الخميس، 30 أبريل 2020

المداواة القرآنية لآفات الانتصار، من خلال سورة الأنفال

     

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
(فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ)
‏هكذا استهلت سورة الأنفال!
وهي السورة التي نزلت عقب اليوم التاريخي العظيم، عقب الانتصار على الكفار في أول وقعة بين الحق والباطل!
هكذا خوطب أهل بدر في أول هذه السورة!
‏أتدري من هؤلاء؟
‏إنهم الأطهار!
إنهم خيرة أهل الأرض في زمنهم بعد نبيهم!
إنهم الذين مرّغوا أنف الكفر للتوّ في غزوة الفرقان!
‏إنهم الذين اطّلع ﷲ عليهم فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»!
‏ومع هذا تتنزل عليهم: (فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ)، فإنه ليس هناك أحدٌ في غنى عن الموعظة بالتقوى.
لما وقعت موقعة بدر نزلت سورة الأنفال، تزجي الصف، وتلم الشعث، وتسد الخلل، وتزكي القلوب، وتداوي النفوس من آفات الانتصار!
فكما أن الهزيمة تحتاج معها النفوس المجروحة لمواساة، والقلوب النازفة لمداواة؛ ولذا تنزلت سورة آل عمران بعد أحد، تمسح آثار الألم وتزكي النفوس بعد الكسرة.
فكذلك تحتاج النفوس مع النصر والفتح إلى تطهير وتربية! فلذا تنزلت سورة الأنفال!
والنفس البشرية لها منعرجاتها، وآفاتها، وأدواؤها، بحسب طبيعتها، وبحسب تربيتها، وبحسب ما يعرض لها من أحوال وابتلاء، فهي تحتاج للعلاج في حال النصر وفي حال الهزيمة، في حال السرور وفي حال الحزن، في حال العافية وفي حال البلاء.

ثم من الذي قال: إن الطائفة المنتصرة، والجماعة الظافرة لا تحتاج لتنبيه، ولا تعوزها تربية بعد انتصارها؟
إن الهزيمة في المعركة أو الانتصار فيها ليس آخر الشأن، ‏إنما الشأن كيف تكون القلوب بعد الهزيمة، وكيف تكون بعد النصر!
ف‏القلوب التي عرفت سبب هزيمتها، ثم لم تهن ولم تنكسر ليست مهزومة، وهكذا كانت سورة آل عمران.
‏والقلوب التي لم يطغها النصر، ولم تغيّرها غنائمه هي التي انتصرت حقًا، وهكذا نزلت سورة الأنفال.
و‏سنرى هنا كيف جاءت الهداية الربّانية بتزكية الصحابة، وتربية المؤمنين، للسلامة من الآثار التي قد تعْلَق بقلوبهم بعد النصر وعلو الراية!

• ففي صدر السورة جاءت هداية الوحي تُحذّر المؤمنين من التنازع على الدنيا بعد النصر والظفر، حين اختصموا على الغنائم، فقال ﷻ: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُوا۟ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ).
هكذا في أوّل السورة أتى التحذير من تشوّف النفس للدنيا بعد الفتح والغنيمة، فجاءت الآية:
- بالأمر بالتقوى.
- وبالأمر بإصلاح ذات البين.
- الأمر بطاعة ﷲ ورسوله.
- ونزل الحكم الربّاني بأن الأنفال ليست لكم! وليس لكم من الغنيمة شيء!
إن حب الدنيا والميل لها وإرادة عرضها مركوز مغروز في النفوس، ثم تأتي أحوال، تزيد حبها في النفس، وتثير كوامن سكونه، فتحضر فيها المشاحة، وتحصل عليها الخصومة، ومن تلك الأحوال حال النصر والفتح وحصول الغنائم، فأتت التربية القرآنية بالوصية بالتقوى، لأن التقوى تعلي الهمة، وتزهّد في الدنيا، وتقوي الإيثار، وتعظم الرغبة في الآخرة.
ولا يمكن للقلب أن يرتفع عن الهبوط في المنافسة على الدنيا إلا بالتقوى، وصلاح السريرة، وهذه التقوى هي ذريعة إصلاح ذات البين، وهي باب طاعة الله ورسوله.
ولما حصلت الخصومة على الغنيمة لم يكتفِ العلاج القرآني بالأوامر الشرعية العبادية من التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة ﷲ ورسوله؛ حتى جاءت التربية القرآنية بالحرمان! فأتى الحكم الرباني بمنع الغانمين من الغنيمة، وحرمانهم منها.
ثم ما الغنائم؟ وما كنوز الأرض عند هذا الحدث الهائل! الذي سماه ﷲ (يوم الفرقان)
ماذا تزن أموال الدنيا إذا قورنت بما حدث في هذا اليوم الفاصل بين الحق والباطل، الذي يبلغ في فضله أن يبقى متصلًا في أحداثه إلى يوم القيامة! كما روى البخاري ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻧﺎ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﺠﺜﻮ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﻟﻠﺨﺼﻮﻣﺔ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ»، وفي الصحيحين عن أبي ﺫﺭ أنه كان يقسم ﻳﻘﺴﻢ ﻗﺴﻤًﺎ: (ﺇﻥ آية: (هَـٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُوا۟ فِی رَبِّهِمۡۖ) من سورة الحج، ﻧﺰﻟﺖ ﻓﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺮﺯﻭا ﻳﻮﻡ ﺑﺪﺭ، ﺣﻤﺰﺓ، ﻭﻋﻠﻲ، ﻭﻋﺒﻴﺪﺓ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ، ﻭﻋﺘﺒﺔ، ﻭﺷﻴﺒﺔ اﺑﻨﺎ ﺭﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﺘﺒﺔ)!
ولكن لما كان الحرمان ليس مقصودًا، فبعد أن تهذّبت النفوس، وتطهّرت وعلمت أن ليس لها شيء، وتحقَّقت أن الغنيمة ليست مقابل جهد وبذل وعناء، ولكنها كرامة من ﷲ، ومنحة من الكريم ونفحة منه وعطاء، كما أن النصر والفتح منحة من الله ونفحة منه، فبعد ذلك تفضّل بها الرحيم ﷻ عليهم، وردها لهم، ونزلت بعد أربعين آية: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ).
والتنبيه على هذا الأمر من المعاني التي كثر دورانها في سورة الأنفال، حتى كادت السورة كلها أن تكون في هذا الأمر، فجاء التذكير مكررًا بأن النصر من ﷲ وحده، وأن الفتح منه ﷻ بلا طول ولا حول من العباد، ليتأكد عند المؤمن التعلّق بالله وعدم الإعجاب بالنفس، وقد جاء في كثير من الآيات على أنحاء:
‏- فكان أوله ذلك التنبيه العجيب، الذي ذكّر ﷲ فيه المؤمنين كراهية بعضهم ملاقاة العدو: 
(كَمَاۤ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَیۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ لَكَـٰرِهُونَ)!
نعم!
لقد كرهتم أيها المنتصرون اليوم، ملاقاة العدو بالأمس!
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ)!
أيها البدريّون، يا أصحاب الفرقان، يا أهل الراية، لا تنسوا أنكم كنتم تريدون الأمر سهلًا، وتطلبونه بلا شوكة!
كنتم تريدون أمرًا صغيرًا محدودًا، وكان ﷲ يريد أمرًا عظيمًا يمتد في عظمته إلى السماء، إلى الملائكة، فيقول جبريل -كما في البخاري- للنبي ﷺ: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين»، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة.
كانوا يريدون قافلة تُغنم غنائمها وحسب، وكان ﷲ يريد نصرًا علويًا، يقطع فيه دابر الكافرين، ويظهر راية المؤمنين، ويرتفع بأسهم، ويصبح تاريخًا ترتوي منه الأجيال المؤمنة عزًا وإقدامًا.
ولتعلم الأجيال أن النصر ليس بالعدد والعدة.
ولتعلم أن المواجهات الأولى مع الباطل ليست كغيرها.
وأن السابقين في مقارعة الطغيان ليسوا كغيرهم.
وغير ذلك من دروس هذا النصر العظيم.
هكذا كانت يريد فريق من المؤمنين، وهكذا كان يدبر لهم ربهم.
فهل بعد ذلك سيجد الفخر بالنصر في قلوبهم الطاهرة موضعًا؟
وهل سيُدِل المنتصر بنصرٍ كان كارهًا للإقدام على معركته في أول أمره؟
وبعد هذا فهنا موعظة!
أرأيت كيف تكشف لنا السورة عن جانب من ضعف النفس ورجفتها عند المواجهة!
إن الإنسان يجهل نفسه كثيرًا، وتخفى عليه عيوبها، حتى إذا غامر، وشقّ التجربة تكشفت له نفسه على ما هي عليه، فتبين له منها ما لم يكن يعلم، فعاد عليها بالتأديب والتزكية والتربية، بعد أن أبصر مواضع الخلل ومغامز النقص.
وهذا المعنى الذي جاءت به السورة فيه تنبيه للمؤمنين لجلال التدبير الإلهيّ، وتذكيرهم بعظيم الحكمة الربّانية فيما يقضيه من أقداره على هذه الأمة، ليقارنوا ذلك بتدبيرهم هم، ورأيهم، ورغائبهم: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَیُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ).
سيمرُّ بك في حياتك مواقف كبرى تكره فيها أمرًا مما ينزل بالأمة، ستتمنى خلافه، وتود لو كان الأمر كذا وكذا، ثم تتكشف لك الحجب بعد أن تمضي الأيام لترى عظيم تدبير ﷲ للأمة، وحكمته ورحمته بها.

و‏من ذلك أنَّ ﷲ ذكّر المؤمنين بالجنود الربانية والمعونات الإلهية، التي أمدّهم بها في هذه الغزاة، كالإمداد بالملائكة: (إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّی مُمِدُّكُم بِأَلۡفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُرۡدِفِینَ).
ثم لم يمضِ السياق حتى يبيّن أن ذلك المدد الملائكي -أيضًا- ليس يغني شيئًا إلا بإذن ﷲ وأمره وإرادته: (وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَىِٕنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ).
لقد تنزّلت الملائكة، وقاتلت مع المؤمنين كما ثبت في الصحاح، ومع هذا ينبه ﷲ المؤمنين أنّ النصر من عند ﷲ، وأنّ كل هذه الأسباب ليست تغني من دون ﷲ.
ومنه جندي النوم والنعاس، كما في قوله: (إِذۡ یُغَشِّیكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةࣰ مِّنۡهُ)!
ألم يأتِ عليك يوم من الهم الكظيم، والكرب الشديد، والخوف من التربّص، فهدأت نفسك بنومة خفيفة نفضت عنك الخوف والاضطراب؟
ومنه نزول المطر: (وَیُنَزِّلُ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ لِّیُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَیُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ وَلِیَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَیُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ
ومنها الامتنان بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، في قوله ﷻ: (سَأُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعۡبَ)، والرعب جندي من جنود ﷲ، يرسله على قلوب أعدائه، فتضعف عن ملاقاة المؤمنين، وتهتزّ أمام ضرباتهم.
ومن ذلك طمأنة المؤمنين بتقليل أعداد الكفار في نظرهم: (إِذۡ یُرِیكَهُمُ ٱللَّهُ فِی مَنَامِكَ قَلِیلࣰاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِیرࣰا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ).
ومن جليل ذلك أن ﷲ ﷻ خاطب رسوله ﷺ وصحابته، بأن ذلك النصر والقتل والإثخان ليس من جهد العباد، ولا من قوتهم، فقال: (فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ).
بل إن خطة المعركة، وترتيب التقائها كان يرعاه لهم ربهم: (إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡمِیعَـٰدِ).
ثم يبلغ الحديث غايته وهو يذكر المؤمنين بضعفهم وقلّة عددهم وحيلتهم واستضعافهم، يذكرهم بالأيام الخاليات، حين كان المؤمنون بمكة يستضعفون ويعذبون ويقهرون، ثم هاهم اليوم يضربون هامات المتسلطين، وكل ذلك بفضل الله وتأييده وفضله: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).
ومن اللطيف أنه قد أصبح التذكير بذلك سببًا للاستجابة لأمر ﷲ في شأن كقسمة الغنائم، فإنّ ﷲ لما ذكر ما ناله المسلمون من الغنائم، وذكر قسمتها على النحو القرآني استدعى استجابتهم لهذه القسمة بتذكيرهم بما كان من فضله ﷻ عليهم بالنصر، فقال بعد الأمر بتقسيم الغنيمة: (إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ).
ومنه: (وَإِن یُرِیدُوۤا۟ أَن یَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَیَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِینَ)
ثم تكرر هذا المعنى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ).
ثم عاد السياق في آخر السورة مذكرًا بالضعف البشري: (ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚك).

• ومن الأمور التي نبّهت عليها السورة موعظة المؤمنين في نفوسهم بالتقوى والإنابة والاستجابة لأمر الله: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ).
فالدعوة للجهاد ومواجهة الباطل هي الحياة!
فإن الأمة تحيا بذلك من الذل الذي يركبها فيعسفها.
والأمة تحيا بذلك فتملك أمرها، وتستقل بإرادتها، وتنفرد عن ضغطة عدوها.
والأمَّة تحيا بذلك فترهب جنابها.
وما أحلى ما عقبت به هذه الآية، حين قال ﷻ: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).
كنتم قبل دعوة الحياة هذه مستضعفين لا يباليكم أحد باله.
كنتم قليلًا تخافون الخطفة.
ثم أنتم بعد الدعوة تحيون حياة يؤويكم ﷲ فيها، وكفى به من فضل!
فلتحذروا من العوائق التي تعوق السير، وتثبط القافلة، ولذا جاء التعقيب بعد ذلك بقوله: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ)!
وكم كان حب الولد والمال حائلًا عن المشاهد، مجبنًا عن المواجهة!

• ومما جاء في هذه السورة التحذير من أدواء الانتصار:
ومنها فتنة المال والمغنم وانفهاق الدنيا.
(وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ)، (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ)، (تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ)!
أيها البدريون! إن معركتكم هذه معركة يدبرها ﷲ لكم، ويؤيدكم، وينصركم، إنها معركة في معية الله وتسديده، فلتحذروا أن تلتفتوا للدنيا، ولعرضها.
ثم جاء تحذير المؤمنين من الفخر والخيلاء، (وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ خَرَجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بَطَرࣰا وَرِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ)، وكيف يفخر المؤمن وهو يعلم أن التوفيق من ﷲ، وأن النصر من عنده، وأن التدبير بيده؟

• وفي طيّ هذه الآيات جاءت تنابيه قرآنية ببعض قواعد أهل الإيمان في الحرب، ممزوجة بالتأكيدات الإيمانية الوعظية:
- فجاء في أول السورة، بعد الاختصار القرآني لأحداث غزاة بدر، وما منّ ﷲ به عليهم من المدد الرباني والجند الرحماني، جاء قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ زَحۡفࣰا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ)، إن التعقيب بحكم الفرار من الزحف بعد ذكر الأمداد الإلهية للمؤمنين، يضعه موضع التعليل لكونه موبقة من الموبقات!
ألستم تعلمون أن النّصر من عند ﷲ، فكيف تفرون؟
أليست جنود السماء تقاتل مع جند ﷲ في الأرض، فلم الفرار!
أليست معيّة ﷲ للمؤمنين؟ فكيف تولون الأدبار؟
من أجل ذلك كان الفرار من الزحف جريمة عظمى، وموبقة من الكبائر!
على أن السياق القرآني أعطى لهذه الجريمة وصفًا تخبثه النفوس الحرّة، وتقذره الأفئدة الأَبيّة: (تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ)، (یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُ)!
هكذا يصف القرآن هيئة الفارّ، ويذكر صفته، فتتعاون الزواجر والألفاظ والمؤكدات الوعظية للزجر عن هذه الموبقة.
والحديث في هذه السورة يطول، ولعل لي عودة إليها بإذن ﷲ.
 كتبه: أبو المثنى، ٧/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط.

الثلاثاء، 28 أبريل 2020

فوائد دعوية من قصة الداعية في سورة (يـس)

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد: 
فمن قصص القرآن الدعوي قصة ذلك الرجل الصالح، التي ذكرها ﷲ في سورة يس، وهي قصة من قصص البذل في الدعوة، والتضحية في ذات ﷲ.
قصة من قصص تحمل الأعباء، واستشعار المسؤولية الحرّة.
قصة حرارة الاستجابة، وهم البدار للإصلاح، وعدم التراكن والتواكل.
ولقد جاء فيها من معالم الدعوة، وهدايات الإصلاح ما يؤنق المؤمن أن يقف معها، وأن يتدبرها ويتأملها.

• قال ﷻ: (وَجَاۤءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ رَجُلࣱ یَسۡعَىٰ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ).
هكذا تستهل القصة بذكر ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻹﻳﻤﺎﻥ إذا خالطت بشاشته القلوب، فتتحرك هذه الحقائق، ولا تقعد حبيسة في الضمير.
وكيف يجلس في بيته ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻯ اﻟﻀﻼﻝ ﻭاﻟﻔﺠﻮﺭ؟
فالعقيدة الوثّابة ﻓﻲ ﺿﻤﻴﺮﻩ ﺗﺠﻲء ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻗﺼﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﺼﺎﻫﺎ، وهنا أول المعالم الدعوية في هذه القصة:
لقد بعث ﷲ لهذه المدينة، وفي هذه القرية ثلاثة من المرسلين، ولكن الداعية المصلح لا يقف دون أن يشارك في بناء الدعوة، إن المؤمن لا يمنعه وجود الأفضل والأولى من أن يدافع عن الحق، إنه لا يقول: أأتكلم وقد بعث ﷲ ثلاثة أنبياء! 

•  ومن المعالم الدعويّة في هذه القصة، أن هذا الداعية المصلح أتى من أقصى المدينة، ولم تمنعه بُعد الشقة أن يقف دون بذل للدعوة وسعي للإصلاح.
ولعل في قوله: (ﺃﻗﺼﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ) اﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ اﻹﻳﻤﺎﻥ بدعوة الرسل ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ ﺭﺑﺾ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ وأطرافها ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻷﻥ ﻗﻠﺐ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻫﻮ ﻣﺴﻜﻦ ﺣﻜﺎﻣﻬﺎ وكبرائها ومن يتبعهم، وأما الضعفاء فهم أتباع الرسل.

• ومن المعالم الدعويّة أن الله وصفه في حال مجيئه لدعوة قومه بأنه أتى يسعى، وهو وصف ينبي عن الحث في النصح، والمبادرة للإصلاح، ونفي التثاقل، وعدم التواني في إنكار المنكر.

• ومن الفوائد الدعوية في هذه القصة المباركة أنّ الحياة كلها قد تختصر في موقف رشيد واحد، يقف فيه المؤمن وقفة صدق لله فيكون له السعادة الأبديّة.
وإلا فمن هو هذا الرجل الذي ذكر في سورة يس؟ أين تاريخُه ومنجزاتُه ومؤهلاته؟ كل ذلك لم يذكر! بل إن اسم هذا الرجل الصالح لم يذكر، بل لعل أنبياءه لا يعرفونه؛ لِمَا دلّ عليه التنكير في قوله ﷻ: (رجل يسعى)، ومع هذا كان في وقفته تلك، وثباته ذلك كان كافيًا لينال النداء العلوي العظيم: (ادخل الجنة).

• ومن المعالم الدعويّة في قصة الرجل الصالح، ذلك الخطاب المشفق بقوله: (قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) فافتتح ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺑﻨﺪاﺋﻬﻢ ﺑﻮﺻﻒ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻟﻪ، وﺇﺿﺎفهم ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺴﻪ، وهو تقريب لهم، ﻳﻔﻴﺪ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻬﻢ ﺇﻻ ﺧﻴﺮا، وأنه قد محضهم نصحه، فالإنسان غالبًا لا يتّهم في قومه وقرابته.

• ومن المعالم الدعوية العظيمة في هذه القصة، ما دل عليه قوله ﷻ: (ٱتَّبِعُوا۟ مَن لَّا یَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرࣰا وَهُم مُّهۡتَدُونَ).
فذكر أنه إنما يقوم مانع اتباع صاحب الدعوة والمعتقد والمبدأ بأمرين:
- إذا دل الدليل أنه يريد أن يجر نفعًا دنيويًا وَحظّا ماديّا لنفسه.
- أو إذا دلت المشاهدة على سوء فعله وشين طريقته.
فإذا رأوا أن هؤلاء الأنبياء لا يطلبون مغنمًا دنيويًا ولا يلتمسون مطلبًا ماليًا، ﻓﻤﺎ اﻟﺬﻱ يحملهم ﻋﻠﻰ مكابدة أعباء الدعوة؟
وﻣﺎ اﻟﺬﻱ يدفعهم ﺇﻟﻰ ﺣﻤﻞ ﻫﻢ اﻟﺪﻋﻮﺓ؟ وما الذي يصبرهم على مواجهة الخلق ﺑﻐﻴﺮ مألوفاتهم؟ إذا كان لا يطلب نفعا دنيويا.
أليس ذلك من لوائح الصدق ﻭاﻟﻨﺼﺢ؟
فهؤلاء المرسلين لا يطلبون مالًا، ولا يسألون أجرًا، ثم رأيتموهم في أنفسهم على خير هدي، وأنقى سلوك، وأرفع طريق.
وفي هذا موعظة للدعاة المصلحين، أن ينزهوا دعواتهم عن المطامع، وأن يرفعوها عن المنافع، فإن المصلح الحرّ يأنف أن يستطعم من وراء دعوته، وأن يجعلها مثابة تكسّب.

• ومن المعالم الدعويّة في هذه القصة، أنه قدم إزالة المانع بالتخلية قبل التحلية، فقدم الموعظة بتجرد الرسل عن حظ أنفسهم، ليزيل ﻋﻨﻬﻢ ﻫﺬﻩ اﻻﺳﺘﺮاﺑﺔ، لأن أهل الباطل يغلب ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺘﻌﻠّﻖ ﺑﺤﺐ اﻟﻤﺎﻝ، وهم ﺑُﻌَﺪاء ﻋﻦ ﺇﺩﺭاﻙ اﻟﻤﻘﺎﺻﺪ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ، فيظنون أن أحدًا قد يأتي الشيء إلا لحظ نفسه، فإذا تحققوا أنهم لا يريدون مكسبا وأجرا دنيويا، تجرّدوا وتهيؤوا لتلقي الهداية عن الرسل بعد إزالة المانع، فعلموا هداية الرسل، وهذا أدب دعوي بالسعي لإزالة موانع الاستجابة للدعوة ثم السعي للدعوة.

• ومن المعالم الدعوية في هذه القصة أن هذا الداعية الصالح ترفّق في دعوة قومه حتى التفت عن مخاطبة قومه وعدل إلى الخبر عن نفسه، فأسمعهم اﻟﺤﻖ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ أقرب للقبول، ﺣﻴﻦ ﻳﺮﻭﻥ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻬﻢ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻨﻔﺴﻪ، فقال: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ).
وأيضًا فلم يواجههم بالاستفهام الذي قد يغري فيهم المعاندة، ويستفز الجدل، فلو قال: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم)، لربما ذلل لهم بسؤاله أن يحاوروه حوار مكابرة، ولقد رأيت مثل ذلك في جدال أهل الباطل، إذا ألقيت عليهم المسائل كابروا في الجواب أنفَة من الانقطاع.

• ومن المعالم الدعويّة أنه ذكر على استحقاق الله للعبادة أمرين:
- أنه الخالق الفاطر.
- وأن إليه المرجع والمآب.
وذلك لأن قومه لم يكونوا منكرين للخالق ولا للخلق.
وفي قوله: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی)، استفهام ينكر فيه ترك عبادة المعبود ﷻ، فإن اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻤﻌﺒﻮﺩ ﻇﺎﻫﺮ ﻻ ﺧﻔﺎء ﻓﻴﻪ، فكيف يقع الامتناع عن ذلك.
وتأمل هذا الاستفهام النقي! الذي تدعو له الفطرة، فتساءل باستنكار عن ترك عبادة الخالق ﷻ.
• ثم من اللطائف الدعويّة أن هذا الداعية الصالح حين ذكر قضية الخلق تحدث عن باعث نفسه، فقال: (ٱلَّذِی فَطَرَنِی)، ثم عاد فأتى بالضمير الذي يخاطبون به فقال: (وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ).
وذلك - والعلم عند ﷲ- لأن النَّاس في بواعث العبادة أنواع:
فمنهم من يعبد ﷲ إجلالًا له، لأنه خالقه وفاطره وربه، فهو في عبادته مستحضر لمنّة ﷲ عليه، قد استولى عليه شهود المنّة حتى لو لم يكن هناك حساب ولا عقاب لكان قائمًا بعبادة ربّه، فإذا انضاف إلى ذلك نذارة النذر كان متعبدًا لله محبةً وخوفًا، فلما كان هو من هذا النوع ذكر الخطاب لنفسه فقال: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی).
وهناك من الناس من يبعثه على العبادة باعث الرهبة والخوف من الحساب فحسب، فكأنَّه لمح ذلك في أصناف المدعوين، فلما دعاهم لاستحقاق ﷲ العبادة ذكرهم بمآبهم لربهم، وخوفهم رجوعهم إليه، فقال: (وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ)، وفيه موعظة للدعاة والمصلحين؛ أن يتربصوا من الأدلة والمواعظ ما يناسب المدعو، ويصلحه، ويكون معه أقرب للاستجابة.

ثم لم يزل يخبر عن نفسه، مبتعدا عن مواجهتهم بما ينفرهم فقال: (ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةً إِن یُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَـٰنُ بِضُرࣲّ لَّا تُغۡنِ عَنِّی شَفَـٰعَتُهُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یُنقِذُونِ).
ثم تأمل كيف قال وهو يخبر عن قدرة ﷲ في إنزال البأس والضر به أو بغيره: (إِن یُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَـٰنُ بِضُرࣲّ)، فأتى معه باسم الرحمن، كأنما غلب ذكر الرحمة على خطابه حتى لما تحدث عن إرادة الله الضر، ولقد تكرر مجيء اسم الرحمن في السورة أكثر من غيره من أسماء الله، كأنما هذه السورة خصيصة برحمة الدعاة والمصلحين بالمدعوين.

• ومن المعالم الدعويّة في القصة؛ تلك الملاطفة الرقيقة حين لم يواجه قومه بالتضليل، كما في قوله: (إِنِّیۤ إِذࣰا لَّفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ)، فعدل عن مخاطبة قومه بتهمة الضلالة، ولم يقل: إنكم في ضلال، ولو قالها لصدق، ولكنه غلّب جانب اللين، فعاد يخبر عن نفسه، أن لو وقع منه هذا لكان في ضلال مبين.

• ومن الفوائد الدعوية في دعوة ذلك المصلح أنه ختم دعوته لهم بكلام يدل على أنه دعاهم دعوة متفكر مترو، فقال: (إِنِّیۤ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ).
ﻫﻜﺬا يلقي عليهم كلمة اﻹﻳﻤﺎﻥ واثقًا قويًا مطمئنًا، كأنما يريد أن يشهدهم ﻋﻠﻴﻬﺎ مَشهدَ مَن تأمل في كلامه ووثق فيه وجزم به.

• ثم ماذا؟
لقد زالت المحنة، وذهب التعب، وانقضى الألم، وراح كل هم وحزن وأسى!
وانتهت معه صولة الباطل، وذهبت روعة التهديد.
وخرج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الجنة!
فينادى باختصاصٍ يدل على تعظيم شأنه. 
(قِیلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ)!
ها هو في نعيم الجنة، وبهجتها وسرورها!
لكنه يتذكر الدعوة وهمومها، ويبقى مشفقا متحننا على قومه، يذكرهم ﻃﻴﺐ اﻟﻘﻠﺐ ﺭﺿﻲ اﻟﻨﻔﺲ متجردًا من كل غضب وحنَق، فقال: (قَالَ یَـٰلَیۡتَ قَوۡمِی یَعۡلَمُونَ۝ بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِینَ).
هذا مع أن قومه قتلوه كما جاء عن عدد من الصحابة، وكما دل عليه السياق حين جاء الأمر ﺑﺪﺧﻮﻝ اﻟﺠﻨﺔ دون اﻧﺘﻘﺎﻝ وتفصيل، وهي خصيصة الشهداء الذين يدخلون الجنة بغير تراخٍ.
 فلم تحتمله دوافع الانتقام لتمني هلاك قومه، ولا الشماتة بهم، ولم تلهه نعماؤه في الجنة أن ينسى همّه الدعوي، فظلّ متصلًا بالدعوة وشغلها وهمّها.
و تأمل قوله: (بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِینَ)، فهو نظير قوله ﷻ: (لهم مغفرة ورزق كريم)
فإن العبد بين ذنب يعوز مغفرة، وطاعة يرجو بها الكرامة.

• وأخيرًا، تختم القصة، بختام يُستخف فيه بأهل الطغيان!
لقد كانوا أهون من أن تجنّد عليهم جنود السماء من الملائكة، فقال ﷻ: (وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ)!
ولكن أرسل ﷲ عليهم صيحة أخمدتهم وكفى، (إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ فَإِذَا هُمۡ خَـٰمِدُونَ).
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.

كتبه: أبو المثنى، ٥/ ٩/ ١٤٤١ هـ

الاثنين، 27 أبريل 2020

الاقتران القرآني


بسم ﷲ الرحمـن الرحــيـم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمن بديع نظم القرآن الذي لا تزيغ عنه عين القارئ المتدبر؛ الاقتران بين الكلمات والصيغ والجمل، وهو أسلوب نظمي ظاهر جدًا في القرآن، يؤتى به لغرض توسيع الدلالة، فيحصل لقارئ القرآن زيادة إفادة المعنى، كما سترى من أمثلته بإذن ﷲ.
فيتأمل القارئ اقتران المقترنات ويتأمل تقدم أحد المقترنين وتأخر الآخر، ويتأمل جمعه وإفراده، وتنكيره وتعريفه، على ما سترى من أمثلة بإذن ﷲ.

• وأولى ما يلفت نظر المتدبر للقرآن؛ ذلك الاقتران بين أسماء ﷲ وصفاته في مواطن كثيرة جدا في القرآن، وهو موضع أفيح وموطن رحب، فإن كل اسم وصفة يفيد معنى على حياله، فإذا اقترن اسمان أو صفتان من أسماء ﷲ وصفاته تضمن زيادة فائدة، فكل اسم له ﻛﻤﺎﻝ ﺑﻤﻔﺮﺩﻩ، ثم يحصل بالاقتران ﻛﻤﺎﻝ آخر، ثم يكون إفادة اقترانهما في كل آية بحسب ما تقتضيه الآية هذه.

• فبعد أن جاء الأمر بنفقة الطيّب في سبيل الله وعدم إنفاق الرديء ختمت الآية بقوله ﷻ: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ غَنِیٌّ حَمِیدٌ)، ﻓﺎﻟﻐﻨﻰ ﺻﻔﺔ ﻛﻤﺎﻝ، ﻭاﻟﺤﻤﺪ ﺻﻔﺔ ﻛﻤﺎﻝ، ﻭاﻗﺘﺮاﻥ ﻏﻨﺎﻩ ﺑﺤﻤﺪﻩ ﻛﻤﺎﻝ ﺃﻳﻀًﺎ.
فإنه ليس كل غني محمود في غناه، بل كمال المدح في الغنى أن يكون محمودا في غناه.

- واقتران اسم ﷲ الواسع باسمه العليم: (وَ ٰ⁠سِعٌ عَلِیمٌ)، في ختام آية مَثَل الصدقة: (مَّثَلُ ٱلَّذِینَ یُنفِقُونَ أَمۡوَ ٰ⁠لَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتۡ سَبۡعَ سَنَابِلَ فِی كُلِّ سُنۢبُلَةࣲ مِّا۟ئَةُ حَبَّةࣲۗ وَٱللَّهُ یُضَـٰعِفُ لِمَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰ⁠سِعٌ عَلِیمٌ)
فاسم الواسع مدح وكمال، واسم العليم مدح وكمال، واقترانهما كمال.
فإن فضل ﷲ واسع عظيم، ولكنّ هذا الفضل الواسع لا يؤتاه إلا من علم ﷲ أنه مخلص في صدقته، قد أراد بها وجه ﷲ، فالله ﷻ عليم بمن يستحق عطاءه الواسع.
ومثل ذلك ما ختمت به آية تملك طالوت على بني إسرائيل فقال نبيهم لهم: (إِنَّ ٱللَّهَ ٱصۡطَفَىٰهُ عَلَیۡكُمۡ وَزَادَهُۥ بَسۡطَةࣰ فِی ٱلۡعِلۡمِ وَٱلۡجِسۡمِۖ وَٱللَّهُ یُؤۡتِی مُلۡكَهُۥ مَن یَشَاۤءُۚ وَٱللَّهُ وَ ٰ⁠سِعٌ عَلِیمࣱ)، فالله واسع العطاء يعطي من يشاء المُلك الصالح، لكنه عليم بمن يستحق هذا العطاء.

- ومن ذلك اقتران اﺳﺘﻮائه ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺮﺵ باسم الرحمن ﻛﺜﻴﺮًا، ﻛﻘﻮﻟﻪ ﷻ: (ٱلرَّحۡمَـٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ)، ﻓﺎﺳﺘﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﻋﺮﺷﻪ ﺑﺎﺳﻢ اﻟﺮﺣﻤﻦ، ﻷﻥ اﻟﻌﺮﺵ ﻣﺤﻴﻂ ﺑﺎﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ ﻗﺪ ﻭﺳﻌﻬﺎ، ﻭاﻟﺮﺣﻤﺔ ﻣﺤﻴﻄﺔ ﺑﺎﻟﺨﻠﻖ ﻭاﺳﻌﺔ ﻟﻬﻢ، ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (وَرَحۡمَتِی وَسِعَتۡ كُلَّ شَیۡءࣲۚ).
ﻓﺎﺳﺘﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﺃﻭﺳﻊ اﻟﻤﺨﻠﻮﻗﺎﺕ بأوسع اﻟﺼﻔﺎﺕ.

- ومن عظيم الاقتران الذي جاء في ذلك، اقتران اسم الغفور بالشكور في مواطن، قال ﷻ: (لِیُوَفِّیَهُمۡ أُجُورَهُمۡ وَیَزِیدَهُم مِّن فَضۡلِهِۦۤۚ إِنَّهُۥ غَفُورࣱ شَكُورࣱ)، وذلك لأن العبد بين أمرين، بين ذنب وطاعة، بين ذنب يفتقر فيه للمغفرة، وطاعة يطمع من ربه فيها الشكر، فالله يغفر الذنب والتقصير، ويشكر على الطاعة.
ثم تأمل أنها جاءت في القرآن بتقدم اسم الغفور على الشكور، لأن العبد لا يزال خائفًا من شؤم ذنبه وجلًا من العقوبة.

- وعلى هذا النحو جاء أيضا اقتران المغفرة بالثواب في مواطن، منها قوله ﷻ (إِلَّا ٱلَّذِینَ صَبَرُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُم مَّغۡفِرَةࣱ وَأَجۡرࣱ كَبِیرࣱ)، فوعدهم ربهم بأمرين قرنهما في كتابه، وعدهم المغفرة والأجر، واقترانها لما ذكرتُ سابقًا من أن العبد بين معصية وحسنة، يفتقر معهما لمغفرة الذنب، وأجر الطاعة.
ثم انظر أن ذكر المغفرة تقدم على ذكر الأجر، لما سلف في نكتة تقدم اسم الغفور على اسم الشكور.

• ومنه اقتران الهدى والرحمة في أكثر من تسعة مواطن في القرآن، ومنها قوله ﷻ: (هَـٰذَا بَصَـٰۤىِٕرُ لِلنَّاسِ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣱ لِّقَوۡمࣲ یُوقِنُونَ)، وذلك لأن أعظم الرحمة أن يرزق العبد الهدى، ولهذا لما ذكر ﷲ دعاء الراسخين في العلم في سورة آل عمران، بعدما ذكر الآيات المتشابهات التي يتبعها من في قلبه زيغ، قال: (رَبَّنَا لَا تُزِغۡ قُلُوبَنَا بَعۡدَ إِذۡ هَدَیۡتَنَا وَهَبۡ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحۡمَةًۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلۡوَهَّابُ)، فسألوا الثبات على الهدى، وعقّبوه بطلب الرحمة.

• ومنه اقتران بعض الشرائع، كاقتران العبادة بالتوكل، وقد اقترنتا في نحو سبعة مواطن في القرآن، (إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ)، وقوله ﷻ: (فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَیۡهِۚ)، وذلك أن تكاليف العبادة لا يقوم بها إلا ذو توكل على ﷲ، ومن تخلف عنه التوكل والاستعانة في عبادته ابتلي بالعجب والانقطاع.
والناس في ذلك بين صاحب عبادة بلا توكل، أو صاحب توكل بلا عبادة، أو من ليس له توكل ولا عبادة، والكمال أن يجتمع للعبد التعبد مع التوكل والاستعانة.

- ومن لطيف ما جاء مقترنًا في القرآن، (وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَتَوَاصَوۡا۟ بِٱلۡمَرۡحَمَةِ)، فالناس ﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﺻﺒﺮ ﺑﻘﺴﻮﺓ، ﻭﻣﻨﻬﻢ ﻣﻦ ﻳﻜﻮﻥ ﻓﻴﻪ ﺭﺣﻤﺔ ﺑﺠﺰﻉ، ﻭالكمال اجتماع الصبر والرحمة وهي قليل في الناس، فاﻟﻤﺆﻣﻦ اﻟﻤﺤﻤﻮﺩ اﻟﺬﻱ ﻳﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﺼﻴﺒﻪ ﻭﻳﺮﺣﻢ اﻟﻨﺎﺱ.

- ومنه: اقتران الصلاة بالنسك والنحر، كما في قوله: (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَٱنۡحَرۡ)، وفي قوله ﷻ: (قُلۡ إِنَّ صَلَاتِی وَنُسُكِی وَمَحۡیَایَ وَمَمَاتِی لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ)، ﻭالنحر ﺃﺟﻞ اﻟﻌﺒﺎﺩاﺕ اﻟﻤﺎﻟﻴﺔ، والصلاة ﺃﺟﻞ اﻟﻌﺒﺎﺩاﺕ اﻟﺒﺪﻧﻴﺔ، وهاتان العبادات داﻟﺘﺎﻥ ﻋﻠﻰ قرب العبد وافتقاره وحسن ظنه بربه، ﻭاﻟﺘﻮاﺿﻊ ﻭاﻻﻓﺘﻘﺎﺭ ﻭﺣﺴﻦ اﻟﻈﻦ، قال ابن تيمية في حكمة هذا الاقتران: "ﻭﻣﺎ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻟﻠﻌﺒﺪ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻻ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻏﻴﺮﻫﺎ ﻣﻦ ﺳﺎﺋﺮ اﻟﻌﺒﺎﺩاﺕ ﻛﻤﺎ ﻋﺮﻓﻪ ﺃﺭﺑﺎﺏ اﻟﻘﻠﻮﺏ اﻟﺤﻴﺔ، ﻭﺃﺻﺤﺎﺏ اﻟﻬﻤﻢ اﻟﻌﺎﻟﻴﺔ، ﻭﻣﺎ ﻳﺠﺘﻤﻊ ﻟﻪ ﻓﻲ ﻧﺤﺮﻩ ﻣﻦ ﺇﻳﺜﺎﺭ اﻟﻠﻪ ﻭﺣﺴﻦ اﻟﻈﻦ ﺑﻪ ﻭﻗﻮﺓ اﻟﻴﻘﻴﻦ ﻭاﻟﻮﺛﻮﻕ ﺑﻤﺎ ﻓﻲ ﻳﺪ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮ ﻋﺠﻴﺐ ﺇﺫا ﻗﺎﺭﻥ ﺫﻟﻚ اﻹﻳﻤﺎﻥ ﻭاﻹﺧﻼﺹ، ﻭﻗﺪ اﻣﺘﺜﻞ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺃﻣﺮ ﺭﺑﻪ ﻓﻜﺎﻥ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﺼﻼﺓ ﻟﺮﺑﻪ ﻛﺜﻴﺮ اﻟﻨﺤﺮ، ﺣﺘﻰ ﻧﺤﺮ ﺑﻴﺪﻩ ﻓﻲ ﺣﺠﺔ اﻟﻮﺩاﻉ ﺛﻼﺛﺎ ﻭﺳﺘﻴﻦ ﺑﺪﻧﺔ ﻭﻛﺎﻥ ﻳﻨﺤﺮ ﻓﻲ اﻷﻋﻴﺎﺩ ﻭﻏﻴﺮﻫﺎ".

• ومن جليل ذلك الاقتران؛ الاقتران بين الجمل، كما في قوله تعالى: (ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ ٱلسَّیِّئَةَۚ نَحۡنُ أَعۡلَمُ بِمَا یَصِفُونَ۝ وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنۡ هَمَزَ ٰ⁠تِ ٱلشَّیَـٰطِینِ).
ونكتة ذلك أن للعبد عدوين، عدوا من الإنس، وعدوًا من الجن، فعدو الإنس يدفع بالملاطفة ومقابلة السيئة بالحسنة، وعدو الجن يستدفع بالاستعاذة، ولذا جاء بنحوه في سورة فصلت، فإن الله أمر بدفع أذى الإنسي فقال: (ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥ عَدَ ٰ⁠وَةࣱ كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیمࣱ)، ثم أمر بعده بدفع أذى الشيطان فقال: (وَإِمَّا یَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ نَزۡغࣱ فَٱسۡتَعِذۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ).

• ومنه ذلك الاقتران بين إقامة الدين وتوحيد الله عبادته، وبين الاجتماع وعدم الافتراق، قال ﷻ: (إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰ⁠حِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ)، وقال ﷻ: (أَنۡ أَقِیمُوا۟ ٱلدِّینَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا۟ فِیهِۚ)، فإن الشريعة لا تقوم إلا بتوحيد ﷲ والاجتماع على التوحيد، فيقام الدين في جماعة تقوم به وتدعو إليه وتجاهد عنه.

• ومنه اقتران خشية العالم لله بحفظه للدين وعدم التبديل، قال ﷻ: (وَإِنَّ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَمَن یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُمۡ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡهِمۡ خَـٰشِعِینَ لِلَّهِ لَا یَشۡتَرُونَ بِـَٔایَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَنࣰا قَلِیلًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ لَهُمۡ أَجۡرُهُمۡ عِندَ رَبِّهِمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِیعُ ٱلۡحِسَابِ)، فإن خشية ﷲ مانعة من تحريف الدين، وتغيير الشرائع.

• ومنه اقتران بعض الخلق ببعض، ومن لطيف ما جاء في ذلك؛ اقتران السمع بالأبصار، وقد حاء في مواطن، كقوله ﷻ: (وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنشَأَ لَكُمُ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡأَبۡصَـٰرَ وَٱلۡأَفۡـِٔدَةَۚ قَلِیلࣰا مَّا تَشۡكُرُونَ)
ولا عجب في اقتران السمع والبصر في القرآن، فهما طريقا الإدراك والعلم، 
ولكن اللطيف أن الأكثر أن يأتي في القرآن إفراد السمع وجمع البصر، وذلك مع كونه جار على مقتضى الفصاحة لخفة الإفراد في السمع وخفة الجمع في الأبصار، وهذه الخفة في الحروف والحركات والسكنات أمر يراعى كثيرا في القرآن، وهو مع ذلك لأن السمع يقع على شيء واحد، ولا يكاد الإنسان يصغي بانتباه إلا لشيء واحد إلا نادرا، بخلاف النظر والبصر فإنه يقع على المبصرات الكثيرة والموجودات المتعددة في المرة الواحدة واللمحة اليسيرة.
ثم قدم السمع على البصر، لعظم منفعة السمع في الدين والوحي، ولذا ترى التديّن فيمن فاته البصر  أكثر من التدين فيمن فاته السمع في غالب من ترى، فإن اﻟﻌﻴﻦ ﺗﻘﺼﺮ ﻋﻦ اﻷﺫﻥ، فإن العين ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺮﻯ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﺑﻬﺎ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺤﺎﺿﺮﺓ ﻭاﻷﻣﻮﺭ اﻟﺠﺴﻤﺎﻧﻴﺔ ﻣﺜﻞ اﻟﺼﻮﺭ ﻭاﻷﺷﺨﺎﺹ ﻓﺄﻣﺎ اﻟﻘﻠﺐ ﻭاﻷﺫﻥ ﻓﻴﻌﻠﻢ اﻹﻧﺴﺎﻥ ﺑﻬﻤﺎ ﻣﺎ ﻏﺎﺏ ﻋﻨﻪ ﻭﻣﺎ ﻻ ﻣﺠﺎﻝ ﻟﻠﺒﺼﺮ ﻓﻴﻪ ﻣﻦ اﻷﺷﻴﺎء اﻟﺮﻭﺣﺎﻧﻴﺔ ﻭاﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ اﻟﻤﻌﻨﻮﻳﺔ.
وأيضا فالسمع سابق في وجوده على البصر عند الطفل كما هو معلوم عند أهل التخصص.

• ومن ذلك اقتران القصص في القرآن، كاقتران قصة مريم وابنها مع قصة زكريا وآله، في سورة آل عمران، ومريم، والأنبياء، لمناسبتهما من جهة حصول الولد على غير العادة، ولذا تعجّب زكريا بمثل ما تعجبت مريم مستفهمين من حصول هذا الأمر، فقال زكريا: (رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی غُلَـٰمࣱ وَقَدۡ بَلَغَنِیَ ٱلۡكِبَرُ وَٱمۡرَأَتِی عَاقِرࣱۖ)، وقالت مريم: (رَبِّ أَنَّىٰ یَكُونُ لِی وَلَدࣱ وَلَمۡ یَمۡسَسۡنِی بَشَرࣱۖ).

- ومن اقتران القصص ما ذكره شيخ الإسلام من اقتران قصة آدم وموسى، ﻓﻲ ﻏﻴﺮ ﻣﻮﺿﻊ من القرآن، فيأتي ﺫﻛﺮ ﻧﺒﻮﺓ ﺁﺩﻡ ﺛﻢ ﻧﺒﻮﺓ ﻣﻮﺳﻰ ﺑﻌﺪﻩ، كما في سورة طه فإنها ﺗﻀﻤﻨﺖ ﺫﻛﺮ ﻣﻮﺳﻰ ﻭﺁﺩﻡ، ﻟﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﺎﺳﺒﺔ ﻣﻤﺎ ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺫﻛﺮﻫﻤﺎ، ﻭﻟﻤﺎ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﺎﻇﺮﺓ، ﻓﺈﻥ ﻣﻮﺳﻰ ﻧﻈﻴﺮ ﺁﺩﻡ ﻓﻲ اﻷﻣﺮ اﻟﺬﻱ ﺻﺎﺭ ﻟﻜﻞ ﻣﻨﻬﻤﺎ.

والحديث يطول عن ذكر أنواع وأمثلة الاقتران في القرآن، من نحو اقتران نفي الخوف والحزن في قوله: (فَمَن تَبِعَ هُدَایَ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ)، واقتران التذكر والخشية في قوله: (فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلࣰا لَّیِّنࣰا لَّعَلَّهُۥ یَتَذَكَّرُ أَوۡ یَخۡشَىٰ)، واقتران في الفؤاد والقلب بالسمع في نحو قوله: (إِنَّ فِی ذَ ٰ⁠لِكَ لَذِكۡرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُۥ قَلۡبٌ أَوۡ أَلۡقَى ٱلسَّمۡعَ وَهُوَ شَهِیدࣱ)، واقتران الخوف والطمع كما في قوله: (وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا وَٱدۡعُوهُ خَوۡفࣰا وَطَمَعًاۚ إِنَّ رَحۡمَتَ ٱللَّهِ قَرِیبࣱ مِّنَ ٱلۡمُحۡسِنِینَ)، واقتران الإثم بالعدوان والبر بالتقوى، واقتران ذكر صفة الملك مع الشفاعة، واقتران الحروف المقطعة في أوائل السور مع ذكر القرآن، والهجرة والجهاد والذكر والثبات، والذكر والشكر، والصبر والصلاة، مما ينبغي أن يعكف عليها المتدبر، والله أعلم.

كتبه أبو المثنى، ٤/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط

الأحد، 26 أبريل 2020

مواعظ قرآنية من سنن المرسلين في الدعوة.

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، أما بعد:
فمن أعظم المواعظ القرآنية التي ينالها طالب الهدى من الوحي؛ مواعظ الدعوة في قصص الأنبياء، فلقد حكى ﷲ ﷻ من أخبار الأنبياء في دعوتهم لقومهم، وجدالهم لهم، ومناظراتهم معهم، ما يجد فيه المصلح الداعي أنفع موعظة، وأوضح بيان، وهو من التخلّق بأخلاق الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم.

• فمن سنن المرسلين في الدعوة ما جاء في قصة موسى ﷺ في قوله ﷻ: (فَقُولَا لَهُۥ قَوۡلࣰا لَّیِّنࣰا لَّعَلَّهُۥ یَتَذَكَّرُ أَوۡ یَخۡشَىٰ۝ قَالَا رَبَّنَاۤ إِنَّنَا نَخَافُ أَن یَفۡرُطَ عَلَیۡنَاۤ أَوۡ أَن یَطۡغَىٰ)،
ثم أخبر ﷻ عن خطاب موسى وهارون عليهما السلام لفرعون: (قَدۡ جِئۡنَـٰكَ بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكَۖ وَٱلسَّلَـٰمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلۡهُدَىٰۤ ۝ إِنَّا قَدۡ أُوحِیَ إِلَیۡنَاۤ أَنَّ ٱلۡعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ).
فدلت هذه الآيات أن من القول اللين: 
- أن يقتصر السلام على الكافر بقولنا: السلام على من اتبع الهدى.
- وأن التذكير بالعذاب في أول دعوة المدعوين ليس منافيًا للقول اللين.
ولم يزل منهج (القول اللين) موضع نزاع دائم بين طوائف أهل الدعوة، ولا يزالون فيه مختلفين، ومن المنهج المحمود أن يردّ المؤمن الأمر في ذلك إلى مثل هذه الآيات، وهو من التخلّق بالقرآن، الذي نوّهت به عائشة رضي الله عنها حين وصفت النبي ﷺ فقالت: «كان النبي ﷺ خلقه القرآن» رواه مسلم.

• ومن سنن المرسلين في الدعوة إلى ﷲ؛ الاستعلاء الإيماني عند مخاطبة المبطلين، وعدم التطامن عند مواجهتهم، ففي قوله ﷻ في قصة هود مع قومه: (وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمۡ هُودࣰاۚ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤۖ إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُفۡتَرُونَ)، بيان لوجه من وجوه الطريقة النبوية في الدعوة، ولعل ذلك كان في مبتدئ دعوته لهم، ومع هذا فقد جَبَه هود قومه بقوله: (إِنۡ أَنتُمۡ إِلَّا مُفۡتَرُونَ)! وواجههم به.
ولما قالت عاد لهود: (إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوۤءࣲۗ)، أجابهم هود ﷺ  بجوابين: 
- (قَالَ إِنِّیۤ أُشۡهِدُ ٱللَّهَ وَٱشۡهَدُوۤا۟ أَنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ ۝  مِن دُونِهِۦۖ)، فتحداهم في آلهتهم التي يزعمون أنها مسته بالجنون والضر، بإظهار البراءة منهم في أسلوب من التحدي القاهر للخصم.
- (فَكِیدُونِی جَمِیعࣰا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ)، ثم تحداهم بأن يضاروه بشيء، وهذه غاية القوة في رد الخصم، فإن اﻟﺮﺟﻞ اﻟﻮاﺣﺪ ﺇﺫا ﺃﻗﺒﻞ ﻋﻠﻰ الجمع اﻟﻌﻈﻴﻢ، ﻭﻗﺎﻝ ﻟﻬﻢ: ﺑﺎﻟﻐﻮا ﻓﻲ ﻋﺪاﻭﺗﻲ، ﻭﻓﻲ ﻣﻮﺟﺒﺎﺕ ﺇﻳﺬاﺋﻲ ﻭﻻ ﺗﺆﺟﻠﻮﻥ، لا يكون ذلك إلا لقوة نفسه وجسارة قلبه.

• ثم إن الحديث عن قوة الداعي في أمر ﷲ واستهتاره بالباطل وأهله؛ ليس لقسوة في قلبه، أو جفوة في طباعه، أو نبوة في كلامه، بل إن للداعي المتبع لنهج الأنبياء قلبًا رقيقًا بالمدعوين، لا يزال خائفًا عليهم، يدعوهم وهو يرقب نجاتهم من النار، له مشاعر شفافة على من يدعوهم، ومن ملكَ ذلك وجد أثره في دعوته، بالتماسه حظ الدعوة لا حظ نفسه، وبحرصه على هداية الخلق، وبصبره على ما يناله منهم، وتجرده من الانتقام لنفسه، وانظر ذلك التكرار الرقيق في دعوة الأنبياء وهم يخبرون عتاة قومهم بخوفهم عليهم! ففي مقالة نوح: (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوۡمِهِۦ فَقَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُوا۟ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَـٰهٍ غَیۡرُهُۥۤ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ)، وقال أيضا: (أَن لَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّا ٱللَّهَۖ إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ أَلِیمࣲ)، ومثله أخوه شعيب: (إِنِّیۤ أَرَىٰكُم بِخَیۡرࣲ وَإِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمࣲ مُّحِیطࣲ)، وقال هود: (إِنِّیۤ أَخَافُ عَلَیۡكُمۡ عَذَابَ یَوۡمٍ عَظِیمࣲ).

• ومن سنن المرسلين في الدعوة إلى الله ألّا ينشغل المصلح بالخصومة مع أهل الباطل يقارضهم سبًا بسب، ويجاذبهم قدحا بقدح، ففي قصة نوح ﷺ مع قومه، حين اتهموه بالضلالة ترى نوحًا لم يعد عليهم مشاتمًا منازعًا لهم، قال ﷻ: (قَالَ ٱلۡمَلَأُ مِن قَوۡمِهِۦۤ إِنَّا لَنَرَىٰكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ ۝  قَالَ یَـٰقَوۡمِ لَیۡسَ بِی ضَلَـٰلَةࣱ وَلَـٰكِنِّی رَسُولࣱ مِّن رَّبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ)!
لقد رد نوح عليهم: (لَیۡسَ بِی ضَلَـٰلَةࣱ)! وانتهى الخطاب! ولم يكن ثَمّ شيءٌ من زيادة في الخصومة ولا تثوير للمنازعة، لقد تلقى ﻧﻮﺡ ﷺ التهمة ﻓﻲ ﺳﻤﺎﺣﺔ اﻟﻨﺒﻲ ﻭﻓﻲ اﺳﺘﻌﻼﺋﻪ  على حظ نفسه، ﻭاﻃﻤﺌﻨﺎﻧﻪ ﺇﻟﻰ ﺭﺑﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﺭﺳﻠﻪ، ثم لم يحاول ﺃﻥ ﻳﺨﻠﻊ ﻋﻠﻰ ﻧﻔﺴﻪ ﻣﻈﻬﺮًا ﻏﻴﺮ ﺣﻘﻴﻘﺘﻪ، ﻭﻻ ﻋﻠﻰ ﺭﺳﺎﻟﺘﻪ ﺷﻴﺌًﺎ ﻏﻴﺮ ﻃﺒﻴﻌﺘﻬﺎ.

• ومن الطريق النبويّة في الدعوة إلى ﷲ دوام التذكير بنعم ﷲ على المدعوين، فإن ذلك التذكير يرقق القلوب، ويحبب الرب ﷻ لعباده، انظر ذلك في خطاب هود لقومه: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَاۤءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوحࣲ وَزَادَكُمۡ فِی ٱلۡخَلۡقِ بَصۜۡطَةࣰۖ فَٱذۡكُرُوۤا۟ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ لَعَلَّكُمۡ تُفۡلِحُونَ)، فرتب على تذكر النعم ﺭﺟﺎء ﺃﻥ ﻳﻔﻠﺤﻮا، فإن تذكرها يبعث النفس على الطاعة.
وفي مخاطبة صالح لقومه: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَاۤءَ مِنۢ بَعۡدِ عَادࣲ وَبَوَّأَكُمۡ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورࣰا وَتَنۡحِتُونَ ٱلۡجِبَالَ بُیُوتࣰاۖ فَٱذۡكُرُوۤا۟ ءَالَاۤءَ ٱللَّهِ وَلَا تَعۡثَوۡا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ مُفۡسِدِینَ)، ﻭوعظهم بذكرى النعم والآلاء لأن ﺗﺬﻛُّﺮ الآلاء ﻳﺒﻌﺚ ﻋﻠﻰ ﺗﺮﻙ اﻟﻔﺴﺎﺩ.

• ومن المعالم الدعوية في دعوة الأنبياء؛ الحض بالجزاء الدنيوي، قال ﷲ: (وَیَـٰقَوۡمِ ٱسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّكُمۡ ثُمَّ تُوبُوۤا۟ إِلَیۡهِ یُرۡسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡكُم مِّدۡرَارࣰا وَیَزِدۡكُمۡ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمۡ وَلَا تَتَوَلَّوۡا۟ مُجۡرِمِینَ)، فالنفوس مشغوفة بالعاجل، تتعلق بمبادرة الثواب، فلذا جُعلت المثوبات على الطاعات على منوال الفِطَر، فالترغيب بمثوبات الدنيا مع ذخر الآخرة من منهج الأنبياء، ليس خارجًا عنها. 

• ومن جليل ما جاء في أدب الدعوة في دعوة الأنبياء، ما جاء في قصة شعيب ﷺ لما قال له قومه: (لَتَعُودُنَّ فِی مِلَّتِنَاۚ)، فرد شعيب ﷺ بردٍ جمَعَ فيه بين إباء المؤمن وصلفه مع الكفر والكافرين، وبين الأدب مع ﷲ والاستكانة له، وتفويض الأمر لله وعدم الركون على النفس:
- فقال: (قَدِ ٱفۡتَرَیۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِی مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ)، فرد عليهم دعوتهم التافهة تلك، بثلاث جمل:
- لقد أخبرهم أن إجابتهم إلى دعوتهم تلك من الفرية والكذب على الله.
- وأخبرهم أن حالهم من الكفر حال من خرج منها فقد نجى!
- ثم قابلهم بصلف مؤكدًا لهم إباءه بجزم المؤمن: (وَمَا یَكُونُ لَنَاۤ أَن نَّعُودَ فِیهَاۤ).
ثم بعدما أجابهم بهذه القوة الإيمانية في الرد والجدل والإباء عاد متأدبًا مع ﷲ، مستكينًا له، لا يركن على نفسه، ولا يعجب بها:
- فقال: (إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ)، وهكذا أظهر الاستكانة لله، وتبرأ من حوله وطوله.
لقد جمع شعيب بين التصميم على الثبات ورفض دعوة الطغاة، وبين الاستسلام لله والخضعان له.
ولقد تجد كثيرًا من أهل القوة مع الباطل، والصلف مع أهل الضلالة؛ يبتلون بالعجب والركون للنفس والفخر، فكان في هذا الموقف النبوي تعبد لله بالاستهتار بدعوات الطغاة، مع التوقي من آفة الفخر والتيه.
ونظيرها في دعوة هود عليه السلام، فإنه لما قال له قومه: (إِن نَّقُولُ إِلَّا ٱعۡتَرَىٰكَ بَعۡضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوۤءࣲۗ)، كان في رده جامعًا بين القوة في الحق، والاستكانة للخالق ﷻ، فقال: (فَكِیدُونِی جَمِیعࣰا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ۝  إِنِّی تَوَكَّلۡتُ عَلَى ٱللَّهِ رَبِّی وَرَبِّكُمۚ)
فتحداهم في قوة المؤمن واستعلائه، ثم عقب ذلك بذكر توكله على ربه.

• ومن سنن المرسلين الدعويّة؛ اقتران الدعوة بنفع الناس والبذل لهم، فحين سأل الفتيان يوسف عليه السلام أن ينبئهم بتأويل الرؤيا، بدأ بدعوتهم إلى التوحيد، قبل التأويل، فكانوا في تعلُّق نفوسهم بالتأويل متهيئين لأن يلقي عليهم مواعظ الهدى، فقال لهم: (یَـٰصَـٰحِبَیِ ٱلسِّجۡنِ ءَأَرۡبَابࣱ مُّتَفَرِّقُونَ خَیۡرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلۡوَ ٰ⁠حِدُ ٱلۡقَهَّارُ ۝ ما تَعۡبُدُونَ مِن دُونِهِۦۤ إِلَّاۤ أَسۡمَاۤءࣰ سَمَّیۡتُمُوهَاۤ أَنتُمۡ وَءَابَاۤؤُكُم مَّاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلۡطَـٰنٍۚ إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوۤا۟ إِلَّاۤ إِیَّاهُۚ ذَ ٰ⁠لِكَ ٱلدِّینُ ٱلۡقَیِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ). 

• ومن المعالم الدعوية المتكررة في الدعوات النبوية قول الأنبياء: (یَـٰقَوۡمِ) عند مخاطباتهم لقومهم، ترى النبي ﷺ يخاطب قومه بمثل هذا الخطاب ﻓﻲ ﺳﻤﺎﺣﺔ ﻭﻣﻮﺩﺓ ﺑﻨﺪاﺋﻬﻢ ﻭﻧﺴﺒﺘﻬﻢ ﺇﻟﻴﻪ، ﻭﻧﺴﺒﺔ ﻧﻔﺴﻪ ﺇﻟﻴﻬﻢ، وهي ملاطفة رقيقة، لتسكين ثوائر الإباء في نفوسهم، فإن النِّداء بصلة القرابة ورابطتها، يذهب حميّا الاستنكاف، ويقرب المدعو من الداعي، وما من نبي من الأنبياء الذين ذكرت قصصهم مع قومهم في القرآن إلا كان ينادي قومه بمثل هذا النداء الرقيق.

• ومن ذلك أن المصلح لابد أن يستعلن بتجرد دعوته عن المطامع المادية، وانفرادها عن جر المكاسب الدنيوية، قالها نوح: (وَیَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ مَالًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِۚ وَمَاۤ أَنَا۠ بِطَارِدِ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ۚ إِنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ رَبِّهِمۡ وَلَـٰكِنِّیۤ أَرَىٰكُمۡ قَوۡمࣰا تَجۡهَلُونَ)، وقالها هود: (یَـٰقَوۡمِ لَاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًاۖ إِنۡ أَجۡرِیَ إِلَّا عَلَى ٱلَّذِی فَطَرَنِیۤۚ أَفَلَا تَعۡقِلُونَ)، وقالها محمد ﷺ: (قُل لَّاۤ أَسۡـَٔلُكُمۡ عَلَیۡهِ أَجۡرًا إِلَّا ٱلۡمَوَدَّةَ فِی ٱلۡقُرۡبَىٰۗ).
إن الدعوة شريفة، والإصلاح عزيز، والدعاة إلى ﷲ يدعون إلى أعظم مطلوب، فكم يقبح أن يريدوا به غيره.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

كتبه أبو المثنى، ٣/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط

السبت، 25 أبريل 2020

مواعظ قرآنية من قصة قوم موسى ﷺ حين أمروا دخول القرية

بسم الله الرحمن الرحيـــم

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
     فكم يهتزّ قلبي لتلك الآيات من سورة المائدة، التي سيقت فيها قصة موسى ﷺ مع قومه حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وكم يجد فيها المؤمن من المواعظ، وأبواب الإصلاح، وطرق الهداية ما يجد، وهذه بعض تلك الفوائد والمواعظ من هذه القصة القرآنية:
• استهلت هذه القصّة بقوله ﷻ: (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ* یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
     فجاء الأمر الموسوي بدخول القرية مقترنًا بمحرضين، من الترغيب والترهيب:
١- فصُدّر الوجوب، وجوب دخول القرية بالتذكير بالنعم السالفة! وبالتذكير بالوعد الآتي:
فقال: (ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ)، وهي طريقة دعويّة وعظيّة جاءت في مواضع في القرآن، يذكر ﷲ عباده المؤمنين عند أمرهم بشيء من شرائعهم، أو تحذيرهم عن ركوب شيء من نهيه؛ يذكرهم بنعمه عليهم، ولذلك كان الأمر الأول الذي أمر ﷲ به بني إسرائيل عند أول ذكر لهم في القرآن هو الأمر بذكر النعم، قال ﷻ: {یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَوۡفُوا۟ بِعَهۡدِیۤ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِیَّـٰیَ فَٱرۡهَبُونِ}.
     وهذه طريق جليلة في ترغيب النفوس للامتثال، فإن تذكّر المنح الربانيَّة له برودة على القلب تبعث في النفس النشاط على الطاعة، وتقوي القلب على الاستجابة، فذكرهم ﷻ هنا بعادته فيهم، ومننه عليهم، وأنهم قد وجدوا من فضل ﷲ ومنته وكرمه ما وجدوا، فكذلك فليبشروا بالعاقبة الحسنة في هذا الأمر.
      والعالِم بالله وبسننه وشريعته يحسن الظن بربه، فإنه إذا رأى من ربه نعمة وفضلًا رجى الخير بعد الخير، وطمع في عطاء ربه بالمنّة بعد المنّة، وهذه عبوديّة على حيالها، لا ينبغي أن تفوت على المؤمن، كلما رأى منة لله عليه حمله حسن ظنه بالله أن ﷲ سيكرمه بالنعمة بعد النعمة، وهو من توسل الأنبياء الذي كانوا يتوسلون به لربهم بين يدي دعائهم، قال زكريا: {وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا}.
     ثم ذكرهم بالوعد بالعاقبة فاقترن هذا الأمر بالوعد بالنصر، فقال ﷻ: (ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ)، فأخبرهم بقدر ﷲ لهم، وبوعده وراثة الأرض لمن استجاب لأمره.
     ثم لا تنظر بتعجبٍ لتولي القوم عن المواجهة مع وعد الله لهم بالفتح، فإن هذا أمر يتكرر في كل زمن، وتراه في كل وقت، فإن الوعد بالنصر أمر حاصل لكل مؤمن، والبشارة بوراثة الأرض مكتوبة لكل مستمسك، ومع ذلك فها أنت ترى التولي عن العزائم، والركون إلى الدنيا، والقعود عن الإقدام.
٢- ثم ختم هذا الأمر بالترهيب من التولي، والتخويف من عدم الامتثال، فقال: (وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
فرهّبهم ترك الطاعة، بعد ترغيبهم في الأخذ بها، وخوّفهم التولي، ورتّب على ذلك الخسارة.
     والتولّي عن المواجهة والتثبّط عن الاقتحام يأتي بخسارة الدنيا والآخرة، قاض بفقدانها، وكثير من الناس إنَّما يحجم عن الإقدام في ذات ﷲ خوفًا على دنياه، وضنًّا بمصالحها، وكثيرًا ما يكون إحجامه سببًا لخسارة دنياه مع أخراه، مع ما يلقاه من الصغار، وما يجده من الذل، وما يناله من القمأة.
     وبعد فماذا نال بنو إسرائيل، حين أحجموا خوفًا من الجبابرة؟ هل سلمت لهم دنياهم؟ وهل رجعوا لبلادهم؟! لقد ظلّوا في التيه أربعين سنة، ولم يصلوا إلى شيء من منافع دنياهم ومصالحها. 

• ثم أخبرنا الله بجواب القوم: (قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ).
ولقد أبى بنو إسرائيل ولم يستجيبوا لأمر الله، وأﻛَّﺪﻭا اﻻﻣﺘﻨﺎﻉ ﺗﻮﻛﻴﺪًا بالغًا ﺑﻤﺪﻟﻮﻝ (ﺇﻥّ) ﻭ (ﻟﻦ) ﻓﻲ قولهم: (وَإِنَّا لَن)، وهذا من قلّة أدبهم في خطاب نبيهم، وقسوة قلوبهم، وبعدهم عن أخلاق النبيين، وإنه ليقبح بالعبد أن يقول مثل ذلك في الطاعة، لما في التوكيد من الركون إلى الحول والطول، فكيف يكون قبحه حين يكون توكيدًا لترك الطاعة، والتولي عنها، فهذا مع كونه نقصا في الأدب مع ﷲ هو من الجهل بأمر الله.
ﻭلقد جمع بنو إسرائيل جبنًا ووقاحة، والوقاحة بنت الجبن، يجبن الشخص عن الإقدام، ويقعد عن نصر الحق، فيريد أن يدفع عن نفسه قالة السوء، وأن يدرأ عنها سواد المعصية؛ فيعود إلى قلّة أدبه يجد فيه نفَسًا من ضيق التهمة التي أحاطت به.
     وقد ذكّر الله ﷻ لتوليهم وإبائهم سببين هي من الجهل بسنن الله وعاداته في خلقه، وإنك واجد عند تأملك أسباب ترك الامتثال؛ أن كثيرًا منها ليست من الجهل بأمر ﷲ فحسب، ولكن من الجهل بسننه ﷻ:
١- فذكر القوم اختلال ميزان القوى وتفاوتها علّةً للامتناع عن مواجهة العدو، وكأن المؤمنين إنما يقاتلون عدوهم بالعدد والعدة! وكأنّ ﷲ حين أهلك فرعون ومن معه كان بعدّتهم وقوتهم واستطالتهم!
ومن جعل قوة عدوّه (فقط) سببًا لإحجامه فقد جهل سنَّة ﷲ في الأرض، ولم يفقه عنه ﷻ المثلات التي كانت في أعدائه.
٢- ثم جهلوا سنة ﷲ في عباده، فأرادوا نصرًا رخاء سهلًا، فقالوا: (فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ)، فأرادوا أن يخرج العدو من بلده ليخلفوهم هكذا دون شوكة أو ألم أو ابتلاء.

• ثم قال ﷻ: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)، وفي هذه الآية مواعظ لابد أن يطيل الوقوف عندها أهل الدعوة والإصلاح:
١- ففيها أن المؤمن مبادر بالنصح، متوثّب للإصلاح، لا ينوّمه وجود غيره من المصلحين، بل ينتصب للحق ولو انتصب له من هو خير منه، ويقوم فيه ولو قام غيره، فانظر إلى هذين الصالحين، وقد قاما في نصح بني إسرائيل، وبيان طريق النصر، مع وجود موسى وهارون عليهما السلام! فلم يكن وجود الأنبياء مكسّلًا لهم عن الدعوة، ولا مقعدًا لهم عن الإصلاح، بل اجتهدوا في دعوة الناس والقيام بحظهم من الوعظ مع عدم شغور الزمان من خيرة خلق ﷲ، وإن هذا من العجب، ولطالما أوقفني هذا الأمر تأملًا، واستمهل مني النظر تفكرًا، وسترى ذلك أيضًا في قصة دعوية قرآنية عظيمة، ففي قصة القرية في سورة يس، أخبر الله بنبأ الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة، قال ﷻ: {وَجَاۤءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ رَجُلࣱ یَسۡعَىٰ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ}، فإن هذه المدينة قد بعث ﷲ لها ثلاثة رسل، كما أخبر سبحانه: {إِذۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱثۡنَیۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ فَقَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَیۡكُم مُّرۡسَلُونَ}، ومع هذا قام هذا المصلح بحظه من الدعوة، ولم يستنم ويركن لوجود خير الخلق وقيامهم بالدعوة والإصلاح.
٢- ومن الهدى في هذه الآية:
أن هذين الصالحين دلّا قومهما على طريقين من طرق النصر:
فدلّا على الطريق الديني الشرعي.
ودلّا على الطريق التجريبي الواقعي.
فأمرا قومهما بأمرين:
١) (ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ).
وهذا أمر مجرّب في أحوال الناس، فإن كثيرًا من المصاعب تذلل إذا اقتحمها الإنسان، وتسهل إذا بدأ بها، حتى كأنه ليس بينه وبين جوازها إلا أن يبدأ فإذا هو قد خلص، فهذا هو الطريق التجريبي الواقعي.
٢) ودلّا قومهما على الطريق الشرعي فقالا: (وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ).
فالتوكل عليه والتعلّق به واللجأة إليه، واستشعار مدده باب الانتصار الأكبر، ولهذا جاء ذكر التوكل عليه ﷻ في المواقف الكبار، كما في سورة آل عمران عند ذكر غزوة أحد، فقال سبحانه: {إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}، وتكرر ذلك في سياق غزوة أحد من سورة آل عمران، وجاء في سورة الأنفال في خبر غزوة بدر، فقال: {إِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ }، وفي التوبة في نبأ غزوة تبوك، قال {قُل لَّن یُصِیبَنَاۤ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}.
٣- ومن هدايات المصلحين في الآية:
ما جاء في قولهم: (فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ)، فإنه جاء بأسلوب تأكيد لا ظن فيه،  (فإنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ). فاليقين بموعود ﷲ، والثقة في نصره؛ زاد المصلحين في سواد الكروب، وكآبة الهزائم.
٤- ومن هدايات المصلحين في هذه الآية:
أن ﷲ وصفهما بأنهما (مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ)، فالخوف من ﷲ رصيد إيماني يصغّر الخوف من غير ﷲ، وكلما عظم خوف ﷲ في نفس المصلح هان في قلبه خوف الباطل وأهله، وفي الآية تعريض بأهل التولي، وأنّ عصيان نبيهم بسبب نقصان الخوف من ﷲ.
٥- ومن هدايات المصلحين في الآية: ما ذكره ﷲ عنهما بقوله ﷻ: (أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا)، فهذا اﺳﺘﺌﻨﺎفٌ ﺑﻴﺎنيٌ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﻣﻨﺸﺄ ﺧﻮﻓﻬﻤﺎ، فاﻟﺨﻮﻑ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻨﻪ ﷻ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ، ﻭﻫﺬا ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻓﻲ ﻧﺼﺮ اﻟﺪﻳﻦ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻦ ﷲ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ.
فمعيار الإنعام حقًا أن تكون جاثمًا في الصف!
النعمة العظمى أن تكون في سواد المصلحين!
النعمة حقًا أن تكون ممن يدفع الباطل! ويذب عن الحق! وهو معيار إيماني يعرفه أهل الوحي، وأما غيرهم، فلهم معايير أخرى لذلك، يقيسون بها النعم، ويعتقدون بها المنن، حتى لقد حدّثنا ﷲ عن عكس هذا تماما حين تحدث عن معيار النعمة عند المنافقين فقال عنهم: (فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِیدࣰا)!
هكذا يرى هؤلاء السلامة نعمة ومغنمًا!
٦- ثم انظر أن الجمع الكبير مع موسى ﷺ لم يتكلم منهم إلا اثنان، وأما الكثرة فكانت مع القاعدين المتولين، لتسلو مع كثرة ما ترى من الهلكى، ولتسكن نفسك من وحشة القلة، فتجعل لها موعظة ألا تكترث بمعارضة الأكثر، ولا تباليهم بالها، فحملة الحق قليل، وأهل البصيرة ندرة، «والناس كأبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة»، كما في الصحيحين.

• ثم قال ﷻ: (قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ).
فأﻛّﺪﻭا اﻻﻣﺘﻨﺎﻉ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺃﺷﺪ من ﺗﻮﻛﻴﺪ الامتناع الأول! فأكّدوه ﺑﺜﻼﺙ ﻣﺆﻛﺪاﺕ: (ﺇﻥ) ، ﻭ (ﻟﻦ) ، ﻭﻛﻠﻤﺔ (ﺃﺑﺪا)، فيا لله وقسوة القلوب، كأن طوارق المواعظ لم تطرق عليهم بطارقها، ولم تنفذ إلى قلوبهم بقوارعها، وهكذا صاحب الانحراف الممعن في باطله، وأهل الضلالة الغافلين عن الطاعة؛ لا تزيدهم الموعظة إلا عماية، ولا يعود عليهم التذكير إلا بالبعد عن ﷲ، فاستبصر حالهم بعد موعظة الرجلين، وتفكر في أمرهم بعد تذكير الصالحين، لم يزدد الأبعد إلا بعدًا، ولم ينتفع إلا قسوة.
على أن قولهم هذا لم يكن باعثه الكفر بالله، فهم مصدقون بربهم مقرون بنبوة نبيه ﷺ، ولكن كأنهم قالوه طلبًا لمعجزة تنزل، أو أرادوها دعوة من موسى ﷺ تمحق العدو، ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻮﺩﻭا أخذ اﻟﻨﺼﺮ دون كلفة، وجنى الثمرة بغير تعب، ﻓﻄﻠﺒﻮا ﺃﻥ ﻳﻬﻠﻚ اﻟﻠﻪ اﻟﺠﺒﺎﺭﻳﻦ ﺑﺪﻋﻮﺓ ﻣﻮﺳﻰ ﷺ، وفي ذلك إيماء إلى ذمّ المتمنين على ﷲ الأماني، ممن يقصّر في الامتثال ثم يرقب الإصلاح والتغيير والنصر بخوارق العادات.
     ثم كان ختام القصة دعوة موسى عليهم هم، فقال: {رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ}، فضرب ﷲ عليهم التيه، وابتلاهم بالنفي، وحرم على المتولين الأرضَ الطاهرة المقدسة، ولم يرجعوا لأرض مصر، وأمر نبيه ﷺ ألا يحزن عليهم، فقال: {فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ}، فيا أيها المصلحون، ويا حملة الراية، ويا أصحاب المبادئ؛ لا تحزنوا على المتولين، ولا تأسفوا على الناكثين، ولا تذهب نفوسكم عليهم حسرات، ولتكن عاطفتكم في موضعها، لتجعلوها في محلها، متوفرة للعمل، نشيطة للإصلاح، لا تتلفها كآبات الأحزان، ولا يستهلكها أسف الكربات.
والله أعلم.

كتبه أبو المثنى ٢/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

الجمعة، 24 أبريل 2020

أوراق فقهية (٢٢): معنى النظرية الفقهية في الاستعمال المعاصر.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فللفقهاء المعاصرين خلاف عريض في حد النظرية الفقهية، وتعريفها، وعلامَ تطلق، وهذه ورقة مختصرة حاولت فيها أن أستخلص معنى النظرية الفقهية في استعمال الفقهاء المعاصرين وتعريفها، ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ أسأله سبحانه التسديد والتوفيق.

• النظرية الفقهية:
(هي ترتيب فقهي يجمع القضايا الكلية والأركان والشروط والضوابط والتقاسيم التي تبين موضوعًا واحدًا، يضم تحته جملة من جزئياته الفقهية من أبواب مختلفة).

• فقولي: (ترتيب فقهي): أراه أقرب في تعريف النظرية الفقهية من قولنا: (مفهوم فقهي، أو موضوع فقهي أو نحوه).
والقارئ لكتب النظريات الفقهية، يجد أن استعمالهم لها عبارة عن طريقة جديدة لجمع المسائل الفقهية في نسيج مبتدأ، يجمعها المؤلف من عدة فنون فقهية، ويمازج بينها ليبني تلك النظرية.

• وقولي: (يجمع القضايا الكلية): يدخل فيه الموضوعات العامة للقضية الفقهية التي نصبت عليها النظرية، ويأتي على القواعد الأصولية والفقهية والضوابط المتعلقة بتلك القضيّة، و بهذا يتبين أن النظرية الفقهية عن موضوع معين؛ ليست مجرد قاعدة فقهية خادمة لذلك الموضوع فحسب، ولكنها أشمل من ذلك، فهي تطوي تحت جناحها مجموعة من القواعد الفقهية ومن غيرها من الأصول والكليات.
ويتبيّن بهذا أن فن النظريات الفقهية ليس فنًا من فنون علم الأصول، أو علم الفروع أو القواعد الفقهية، ولكنه طريقة مبتكرة لجمع مباحث متفرقة من عدة فنون تتعلق بموضوع واحد، ثم إعادة ترتيبها في سياق جديد يشمل هذا وهذا.

• قولي: (والأركان والشروط): قد اتضح فيما سبق أن النظرية الفقهية تتحدث عن قضية فقهية معينة، فلا جرم ستضم تحتها الحديث عن أركانها وشروطها.

• قولي: (والتقاسيم): فإن التقاسيم الفقهية مما يعتني به المؤلفون في النظريات الفقهية نظرياتهم، وترى حفاوتهم بإبداع التقسيم المتعلق بتلك القضية إلى الغاية.

• قولي: (تبيّن موضوعًا واحدًا): فإنَّ شأن النظرية الفقهية العناية بموضوع فقهي واحد، تكشف أحكامه وأصوله وحدود قضاياه، وهي في هذا تتفق مع طريقة الفقهاء في تأليفهم للفقه على الأبواب، ولكنها تفارق طريقتهم بأن التأليف الفقهي في باب واحد يتتبع جزئيات موضوع فقهي عملي لا يضع معه غيره مما يناظره من أبواب أخرى إلا عرضًا.
هذا وقد ذكر عدد من أهل العلم أن موضوعات النظريات الفقهية منحصرة في الموضوعات الحقوقية دون غيرها من مباحث الفقه، وربما صح هذا في أول التأليف في هذا الفن، لاسيما وأنه فن جارى فيه الفقهاءُ القانونيين الذين من شأنهم العناية بالجوانب الحقوقية ليس يعدونها إلى غيرها، ولكن هذا لا يعني أن النظريات لابد أن تكون على هذا المنوال فلا تخرج عنه، بل قد رأينا تآليف المختصين في النظريات لم تقتصر على هذا الباب، كما ترى تأليفهم في نظرية الإكراه، ونظرية الشروط، ونظرية الأهلية وهكذا، ولذلك فيمكن للباحث توليد النظريات بحسب موضوعات الفقه ولو لم تكن في أبواب الحقوق.

• قولي: (يندرج تحته جزئيات فقهية) : فإن النظريات الفقهية وضعت خادمة للفروع الجزئية ولكن من منظور شامل، ولذا تجد أن المرجع الأساسي في النظريات هي كتب الفروع، وبهذا تتفق مع القواعد الفقهية في هذا الجانب، إلا أن القاعدة الفقهية تفارق النظرية بأن القاعدة الفقهية صيغة فقهية في ذاتها تضم جزئيات فقهية من جنسها، وأما النظرية فليست هكذا، فإنها ليست وحدة لفظية مصوغة في جملة كلية أو أغلبية، ولكنها تأليف متكامل يضم القاعدة وغيرها وتندرج تحتها الجزئيات تبعًا لذلك.

• قولي: (من أبواب مختلفة): فالنظريات الفقهية في دراستها لمواضيعها لا تتقفر سبيل الفقهاء في ترتيب موضوعاتهم الفقهية، ولكن سبيلها جمع المسائل -التي يجمعها معنى واحد- من أبواب مختلفة ثم نظمه في بناء تأليفي واحد.
وهذا الأمر مما تميز به التأليف في النظرية الفقهية عن تأليف الفقهاء في الأبواب الفقهية، فإن الترتيب التأليفي للفقهاء على الأبواب هو جمع المسائل المتناظرة المندرجة تحت باب واحد، كمسائل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام وسائر أبواب الفقه، فتجمع في موضع واحد، وإن أتوا بغيرها فهو جار على خلاف الأصل، وأما النظرية الفقهية فهي بخلاف ذلك؛ بل إن جمع المتفرق في أبواب الفقه -مما يتفق في نفس المعنى- للخلوص بنظرة شاملة هو مقصود النظرية الأول.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

المنهج القرآني في تقرير الأحكام الفقهية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فللقرآن منهج في تقرير الأحكام الفقهية، وتعليم المسائل العملية يعلو على كل منهج، ويسمو فوق كل طريق، وحري بكل متفقه، وبكل مشتغل بفقه الشريعة أن يكون له وقوف طويل مع طريق القرآن الفقهي، ومنهجه في تقرير الأحكام، ثم يرجع فيرى مكانه من المنهج القرآني، وموضع تفقهه منه.

• فمن الطريق القرآنية في التقرير الفقهي بثّ التعابير الاعتراضية الوعظية في طيّ سياق الحكم الفقهي، وأمثلة ذلك كثيرة، وقد ذكرت أمثلة كثيرة لهذا الأمر في مقالة الوعظ الفقهي، لكن يحلو لي أن أذكر هنا مثالًا آخر يبين شيئا من مقصدي في هذا:
- فقد جاء عند ذكر حكم التزوّج بالإماء عند العجز عن نكاح الحرة، قوله ﷻ: (وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ).
ففي قوله: (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ) معاني:
- تأنيس المؤمن بنكاح الأمة التي لعله أن يجد في نفسه استنكافا من نكاحها، فذكر وصف الإيمان تسكينا لنفرة قلبه، وطردا لجاهلية النفوس.
- ولما ذكر وصف الإيمان وما يحمل من وصف مادح نبّه على أن العالم ببواطن القلوب وحقيقة صدق الإيمان هو ﷲ ﷻ، ليدفع عن النفس صولة الركون إلى الوصف الظاهري، وتنبيها إلى العناية بتحقيق شرف الإيمان حقا.


• من الطرائق القرآنية في تقرير حكم فقهي؛ العناية بردّ ما قد ينفتح من قالة السوء بسبب ذكر هذا الحكم!
فيُحاط سياق الحكم الفقهي بذكر الأوصاف المذمومة للمنحرف، ويأتي قبله وبعده بما يدفع تشويشات المبطلين.
وهذه طريقة دعوية ليس ينبغي أن يغفل عنها المصلح الفقيه، وهو يقرر الأحكام الفقهية للناس، فيتنبه إلى بعض الأحكام الفقهية التي قد ينفذ منها مبطل وتحدث زعزعة في قلوب المتلقين من أهل الإسلام.
ولقد رأيت بعض الفقهاء يذكر الحكم من أحكام الشريعة ثم لا يبالي على أي نحو ألقاه، ولا على أي وجه ذكره، ولا يأبه بنفار من ينفر منهم، ولا يعصم كلامه بعواصم تمنع ولائج المبطلين، ثم لعله يظن بعد ذلك أن هذا من فعل أهل العزة بالدين والقوة في الحق.
وإنما الذي ينبغي أن يكون عليه الفقيه المصلح، أن يجمع بين الاستهتار بالملامة في ذات ﷲ، وبين الحكمة في بث علوم الوحي.
وأنا ضارب لك مثلًا من طريق القرآن في ذلك، وكيف أُحيط الحكم الشرعي بعواصم تمنع ذلك الذي ذكرت.
فمن ذلك قوله ﷻ: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ)
فقد جاء بيان حرمة القتال في الشهر الحرام، وتأكيد تحريمه وأكبريته.
ولكن انظر كيف اقترن مع هذا البيان ما يسد وليجة القدح في أهل الإيمان، ويصاغر من المبطل:
١- فقال ﷻ: (وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ)، فلئن كان بعض أهل الإيمان قد أخطأ وزلّ فإن زلل أهل الكفر أعظم، وفعلهم أجرم.
ولا يصح أن يُجعل المؤمنون غرضا لسهام النقد ثم يسكت عن الطغاة المتجبرين.
ولا يصح أن تكون حرمات الشريعة حابسة لأهل الإيمان، ثم يأمن المبطل الذي ينتهك كل الحرمات.
وأيضا فلما كان النقد مقابلا للتشجيع فربما أوهن في النفس، ولذا اقترن نقد المؤمنين بنقد أعظم لخصومهم من المشركين.

٢- ثم جاء التأكيد على عظيم جرم المشركين (وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ)، ولم يُعطف في السياق في هذا الموضع تأكيد على تحريم الفعل الذي كان من المؤمنين، واكتفي بتلك الإشارة الأولى في أصل تقرير الحكم الفقهي.

٣- ثم جاء تحذير المؤمنين من الانكسار لمكر الكفار وتحقيق مبتغاهم بفتنة المؤمنين ولم يأت تحذيرهم من القتال في الشهر الحرام! فقال ﷻ: (وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ).

٤- ثم جاء السياق القرآني مادحا للمؤمنين المجاهدين الذين اجتهدوا فأخطأووا: (إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَرۡجُونَ رَحۡمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ).
فإن المنقود ربما هبط قدره في نفوس المستمعين، فإذا اقترن النقد بالمدحة اتزن الأمر، وأقيم الحق وروعي الخلق.

• ومن الطريق القرآني في تقرير الحكم الفقهي: التوطئة للحكم الفقهي بمقدمات إيمانية سابقة على الحكم، ففي نزول حكم استقبال الكعبة، ونسخ استقبال بيت المقدس، 
في قوله ﷻ: (قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ)؛ جاءت موطئات وأتت مقدمات تهيئة لإلقاء ذلك الحكم، فمنها: 
١- فجاء الحديث عن نفاسة اليهود أن ينزل بالمؤمنين خيرٌ، وأتى ذكر ضنانة نفوسهم أن ينال المؤمنين هدى، فقال ﷻ قبل آية استقبال القبلة بنحو أربعين آية: {ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}، فإن تحويل القبلة للكعبة كانت كرامة حسدتنا عليه اليهود، كما جاء في المسند عن عائشة قال النبي ﷺ: ( ﺇﻧﻬﻢ ﻻ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻛﻤﺎ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ القبلة اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺧﻠﻒ اﻹﻣﺎﻡ: ﺁﻣﻴﻦ)!.

٢- وجاء قبل آية تحويل القبلة بنحو عشرين آية تفخيم شأن إبراهيم ﷺ، وفرض اتباع ملته، والإعلاء من ذلك، وذكر قصة بناء الكعبة.

٣- ومن الممهّدات التي تمهّد بها حكم تحويل القبلة؛ التنبيه على قاعدة كبرى من قواعد التشريع التي يأرز إليها المؤمن كلما جهل حكمة من الحكم الفقهية للحكم الشرعي، فقال ﷻ قبل آية تحويل القبلة مباشرة: {۞ سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُوا۟ عَلَیۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ}، فانظر قوله ﷻ:
{قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ}، ترى فيه خطابا استعلائيًا يستأنف به المسلم صراعه مع الزائغين المستشكلين للشرائع، ليقول لهم: أنا عبد لله، يأمرني بما شاء فأطيع، علمت حكمة ذلك أم لم أعلم، اطلعت على المقصد أم لم أطلع، فأنا عبد لله وهو يحكم ما يريد.

٤- ثم جاء في تمهيد هذا الحكم بيانٌ لحكمة من حكم هذا التشريع، ومقصد من مقاصده، فقال ﷻ: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}!
فلقد كان من مقاصد هذه الواقعة ابتلاء المؤمنين، ليتميّز أهل التسليم والخضعان لأمر ﷲ، المستجيبين لشريعته على أي نحو.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

كتبه: أبو المثنى في يوم الجمعة،  ١/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

السبت، 11 أبريل 2020

أوراق فقهية (٢١): حكم صلاة الجمعة في البيوت للحظر في أوقات الأوبئة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمع نزول حادثة حظر كورونا، وتعطّل الجُمَع في المساجد، وتعذر التجميع فيها، فعسى أن تجدّ من يظن أن الجُمعات تقام في البيوت، وتجمّع في المنازل، كشأن الجماعات في المفروضات، وهذا قول خارج عن قانون فقهاء الإسلام، وعلماء السلف، وقد دل على ذلك دلائل من تصرفاتهم، وليس الحديث عن تحقيق شرط العدد، أو البناء، أو الاستيطان، فكل ذلك ليس منا في شيء في هذه التوّه، وإنما الشأن عن إقامتها على غير ما شرعت عليه من هيئة الاستعلان وجمع الجماعات، ومن دلائل ذلك في تصرفات الفقهاء:
١- أن عامة فقهاء المذاهب ينصّون على أن الجمعات لا تصلى في البيوت، ولا تكاد تجد من ينصّ على أنها تقام في البيوت والمنازل، ومن ادّعى ذلك فليأتِ بمن قال ذلك سوى ابن حزم رحمه الله ومن جرى في مسعاه من الظاهرية، فإنه مخالف في أصل هذا الباب في مسائل كثيرة.

٢ - وأيضًا: فعامة السلف ينصّون على أن من فاتته الجمعة صلى في بيته ظهرًا، ولا تجد فيهم من يقول: إن من فاتته الجمعة لعذر أو لغير عذر يصليها جمعة في بيته، ولو جاز أصل إقامتها في البيوت لجاز قضاؤها على من فاتته الجمعة في المساجد أسوة بأصل هذه المسألة.

٣ - وصلاة الجمعة شرعت لتصلى على حال من ظهور الشعار، وقد صح أن فرض الجمعة نزل بمكة، ولم يصلها النبي ﷺ سرًا ثَمّّ، ولا يقال: إنما لم يصلها هناك لأن مكة كانت دار الحرب، فإن التعليل ليس لوصف الدار، ولكن التعليل بأن الجمعة لا تصلى إلا على هيئة من ظهور الشعار، وهو لا يكون في دار الحرب، فالوصف بدار الحرب مثال لتخلف هيئة الظهور في شعار الجمعة.
وليس الإشكال في عدم التجميع في البيوت من أجل اشتراط (البناء)، فالبناء وصف طردي لا يعلق على مثله الحكم، وإنما انعقد الإشكال لتخلف الظهور في هيئة الجمعة، حتى أنها لا تقام في المسجد (الذي لا يجمع فيه في حال ظهور وشعار) كما في المعتكفين في غير مساجد الجمعات، كما سيأتي.
ثم يقال: قد كان النبي ﷺ يصلي الجماعة سرا، كما جاء عنه هو وعلي رضي الله عنه، ولم يكن يصلي الجمعة، فدل على التفريق بين الجمعة والجماعة.

٤ - وأيضًا فقد ثبت في الصحيحين: ﻋﻦ ﻋﺎﺋﺸﺔ ﻗﺎﻟﺖ: ﻛﺎﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻳﻨﺘﺎﺑﻮﻥ اﻟﺠﻤﻌﺔ ﻣﻦ ﻣﻨﺎﺯﻟﻬﻢ ﻣﻦ اﻟﻌﻮاﻟﻲ" أي ﻳﺤﻀﺮﻭﻧﻬﺎ ﻧُﻮﺑًﺎ، ﻭاﻻﻧﺘﻴﺎﺏ اﻓﺘﻌﺎﻝ ﻣﻦ اﻟﻨﻮﺑﺔ، فلو كانت تقام في الحوائط والبساتين لأقاموها ولنقل ذلك.
٥ - وأيضًا: فقد تواتر النقل عن السلف الطيبين أن من صلى منهم جمعة خلف من لا تصح خلفه كمن كان لا يراها خلف الحجّاج بن يوسف؛ كان يصليها ظهرًا، ولم يأتِ أنّ منهم من كان يرجع فيصليها جمعة، وهذا مشهور جدًا عندهم رضوان الله عليهم.

٦ - بل أشدّ من ذلك أن جمهور الفقهاء ينصّون في الاعتكاف على اشتراط أن يكون في مسجد تقام فيه الجمعة، ومن رخّص في الاعتكاف في أي مسجد رخّص على أن يخرج للجمعة، ولم يرخص للمعتكفين أن يصلوا في مساجد اعتكافهم جمعة، فحصل من هذا التركيب أن قول عامتهم عدم صحة الجمعات للمعتكفين في المساجد التي لا تقام فيها الجمعات.

٧ - وأيضًا: فهم ينصّون على أن من لزم مكانه من النساء والمرضى والمحبوسين لا يصح أن يجمعوا في محالّهم، وحكوا فيه الإجماع، بخلاف لو جمّعوا مع من تصح منهم الجمعة، وهذا التفريق بين التجميع في البيوت والحبوس وبين التجميع حيث يجمّع المسلمون دليل على ما ذكرت.

٨ - وأيضا: فهم ينصون على أن المسافرين لا يجوز أن يجمّعوا بأنفسهم، بخلاف لو صلوا مع غيرهم ممن يصح أن يجمّع بها، فتصح تبعا لا استقلالا.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله الطيبين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.