الأربعاء، 12 مايو 2021

التكبير لعيد الفطر.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد: فالتكبير لعيد الفطر مستحب عن الجمهور، لقوله: (وَلِتُكۡمِلُوا۟ ٱلۡعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا۟ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَىٰكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).

- وهو آكد من تكبير الأضحى، نقل عبد الله بن أحمد عن أبيه في مسائله ﻗﺎﻝ: "ﻳﻮﻡ اﻟﻔﻄﺮ أﺷﺪّ، ﻟﻘﻮﻟﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ {ﻭﻟﺘﻜﻤﻠﻮا اﻟﻌﺪﺓ ﻭﻟﺘﻜﺒﺮﻭا اﻟﻠﻪ}، ولذا بلغ أن أوجبه أهل الظاهر.

- وكان النبي ﷺ يأمر به حتى أمر به العواتق والنساء، ففي الصحيحين: قالت أم عطية: "كنّا نؤمر بالخروجِ في العيدين، قالت: الحُيَّض يخرجن فيَكُنّ خلف الناس، يكبرن مع الناس".

وهو مأثور عن الصحابة، فقد روى الدارقطني عن ابن عمر أنه كان يخرج للمصلى فيجهر بالتكبير حتى يخرج الإمام.

ونقله أحمد عن أبي قتادة رضي الله عنه، وكان رحمه ﷲ يفعله عند غدوّه للمسجد.

- ويبدأ من رؤية هلال شوال، عند كثير من السلف، كابن عباس وزيد بن أسلم.

ودلّت الآية على أن التكبير عقب إكمال العدة، وهي عدة الصوم، نصّ عليه أئمة كالشافعي.

- وينقضي بخروج الإمام لصلاة العيد.

- ويجهر بالتكبير عند أكثر أهل العلم، ﻗﺎﻝ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ: "ﻭﺃﺣﺐ ﺇﻇﻬﺎﺭ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﻭﻓﺮاﺩﻯ"، وروى في الأم عن اﺑﻦ اﻟﻤﺴﻴﺐ ﻭﻋﺮﻭﺓ ﺑﻦ اﻟﺰﺑﻴﺮ ﻭﺃبي ﺳﻠﻤﺔ ﻭﺃبي ﺑﻜﺮ ﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﺮﺣﻤﻦ الجهر بالتكبير ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻔﻄﺮ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ.

ﻭاﺳﺘﺤﺐ الجهر ﻟﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﺇﻇﻬﺎﺭ ﺷﻌﺎﺋﺮ اﻹﺳﻼﻡ، ﻭﺗﺬﻛﻴﺮ غيره من المؤمنين.

- ويكبر على نحو ما نقله ابن المنذر عن (عمر بن الخطاب، وعبد الله بن مسعود، أنهما كانا يكبران من صلاة الغداة يوم عرفة إلى الصلاة من آخر أيام التشريق، يقولان: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد"، وقال بهذه الصيغة كثير من السلف، كما جاء عن النخعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.

- وبأي صيغة كبّر المكبّر صح، فإن الأمر جاء في الآية مطلقًا، وقد تعددت صيغ تكبير الصحابة فدلّ على التوسعة، قال أبو داود في مسائله لأحمد: "سمعت أحمد سئل: كيف التكبير يوم الفطر؟ قال: الله أكبر، الله أكبر، قيل لأحمد: ابن المبارك يقول في الفطر، يعني مع التكبير: الحمد لله على ما هدانا، قال: هذا واسع".

وقال ابن تيمية: "صفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة، قد روي مرفوعًا إلى النبي ﷺ: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وإن قال: الله أكبر ثلاثًا جاز. ومن الفقهاء من يكبر ثلاثًا فقط".

- ولا يكبرون جماعة، ولا يكبر واحد منهم والبقية يستمعون، قال الحطاب: "ﺑﺨﻼﻑ ﻣﺎ ﻳﻔﻌﻠﻪ ﺑﻌﺾ اﻟﻨﺎﺱ اﻟﻴﻮﻡ، ﻓﻜﺄﻥ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺇﻧﻤﺎ ﺷﺮﻉ ﻓﻲ ﺣﻖ اﻟﻤﺆﺫﻥ، ﻓﺘﺠﺪ اﻟﻤﺆﺫﻧﻴﻦ ﻳﺮﻓﻌﻮﻥ ﺃﺻﻮاﺗﻬﻢ باﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﻛﻤﺎ ﺗﻘﺪﻡ، ﻭﺃﻛﺜﺮ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﺴﺘﻤﻌﻮﻥ ﻟﻬﻢ، ﻭﻻ ﻳﻜﺒﺮﻭﻥ ﻭﻳﻨﻈﺮﻭﻥ ﺇﻟﻴﻬﻢ، ﻛﺄﻥ اﻟﺘﻜﺒﻴﺮ ﺇﻧﻤﺎ ﺷﺮﻉ ﻟﻬﻢ، ﻭﻫﺬﻩ ﺑﺪﻋﺔ ﻣﺤﺪﺛﺔ، ﺛﻢ ﺇﻧﻬﻢ ﻳﻤﺸﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺕ ﻭاﺣﺪ ﻭﺫﻟﻚ ﺑﺪﻋﺔ؛ ﻷﻥ اﻟﻤﺸﺮﻭﻉ ﺃﻥ ﻳﻜﺒّﺮ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻟﻨﻔﺴﻪ ﻭﻻ ﻳﻤﺸﻲ ﻋﻠﻰ ﺻﻮﺕ ﻏﻴﺮﻩ"، ونص على بدعية هذا غيره كالعدوي في حاشيته، والشاطبي في الاعتصام.

والعلم عند ﷲ.

الثلاثاء، 4 مايو 2021

ليلة الجهني

      الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فمن ليالي الوتر التي ترجى فيها ليلة القدر، وكان يخصها جمع من السلف بمزيد عناية ليلة ثلاث وعشرين.

- فهي إحدى الليالي التي قامها النبي ﷺ بصحابته وأطال القيام، كما في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند الترمذي وأبي داود. 

- وكان ينزلها عبد الله بن أنيس رضي الله عنه من باديته، كما في الموطأ، والمسند، وأبي داود.

- وكانت عائشة رضي الله عنها توقظ شباب التابعين في هذه الليلة، رواه عبد الرزاق.

- وكان بلال رضي الله عنها يراها ليلة ثلاث وعشرين، رواه ابن أبي شيبة.

- وفي مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة: أن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ رضي الله عنهما كان ﻳﻨﻀﺢ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻠﻪ اﻟﻤﺎء ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ.

- وكان قد رأى ابن عباس رضي الله عنهما فيها رؤيا، رواه أحمد.

- وفي مصنف عبد الرزاق أن ﺃﻳﻮﺏ السختياني رحمه الله كان ﻳﻐﺘﺴﻞ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ، ﻭﻳﻤﺲ ﻃﻴﺒًﺎ.

ولا تنس أن أيوب السختياني رحمه ﷲ هو راوي حديث اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ: ﺃﻥ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻗﺎﻝ: «اﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻣﻦ ﺭﻣﻀﺎﻥ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، ﻓﻲ ﺗﺎﺳﻌﺔ ﺗﺒﻘﻰ، ﻓﻲ ﺳﺎﺑﻌﺔ ﺗﺒﻘﻰ، ﻓﻲ ﺧﺎﻣﺴﺔ ﺗﺒﻘﻰ»، عند البخاري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وهو راوي حديث اﺑﻦ ﻋﻤﺮ رضي الله عنهما أن رجلًا جاء ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺇﻧﻲ ﺭﺃﻳﺖ ﻓﻲ اﻟﻨﻮﻡ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﻛﺄﻧﻬﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﺃﺭﻯ ﺭﺅﻳﺎﻛﻢ ﻗﺪ ﺗﻮاﻃﺄﺕ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ، ﻓﻤﻦ ﻛﺎﻥ ﻣﺘﺤﺮﻳﻬﺎ ﻣﻨﻜﻢ، ﻓﻠﻴﺘﺤﺮﻫﺎ ﻓﻲ ﻟﻴﻠﺔ ﺳﺎﺑﻌﺔ»، رواه عن نافع عن ابن عمر، عند عبد الرزاق.

وهو راوي حديث ليلة الجهني رضي الله عنه، وأن النبي ﷺ سارّه بها، فلا ﻳﺪﺭﻱ ﺃﺣﺪ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻩ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻨﺎﺱ: اﻧﻈﺮﻭا اﻟﻠﻴﻠﺔ اﻟﺘﻲ ﻳﻘﻮﻡ ﻓﻴﻬﺎ اﻟﺠﻬﻨﻲ ﻓﻜﺎﻥ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻟﻴﻠﺔ ﺛﻼﺙ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﻧﺰﻝ ﺑﺄﻫﻠﻪ، ﻭﻗﺎﻡ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ»، وهو عند عبد الرزاق وفيه جهالة.

- وكان يتحراها من الصحابة كذلك علي وابن مسعود ومعاوية، رضي الله عنهم.

- وكان الحسن البصري رحمه ﷲ يراها هذه الليلة بعلاماتها، عبد الرزاق.

- وكان مكحول رحمه ﷲ يراها ليلة ثلاث وعشرين، رواه عبد الرزاق.

- وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه يخص ليلة ثلاث وعشرين وسبع وعشرين فلا يحيي ليلة كإحيائهما، ذكره المروزي في قيام الليل.

- وكان بعض علماء وعباد المدينة يخص هذه الليلة بمزيد: فكان عمر بن الحسين لا يصلي التراويح مع الناس ثم يصلي معهم هذه الليلة، ذكره المروزي.

وكان ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻳﺠﺘﻬﺪ ﺗﻠﻚ اﻟﻠﻴﻠﺔ، رواه البيهقي.

والعلم عند الله.

الأحد، 2 مايو 2021

ليلة القدر، بعض أحكامها.


             ليلة القدر -تعيينها، وبعض أحكامها-

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:


• فالذي يدل عليه اختلاف تعيين الأحاديث النبوية لليلة القدر في عهده ﷺ؛ أن ليلة القدر ليست معينة في ليلة لا تتحول كل رمضان، بل هي ليلة متنقلة تكون سنة في ليلة، وسنة أخرى في ليلة، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «رأيت أني ﺃﺳﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺎء ﻭﻃﻴﻦ»، ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ: ﻣﻄﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ، ﻓﻮﻛﻒ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺼﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻨﻈﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻗﺪ اﻧﺼﺮﻑ ﻣﻦ ﺻﻼﺓ اﻟﺼﺒﺢ، ﻭﻭﺟﻬﻪ ﻣﺒﺘﻞ ﻃﻴﻨﺎ ﻭﻣﺎء".

وفي مسلم أنه ﷺ أري علامتها ليلة ثلاث وعشرين.

وفي مسلم أنه ﷺ ذكر أنها ليلة سبع وعشرين، فدل اختلاف هذه الوقائع على أنها تتحول كل ليلة.

 وهذا قول بعض التابعين كأبي قلابة، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وهو قول المزني من أصحاب الشافعي، واختاره ابن خزيمة وقول كثير من فقهاء الأمصار، كابن هبيرة والنووي وابن قدامة والعراقي وابن حجر، وقال المرداوي: ﻭﻫﻮ اﻟﺼﻮاﺏ اﻟﺬﻱ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ.

- فإن قيل: فكيف يلتئم ذلك، وقد دلت الآيات على أن القرآن نزل في ليلة القدر، فهذه فضيلة لليلة ثابتة، فكيف تتحول؟

فيقال: إن نزول القرآن كان في ليلة القدر تلك السنة، وليس في ذلك إحالة أن تتغير في سنة أخرى، فإن فضيلة ليلة القدر ليس بسبب نزول القرآن فيها فقط، ولكن لما لها من فضل نزل القرآن فيها، وليس أنه نزل فيها فاكتسبت الفضيلة.

• ولا يصح أن من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة، معتدلة، لا حر ولا برد.

• ولا يصح أن من علاماتها أنها لا تنبح فيها الكلاب.

• ولا يصحّ أن من علاماتها أنه لا يرمى فيها بشهاب.

• وأصحّ ما جاء في علاماتها حديث زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب: أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها، رواه مسلم.

ورواه بعضهم فلم يذكر هذه العلامة، كما في مسلم عن شعبة عن عبدة عن زر عن أبي.

ولكن قد ثبت في مسلم عن أبي هريرة ﺗﺬاﻛﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ القدر ﻋﻨﺪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﻳﻜﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﺣﻴﻦ ﻃﻠﻊ اﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻫﻮ ﻣﺜﻞ ﺷﻖ ﺟﻔﻨﺔ؟».

وقد جاء ذكر هذه العلامة عند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا عليه. 

ولا يزال أهل العلم من المفسرين وشرّاح الآثار والفقهاء يذكرون هذه العلامة في مصنفاتهم، ولا يستنكرونها، وينوّهون بها لا يدفعون في صدرها، ورواها إمام الصناعة الإمام مسلم، بل صدّر بها قبل الرواية التي لم تذكرها، وهو ينبي عن تأكيده عليها، فكل ذلك مما يجبّن عن القول بضعفها.

فهذا من جهة الرواية، وقد بقي سؤال من جهة الدراية:

فهل هذه العلامة علامة دائمة راتبة لليلة القدر، أم أنها خاصة بليلة سبع وعشرين تلك السنة التي أخبرهم بها النبي ﷺ؟

قولان لأهل العلم.

ولما لم ينقل الصحابي لفظ النبي ﷺ في روايته الحديث، فيتعذّر على المتفقه معرفة دلائل اللفظ وعمومه ومفهومه.

• ويظهر أنَّ سائر الأعمال فيها خير من عمل ألف شهر، وهو مقتضى إطلاق النصوص، وروى الطبري ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻫﺪ في قوله ﷻ: (ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ) ﻗﺎﻝ: ﻋﻤﻠﻬﺎ ﻭﺻﻴﺎﻣﻬﺎ ﻭﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ.

- ونصّ على أن ذلك الفضل لسائر الأعمال كثير من العلماء كابن بطال والعز بن عبد السلام والقرافي.

- وأرجى الأعمال فيها التهجد وقراءة القرآن والدعاء.

وذهب بعض كبار الأمة كالثوري إلى أن الدعاء خير الأعمال فيها، وقد جاء في دعاء ليلة القدر ما روى عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال ﷺ: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».

وهذا حديث رواه الخمسة، غير أبي داود، وصححه الترمذي، وأعله آخرون، لأن عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة، ولكن لفظ الدعاء تلوح عليه أنوار الحكمة، وحري أن يكون خارجًا من مشكاة الوحي.

• وفي هذا الدعاء من الأدب الإيماني:

- أن المؤمن ينبغي أن يدعو ربه دعاء ثناء، قبل دعاء المسألة، فقد أثنى ﷺ على ﷲ في أول الدعاء: «إنك عفو».

- الثاني: أن يُسأل ﷲ بأفعاله كما يُسأل بأسمائه؛ فقد دعا ﷺ بقوله: «تحب العفو»، فسأل ربه بمحابّه ﷻ.

- وفيه: أن المسلم إذا اجتهد في الطاعة وزاد في العبادة؛ فعليه أن يعتصم بسؤال المغفرة والعفو، وألا يشمخ أو يفخر؛ فإن عائشة سألت النبي ﷺ عن حال ستقوم فيه ليلة القدر، وستعمرها بالطاعة، ومع ذلك أمرها ﷺ أن تسأل العفو، فإن العبد كلما زاد تنسكه زاد إخباته وتواضعه، وكان ألظّ ما يكون بسؤال ربه المغفرة.

 • وهي ليلة مباركة، والمؤمن مأمور بتحري بركتها، وقد روى أحمد ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قاﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺧﺮﺟﺖ ﺇﻟﻴﻜﻢ ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺖ ﻟﻲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﻭﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ، ﻓﻜﺎﻥ ﺗﻼﺡ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻦ ﺑﺴﺪّﺓ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺄﺗﻴﺘﻬﻤﺎ ﻷﺣﺠﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﺄﻧﺴﻴﺘﻬﻤﺎ، ﻭﺳﺄﺷﺪﻭ ﻟﻜﻢ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺷﺪﻭًا: ﺃﻣﺎ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ؛ ﻓﺎﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻭﺗﺮًا، ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﺃﻋﻮﺭ اﻟﻌﻴﻦ، ﺃﺟﻠﻰ اﻟﺠﺒﻬﺔ، ﻋﺮﻳﺾاﻟﻨﺤﺮ، ﻓﻴﻪ ﺩﻓﺄ».

- ومن لطيف الاستدلالات من هذا الحديث: أن هناك علاقة بين الاختلاف ونقص البركة، ولذا دلت الأدلة أن الدجال يخرج في زمن اختلاف وفرقة وفساد ذات البين.

وفي البخاري عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺑﻦ اﻟﺼﺎﻣﺖ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺧﺮﺝ ﻳﺨﺒﺮ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، فتلاحى ﺭﺟﻼﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «ﺇﻧﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻷﺧﺒﺮﻛﻢ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، ﻭﺇنه تلاحى ﻓﻼﻥ ﻭﻓﻼﻥ، ﻓﺮﻓﻌﺖ، ﻭﻋﺴﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻴﺮا ﻟﻜﻢ، اﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﺒﻊ ﻭاﻟﺘﺴﻊ ﻭاﻟﺨﻤﺲ».

     وبركة ليلة القدر تقابل شؤم الدجال وفتنته، فالفرقة والاختلاف في مثل هذه الليالي ينقص من بركتها، ولذا ففي قوله ﷻ: (سلام هي حتى مطلع الفحر)، ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺮاﺩ ﺑﺎﻟﻤﺼﺪﺭ (سلام) اﻷﻣﺮ، ﻭاﻟﺘﻘﺪﻳﺮ: ﺳﻠﻤﻮا ﺳﻼﻣًﺎ، ﻭاﻟﻤﻌﻨﻰ: اﺟﻌﻠﻮﻫﺎ ﺳﻼﻣًﺎ ﺑﻴﻨﻜﻢ، ﺃﻱ ﻻ ﻧﺰاﻉ فيها ﻭﻻ ﺧﺼﺎﻡ.


والعلم عند الله.

السبت، 1 مايو 2021

شفع الوتر خلف الإمام

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

     فمن صلى مع إمامه الوتر، وأراد أن يتنفل بعدُ، فالأفضل له أن يقوم فيشفع بركعة، ثم يصلي ما يسره ﷲ له ثم يوتر آخر صلاته، وهذا رواية عن الإمام أحمد.

• وهذه الصورة، فيها تحصيل لأجر من صلى مع الإمام حتى ينصرف، كما جاء في المسند والترمذي ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺫﺭ ﻗﺎﻝ: ﺻﻤﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ الله ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﺼﻞ ﺑﻨﺎ، ﺣﺘﻰ ﺑﻘﻲ ﺳﺒﻊ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺮ، ﻓﻘﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﺛﻠﺚ اﻟﻠﻴﻞ، ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﻘﻢ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﺎﺩﺳﺔ، ﻭﻗﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺨﺎﻣﺴﺔ، ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻘﻠﻨﺎ ﻟﻪ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ الله ﻟﻮ ﻧﻔﻠﺘﻨﺎ ﺑﻘﻴﺔ ﻟﻴﻠﺘﻨﺎ ﻫﺬﻩ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﺎﻡ ﻣﻊ اﻹﻣﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺼﺮﻑ ﻛﺘﺐ ﻟﻪ ﻗﻴﺎﻡ ﻟﻴﻠﺔ»، ﺛﻢ ﻟﻢ ﻳﺼﻞ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﻘﻲ ﺛﻼﺙ ﻣﻦ اﻟﺸﻬﺮ، ﻭﺻﻠﻰ ﺑﻨﺎ ﻓﻲ اﻟﺜﺎﻟﺜﺔ، ﻭﺩﻋﺎ ﺃﻩﻟﻪ ﻭﻧﺴﺎءﻩ، ﻓﻘﺎﻡ ﺑﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺗﺨﻮﻓﻨﺎ اﻟﻔﻼﺡ، ﻗﻠﺖ ﻟﻪ: ﻭﻣﺎ اﻟﻔﻼﺡ، ﻗﺎﻝ: اﻟﺴﺤﻮﺭ.

• وفيها أخذ بسنة ختم الصلاة الليلية بالوتر لما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال ﷺ: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا».

• وفيها اتقاء لنهي النبي ﷺ من تكرار الوتر، كما في السنن والمسند عن طلق بن علي: «لا وتران في ليلة».

- ولا يقال: إنه إن قام فشفع بركعة لم يدخل في فضيلة من صلى مع إمامه حتى ينصرف، فإن من صلى مع إمامه وزاد الشفع صح أنه لم ينصرف حتى انصرف إمامه وزيادة، والقول بأن من زاد بعد إمامه ليس ممن يدخل في الحديث ظاهرية لا تلائم سياق الحديث وقصته كما سلف، وإن كان قد قال به بعض العلماء.

     وإنما يخرج عن هذه الفضيلة من لم يصل مع إمامه، أو انصرف قبله، وفي ذلك قال البهوتي في كشاف القناع: (ﻓﺈﻥ ﺃﺣﺐ ﻣﻦ ﻟﻪ ﺗﻬﺠﺪ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ الإﻣﺎﻡ ﻓﻲ ﻭﺗﺮﻩ؛ ﻗﺎﻡ ﺇﺫا ﺳﻠﻢ الإﻣﺎﻡ ﻓﺸﻔﻌﻬﺎ -ﺃﻱ ﺭﻛﻌﺔ اﻟﻮﺗﺮ- ﺑﺄﺧﺮﻯ، ﺛﻢ ﺇﺫا ﺗﻬﺠﺪ ﺃﻭﺗﺮ، ﻓﻴﻨﺎﻝ ﻓﻀﻴﻠﺔ ﻣﺘﺎﺑﻌﺔ الإﻣﺎﻡ ﺣﺘﻰ ﻳﻨﺼﺮﻑ، ﻭﻓﻀﻴﻠﺔ ﺟﻌﻞ ﻭﺗﺮﻩ ﺁﺧﺮ ﺻﻼﺗﻪ).

• وفي هذا الصنيع تأخير للوتر إلى الوقت الفاضل، فإن ﺃﻛﺜﺮ اﻟﺴﻠﻒ على أن الأفضل تأخير الوتر إلى ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ، وهو قول ﻋﻤﺮ ﻭﻋﻠﻲ ﻭاﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ ﻭاﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭاﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ.

     ﻭﻋﻦ اﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺎ ﻳﺨﺘﻠﻔﻮﻥ ﺃﻥ اﻟﻮﺗﺮ ﻣﻦ ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ ﺃﻓﻀﻞ.

     ﻭقد اﺳﺘﺤﺒﻪ اﻟﻨﺨﻌﻲ ﻭﻣﺎﻟﻚ ﻭاﻟﺜﻮﺭﻱ ﻭﺃﺑﻮ ﺣﻨﻴﻔﺔ ﻭﺃﺣﻤﺪ –ﻓﻲ اﻟﻤﺸﻬﻮﺭ ﻋﻨﻪ - ﻭﺇﺳﺤﺎﻕ.

     ويتأكد ذلك في مثل هذه النازلة التي خففت لها صلاة التراويح في المساجد، ويطمع المؤمن بالازدياد في الصلاة والقراءة والدعاء، ويرغب ختم صلاته بالوتر.

     لاسيما على القول بعدم وجوب متابعة الإمام في نيته وفعله، كما هو مذهب الشافعي وجمع من فقهاء المحدثين، وهو الذي تدل عليه الأدلة.

     بل ربما كانت مستثناة من أصل المنع حتى على القول بالمنع، قال البرهان ابن مفلح في المبدع: (ﺇﺫا ﺻﻠﻰ ﻓﺮﺿًﺎ ﺭﺑﺎﻋﻴﺔ ﺧﻠﻒ ﻣﻦ ﻳﺼﻠﻲ اﻟﻈﻬﺮ ﺃﺭﺑﻌﺎ، ﻭﻗﻴﻞ: ﺃﻭ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﺈﺫا ﺗﻢ ﻓﺮﺿﻪ ﻗﺒﻞ ﺇﻣﺎﻣﻪ، ﻫﻞ ﻳﻨﺘﻈﺮﻩ ﺃﻭ ﻳﺴﻠﻢ ﻗﺒﻠﻪ، ﺃﻭ ﻳﺨﻴﺮ؟ ﻓﻴﻪ ﺃﻭﺟﻪ، ﻓﺈﻥ ﻛﺎﻧﺖ ﺇﺣﺪاﻫﻤﺎ ﺗﺨﺎﻟﻒ اﻷﺧﺮﻯ ﻛﺼﻼﺓ ﻛﺴﻮﻑ، ﻭاﺳﺘﺴﻘﺎء، ﻭﺟﻨﺎﺯﺓ، ﻭﻋﻴﺪ، ﻣﻨﻊ ﻓﺮﺿًﺎ، ﻭﻗﻴﻞ: نفلًا؛ ﻷﻧﻪ ﻳﻔﻀﻲ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺨﺎﻟﻔﺔ ﻓﻲ اﻷﻓﻌﺎﻝ)، فعلّق البهوتي: (ﻓﻴﺆﺧﺬ ﻣﻨﻪ ﺻﺤﺔ ﻧﻔﻞ ﺧﻠﻒ ﻧﻔﻞ ﺁﺧﺮ ﻻ ﻳﺨﺎﻟﻔﻪ ﻓﻲ ﺃﻓﻌﺎﻟﻪ ﻛﺸﻔﻊ ﻭﻭﺗﺮ ﺧﻠﻒ ﺗﺮاﻭﻳﺢ ﺣﺘﻰ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻮﻝ اﻟﺜﺎﻧﻲ).

     ولا يقال: بأن ترك الوتر مع الإمام رأسا هو الأفضل ثم يستدل بأن أبي بن كعب ترك جماعة التراويح، فإن أبي بن كعب كان إمامًا، وإنما موضع الإشكال في المأموم.

     ولا يقال: إن هذا ليس مأثورًا عن الصحابة، فإن جمهور الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يصلون منفردين، ومن صلى جماعة منهم فقد كان يطيل الصلاة.

والعلم عند رب العالمين.