الأحد، 27 يونيو 2021

مواعظ الحج: عبوديّة المراغمة.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فمن المواقف الأخاذة في السيرة النبوية في المناسك، ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر، وهو بمنى: «نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر» يعني ذلك المحصب، وذلك أن قريشا وكنانة، تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب، أو بني المطلب: أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم!

غدا سينزل الصحابة في المكان الذي أئتمر الكافرون فيه على الإسلام!

غدا سيقيم الصحابة الذين لقيهم البلاء والضر واللأواء؛ سيقيمون عبادتهم ومناسكهم بعد العز والتمكين في نفس المكان الذي أراد أهل الباطل أن يكون موضعا من مواضع حرب الإسلام وقهر المؤمنين.

الله

الله

ما أعظمه من موقف!

أي ذكريات كانت تحملها صدور الصحابة وهم ينزلون نفس المكان الذي كان حربا على الحق!

لقد ذهب الباطل وأهل الباطل، وبقي الحق وأهله!

لقد ذهب الضيم والحزن والقهر، وأتى الله بنصره وفتحه!

وأيضا ففيه تذكير بالنعمة الربانية والمنة الإلهية.

لقد كنتم ضعفاء مقهورين يمكر بكم الناس، واليوم ها قد من الله عليكم، وكثركم ونصركم وآواكم، وأورثكم الأرض.

أي جلال هذا الجلال، أن يربط المؤمن بين مكان محاربة الإسلام، وذكرياته، وبين نصر الدين وذكرياته، حتى يأتي لنفس محل الباطل فيجعله محلا للحق ولنصرته.

لابد أن تمتلأ نفوس المؤمنين بالثقة بنصر الله، والوثوق بأن العاقبة للإسلام.

لابد أن يربط المؤمن دائما أوقات النصر والكرامة بالفتح بما كان عليه من قبل، وأن يستعيد تلك الذكريات، فهو أحرى أن يشكر نعمة الله، وأن يزداد ثقة بنصر الله،  وقد كان النبي ﷺ يفعل ذلك، ففي سنن أبي داود عن أﻭﺱ ﺑﻦ ﺣﺬﻳﻔﺔ ﻗﺎﻝ: ﻗﺪﻣﻨﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ ﻭﻓﺪ ﺛﻘﻴﻒ، ﻗﺎﻝ: ﻛﺎﻥ النبي ﷺ ﻛﻞ ﻟﻴﻠﺔ ﻳﺄﺗﻴﻨﺎ ﺑﻌﺪ اﻟﻌﺸﺎء ﻳﺤﺪﺛﻨﺎ، ﻗﺎﺋﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮاﻭﺡ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﻃﻮﻝ اﻟﻘﻴﺎﻡ - ﻭﺃﻛﺜﺮ ﻣﺎ ﻳﺤﺪﺛﻨﺎ ﻣﺎ ﻟﻘﻲ ﻣﻦ ﻗﻮﻣﻪ ﻣﻦ ﻗﺮﻳﺶ، ﻭﻳﺸﺘﻜﻲ ﻗﺮﻳﺸﺎ، ﻭﻳﺸﺘﻜﻲ ﺃﻫﻞ ﻣﻜﺔ، ﺛﻢ ﻳﻘﻮﻝ: «ﻻ ﺳﻮاء ﻛﻨﺎ ﻣﺴﺘﻀﻌﻔﻴﻦ ﻣﺴﺘﺬﻟﻴﻦ»، ﻓﻠﻤﺎ ﺧﺮﺟﻨﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﺠﺎﻝ اﻟﺤﺮﺏ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﻭﺑﻴﻨﻬﻢ، ﻧﺪاﻝ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻳﺪاﻟﻮﻥ ﻋﻠﻴﻨﺎ»

ولعل هذا الأمر أحد مقاصد ما كان النبي ﷺ يصنعه إذا فتح أرضا، كما ثبت في البخاري ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﻠﺤﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ «ﺃﻧّﻪ ﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻇﻬﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻮﻡ ﺃﻗﺎﻡ ﺑﺎﻟﻌﺮﺻﺔ ﺛﻼﺙ ﻟﻴﺎﻝ».

نعم، هنا سيقام الحق والطاعة والإيمان.

كما أقيم هنا الباطل والمعصية.

ومن اللطيف أنه كان ﷺ يأمر أن يهدم محل عبادة الأوثان ليقام فيه المسجد!

وفي المسند وغيره أن ﻃﻠﻖ بن علي ﻭﻓﺪ ﺇﻟﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﺣﺘﻰ ﺃﺗﻮﻩ، ﻓﺄﺧﺒﺮﻭﻩ ﺃﻥ ﺑﺄﺭﺿﻬﻢ ﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﺳﺘﻮﻫﺒﻮﻩ ﻣﻦ ﻃﻬﻮﺭﻩ ﻓﻀﻠﻪ، ﻓﺪﻋﺎ ﺑﻤﺎء ﻓﺘﻮﺿﺄ ﻭﺗﻤﻀﻤﺾ، ﺛﻢ ﺻﺒﻪ ﻓﻲ ﺇﺩاﻭﺓ، ﻭﻗﺎﻝ: " اﺫﻫﺒﻮا ﺑﻬﺬا اﻟﻤﺎء، ﻓﺈﺫا ﻗﺪﻣﺘﻢ ﺑﻠﺪﻛﻢ، ﻓﺎﻛﺴﺮﻭا ﺑﻴﻌﺘﻜﻢ ﻭاﻧﻀﺤﻮا ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﻣﻦ ﻫﺬا اﻟﻤﺎء، ﻭاﺗﺨﺬﻭﻫﺎ ﻣﺴﺠﺪا " ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﻨﺎ: ﻳﺎ ﻧﺒﻲ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﺎ ﻧﺨﺮﺝ ﻓﻲ ﺯﻣﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﺴﻤﻮﻡ ﻭاﻟﺤﺮ، ﻭاﻟﻤﺎء ﻳﻨﺸﻒ ﻗﺎﻝ: " ﻓﻤﺪﻭﻩ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﻘﻰ ﻣﻨﻪ ﺷﺪﻳﺪ ﻛﺜﻴﺮ ﺭﻃﺐ " ﻗﺎﻝ: ﻓﺨﺮﺟﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺑﻠﻐﻨﺎ ﺑﻠﺪﻧﺎ، ﻓﻜﺴﺮﻧﺎ ﺑﻴﻌﺘﻨﺎ، ﻭﻧﻀﺤﻨﺎ ﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﺑﺬﻟﻚ اﻟﻤﺎء، ﻭاﺗﺨﺬﻧﺎﻫﺎ ﻣﺴﺠﺪا".

مواعظ الحج: التسليم للشريعة.

      الحمد لله، والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فكم في مواضع الحج من تذكرة، وكم في نصوصه وآياته واحاديثه من عبر ومواعظ، تأمل ما ثبت في البخاري أن رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنهما عن استلام الحجر، فقال ابن عمر: «رأيت رسول الله ﷺ يستلمه ويقبله» قال: قلت: أرأيت إن زحمت، أرأيت إن غلبت، قال: «اجعل أرأيت باليمن، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمه ويقبله»!

هكذا كان الصحابة يريدون أن يربّوا التابعين عليه.

كان الصحابة يعلمون الناس تعظيم الشريعة، وسرعة الامتثال للأمر والنهي، وعدم افتراض الاعتراضات على الطاعة.

هناك من إذا سمع أمرًا شرعيًا جعل يضع عليه العوائق، التي تعوق عن امتثاله والاستجابة له.

مع أنك لو تأملت الأمور التي ذكرها ذلك الرجل: (أرأيت إذا زحمت)، لوجدته عذرا سائغا، لكن ابن عمر كان يلتفت لمعنى أعظم، كان يريد أن يعلم ذلك التابعي أن ينفذ كالسهم في الطاعة، ولا يلتفت يمينا وشمالا.

مع أن الإجماع منعقد أن تقبيل الحجر ليس واجبا، بل سنة من السنن.

ولكنَّ الصحابي رضي الله عنه، أراد تعليم التابعي كيف يبادر المؤمن عند الطاعات.

وكان هذا الأمر متكررا عند ابن عمر، ففي الترمذي أن اﺑﻦ ﻋﻤﺮ سئل ﻋﻦ اﻷﺿﺤﻴﺔ ﺃﻭاﺟﺒﺔ ﻫﻲ؟ ﻓﻘﺎﻝ ابن عمر: ﺿﺤﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻭاﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ، ﻓﺄﻋﺎﺩﻫﺎ ﻋﻠﻴﻪ ذلك الرجل، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺗﻌﻘﻞ؟ ﺿﺤﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭاﻟﻤﺴﻠﻤﻮﻥ!

ثم لاشك أن المأمورات ليست على رتبة واحدة، وأن الواجب ليس كالسنة، ولكن من الأدب الإيماني ألا يكون المؤمن ممن إذا علم عملا صالحا أكثر السؤال: أواجب هو أم سنة؟ ليتركه إذا كان سنة.

بل يكفيه أنه جاء عن النبي ﷺ، وإنما يستفهم ويسأل عن ذلك إذا حصل منه ترك لهذا العمل، فيسأل عن رتبة ما ترك لئلا يقع في معصية.

ومثل ذلك ما يفعله بعضهم سمع بمنع شرعي، أكثر السؤال أمحرم أم مكروه، وهو يريد أن يفعله إذا كان مكروها.

لا، بل يكفي المؤمن أن يعلم أن ذلك ممن نهت عنه الشريعة.

هلموا فلنبادر للطاعة، ولنر الله من أنفسنا خيرا، والله المستعان.


مواعظ الحج: تواضع النبي ﷺ.

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     لازلنا في مواعظ أحاديث المشاعر، والنفوس في لهفة الشوق لتلك البقاع المباركة، رزقني الله وإياكم من فضله العظيم.

أيها الأفاضل: ثبت في البخاري ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺟﺎء ﺇﻟﻰ اﻟﺴﻘﺎﻳﺔ ﻓﺎﺳﺘﺴﻘﻰ، ﻓﻘﺎﻝ اﻟﻌﺒﺎﺱ: ﻳﺎ ﻓﻀﻞ، اﺫﻫﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻣﻚ ﻓﺄﺕ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺑﺸﺮاﺏ ﻣﻦ ﻋﻨﺪﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «اﺳﻘﻨﻲ»، ﻗﺎﻝ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻧﻬﻢ ﻳﺠﻌﻠﻮﻥ ﺃﻳﺪﻳﻬﻢ ﻓﻴﻪ، ﻗﺎﻝ ﷺ: «اﺳﻘﻨﻲ»، ﻓﺸﺮﺏ ﻣﻨﻪ، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ ﺯﻣﺰﻡ ﻭﻫﻢ ﻳﺴﻘﻮﻥ ﻭﻳﻌﻤﻠﻮﻥ ﻓﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻝ: «اﻋﻤﻠﻮا ﻓﺈﻧﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻋﻤﻞ ﺻﺎﻟﺢ» ﺛﻢ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﺗﻐﻠﺒﻮا ﻟﻨﺰﻟﺖ، ﺣﺘﻰ ﺃﺿﻊ اﻟﺤﺒﻞ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ» ﻳﻌﻨﻲ: ﻋﺎﺗﻘﻪ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﻋﺎﺗﻘﻪ.

هكذا كان النبي ﷺ يعلم صحابته كيف يتعامل المؤمن مع الناس فلا يزوي بنفسه عنهم، ولا يرى له فضلا عليهم، ولا يترفع ولا ينشز!

نعم، اسقني يا عباس!

فما أنا إلا ابن امرأة كانت تأكل القديد!

كما في سنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻣﺴﻌﻮﺩ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺗﻰ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺭﺟﻞ، ﻓﻜﻠﻤﻪ، ﻓﺠﻌﻞ ﺗﺮﻋﺪ ﻓﺮاﺋﺼﻪ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ: «ﻫﻮﻥ ﻋﻠﻴﻚ، ﻓﺈﻧﻲ ﻟﺴﺖ ﺑﻤﻠﻚ، ﺇﻧﻤﺎ ﺃﻧﺎ اﺑﻦ اﻣﺮﺃﺓ ﺗﺄﻛﻞ اﻟﻘﺪﻳﺪ».

لم يكن النبي ﷺ يصنع ما يتميز به عن الناس في مباح من اللبس أو الموضع أو أي أمر، حتى يحتاج الداخل عليه ممن لا يعرفه أن يسأل عنه لمساواته لصحابته، كما ثبت في البخاري عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ، ﻳﻘﻮﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﻧﺤﻦ ﺟﻠﻮﺱ ﻣﻊ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﺩﺧﻞ ﺭﺟﻞ ﻋﻠﻰ ﺟﻤﻞ، ﻓﺄﻧﺎﺧﻪ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺛﻢ ﻋﻘﻠﻪ، ﺛﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ: ﺃﻳﻜﻢ ﻣﺤﻤﺪ؟ ﻭاﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻣﺘﻜﺊ ﺑﻴﻦ ﻇﻬﺮاﻧﻴﻬﻢ، ﻓﻘﻠﻨﺎ: ﻫﺬا اﻟﺮﺟﻞ اﻷﺑﻴﺾ اﻟﻤﺘﻜﺊ. ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﺮﺟﻞ: ﻳﺎ اﺑﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻤﻄﻠﺐ ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻗﺪ ﺃﺟﺒﺘﻚ». ﻓﻘﺎﻝ اﻟﺮﺟﻞ ﻟﻠﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: ﺇﻧﻲ ﺳﺎﺋﻠﻚ ﻓﻤﺸﺪﺩ ﻋﻠﻴﻚ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺄﻟﺔ، ﻓﻼ ﺗﺠﺪ ﻋﻠﻲ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻚ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺳﻞ ﻋﻤﺎ ﺑﺪا ﻟﻚ» ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺳﺄﻟﻚ ﺑﺮﺑﻚ ﻭﺭﺏ ﻣﻦ ﻗﺒﻠﻚ، ﺁﻟﻠﻪ ﺃﺭﺳﻠﻚ ﺇﻟﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻛﻠﻬﻢ؟ ﻓﻘﺎﻝ: «اﻟﻠﻬﻢ ﻧﻌﻢ». ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺸﺪﻙ ﺑﺎﻟﻠﻪ، ﺁﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻙ ﺃﻥ ﻧﺼﻠﻲ اﻟﺼﻠﻮاﺕ اﻟﺨﻤﺲ ﻓﻲ اﻟﻴﻮﻡ ﻭاﻟﻠﻴﻠﺔ؟ ﻗﺎﻝ: «اﻟﻠﻬﻢ ﻧﻌﻢ»..

لما أراد النبي ﷺ أن يشرب من زمزم أراد عمه العباس أن يعطيه ماء مختصًا به، فأبى ذلك النبي ﷺ.

لقد كان النبي ﷺ قريبا من الناس، خاصّة من كان منهم مستضعفًا.

وفي الصحيحين ﻋﻦ ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺮ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺑﺎﻣﺮﺃﺓ ﺗﺒﻜﻲ ﻋﻨﺪ ﻗﺒﺮ، ﻓﻘﺎﻝ: «اﺗﻘﻲ اﻟﻠﻪ ﻭاﺻﺒﺮﻱ» ﻗﺎﻟﺖ: ﺇﻟﻴﻚ ﻋﻨﻲ، ﻓﺈﻧﻚ ﻟﻢ ﺗﺼﺐ ﺑﻤﺼﻴﺒﺘﻲ، ﻭﻟﻢ ﺗﻌﺮﻓﻪ، ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻬﺎ: ﺇﻧﻪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﺄﺗﺖ ﺑﺎﺏ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻓﻠﻢ ﺗﺠﺪ ﻋﻨﺪﻩ ﺑﻮاﺑﻴﻦ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻟﻢ ﺃﻋﺮﻓﻚ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻧﻤﺎ اﻟﺼﺒﺮ ﻋﻨﺪ اﻟﺼﺪﻣﺔ اﻷﻭﻟﻰ».

وهكذا يجب أن يكون المسلم سهلا قريبا من الناس، خاصة من كان من أهل الدعوة منهم والعلماء والمصلحين.


مواعظ الحج: تطييب خواطر المؤمنين.

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     ففي الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻋﻦ اﻟﺼﻌﺐ ﺑﻦ ﺟﺜﺎﻣﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻢ: ﺃﻧﻪ ﺃﻫﺪﻯ ﻟﺮﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺣﻤﺎﺭا ﻭﺣﺸﻴﺎ ﻭﻫﻮ ﺑﺎﻷﺑﻮاء، ﻓﺮﺩ ﻋﻠﻴﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺭﺃﻯ ﻣﺎ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺃﻣﺎ ﺇﻧﺎ ﻟﻢ ﻧﺮﺩﻩ ﻋﻠﻴﻚ ﺇﻻ ﺃﻧﺎ ﺣﺮﻡ».

ما أجلّ خلقه بأبي هو وأمي، وأطيب معاملته، لمّا رأى أنّ هذا الصحابي قد آلمه ردّ النبي ﷺ هديته أراد أن يطيّب خاطره، وأنّ يزيل ما وقع في قلبه.

إنه لم يقل: هذا أمر شرعي، فليغضب من يغضب، وليحزن من يحزن، كلا.

بل بيّن له سبب هذا الرد، ليذهب حزنه، وسلو قلبه.

ومثل ذلك ما ثبت في سنن أبي داود والترمذي ﻋﻦ ﺃﻧﺲ، ﺃﻥ ﺭﺟﻼ، ﺩﺧﻞ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻭﻋﻠﻴﻪ ﺃﺛﺮ ﺻﻔﺮﺓ، ﻭﻛﺎﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﻠﻤﺎ ﻳﻮاﺟﻪ ﺭﺟﻼ ﻓﻲ ﻭﺟﻬﻪ ﺑﺸﻲء ﻳﻜﺮﻫﻪ، ﻓﻠﻤﺎ ﺧﺮﺝ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮ ﺃﻣﺮﺗﻢ ﻫﺬا ﺃﻥ ﻳﻐﺴﻞ ﺫا ﻋﻨﻪ».

أي رآه قد تخلق وصبغ بالزعفران في جسده، وكان هذا مما يتزيّن به النساء، فأراد النبي ﷺ أن ينكر عليه هذا الأمر، ولكنه كره أن يجرح قلبه، فأمر من يبين له هذا.

فالكمال الإيماني أن يبين الشرع وأن يتلطف مع الخلق.

ففيه حفظ لحق الله، ورعاية لحق المخلوقين.

ألم تر أولئك الأجلاف، يخمشون قلوب الناس، ويجرحون نفوسهم؛ ثم لا يرف لهم جفن، ولا يبالون بالناس، ولا يأبهون بأحد.

إنّ من السنن النبوية والآداب الشرعيّة أن يجلّي المؤمن حزن أخيه، ويجتهد في تليين قلبه عليه، خاصة إذا كان قريبا أو ذا رحم له أو كانت زوجة للمؤمن أو كان زوجا للمؤمنة، فإن هذا من اتباع منهج محمد ﷺ.

 ومما له اتصال بذلك أن يجتهد المصلحون والعلماء وأهل الدعوة أن يقرنوا الأحكام الشرعية ببيان التعليلات الفقهية أو المقاصد العقلية أو الحِكَم لتكون القلوب أكثر انقيادا للحق، واستجابة للهدى.

مواعظ الحج: المداومة على الطاعة.

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فمن المواعظ التي يغذوها الحج بنصوصه وأحكامه، ما جاء ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﺎ ﻗﺎﻟﺖ: «ﻧﺰﻟﻨﺎ اﻟﻤﺰﺩﻟﻔﺔ ﻓﺎﺳﺘﺄﺫﻧﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺳﻮﺩﺓ، ﺃﻥ ﺗﺪﻓﻊ ﻗﺒﻞ ﺣﻄﻤﺔ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﻛﺎﻧﺖ اﻣﺮﺃﺓ ﺑﻄﻴﺌﺔ، ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻬﺎ، ﻓﺪﻓﻌﺖ ﻗﺒﻞ ﺣﻄﻤﺔ اﻟﻨﺎﺱ، ﻭﺃﻗﻤﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﺃﺻﺒﺤﻨﺎ ﻧﺤﻦ، ﺛﻢ ﺩﻓﻌﻨﺎ ﺑﺪﻓﻌﻪ، ﻓﻸﻥ ﺃﻛﻮﻥ اﺳﺘﺄﺫﻧﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻛﻤﺎ اﺳﺘﺄﺫﻧﺖ ﺳﻮﺩﺓ، ﺃﺣﺐ ﺇﻟﻲ ﻣﻦ ﻣﻔﺮﻭﺡ ﺑﻪ».

فقد أذن النبي ﷺ لبعض الضعفة أن يدفعوا ليلة مزدلفة قبل زحام الناس، وبقي معه بعضهم، فأما عائشة فبقيت ولم تنفر، فندمت عائشة على ذلك وقالت هذا، وكأنها قالت ذلك والعلم عند الله، لأنّها كرهت أن تغيّر شيئًا عهدت عليه النبي ﷺ أو تترك شيئًا مما فعلته مع النبي ﷺ.

 وهذا الأدب كان عليه الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا يكرهون أن يتركوا شيئا مما عهدوا عليه النبي ﷺ وفارقهم ثهم يعملونه، ولهذا لما رأى النبي ﷺ عبد الله بن عمرو بن العاص يواصل الصيام والقراءة، قال له: «ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ، ﺑﻠﻐﻨﻲ ﺃﻧﻚ ﺗﺼﻮﻡ اﻟﻨﻬﺎﺭ ﻭﺗﻘﻮﻡ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﻼ ﺗﻔﻌﻞ، ﻓﺈﻥ ﻟﺠﺴﺪﻙ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﻭﻟﻌﻴﻨﻚ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﻭﺇﻥ ﻟﺰﻭﺟﻚ ﻋﻠﻴﻚ ﺣﻈﺎ، ﺻﻢ ﻭﺃﻓﻄﺮ، ﺻﻢ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺷﻬﺮ ﺛﻼﺙﺓ ﺃﻳﺎﻡ، ﻓﺬﻟﻚ ﺻﻮﻡ اﻟﺪﻫﺮ» ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺇﻥ ﺑﻲ ﻗﻮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺻﻢ ﺻﻮﻡ ﺩاﻭﺩ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼﻡ، ﺻﻢ ﻳﻮﻣﺎ ﻭﺃﻓﻄﺮ ﻳﻮﻣﺎ " ﻓﻜﺎﻥ عبد الله ﻳﻘﻮﻝ: «ﻳﺎ ﻟﻴﺘﻨﻲ ﺃﺧﺬﺕ ﺑﺎﻟﺮﺧﺼﺔ".

فمن الأدب الإيماني ألا يترك المؤمن الطاعة إذا بدأها، وألا يتراجع عن فعل الخير إذا اعتاده.

وفي البخاري أن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ ﺑﻦ اﻟﻌﺎﺹ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻬﻤﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﻟﻲ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ: «ﻳﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ، ﻻ ﺗﻜﻦ ﻣﺜﻞ ﻓﻼﻥ ﻛﺎﻥ ﻳﻘﻮﻡ اﻟﻠﻴﻞ، ﻓﺘﺮﻙ ﻗﻴﺎﻡ اﻟﻠﻴﻞ».

ولذا فينبغي للمؤمن أن يأخذ له من الأوراد والأعمال ما يطيقه ولا يشق عليه، وفي الصحيحين ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ: ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺳﺪﺩﻭا ﻭﻗﺎﺭﺑﻮا، ﻭاﻋﻠﻤﻮا ﺃﻥ ﻟﻦ ﻳﺪﺧﻞ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻋﻤﻠﻪ اﻟﺠﻨﺔ، ﻭﺃﻥ ﺃﺣﺐ اﻷﻋﻤﺎﻝ ﺇﻟﻰ اﻟﻠﻪ ﺃﺩﻭﻣﻪا ﻭﺇﻥ ﻗﻞ».


مواعظ الحج: حسن الخاتمة.

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقد ثبت في الصحيحين ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺟﻞ ﻭاﻗﻒ ﺑﻌﺮﻓﺔ، ﺇﺫ ﻭﻗﻊ ﻋﻦ ﺭاﺣﻠﺘﻪ، ﻓﻮﻗﺼﺘﻪ، ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ «اﻏﺴﻠﻮﻩ ﺑﻤﺎء ﻭﺳﺪﺭ، ﻭﻛﻔﻨﻮﻩ ﻓﻲ ﺛﻮﺑﻴﻦ، ﻭﻻ ﺗﺤﻨﻄﻮﻩ، ﻭﻻ ﺗﺨﻤﺮﻭا ﺭﺃﺳﻪ، ﻓﺈﻧﻪ ﻳﺒﻌﺚ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻣﻠﺒﻴﺎ».

لقد جرت عادة الفقهاء أن يذكروا هذا الحديث في باب الاستدلال على منع المحرم من الطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس.

واستدل كثير من الفقهاء به على أن الإحرام لا ينقطع بالموت.

لكننا في هذه الموعظة نريد أن نقف مع هذا الحديث وقفة موعظة.

لقد مات هذا الصحابي، صحابي لا يعرف اسمع، رجل من عرض المؤمنين، ولا يعرف يعرف اسمه في شيء من الأحاديث، لكنه معروف في السماء!

لقد وقصته ناقته: والوقص ﻛﺴﺮ اﻟﻌﻨﻖ، فمات وهو محرم، فقال عنه النبي ﷺ هذه المقالة: (يبعث يوم القيامة ملبيا!)، ﺃﻱ ﻋﻠﻰ ﻫﻴﺌﺘﻪ اﻟﺘﻲ ﻣﺎﺕ ﻋﻠﻴﻬﺎ

وهذا المعنى دلت عليه الأدلة:

ففي صحيح مسلم عن ﺟﺎﺑﺮ، ﻗﺎﻝ: ﺳﻤﻌﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﻘﻮﻝ: «ﻳﺒﻌﺚ ﻛﻞ ﻋﺒﺪ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻣﺎﺕ ﻋﻠﻴﻪ».

وفي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ، ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﻳﻜﻠﻢ ﺃﺣﺪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ، ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ ﺑﻤﻦ ﻳﻜﻠﻢ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻠﻪ، ﺇﻻ ﺟﺎء ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻭﺟﺮﺣﻪ ﻳﺜﻌﺐ، اﻟﻠﻮﻥ ﻟﻮﻥ ﺩﻡ، ﻭاﻟﺮﻳﺢ ﺭﻳﺢ ﻣﺴﻚ».

فهذه موعظة عظيمة، من مات على أمر بعث عليه يوم القيامة.

     فمن أراد أن يختم له بالصالحات، فليكثر من العمل الصالح، والذكر والقرآن والصلاة ونفع الخلق، حتى إذا واتاه الموت أتاه وهو على طاعة، وهذا من توفيق الله للعبد أن يوفقه في آخر عمره للعمل الصالح ويقبض عليه، ففي المسند عن أبي ﻋﻨﺒﺔ ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺇﺫا ﺃﺭاﺩ اﻟﻠﻪ ﺑﻌﺒﺪ ﺧﻴﺮا، ﻋﺴﻠﻪ»، ﻗﻴﻞ: ﻭﻣﺎ ﻋﺴﻠﻪ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻳﻔﺘﺢ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ ﻋﻤﻼ ﺻﺎﻟﺤﺎ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﺗﻪ، ﺛﻢ ﻳﻘﺒﻀﻪ ﻋﻠﻴﻪ».

ﻳﻘﺎﻝ: ﻋﺴّﻞ اﻟﻄﻌﺎﻡ يعسله: ﺇﺫا ﺟﻌﻞ ﻓﻴﻪ اﻟﻌﺴﻞ، فشبه ﻣﺎ ﺭﺯﻗﻪ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﻣﻦ اﻟﻌﻤﻞ اﻟﺼﺎﻟﺢ اﻟﺬﻱ ﻃﺎﺏ ﺑﻪ ﺫﻛﺮﻩ ﺑﻴﻦ ﻗﻮﻣﻪ ﺑﺎﻟﻌﺴﻞ اﻟﺬﻱ ﻳﺠﻌﻞ ﻓﻲ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻓﻴﺤﻠﻮ ﺑﻪ ﻭﻳﻄﻴﺐ.

ويقابل ذلك أهل الشقاء، ممن أدمنوا المعاصي فلعله أن يأتيه الموت وهو على المعصية ففي صحيح مسلم ﻗﺎﻝ: «اﻟﻨﺎﺋﺤﺔ ﺇﺫا ﻟﻢ ﺗﺘﺐ ﻗﺒﻞ ﻣﻮﺗﻬﺎ، ﺗﻘﺎﻡ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ ﻭﻋﻠﻴﻬﺎ ﺳﺮﺑﺎﻝ ﻣﻦ ﻗﻄﺮاﻥ، ﻭﺩﺭﻉ ﻣﻦ ﺟﺮﺏ».


مواعظ الحج: إحاطة الفتن بالقلوب!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله محمد، ﷺ، أما بعد: 

ففي سياق الآيات التي خاطب الله بها المؤمنين في حال النسك: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَیَبۡلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَیۡءࣲ مِّنَ ٱلصَّیۡدِ تَنَالُهُۥۤ أَیۡدِیكُمۡ وَرِمَاحُكُمۡ لِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَخَافُهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰ⁠لِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ).

فقد دلت هذه الآية الجليلة أن الفتنة والبلاء والامتحان تعرض للعبد حتى وإن كان في حال فاضل من العبادة كالتنسك بالعمرة والحج.

فلا يزال المؤمن في دنيا الامتحان، تعرض له الفتن وتحوطه في أهله وماله، كما جاء في الصحيحين:

عن ﺣﺬﻳﻔﺔ، ﻗﺎﻝ: ﻛﻨﺎ ﺟﻠﻮﺳﺎ ﻋﻨﺪ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﻳﻜﻢ ﻳﺤﻔﻆ ﻗﻮﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ الفتنة، ﻗﻠﺖ ﺃﻧﺎ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻟﻪ: ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻚ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻟﺠﺮﻱء، ﻗﻠﺖ: «ﻓﺘﻨﺔ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺃﻫﻠﻪ ﻭﻣﺎﻟﻪ ﻭﻭﻟﺪﻩ ﻭﺟﺎﺭﻩ، ﺗﻜﻔﺮﻫﺎ اﻟﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺼﻮﻡ ﻭاﻟﺼﺪﻗﺔ، ﻭاﻷﻣﺮ ﻭاﻟﻨﻬﻲ»، ﻗﺎﻝ: ﻟﻴﺲ ﻫﺬا ﺃﺭﻳﺪ، ﻭﻟﻜﻦ الفتنة اﻟﺘﻲ ﺗﻤﻮﺝ ﻛﻤﺎ ﻳﻤﻮﺝ اﻟﺒﺤﺮ"

وفي مسلم: ﻗﺎﻝ ﺣﺬﻳﻔﺔ: ﻓﺄﺳﻜﺖ اﻟﻘﻮﻡ، ﻓﻘﻠﺖ: ﺃﻧﺎ، ﻗﺎﻝ: ﺃﻧﺖ ﻟﻠﻪ ﺃﺑﻮﻙ ﻗﺎﻝ ﺣﺬﻳﻔﺔ: ﺳﻤﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﻘﻮﻝ: «ﺗﻌﺮﺽ اﻟﻔﺘﻦ ﻋﻠﻰ اﻟﻘﻠﻮﺏ ﻛﺎﻟﺤﺼﻴﺮ ﻋﻮﺩًا ﻋﻮﺩًا، ﻓﺄﻱ ﻗﻠﺐ ﺃﺷﺮﺑﻬﺎ، ﻧﻜﺖ ﻓﻴﻪ ﻧﻜﺘﺔ ﺳﻮﺩاء، ﻭﺃﻱ ﻗﻠﺐ ﺃﻧﻜﺮﻫﺎ، ﻧﻜﺖ ﻓﻴﻪ ﻧﻜﺘﺔ ﺑﻴﻀﺎء، ﺣﺘﻰ ﺗﺼﻴﺮ ﻋﻠﻰ ﻗﻠﺒﻴﻦ، ﻋﻠﻰ ﺃﺑﻴﺾ ﻣﺜﻞ اﻟﺼﻔﺎ ﻓﻼ ﺗﻀﺮﻩ ﻓﺘﻨﺔ ﻣﺎ ﺩاﻣﺖ اﻟﺴﻤﺎﻭاﺕ ﻭاﻷﺭﺽ، ﻭاﻵﺧﺮ ﺃﺳﻮﺩ ﻣﺮﺑﺎﺩا ﻛﺎﻟﻜﻮﺯ، ﻣﺠﺨﻴﺎ ﻻ ﻳﻌﺮﻑ ﻣﻌﺮﻭﻓﺎ، ﻭﻻ ﻳﻨﻜﺮ ﻣﻨﻜﺮا، ﺇﻻ ﻣﺎ ﺃﺷﺮﺏ ﻣﻦ ﻫﻮاﻩ».

فانظر إلى سؤال عمر، وحرصه 

     فتأمل إحاطة الفتن بالقلب: «على القلوب كالحصير عودا عودا»:

أرأيت نسج الحصير كيف يكون! 

تحيط به من فوقه ومن تحته وعن يمينه وعن شماله، هكذا تحيط الفتن بالقلب بأنواعها (فتن الدنيا، فتنة المدائح، فتنة التضليل، فتنة الأهل والمال والولد، فتنة الأصحاب، وفتن كثيرة لا يزال المؤمن معها في صراع ومجاهدة، ولذلك إذا تبصر المؤمن في هذا الشأن كان أكثر استعداداً وحذراً وتحرزاً، وسيُعدّ للفتنة تجفافاً لأنه يعلم أنه ليس في سبيل سلامةٍ منها!

وقد ثبت في صحيح مسلم في وصفه ﷺ للفتن: "ومنها كرياح الصيف منها صغارٌ ومنها كبار".

أخي المبارك، أختي المباركة، إنَّ الغفلة عن الفتنة وعدم التنبه لأسباب المعاصي قد تكون سببا للقوع في الفتنة، قال ﷻ: {وحسبوا أن لا تكون فتنة فعموا وصموا}.

ثم قال بعدُ- : "إن بينك وبينها باباً مغلقاً".

فهذا عمر يخشى الفتنة ويحاذرها ويتطلب علمها ويستعلم صفاتها، فمن يأمن الفتنة لعد عمر؟!وقد دل الدليل أن قبول الفتنة يظلم القلب، قال النبي ﷺ عن أثر الفتن وعاقبة قبول القلب للفتنة: "وأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء"رواه مسلم.

وليس من الذين في قلوبهم مرض ومع ذلك تعرض له الفتنة! لكن يختلف صاحب الزيغ ومن في قلبه مرض أنها تسرع إليه الفتنة ولديه قابلية وتشرّب لهذه الفتنةمن كان في قلبه زيغٌ ومرض أسرعت إليه الفتنة أكثر من غيره كما  قال تعالى (يانساء النبيّ لستنّ كأحدٍ من النساء إن اتقيتنّ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)

أي ؛ الذي عنده الإستعداد لأن تخمشه الفتنة بخمشاتها!

هذا في الشهوات.

وأيضاً نفس الأمر في الشبهات:

قال تعالى: ( ليجعل مايلقي الشيطانُ فتنةً للذين في قلوبهم مرضٌ والقاسية قلوبهم)

مواعظ الحج: ذكريات البلاء والانتصار!

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

     فلقد كان في حجّ النبي ﷺ من المواعظ الإيمانية ما تخشع له نفوس المؤمنين، وتزكوا به أفئدتهم.

     وقد ثبت في وصف جابر لحج النبي ﷺ الذي يسميه أهل العلم: منسك جابر، أنه ﷺ صعد الصفا ﺣﺘﻰ ﺭﺃﻯ اﻟﺒﻴﺖ ﻓﺎﺳﺘﻘﺒﻞ اﻟﻘﺒﻠﺔ، ﻓﻮﺣّﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻛﺒﺮﻩ، وﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ ﻻ ﺷﺮﻳﻚ ﻟﻪ ﻟﻪ اﻟﻤﻠﻚ ﻭﻟﻪ اﻟﺤﻤﺪ ﻭﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﻛﻞ ﺷﻲء ﻗﺪﻳﺮ، ﻻ ﺇﻟﻪ ﺇﻻ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺪﻩ، ﺃﻧﺠﺰ ﻭﻋﺪﻩ، ﻭﻧﺼﺮ ﻋﺒﺪﻩ، ﻭﻫﺰﻡ اﻷﺣﺰاﺏ ﻭﺣﺪﻩ» ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﺑﻴﻦ ﺫﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻣﺜﻞ ﻫﺬا ﺛﻼﺙ ﻣﺮاﺕ.

     اليوم بعد عذابات السنين، بعد الهجرة وترك الوطن، بعد مفارقة الأهل ومرابع الطفولة، ومعاهد الصبا، بعد الخوف والتشريد، يعود ﷺ إلى مكة، فيثني على ﷲ ﷻ ويقول: أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده!

     لقد صعد ﷺ على الصفا ورقى عليه وألقى ببصره إلى الكعبة، حيث كان يؤذى ﷺ هو وصحابته.

     هناك هناك عند الكعبة كان يلقى السلا على ظهر النبي ﷺ وهو ساجد، كما في الصحيحين ﻋﻦ اﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ، ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻳﺼﻠﻲ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺃﺑﻮ ﺟﻬﻞ ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ ﻟﻪ ﺟﻠﻮﺱ، ﻭﻗﺪ ﻧﺤﺮﺕ ﺟﺰﻭﺭ ﺑﺎﻷﻣﺲ، ﻓﻘﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺟﻬﻞ: ﺃﻳﻜﻢ ﻳﻘﻮﻡ ﺇﻟﻰ ﺳﻼ ﺟﺰﻭﺭ ﺑﻨﻲ ﻓﻼﻥ، ﻓﻴﺄﺧﺬﻩ ﻓﻴﻀﻌﻪ ﻓﻲ ﻛﺘﻔﻲ ﻣﺤﻤﺪ ﺇﺫا ﺳﺠﺪ؟ فاﻧﺒﻌﺚ ﺃﺷﻘﻰ اﻟﻘﻮﻡ ﻓﺄﺧﺬﻩ، ﻓﻠﻤﺎ ﺳﺠﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻭﺿﻌﻪ ﺑﻴﻦ ﻛﺘﻔﻴﻪ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﺳﺘﻀﺤﻜﻮا، ﻭﺟﻌﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻳﻤﻴﻞ ﻋﻠﻰ ﺑﻌﺾ ﻭﺃﻧﺎ ﻗﺎﺋﻢ ﺃﻧﻈﺮ، ﻟﻮ ﻛﺎﻧﺖ ﻟﻲ ﻣﻨﻌﺔ ﻃﺮﺣﺘﻪ ﻋﻦ ﻇﻬﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻭاﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺳﺎﺟﺪ ﻣﺎ ﻳﺮﻓﻊ ﺭﺃﺳﻪ ﺣﺘﻰ اﻧﻄﻠﻖ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﻓﺄﺧﺒﺮ ﻓﺎﻃﻤﺔ، ﻓﺠﺎءﺕ ﻭﻫﻲ ﺟﻮﻳﺮﻳﺔ، ﻓﻄﺮﺣﺘﻪ ﻋﻨﻪ، ﺛﻢ ﺃﻗﺒﻠﺖ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﺗﺸﺘﻤﻬﻢ“.

     ها هو اليوم بأبي هو وأمي، يردد كلمات النصر، ويثني على ربه ويمدحه بمنته بانتصار جند الحق على جند الباطل: (وهزم الأحزاب وحده).

     أين أبو ﺟﻬﻞ ﺑﻦ ﻫﺸﺎﻡ، أين ﻋﺘﺒﺔ ﺑﻦ ﺭﺑﻴﻌﺔ، أين ﺷﻴﺒﺔ ﺑﻦ ﺭﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﻘﺒﺔ، ﻭﺃﻣﻴﺔ ﺑﻦ ﺧﻠﻒ، ﻭﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ معيط؟ أين كلّ أولئك الذين عارضوا دين ﷲ وحادوا شرعه؟

لقد أفلوا، وبقي دين ﷲ وبقيت شريعته.

     أيها المبتئسون من أحزان الطريق!

     أيّها المكروبون!

     يا من طال عليهم سبيل البلاء، لا تيأسوا، فإن نصر ﷲ آت، ودينه عزيز، وسنة نبيه ﷺ باقية.


مواعظ الحج: من فقه بناء الكعبة!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

ففي خبر بناء البيت في البخاري عن ابن عباس: (ﻛﺎﻥ اﻟﺒﻴﺖ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ ﻣﻦ اﻷﺭﺽ ﻛﺎﻟﺮاﺑﻴﺔ، ﺗﺄﺗﻴﻪ اﻟﺴﻴﻮﻝ، ﻓﺘﺄﺧﺬ ﻋﻦ ﻳﻤﻴﻨﻪ ﻭﺷﻤﺎﻟﻪ.

ﺛﻢ إنه لما كبر إسماعيل ﻗﺎﻝ له: ﻳﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺑﺄﻣﺮ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﺻﻨﻊ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻙ ﺭﺑﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻭﺗﻌﻴﻨﻨﻲ؟ ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﻋﻴﻨﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺑﻨﻲ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺘﺎ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻛﻤﺔ ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻨﺪ ﺫﻟﻚ ﺭﻓﻌﺎ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ، ﻓﺠﻌﻞ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻳﺒﻨﻲ، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا اﺭﺗﻔﻊ اﻟﺒﻨﺎء، ﺟﺎء ﺑﻬﺬا اﻟﺤﺠﺮ ﻓﻮﺿﻌﻪ ﻟﻪ ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻨﻲ ﻭﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﻨﺎﻭﻟﻪ اﻟﺤﺠﺎﺭﺓ، ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}، ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻌﻼ ﻳﺒﻨﻴﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻳﺪﻭﺭا ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}.

     فتأمَّل هذا الدعاء الرقيق، من هذين الرجلين الصالحين، أمرهما ﷲ ﷻ ببناء الكعبة واصطفاهما لهذا العمل الصالح، ومع ذلك كانا متذللين له تعالى، متخشعين لجلاله، يدعوان ربهما أن يتقبل منهما، وهكذا أهل التقوى يعملون العمل الصالح؛ ثم يخافون ألا يتقبل منهم، كما ثبت في الترمذي عن عائشة في قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة).

• ثم إنَّ الكعبة احترقت فأرادت قريش أن تبنيها، كما روى اﺑﻦ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﻓﻲ اﻟﺴﻴﺮﺓ أن قريشا قالت: «ﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﺴﺒﻜﻢ ﺇﻻ اﻟﻄﻴﺐ ﻭﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻬﺮ ﺑﻐﻲ ﻭﻻ ﺑﻴﻊ ﺭﺑﺎ ﻭﻻ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ».

      وفي الصحيحين: فعن ﻋﺎﺋﺸﺔ رضي الله عنه، ﺯﻭﺝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ : ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ: «ﺃﻟﻢ ﺗﺮﻱ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻟﻤﺎ ﺑﻨﻮا اﻟﻜﻌﺒﺔ اﻗﺘﺼﺮﻭا ﻋﻦ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟»، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻻ ﺗﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮﻻ ﺣﺪﺛﺎﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺑﺎﻟﻜﻔﺮ ﻟﻔﻌﻠﺖ».

 وفي لفظ ﻗﺎﻟﺖ: ﺳﺄﻟﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﺠﺪﺭ ﺃﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻫﻮ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻧﻌﻢ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﻟﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻩ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ؟ ﻗﺎﻝ: «ﺇﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻗﺼﺮﺕ ﺑﻬﻢ اﻟﻨﻔﻘﺔ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﺷﺄﻥ ﺑﺎﺑﻪ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻓﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﻗﻮﻣﻚ، ﻟﻴﺪﺧﻠﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا ﻭﻳﻤﻨﻌﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا، ﻭﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻬﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ، ﻓﺄﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺗﻨﻜﺮ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ، ﺃﻥ ﺃﺩﺧﻞ اﻟﺠﺪﺭ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺃﻥ ﺃﻟﺼﻖ ﺑﺎﺑﻪ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﻷﺩﺧﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ.

"وﻷﻧﻔﻘﺖ ﻛﻨﺰ اﻟﻜﻌﺒﺔ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ..".

ﻭفي لفظ قال ﷺ: ﻳﺎ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺜﻮ ﻋﻬﺪ ﺑﺸﺮﻙ، ﻟﻬﺪﻣﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ، ﻓﺄﻟﺰﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺑﻴﻦ: ﺑﺎﺑﺎ ﺷﺮﻗﻴﺎ، ﻭﺑﺎﺑﺎ ﻏﺮﺑﻴﺎ، ﻭﺯﺩﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﺔ ﺃﺫﺭﻉ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ، ﻓﺈﻥ ﻗﺮﻳﺸﺎ اﻗﺘﺼﺮﺗﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﺑﻨﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ ".

ثم إن عبد الله بن الزبير قال: ﺇﻧﻲ ﻣﺴﺘﺨﻴﺮ ﺭﺑﻲ ﺛﻼﺛﺎ، ﺛﻢ ﻋﺎﺯﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻱ، ﻓﻠﻤﺎ ﻣﻀﻰ اﻟﺜﻼﺙ ﺃﺟﻤﻊ ﺭﺃﻳﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻀﻬﺎ.

• فقد ترك النبي ﷺ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لمصلحة تأليف قلوب قريش، وهذه قاعدة شرعية مرعية، ينبغي أن يرقبها أهل الدعوة والإصلاح والتربية، وهو أن هناك من الحق ما قد يترك إذا كان هناك مصلحة أعظم منه يراد تحصليها، أو أن هناك مفسدة أعظم من تلك المصلحة يراد درؤها.

• وتأمل كيف أن قريشا على كفرها كانت تعظم البيت، حتى أخذت ألا تجعل في بنائها شيئا من المال المحرم، وفي ذلك موعظة لكل مؤمن ومؤمنة أن يعظّموا البيت الحرام والشعائر والمناسك، (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).

مواعظ الحج: إن الله لا يضيع أهله!

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:

ففي الماضي السحيق، كانت مكة وادٍ لا زرع فيه ولا ماء، كانت واديا ينعق فيه الموت! وتصيح فيه الوحشة، لا يسمع فيه إلا عزيف الجن، ودوي القفر.

فجاء إبراهيم ﷺ بأمر  ﷲ ليبني فيه بيته!

فروى البخاري عن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ قال: ﺃﻭﻝ ﻣﺎ اﺗﺨﺬ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻤﻨﻄﻖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، اﺗﺨﺬﺕ ﻣﻨﻄﻘﺎ ﻟﺘﻌﻔﻲ ﺃﺛﺮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﺎﺭﺓ، [اﻟﻤﻨﻄﻖ: ما تلبسه اﻟﻤﺮﺃﺓ وسطها فوق ﺛﻮﺑﻬﺎ وتشده ثم ترسل منه ﻋﻠﻰ اﻷﺳﻔﻞ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻧﺎﺓ اﻷﺷﻐﺎﻝ؛ ﻟﺌﻼ ﺗﻌﺜﺮ ﻓﻲ ﺫﻳﻠﻬﺎ، ﻭﺑﻪ ﺳﻤﻴﺖ ﺃﺳﻤﺎء ﺑﻨﺖ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺫاﺕ اﻟﻨﻄﺎﻗﻴﻦ]

قال ابن عباس: ﺛﻢ ﺟﺎء ﺑﻬﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻭﺑﺎﺑﻨﻬﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﻫﻲ ﺗﺮﺿﻌﻪ، ﺣﺘﻰ ﻭﺿﻌﻬﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺖ ﻋﻨﺪ ﺩﻭﺣﺔ ﻓﻮﻕ ﺯﻣﺰﻡ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻤﻜﺔ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺃﺣﺪ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻬﺎ ﻣﺎء، ﻓﻮﺿﻌﻬﻤﺎ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻭﻭﺿﻊ ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﺟﺮاﺑًﺎ (وهو الوعاء من الجلد) ﻓﻴﻪ ﺗﻤﺮ، ﻭﺳﻘﺎء ﻓﻴﻪ ﻣﺎء، ﺛﻢ ﻗﻔﻰ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻣﻨﻄﻠﻘًﺎ، ﻓﺘﺒﻌﺘﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﺃﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ ﻭﺗﺘﺮﻛﻨﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﻮاﺩﻱ، اﻟﺬﻱ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺇﻧﺲ ﻭﻻ ﺷﻲء؟

ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ﻣﺮاﺭا، ﻭﺟﻌﻞ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻬﺎ

ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ: ﺁﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﻣﺮﻙ ﺑﻬﺬا؟

ﻗﺎﻝ ﻧﻌﻢ!

ﻗﺎﻟﺖ: ﺇﺫﻥ ﻻ يضيعنا! ﺭﺿﻴﺖ ﺑﺎﻟﻠﻪ!

ﺛﻢ ﺭﺟﻌﺖ!

ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﺜﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺮﻭﻧﻪ، اﺳﺘﻘﺒﻞ ﺑﻮﺟﻬﻪ اﻟﺒﻴﺖ، ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﺑﻬﺆﻻء اﻟﻜﻠﻤﺎﺕ، ﻭﺭﻓﻊ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﻘﺎﻝ: (رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ).

ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺗﺮﺿﻊ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﺗﺸﺮﺏ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺎء، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻧﻔﺪ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﻘﺎء ﻋﻄﺸﺖ ﻭﻋﻄﺶ اﺑﻨﻬﺎ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻳﺘﻠﻮﻯ، وﻳﺘﻠﺒﻂ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻘﺖ ﻛﺮاﻫﻴﺔ ﺃﻥ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻮﺟﺪﺕ اﻟﺼﻔﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺟﺒﻞ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻳﻠﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ اﺳﺘﻘﺒﻠﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺗﻨﻈﺮ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪًا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪًا، ﻓﻬﺒﻄﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﺑﻠﻐﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺭﻓﻌﺖ ﻃﺮﻑ ﺩﺭﻋﻬﺎ (لباس تلبسه المرأة شبيه بالقميص القصير) ﺛﻢ ﺳﻌﺖ ﺳﻌﻲ اﻹﻧﺴﺎﻥ اﻟﻤﺠﻬﻮﺩ ﺣﺘﻰ ﺟﺎﻭﺯﺕ اﻟﻮاﺩﻱ، ﺛﻢ ﺃﺗﺖ اﻟﻤﺮﻭﺓ ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻧﻈﺮﺕ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪا -

ﻓﻔﻌﻠﺖ ﺫﻟﻚ ﺳﺒﻊ ﻣﺮاﺕ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﻓﺬﻟﻚ ﺳﻌﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ».

فلما صعدت الصفا تقول: ﻟﻮ ﺫﻫﺒﺖ ﻓﻨﻈﺮﺕ ﻣﺎ ﻓﻌﻞ، ﻓﺬﻫﺒﺖ ﻓﻨﻈﺮﺕ ﻓﺈﺫا ﻫﻮ ﻋﻠﻰ ﺣﺎﻟﻪ ﻛﺄﻧﻪ ﻳﻨﺸﻎ ﻟﻠﻤﻮﺕ، [اﻟﻨﺸﻎ ﻣﺜﻞ اﻟﺸﻬﻴﻖ]، ﻓﻠﻢ ﺗﻘﺮﻫﺎ ﻧﻔﺴﻬﺎ.
ثم إنها لما ﺃﺷﺮﻓﺖ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺮﻭﺓ ﺳﻤﻌﺖ ﺻﻮﺗﺎ، ﻓﻘﺎﻟﺖ ﺻﻪ - ﺗﺮﻳﺪ ﻧﻔﺴﻬﺎ -، ﺛﻢ ﺗﺴﻤﻌﺖ، ﻓﺴﻤﻌﺖ ﺃﻳﻀﺎ، ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻗﺪ ﺃﺳﻤﻌﺖ ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪﻙ ﻏﻮاﺙ، ﻓﺈﺫا ﻫﻲ ﺑﺎﻟﻤﻠﻚ ﻋﻨﺪ ﻣﻮﺿﻊ ﺯﻣﺰﻡ، ﻓﺒﺤﺚ ﺑﻌﻘﺒﻪ، ﺃﻭ ﺑﺠﻨﺎﺣﻪ، ﺣﺘﻰ ﻇﻬﺮ اﻟﻤﺎء، ﻓﺪﻫﺸﺖ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻓﺠﻌﻠﺖ ﺗﺤﻔﺰ، ﺗﺤﻮّﺿﻪ [ ﺃﻱ ﺗﺠﻌﻞ ﻟﻪ ﺣﻮﺿﺎ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﻤﺎء]، ﻭﺗﻘﻮﻝ ﺑﻴﺪﻫﺎ ﻫﻜﺬا، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء ﻓﻲ ﺳﻘﺎﺋﻬﺎ ﻭﻫﻮ ﻳﻔﻮﺭ ﺑﻌﺪ ﻣﺎ ﺗﻐﺮﻑ.
ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ "ﻳﺮﺣﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻟﻮ ﺗﺮﻛﺖ ﺯﻣﺰﻡ - ﺃﻭ ﻗﺎﻝ: ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء -، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺯﻣﺰﻡ ﻋﻴﻨﺎ ﻣﻌﻴﻨﺎ" ﻗﺎﻝ: ﻓﺸﺮﺑﺖ ﻭﺃﺭﺿﻌﺖ ﻭﻟﺪﻫﺎ، ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻬﺎ اﻟﻤﻠﻚ: ﻻ ﺗﺨﺎﻓﻮا اﻟﻀﻴﻌﺔ، ﻓﺈﻥ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺖ اﻟﻠﻪ، ﻳﺒﻨﻲ ﻫﺬا اﻟﻐﻼﻡ ﻭﺃﺑﻮﻩ، ﻭﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﻻ ﻳﻀﻴﻊ ﺃﻫﻠﻪ.

     تخايل ﻫﺎﺟﺮ، ﻭﻫﻲ تنظر إلى اﻟﻤﺎء القليل في القربة، بم كانت تفكر وهي تنظر إليه ينقص شيئا فشيئا وهي تحضن طفلها اﻟﺮﺿﻴﻊ، وتلفحها لهيب صحراء ذلك الوادي ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ، تخايلها وﻫﻲ ﺗﻬﺮﻭﻝ ﺑﻴﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﻭاﻟﻤﺮﻭﺓ ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻜﻬﺎ اﻟﻌﻄﺶ، ﻭﻫﺪﻫﺎ اﻟﺠﻬﺪ، ﻭﺃﺿﻨﺎﻫﺎ اﻹﺷﻔﺎﻕ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﻔﻞ الرضيع!

     وهي تجول مرة بعد أخرى، ﺛﻢ ﺗﺮﺟﻊ ﻓﻲ اﻟﺠﻮﻟﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻭﻗﺪ ﺣﻄﻤﻬﺎ اﻟﻴﺄﺱ، وأحاطت بها الكآبة ﻟﺘﺠﺪ الماء!

لتجد اﻟﻨﺒﻊ يبضّ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﺮﺿﻴﻊ اﻟﻮﺿﻲء!

ﻭﺇﺫا ﻫﻲ ﺯﻣﺰﻡ!

تنبع في هذه الصحراء اللاهبة!

ها هو ﻳﻨﺒﻮﻉ اﻟﺮﺣﻤﺔ ﻓﻲ ﺻﺤﺮاء اﻟﻴﺄﺱ ﻭاﻟﺠﺪﺏ!

     فانظر إلى أثر التسليم لله في أمره، والرضا عن شرعه.

     انظر إلى هاجر لما سلّمت بأمر الله، وقالت: آلله أمرك بهذا؟ فلما قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا!

     لقد تقبلها ﷲ وخلّد اسمها، وأبقى ذكرها، وجعل في ذريتها أعظم نبي ﷺ، بل بارك في مسعاها وخطواتها حتى جعل عفو خطوها الذي سعته بين الصفا والمروة منسكًا للناس يتنسكون به إلى يوم الدين.

وجعل لها ماء مباركًا فيه طعام طعم وبركة، تشتاق نفوس المؤمنين في مشرق الأرض ومغربها منه غرفة.

     يا أيها الموفقون: سلموا لله أمره، واستجيبوا لشرعه، وأبشروا بالبركة والخير وطيب العيش والرضا في الدنيا والآخرة.

     كونوا من أهل الطاعة والسنة والقرآن، فإن الله لا يضيع أهله!

     فمن أخذ بطاعة ﷲ واستمسك بشرعه أكرمه ﷲ بكرامته.

     وكيف يضيع ﷲ من أطاعه وأتبع أمره، والله شكور، يشكر عبده على طاعته، ويمن عليه.

     ثم هنا موعظة للمرأة الصالحة:

كوني عونا لزوجك على طاعة الله، كوني عضيدة له في دعوته وإصلاحه، إذا ضاق بك أمر، أو شق عليك شيء، فانظري موقعه من طاعة ﷲ فإن كان في طاعة، فضحّي وجاهدي نفسك، وأبشري، فإن ﷲ لا يضيع أهله.

     لقد أكرم ﷲ أم إسماعيل بكرامة عظيمة حين سلّمت وأيقنت وقالت مقالتها العظيمة لإبراهيم عليه السلام: آلله أمرك بهذا؟ إذن لا يضيعنا الله.
     لكن انظر أخي الموفق إلى قوله ﷺ: «ﻳﺮﺣﻢ اﻟﻠﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﻟﻮ ﺗﺮﻛﺖ ﺯﻣﺰﻡ، ﻟﻮ ﻟﻢ ﺗﻐﺮﻑ ﻣﻦ اﻟﻤﺎء، ﻟﻜﺎﻧﺖ ﺯﻣﺰﻡ ﻋﻴﻨﺎ ﻣﻌﻴﻨﺎ»: 
فقد ﻛﺎﻥ ﻇﻬﻮﺭ ﺯﻣﺰﻡ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻦ ﷲ ﻣﺤﻀﺔ ﺑﻐﻴﺮ ﻋﻤﻞ ﻋﺎﻣﻞ!
فلماذا يا هاجر تحوضين الماء؟
ألم يكرمك ربك فأرسل ملكا من السماء لينبط لك الماء؟
ألم تري فيه آية عظيمة جزاء تسليمك؟
لاجرم، ها أنت حين ﺧﺎﻟﻄﻬﺎ تلك الكرامة ﺗﺤﻮيطك وﺩاﺧﻠﻬﺎ ﻛﺴﺐ اﻟﺒﺸﺮ؛ ستوكلين إلى الجهد البشري، وسينقص من بركته بقدر ما وثق الإنسان بكسبه.
كم من بركة وخير ونور فاتنا بسبب ركوننا على أنفسنا وطاقتنا وذكائنا!
    أيها الدعاة والمصلحون والمربون: إن التوكل على ﷲ والتفويض له باب النصر والغلبة، وبحسب توكل المؤمن يكون له من التأييد والفتح، ولهذا ثبت في البخاري قال ﷺ: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم).
وفي المسند: أن سعدا، ﻗﺎﻝ: ﻗﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ اﻟﺮﺟﻞ ﻳﻜﻮﻥ ﺣﺎﻣﻴﺔ اﻟﻘﻮﻡ، ﺃﻳﻜﻮﻥ ﺳﻬﻤﻪ ﻭﺳﻬﻢ ﻏﻴﺮﻩ ﺳﻮاء؟ ﻗﺎﻝ: «ﺛﻜﻠﺘﻚ ﺃﻣﻚ ﻳﺎ اﺑﻦ ﺃﻡ ﺳﻌﺪ، ﻭﻫﻞ ﺗﺮﺯﻗﻮﻥ ﻭﺗﻨﺼﺮﻭﻥ ﺇﻻ ﺑﻀﻌﻔﺎﺋﻜﻢ».
وفي النسائي: «ﺇﻧﻤﺎ ﻳﻨﺼﺮ اﻟﻠﻪ ﻫﺬﻩ اﻷﻣﺔ ﺑﻀﻌﻴﻔﻬﺎ، ﺑﺪﻋﻮﺗﻬﻢ ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻭﺇﺧﻼﺻﻬﻢ».
والله أعلم.