الأحد، 7 أكتوبر 2018

(وهم يستبشرون) سورة المائدة: ضبط القوة الشهوانية والغضبية.

بســــم الله الرحمـن الرحــــيم

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
     فلما كانت سورة المائدة سورة ضبط القوتين القوة الغضبية والشهوانية، افتتحت بالتأكيد على الوفاء بالعقود، وعطف عليه حل بهمية الأنعام، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ۚ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ۗ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ).
     وهما مثالان لضبط تلك القوتين، فإنما يحمل الشخص على نقض عقده طمع باعثه الشهوة، أو بغي باعثه الغضبة.
     ثم عطفت الآيات على ذلك بذكر محرمات تضبط عليه قوتيه بتحريم مؤقت، في أزمنة وأمكنة فاضلة، فجاء تحريم إحلال الشهر الحرام والبلد الحرام، فقال ﷻ: "(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا).
     ثم عطف بعد ذلك بذكر المحرمات من المطعومات، لكن مما حرم تحريما دائما، وهو ضبط دائم للقوة الشهوانية، فقال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ).
     ثم تأمل سياق الحديث عن الجوارح في الصيد، حين قال ﷻ: (قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۙ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ۖ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ)، يظهر لك من ذلك بيان ارتباطه بمقصد السورة، فإن الجارحة لو تجاوزت في قوتها الغضبية فأكلت حرم ذلك الصيد، فكان ضبط القوة الشهوانية مؤثرا في المكلف بفعل نفسه ومؤثرا فيما يعلمه من الجوارح.
     ثم ذكر فيها آية الوضوء، فقال:  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) إلى آخر الآية.
     والوضوء ضبط للقوتين للقوة الغضبية والشهوانية، أما ضبطها للقوة الغضبية فلما جاء في سنن أبي داود من حديث السعدي أن النبي ﷺ أمر الذي  غضب أن يتوضأ.
     وأما من جهة القوة الشهوانية فلأن الوضوء يشرع بعد نواقض متعلقة بالشهوة وهذا مبني على مسألة فقهية شهيرة، في نواقض الوضوء هل هي معللة أم تعبدية؟
     فمن جعلها معقولة المعنى صح معه هذا السياق، عن تأثير القوة الشهوانية على الإنسان فأوجب ذلك الوضوء، ولهذا يجب من خروج النجاسة من السبيلين، وهو من آثار الشهوة، فإذا زاد الأمر فأمذى الانسان أو نحوه، وجب عليه الوضوء أيضا.
     ومنه أكل لحم الجزور، فلما كان لحم الجزور لحماً فيه زيادة في القوة الغضبية، لأنها خلقت من شياطين ، كما في سنن أبي داود، فإذ بلغ تأثيرها إلى هذا الحد أوجب ذلك الوضوء، على قول كثير من السلف وهو مذهب جمع كبير من الصحابة و مذهب فقهاء المحدثين كأحمد وغيره.
     ومما له علق بذلك، ما ذكره بعض أهل العلم: أنه لو أبيح أكل الجوارح للاضطرار كمن لم يجد إلا كلبا أو ثعلبا أو أسدا وأكله فهل يجب فيه الوضوء؟ باعتبار أن فيه من الروح الغضبية ماهو أولى من الجزور.
     فيه خلاف بين الفقهاء على روايتين عند الحنابلة، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية القول الثاني أنه يجب أن يتوضأ، قال: لأنه إذا كان ذلك واجب في الحيوان المباح من أصله، فلأن يوجب ذلك في الحيوان الذي يجوز للعارض للاضطرار من باب أولى.
     وفي سورة المائدة جاء ذكر الأمة الغضبية وهم اليهود والأمة الشهوانية وهم النصارى بسياق طويل على خلاف المعتاد في الحديث القرآني، فإن المعتاد عند ذكر هاتين الأمتين أن يختص طول السياق بإحداهنّ، ولكن أن يأتي ذكرهما معًا في سياق طويل فليس هو العادة القرآنية، فقد اختصت سورة البقرة بذكر الأمة الغضبية وهم اليهود، وفي سورة آل عمران طال سياق الأمة الشهوانية وهم النصارى، وأما سورة النساء فجاء فيها ذكر الأمة الغضبية، والأنعام لم يأت فيها ذكر شيء من ذلك، وفي الأعراف جاء  ذكر الأمة الغضبية اليهود وهكذا، ولكن ذكر الأمتين بسياق مطول مما يقل في القرآن كما في سورة المائدة، بل إنها السورة التي جاء فيها المقارنة بين الأمّتين، فقال: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ۖ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ)، فإن البأس بتسلط الغضب أشد منه بالشهوة، فغلبة الشهوة تكون لضعف في الإنسانيّة، وهي ذنب آدم الأول، بخلاف غلبة الغضب فهي غلبة إبليسية، ومنها كان ذنب إبليس الأوّل.
     ثم انظر كيف جاء في سورة المائدة، تقرير التوحيد من جنس موضوعها و مقصدها .
     فلما ذكر الله تعالى عيسى ابن مريم وأمه قال: (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ۖ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَام)، فانظر كيف نفت عنهم الربوبية والألوهية، قال عز وجل: (كانا يأكلان الطعام)، فجاء ذكر تقرير نفي ألوهيتهما من جهة وجود الشهوة فيهما أو القوة الشهوانية فيهما.
     ثم انظر مناسبة قصة قوم موسى حين أبوا الدخول على قرية الجبارين، مع قصة ابني آدم، فإن قصة قوم موسى مثال على الاستخذاء والخور والجبن، وذاك تخاذل في القوة الغضبية عن المأمور به، وأما قصة ابني آدم فهي مثال للبغي والاعتداء وذاك تجاوز في القوة الغضبية بقتل النفس المعصومة، ثم إن الباعث على التخاذل ذاك والاعتداء هذا هو الطمع وشهوة الدنيا.
     ثم عقبت قصة موسى مع قومه وقصة ابني آدم بخواتيم تداوي البغي في القوة الغضبية:
     - فقال ﷻ: (إِنَّمَا جَزَ ٰ⁠ۤؤُا۟ ٱلَّذِینَ یُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَسۡعَوۡنَ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَسَادًا أَن یُقَتَّلُوۤا۟ أَوۡ یُصَلَّبُوۤا۟ أَوۡ تُقَطَّعَ أَیۡدِیهِمۡ وَأَرۡجُلُهُم مِّنۡ خِلَـٰفٍ أَوۡ یُنفَوۡا۟ مِنَ ٱلۡأَرۡضِۚ)، فهذا حجاز اجتياز القوة الغضبية بالردع العقابي، وذاك مما يفعل فعله في كثير من الناس.
     - ثم قال ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَٱبۡتَغُوۤا۟ إِلَیۡهِ ٱلۡوَسِیلَةَ وَجَـٰهِدُوا۟ فِی سَبِیلِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)، وهذه طريق ثانية في شفاء الأمّة من البغي والعدوان، فإن هذه القوى لا تزال تجيش بها الصدور، وتطلب لها منفذًا، فإن لم تُستفرغ في الحق استفرغت في الباطل، وإن لم تشف القلوب نفثاتها في عدو ﷲ وعدوها؛ عادت نارها لتأكل بعضها.
     ثم إن هذه السورة العظيمة تبين معنى عظيما، وهو أنه لا بد للإنسان من ضبط يضبط به قواه الشهوانية والغضبية، فالإنسان فيه جوعة إلى الضبط والمنع، ولا يزال متطلبا إلى ضبط قوته الغضبية والشهوانية بحق أو بباطل وزيف، ولهذا جاء في هذه السورة لوم الجاهليين لما اتخذوا ضبطا غير شرعي، ألم يقل الله تعالى: ((مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ۙ وَلَٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ۖ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)) فاتخذو لهم ضوابط ضالة، ومحرمات زائفة، ليضبطوا قوتهم الشهوانية بتحريم السائبة والوصيلة والحامي، وغير ذلك من أنواع ما يحرمونه، من دون مسوغ ولا حجة ولا أثارة من علم، فدل ذلك على أنه مما فطرت عليه النفوس، وأن فيها جوعة إلى الضبط، فمن لن يضبطها بالحق والنور دعته نفسه لضبطها بالزور.
     وأيضا فقد تكرر في هذه السورة الضبط على أنحاء، حتى جاء ذكر الضبط المؤقت، وهو ضبط المُحْرمين، فضبطت القوة الشهوانية للمحرمين، ولهذا ذكر الله في هذه السورة أحكام ما يجتنبه المحرم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)، فالإنسان بحاجة إلى أن يضبط، ثم إنه يترقى في ذلك، فيمر عليه أحوال وأزمان وربما أماكن كما في الحرم يحتاج فيها أن يمتنع من محرمات يترقى بذلك من ثقلة الأرض وترابيتها إلى السماء.
     وفي ختام هذه السورة العظيمة جاء ذكر قصة جليلة نعى الله فيها ولام وعتب على النصارى، الذين سألوا نبيهم مسألة، لم تكن كمسألة اليهود، حين سألوا كتابا لينظروا، لكن لأنهم أمة شهوانية، قالوا: (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)!، وتكاد تنطق لي الآيات بعظيم من المعاني من هذه القصة وعلاقتها بالقوة الشهوانية ثم لا تستمسك معي بجلاء، ولكن المقصود أنه قد جاءت فتنتهم من هذا النحو، وهم إلى يومنا هذا تغلب عليهم القوى الشهوية، فإن غالب الفساد الذي مادته الشهوات إنما يخرج اليوم من أمة النصارى، وقد قال ابن تيمية رحمه الله في هذا: "ﻭﻏﻠﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﺮﻭﻡ اﻟﻘﻮﺓ اﻟﺸﻬﻮﻳﺔ ﻣﻦ اﻟﻄﻌﺎﻡ ﻭاﻟﻨﻜﺎﺡ ﻭﻧﺤﻮﻫﻤﺎ ﻭاﺷﺘﻖ اﺳﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻬﻢ اﻟﺮﻭﻡ ﻓﺈﻧﻪ ﻳﻘﺎﻝ: ﺭﻣﺖ ﻫﺬا ﺃﺭﻭﻣﻪ ﺇﺫا ﻃﻠﺒﺘﻪ ﻭاﺷﺘﻬﻴﺘﻪ. ﻭﻏﻠﺐ ﻋﻠﻰ اﻟﻔﺮﺱ اﻟﻘﻮﺓ الغضبية ﻣﻦ اﻟﺪﻓﻊ ﻭاﻟﻤﻨﻊ ﻭاﻻﺳﺘﻌﻼء ﻭاﻟﺮﻳﺎﺳﺔ ﻭاﺷﺘﻖ اﺳﻤﻬﺎ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ ﻓﻘﻴﻞ ﻓﺮﺱ ﻛﻤﺎ ﻳﻘﺎﻝ ﻓﺮﺳﻪ ﻳﻔﺮﺳﻪ ﺇﺫا ﻗﻬﺮﻩ ﻭﻏﻠﺒﻪ".
والحمد لله.