للفاكس، وقابس للفيش، ودراجة، وسيارة، وهاتف، ومذياع، وسجاد للموكيت، وآلة للماكينة، ومرآب للكراج، ورائي للتلفزيون، وشيفرة للكود).
وربما كان الاشتقاق من حروف مقاربة للفظ الأعجمي: (كتعريبهم للراد = راديو ) - ( المكنة = ماكينة) .

٢ - التعريب بالنحت ( ويدخله بعضهم في الاشتقاق وسماه ابن جني : الاشتقاق الكبّار) ويحتاج إليه في الألفاظ الأعجمية المركبة: البرمائي - اللاإرادي - الفوطبيعي
٣ - محاكاة الصوت:
صاروخ - هدير الطائرة - أزيز الرصاص.
•• خـاتمة:
• فائدة:
 قد يوافق بناء الدخيل بناء من أبنية الجمع في العربية، فيظن أنه جمع ويشتق منه مفرد، وتصبح لدينا كلمة جديدة مفردة ليست من أصل كلام العرب، ولا في لغتها الأصلية مثل:
- (قروش) فإنها تركية وهي مفرد في لغتهم، ولما كانت توافق بناء (فعول) وهو من أبنية الجمع أجريت على منوال الجمع، فجعلوا مفرده (قرش).
• فائدة أخرى:
قد تعرّب بعض الكلمات فتصبح لفظا مشتركا:
- شهر للقدر من الأيام عند العرب، وهو لفظ مشترك معناه (المدينة ).
- قط وهو السنور وهو عربي، وفي لفظ معرب: الحظ والنصيب.
- حُب وهو الوداد، وفي لفظ معرب : الجرة الكبيرة.
- مرج وهو الاضطراب، وفي لفظ معرب الأرض المتربة المعشاب.
•• ما سبق ذكره فهو في المفردات اللفظية، فأما التراكيب المترجمة، فربما كان البلاء بها أعظم والنكأة في الجرح اللغوي أطم ولعله يظهر لك شيء من ذلك بالنظر في بعض هذه التراكيب المترجمة:
١ - مثل قولهم : (أكثر وضوحاً و أكثر دقَّة  و أكثر اتِّساعا) بدلاً من (أوضح و أدقّ و أوسع).
٢ - مثل استعمالهم: (ندوة توعوية و مباراة كروية و الطريقة السلطوية) بدلاً من ( ندوة توعية ومباراة في كرة القدم وطريقة السلطة).

٣ - ومنه قولهم: ( الواقعية كمفهوم أدبي، أو البرلمان كسلطة تشريعية )، وهي التي يسميها الداعية الكبير تقي الدين الهلالي باستعلاء المؤمن: الكاف الاستعمارية، وهي ترجمة لكلمة as باللغة الإنكليزية، وهي طريقة أعجمية ليست من مستعملات العرب.
٤ - وكذلك أخذت (صيغة الظرف الإنكليزية ) تطرد ( المفعول المطلق من اللغة العربية) وتُحِلُّ محلَّه عباراتٍ من مثل: (بصورة كبيرة، أو بشكل عشوائي) وهي مقابل تعبيرَيْ largel، فاللغة العربية لا تذكر الفاعل عند البناء للمجهول بل تذكر نائب الفاعل .
أما اللغة الإنكليزية فقد تذكر الفاعل لأن الوظيفة البلاغية للمبني للمجهول فيها تختلف عن وظيفة هذه الصيغة في اللغة العربية، فهي تتخفف من استعمال المفعول المطلق، فتجد في الترجمة منها: (بصورة – بشكل – لدرجة – على نحو)
كقولهم: ( مشيت بصورة جيدة) ، و ( سار بشكل حسن ) ، و ( إن قامته طويلة لدرجة أنها تسد الباب)، و (ظهر على نحو واضح).
وهذه كلها استعمالات نائية عن العربية، والأصح منها أن يقال: (مشيت مشيا جيدا)، و (سار سيرا حسنا)،  و ( إن قامته طويلة طولا يسد الباب) ، و ( ظهر ظهورا واضحا)، أي أن الأصح استعمال المفعول المطلق فيه.
٥ - ومنها قولهم : ( أرسلت الرسالة من قِبَل فلان)، فإنها ترجمة لعبارة من نوع ( by sent was letter The).
٦ - ومنها قولهم : (ولكن الزوجة ما إن سمعت زوجها يصرخ بها على هذا النحو، وعلى الرغم من أنها قد أصابها الفزع لأول وهلة، سرعان ما فكَّرت!)، فإن من اعتاد على طريقة القرآن والتراكيب النبوية وارتاض لسانه بالقراءة في كتب المتقدمين؛وجد نفارا من هذا التركيب، وذلك لأن بنية هذه الجملة على غير طريقتهم، فإنها بنية انكليزية، فإن من شأن البنية العربية
المستقيمة أن تعيد الصياغة بحيث تضع المتعلِّقات في مكانها الصحيح ولا  تكثر جمل الاعتراض، فلو قيل: (ولكن ما إن سمعت الزوجة زوجها يصرخ بها على هذا النحو؛ حتى فكَّرت في حيلة خادعة رغم الفزع الذي أصابها لأول وهلة) لكان أقرب لمستعملات لغة العرب.
٧ - ومنها الاختصارات الحرفية:
فإنه لم يشع استخدام الاختصارات في اللغة العربية إلا على نحو محدود مقارنة باللغات الأجنبية.
فإنك لا تكاد تجد لها أثراً في كتاباتنا القديمة، باستثناء مختصرات قليلة العدد في كتابة بعض علوم الشريعة:  مثل علامات الوقف في القرآن الكريم، و "نا " اختصاراً لكلمة " حدَّثَنا" في كتب الحديث، والباب هنا واسع.
وأما في اللغات الحديثة - ولا سيما الإنكليزية - فإن هذه الاختصارات تصل آلافا، وفي كل مجال من مجالات الكتابة، بل تراها في حديثهم السائر ومخاطباتهم.
٨ - إضافة أكثر من مضاف إلى مضاف إليه واحد كقولهم : (احتدام واشتداد القتال)، والصواب في لسان العرب أن يقال: (احتدام القتال واشتداده) ، فلا يضيف إلا مضافا واحدا إلى المضاف إليه، ثم يضيف المضاف الآخر إلى ضمير يعود على المضاف إليه الأول.
٩ - تأخير الفاعل وتقديم ضميره عليه، كقولهم: (في تصريح له عن الأحوال العسكرية، قال وزير الدفاع ..)، والأصوب أن يقال: (قال وزير الدفاع في تصريح له عن الأحوال العسكرية..).
١٠ - جمع عدد من الأسماء المعطوفة في جملة واحدة، وذلك دون أن يتبع كلا منها بحرف العطف " و "، كالقول: ( ذهب أحمد إلى المكتبة واشترى كتبا، أقلاما، صورا، دفاتر! )، وهذا أسلوب فيه فجاجة وعجمة، وإن أخذت به لغة أخرى كالإنجليزية.
والصواب أن نقول : (ذهب أحمد إلى المكتبة، واشترى كتبا وأقلاما وصورا ودفاتر ).
١١ - أثر الترجمة الحرفية:
( أ ) فمثلا يستعمل بعضهم كلمة " ضد " وهي ترجمة حرفية لكلمة ( against ) في اللغة الإنجليزية، فيقال : " حارب ضد الاستعمار"، و " ينبغي أن يسعى الآباء لتلقيح أبنائهم ضد الجدري "، و " صدر حكم ضد فلان "، وغير ذلك.
وينصب الاعتراض على أن الأسلوب الذي يلجئ إلى استعمال هذه الكلمة، أسلوب يخالف طرق تعبير العرب.
فقولهم : ( فلان يحارب ضد الاستعمار ) يُفهم منه أن هذا المحارب مخالف للاستعمار، أي أنه يحارب في جبهة أخرى غير الجبهة المعادية للاستعمار. والصواب في ذلك القول: ( شن حربا على الاستعمار .
و ( يجب تلقيح الأطفال من الجدري )، و ( صدر حكم بحق فلان أو عليه ) .

ب - ومن الكلمات التي يساء استخدام ترجمتها، كلمة ( reach ) بمعنى يصل.
فإذا ذكر وصول أحد يقول : ( وصل فلان مصر ) .
وهذا استعمال خاطئ، فإن الفعل " وصل " في الإنجليزية فعل متعدٍ .
 ولكنه في العربية لازم لا يتعدى، فليس يحتاج إلى مفعول، ولكنه يتعدى بحرف الجر " إلى ".
فنقول : ( وصل إلى مصر مساء ) .

ج - ومنها أيضا كلمة ( طبقا ) المترجمة عن كلمة ( according ) فهي ترد في أمثلة كثيرة.
فمن ذلك قولهم : " سيتم وصول فلان يوم الأحد طبقا لوكالات الأنباء ".
وفي لغة العرب لا يأتي ذلك على طريقتهم في مثل هذا الموضع .
وكذا ( وفقا ) أو ( وفاقا ) أو ( على وفق ) .
ومنه محاكاة كلمة ( cancel ) بكلمة ( لاغيا ) .
كقولهم : ( يعد الاتفاق لاغيا منذ مساء اليوم ) .
وينصب الاعتراض على كلمة " لاغيا "، لأنها على وزن اسم الفاعل من الفعل " لغا – يلغو "، أي كثر كلامه.
ولكن السياق الذي تُذكر فيه كلمة " لاغيا " لا شأن له بكثرة الكلام أو قلته، بل يعنون به إبطال الاتفاق  .
وكان الواجب استعمال كلمة ( ملغي ) ، وهي اسم المفعول من الفعل ( ألغى – يلغي ) .
فالصحيح إذن أن يقال : ( يعد الاتفاق ملغيا منذ مساء اليوم ) .

د - والبعض يترجم كلمة ( still ) بكلمة
( لا زال ) ، فيقول:  (لا زالت الاجتماعات منعقدة ) .
ويقول : ( لازالت الجهود تبذل لإصلاح الوضع )، وهذا استعمال خاطئ لكلمة ( لا زال ) ، فهي تفيد الدعاء لا الاستمرار، ويصح أن يقال : ( لا زالت الديار قوية عزيزة بأهلها )، فهو دعاء للديار بدوام القوم والعز، وأما ما يفيد الاستمرار فهو ( ما زال ) ، كأن نقول : ( ما زالت الاجتماعات مستمرة ) ، و ( ما زالت الجهود مبذولة ) .

هـ - ومن ذلك كلمة ( by ) التي يترجمها بعضهم ( مِن قِبَل ) ، ويدخلونها في الجمل، فيقولون : ( دُونت الملاحظات مِن قِبَلْ اللجنة ) .
ولكن ليس في استعمال ( مِن قِبَلْ ) فائدة، فإنه يمكن أن يقال : ( دونت اللجنة الملاحظات ) .

و - وهناك كلمة شاع استعمالها شيوعا خاطئا، فلا تكاد تخلو منها جملة، وهي كلمة ( بالنسبة ) ، التي يمكن التخلي عنها دون حدوث أي إخلال في الجملة، فضلا عن أن استعمالها يخالف الاستعمال العربي المستقيم .
فتراهم يقولون : " انخفضت أسعار العملات، وبالنسبة للمارك الألماني فقد انخفض مقابل الدولار ".
وهذا تركيب غير صحيح للجملة، فإن ( النسبة ) هي القرابة أو ما تعلق بها.
والصواب أن يقال : ( انخفضت أسعار العملات، أما المارك الألماني فقد انخفض مقابل الدولار ) .

ز - ترجمة بعض كلمات الإنجليزية بكلمة واحدة مقابلة في اللغة العربية، مثل كلمة ( privatization )، والتي وضعت لها ترجمات عدة، مثل: ( الخصخصة ) أو ( التخصيص ) أو ( التخصيصية ) .
وهذه كلها ترجمات غير دقيقة للكلمة، فإن اللغة الإنجليزية تميل دائما لاستخدام الزوائد ( affixes ) سواء كانت بادئة أم لاحقة إلى الكلمة الأصلية .
ولذلك فهذا الاستعمال أكثر من كلمة واحدة، وإن كانت في ظاهرها كلمة واحدة.
فالترجمة الدقيقة أن يقال : " التحول للقطاع الخاص " .
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أمثلة للكلمات الفارسية المستعملة في لغة العرب في أزمنة :
 فرمان: دستور.
بيمارستان: مشفى.
ديوان: دفتر.
ديباجة: أصلها دي وان‌چه/دي بان‌چه أي الدفتر الصغير.
بنفسج : بنفشه.
طازج : تازه.
برنامج : برنامه.
ساذج : ساده.
خنجر: خونگر.
** الأمثلة الأخيرة مستفادة من مقال : الأستاذ محمد بن حسن بن يوسف : ( أخطاء شائعة في الترجمة ) منشور على الشبكة . 

الأحد، 19 مارس 2017

من فقه الأثر : ( فقه حديث عقبة في المعوذتين )

                  بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
أما بعد :
•• روى النسائي من طرق عن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻴﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ  ﷺ ﻭﻫﻮ ﺭاﻛﺐ ﻓﻮﺿﻌﺖ ﻳﺪﻱ ﻋﻠﻰ ﻗﺪﻣﻪ ﻓﻘﻠﺖ: ﺃﻗﺮﺋﻨﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﻫﻮﺩ ﺃﻗﺮﺋﻨﻲ ﺳﻮﺭﺓ ﻳﻮﺳﻒ، ﻓﻘﺎﻝ ﷺ : "ﻟﻦ ﺗﻘﺮﺃ ﺷﻴﺌﺎ ﺃﺑﻠﻎ ﻋﻨﺪ اﻟﻠﻪ ﻋﺰ ﻭﺟﻞ ﻣﻦ ﻗﻞ ﺃﻋﻮﺫ ﺑﺮﺏ اﻟﻔﻠﻖ"
وفي لفظ له : " ﻳﺎ ﻋﻘﺒﺔ ﺃﻻ ﺃﻋﻠﻤﻚ ﺧﻴﺮ ﺳﻮﺭﺗﻴﻦ ﻗﺮﺋﺘﺎ ؟ "
ﻓﻌﻠﻤﻨﻲ ﻗﻞ ﺃﻋﻮﺫ ﺑﺮﺏ اﻟﻔﻠﻖ، ﻭﻗﻞ ﺃﻋﻮﺫ ﺑﺮﺏ اﻟﻨﺎﺱ، ﻓﻠﻢ ﻳﺮﻧﻲ ﺳﺮﺭﺕ ﺑﻬﻤﺎ ﺟﺪا !
ﻓﻠﻤﺎ ﻧﺰﻝ ﻟﺼﻼﺓ اﻟﺼﺒﺢ ﺻﻠﻰ ﺑﻬﻤﺎ ﺻﻼﺓ اﻟﺼﺒﺢ ﻟﻠﻨﺎﺱ !
ﻓﻠﻤﺎ ﻓﺮﻍ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻣﻦ اﻟﺼﻼﺓ، اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻲ ﻓﻘﺎﻝ: " ﻳﺎ ﻋﻘﺒﺔ، ﻛﻴﻒ ﺭﺃﻳﺖ ؟ ".
وفي لفظ له : " ﻛﻨﺖ ﺃﻗﻮﺩ ﺑﺮﺳﻮﻝ الله ﷺ ﻓﻲ اﻟﺴﻔﺮ ".
وفي لفظ له : " كنت أقود به ﻓﻲ ﻧﻘﺐ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ اﻟﻨﻘﺎﺏ ﺇﺫ ﻗﺎﻝ:"ﺃﻻ ﺗﺮﻛﺐ ﻳﺎ ﻋﻘﺒﺔ ؟ "
ﻓﺄﺟﻠﻠﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﻥ ﺃﺭﻛﺐ ﻣﺮﻛﺐ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺛﻢ ﻗﺎﻝ : " ﺃﻻ ﺗﺮﻛﺐ ﻳﺎ ﻋﻘﺒﺔ ؟ " .
ﻓﺄﺷﻔﻘﺖ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﻌﺼﻴﺔ ﻓﻨﺰﻝ ﻭﺭﻛﺒﺖ ﻫﻨﻴﻬﺔ، ﻭﻧﺰﻟﺖ، ﻭﺭﻛﺐ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ".
وفي لفظ له : " ﻟﻌﻠﻚ ﺗﻬﺎﻭﻧﺖ ﺑﻬﺎ ؟ ﻓﻤﺎ ﻗﻤﺖ بمثلها! ".
وفي لفظ لأبي داود : " ﺑﻴﻨﺎ ﺃﻧﺎ ﺃﺳﻴﺮ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺑﻴﻦ اﻟﺠﺤﻔﺔ ﻭاﻷﺑﻮاء، ﺇﺫ ﻏﺸﻴﺘﻨﺎ ﺭﻳﺢ ﻭﻇﻠﻤﺔ ﺷﺪﻳﺪﺓ، ﻓﺠﻌﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ  ﻳﺘﻌﻮﺫ ﺑﺄﻋﻮﺫ ﺑﺮﺏ اﻟﻔﻠﻖ ﻭﺃﻋﻮﺫ ﺑﺮﺏ اﻟﻨﺎﺱ " .
وفي لفظ لأبي داود:" اﻗﺮﺃ ﺑﻬﻤﺎ ﻛﻠﻤﺎ ﻧﻤﺖ ﻭﻗﻤﺖ".

•• في هذا الحديث مسائل كثيرة أشير إلى أطراف منها:

١ ) تفاضل سور القرآن، وهو الذي تدل عليه أحاديث تفضيل سورة الفاتحة وآية الكرسي ونحوها، وجعل ابن تيمية هذا القول هو القول المعروف عن السلف، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن سور القرآن لا تفاضل بينها إذ صفات الله على السواء من الأكملية والأعظمية، وقال به أئمة كابن حبان وابن عبد البر، وهو قول طوائف من المخالفين كالأشاعرة، والمسألة طويلة المدارك، وقد استوفى دلائلها شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالة مفردة .

٢ ) استحباب القراءة بهاتين السورتين في الصلاة، وقد ثبت في مسلم أنه صلى بهما الفجر، وليس ذلك مأخوذ من الفعل النبوي المجرد، فإن استحباب القراءة بسورة معينة لا تثبت بمجرد الفعل مرة إذ لابد من قراءة شيء من القرآن، ولكن يثبت ذلك بالمداومة أو التأكيد القولي، وقد كره مالك وغيره تخصيص صلاة بسورة، والمسألة مبسوطة في موضعها .

٣ ) القبض على قدم النبي ﷺ ومن يُجَل كالوالد والوالدة؛ ليس مما ينافي العزة الإيمانية.

٤ ) استحباب التعوذ بهاتين السورتين عند الريح والغبار.

٥ ) مشروعية القراءة في الصلاة بالأمر الذي وعظ فيه قبل الصلاة، فإن النبي ﷺ وعظ بفضيلة هاتين السورتين ثم صلى بهما.

٦ ) كذلك مشروعية الموعظة عقب الصلاة بما صلى به الإمام، فإن النبي ﷺ التفت إلى عقبة فقال له ﷺ : " كيف رأيت " .

٧ ) خوف الصحابة من مخالفة النبي ﷺ حتى مع المقصد الحسن، فإن مقصد عقبة إجلال النبي ﷺ بترك الرجوب في مركبه، ولكنه قدم امتثال الأمر على مطلق التوقير، وهي المسألة التي تعرّض لها بعض المتأخرين ووسموها ب : إذا تعارض امتثال الأمر مع التوقير.

٨ ) ستحباب تكرار هاتين السورتين في أحوال المسلم عند منامه وقيامه.

• أبو المثنى محمد آل رميح .

الاثنين، 13 مارس 2017

خاطرة حول: (الفتوى والكهنوت).

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .
أما بعد:
     فقد ‏أنزل الله كتابه وخاطب ﷺ أمته بكافة التكاليف والشرائع، كلهم في أصل ذلك سواء، ومع هذا فقد أخبر الله ﷻ بتفاوت المكلفين واختلافهم في الأخذ بالوحي وفهمه وفقه مراد الله منه فقال: "يرفعِ الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات".

وذلك أن ‏الأدلة والدلالات على رتبتين:
‏- فما كان من أصول التوحيد وقواعد الديانة مما تعظم حاجة الناس له فإنك ستجده متكاثرة أدلته متضحة أحكامه بحسبه.
‏- وما ليس كذلك مما يختص ببعض المكلفين ولا يعم الخطاب به فاتضاح مسائله ودلائله دون ذلك.

‏ثم إن معرفة الحكم الشرعي واقع على منازل:
‏- وجود النص
‏- ثم ثبوت النص
‏- ثم العلم بإحكامه ونسخه
‏- ثم النظر في وجوه معانيه من النصوص الأخرى
‏- ثم الرجوع لمعانيه في لسان العرب
‏-ثم استعمال قواعد الاستدلال وطرق الجمع ووجوه الترجيح.

فإن قيل:
‏أليس في هذه الرتب الاستدلالية التي ذكرتَها آنفا معارضة ليسر الشريعة وتوسعتها وما يدل عليه قول الله: "ولقد يسّرنا القرآن للذكر"
أليست هذه من إغلاق تفهم الوحي عن جميع المكلفين؟
وتعسير طرق الوصول لمراد الله ورسوله؟
أليست دخولا لجحر الضب بتقليد الكهنوت الكتابي ، وضربا على خطاه؟

و‏قبل الجواب عن ذلك أود أن أقول بين يدي هذا الأمر قولا:
لقد رأيت ‏عامة من يستشكل هذا الأمر؛ هو ممن لم يطلب العلم ولم يعان مسائله ولم يطلع على قواعد الاستدلال ومسالك التعليل.
ولقد ‏كنتُ أُورد -على من يناقشني في هذا- بعض الأدلة وأتناقش معه في دلالتها على الأحكام الشرعية، فإذا نبهته إلى مسالك الاستدلال لمعت عينه وعرف خلل الاستدلال بغير أصول وآلة.

وأما ما ذُكر من ‏يسر الشريعة فلابد أن نعلم أن له جانبين؛ عملي وعلمي:
‏فمن اليسر العملي -مثلا- رفع الحرج ودفع المشقة -وصور ذلك في العبادات لا تحصى- ومن أوضح أمثلته الرخص لأهل الأعذار.
‏وأما اليسر العلمي في هذه الشريعة فله وجوه:
‏- فهناك من دلالات الكتاب والسنة ما لا تخفى على من قرأها بمجرد قراءتها، بل إن كل قارئ لها فلابد أن يجد من نورها وهداها وفائدتها بحسبه.

‏- ومن وجوه اليسر العلمي لنصوص الوحي ما ذكره الله في هذه الآية: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر".
‏قال قتادة رحمه الله: "ﻓﻬﻞ ﻣﻦ ﻃﺎﻟﺐ ﺧﻴﺮ ﻳﻌﺎﻥ ﻋﻠﻴﻪ"
‏فقوله ﷻ: "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر"، ‏ليس فيه أن يتقحم كل أحد القول في كتاب ﷲ بلا علم، إنما المراد أن من بذل للتذكر وأعطى من عقله وتوجهه وقلبه في تفهم دلالات الشرع أعانه الله وأعطاه وهداه.
بل لو سئل من يستدل بهذه الآية: لماذا جاءت صيغة الجمع في قوله: (يسّرنا) ولم تأت: بصيغة (يسرت)؟
ولو قيل له: ما علاقة (الذكر) هنا بالفهم؟ وما وجوه مجيئ الذكر في القرآن؟
وما معنى (مدكر)، وما الفرق بين معنى (مدّكر) ومذكر؟
لاحتاج أن يرجع لكتب أهل العلم ومدونات المفسرين واللغويين، أو ذهب يتطلب علم ذلك عند أهل الاختصاص.
‏وأنتَ إذا تأملت سائر أنواع العبادات وجدت أن الناس متفاوتون في تحصيل علمها بحسب موقع كل مسألة ودرجتها وحاجة المكلفين لها وعموم البلوى بهابها.
وسأضرب أمثلة في تناويع العبادات تبين شيئا من هذا:

ف‏كل مسلم يعلم فرض الصلاة، ثم إذا سألت آحاد المسلمين عن أحكام سجود السهو وجدت تفاوتا في معرفتها، ثم إذا سألت في أحكام الكسوف زاد التفاوت.
وهلمّ فكل مسلم يعلم فرض الصيام عليه، وإذا سألت عن صحة صيام من أغمي عليه كل يومه وجدت تفاوتا في علم ذلك، ثم إذا سألت عن حكم فطر المرضع فكذلك وهلمّ.

‏وإذا انتقلت لمعرفة أحكام النوازل الحادثة في الصيام -مثلا- مما لم تكن على عهده ﷺ وجدت تفاوت الناس في علمها، وفي حقيقة تصورها، وبأي نظير تلحق، وتحت أي قاعدة تنزل، فكيف يفتي فيها من لم يتخصص؟.

ف‏في الصيام:
ستجد نوازل المفطرات مستجدة مستحدثة تطلب كشفا لحكمها، وبيانا لوجهها (كبخاخ الربو، وأقراص تحت اللسان، ومنظار المعدة، والحقن العلاجية، وإدخال القسطرة، والمنظار المهبلي، وسحب الدم)
ف‏كيف يفتي فيها آحاد الناس، ممن لم يعرف علل المفطرات وجوامع مسائلها ومآخذ أحكامها؟

‏‏وقل مثل ذلك في الزكاة، فكل مسلم فرضها عليها، ويقرأ أدلتها في الكتاب وما استطاع من قراءته
من السنة، ولكن تفاصيل الأدلة لا يقرأها كل أحد.

وفي نوازل الزكاة:
تجد مسائل من نحو: (زكاة الراتب الشهري، وزكاة السندات، وزكاة الصناديق الاستثمارية، وزكاة الحقوق المعنوية) وهكذا، ف‏هل تريد أن يفتي فيها من لم يعرف طرق الاستدلال؟
‏‏وهكذا في سائر ما يحتاجه الناس من شأن دينهم، هل يكفي أن يقول القائل:
‏إن الدين يسر -وعلى ذلك- لا أحتاج لطلب العلم حتى أعرف تفاصيل الأحكام؟
ثم ليس يشك من قرأ سيرة النبي ﷺ وصحابته؛ أن المسلمين في عصره كانوا يرجعون له ولكبار صحابته يسألون ويستفهمون، ثم جرى ذلك من عصر الصحابة إلى عصرنا هذا، لازالوا يرجعون -فيما يشكل إليهم من مسائل دينهم- إلى أهل العلم والفقه في الدين.

• ف‏إذا علمنا هذا فلماذا نسمع مضيغ الماضغين ممن يدعون إلى فتح باب الكلام في دين الله بغير علم لكل أحد؟
‏ماذا يريدون؟
‏وما هو مشروعهم؟
‏وغايتهم؟
هل تصوروا لازم قولهم؟

• وفي مقابل ذلك فمن المسلمات الشرعية في فقه الفتيا أن ‏لا تجوز لعالم شرعي فتيا ولا ينفذ له رأي في كل فرع من فروع حياة الناس ومعاشهم إلا برجوع لأهل الاختصاص؟
فلا يجوز له أن يفتي في مسألة طبية حتى يعرف حدود فهمها من طبيب مختص، ولا في مسألة اقتصاد والمعاملات المصرفية والتجارية حتى يرجع لمختص، ولا في مسائل العسكرة حتى يرجع لصاحب اختصاص يصور له المسائل ويصفها له بلسان أصحاب الفن، وهكذا في كل علم حتى يستخبر أهله.
وكثير من الأبحاث الفقهية المُحَكمة والفتاوى المجمعية المتعلقة بنوازل معاصرة في مثل علوم الطب والاقتصاد -مثلا- يشارك فيها مختصون من ذلك الفرع العلمي، ويُتلقى عنهم في فنهم ويرجع في توصيفه لكلمتهم.

وتجد من ينازعك في فكرة التخصص؛ ربما لم يطلع كم يبذل عالم الشريعة من وقت وجهد في سؤال أهل التخصص الطبي حين يريد كتابة بحث في مسألة طبية -مثلا-.

وإني لأعرف من علماء الشريعة من إذا أراد كتابة بحث فقهي له علقة بمسألة طبية؛ قام وقعد وساءل واستفتى علماء الطب وحضر ندواتهم ومؤتمراتهم، بل أعرف من كان يدخل غرف العمليات ليتم تصوره للمسائل التي يريد الكتابة الشرعية فيها.
ف‏أي احترام للتخصص أعظم من القول: (بحرمة الفتيا) في مسألة علمية قبل أخذ رأي أهل الاختصاص لبيان وجهها الواقعي، لتعطى حكمها الشرعي بعد ذلك.‏
وهذا الأمر قبل أن يكون احتراما للتخصص؛ فهو خضوع لأمر الله وتعظيم لحدوده، فلا يُحَرّم على الناس ولا يُحَل إلا بعد الاجتهاد في تصور الواقعة.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .