الخميس، 25 أغسطس 2016

توهين علوم الوحي في النفوس


   الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
أما بعد :
     فمن تزيين الشيطان وكيده، ما تسمعه من توهينٍ لعلم الكتاب والسنة في النفوس في كلام بعض الكتاب والصحفيين‏، وما تراه بين حين وآخر من استضعاف لعلوم الشرع ورميها بالشَّوَه في أعين الجيل .

ولذلك فلننظر في بعض من لقِف هذه القالة، ولنسأل آحادهم ممن نظنه من أهل الإيمان وحب الدين، وإنما أدركته شبهة القوم في قلبه فصدق بعضها ..
فإن كثيرا من هؤلاء الشباب؛ إنما وقع فيما وقع فيه لعدم تصوره للعلوم الشرعية وموقعها من الدقة والعلو ..

أود أن أسأل من هوّن من العلم الشرعي ومنزلته :
هل اطلعت على علم الإقراء وضبط لفظ القرآن، والعناية بأدائه كما نطق به النبي ﷺ .
هل تعرف مدى تعب حافظ القرآن السنين الطوال، في حفظه وضبطه ومراجعته .
ربما لا يعلم - كثير ممن يهون من العلوم الشرعية - بنصَب حفّاظ القرآن وهم يجافون فرشهم بعد نصف الليل، ليحجزوا أرقامهم عند شيوخ الإقراء قبل الفجر، لينالوا مجلس الشيخ قبل اكتمال العدد !
حتى ينقلوا لنا لفظ الكتاب العزيز غضا طريا؛ كما أنزله الله لم يلتوِ بالتواء الألسن وفساد قريحتها ..
ألا يعدون هذا علما من العلوم؟
ألا يرون أنها تستحق البذل والنصب والجهد.
ثم .. هل اطلع قائل ذلك على علم رجال الحديث ؟
ووفياتهم وبلدانياتهم ؟
هل يعلم هذا المستهزئ بعلم الشريعة؛ أن عدد أحاديث النبي ﷺ التي في الكتب الستة ( أكثر من اثنين وثلاثين ألفا  - ٣٢٠٠٠ ) بأسانيدها، منها ( عشرة آلاف - ١٠٠٠٠ ) حديث غير مكرّر .
 ألا يعلم أن صاحب التخصص يأتي عليها درسا وحفظا ومراجعة وتفهما وفقها وتصحيحا وتضعيفا .
هل لقائل هذا القول اطلاع على علم‏ علل الحديث .
وهل قرأ شيئا من عجيب صناعتهم وبذلهم ؟
هل قرأ كتابا ككتاب ( علل الدارقطني مثلا ) ؟
ليطلع على شيء من أعظم أسباب حفظ الله لدينه .
لعل قائل هذا القول لم يطّلع على هذا العلم الذي به قوام معرفة صحة الحديث وضعفه .

إن رواة الكتب الستة قرابة ( ثمانية آلاف ) راوٍ أُثبتت أحوالهم ومروياتهم وشيوخهم وبلدانهم .
وصاحب التخصص يمر على هذا مراجعة ومقارنة ودراسة وبحثا، ومنهم من يحفظ ذلك ليظهر للأمة صحة حديث أو ضعفه، فهل ترى أن هذا ليس علما، وأن أصحابه لا ينالهم في سبيله الجهد والتعب ؟

وأيضا .. ألا يعدّون معرفة الحلال والحرام وبيانه للناس علما ؟
هل قرأ أمثالهم في أبحاث المعاملات المعاصرة المالية :
( كأحكام المرابحة، والصكوك وحكم العمل بالتنضيض، وخطابات الضمان، ورهن وحدات الصناديق الاستثمارية، وحكم التمويل التجميعي، وأجرة تعزيز الاعتمادات، وأحكام بطاقات الائتمان، والأوراق التجارية، وحكم المصارفة الفورية، وشراء الشيكات، وصيغ العقود ونماذجها المباحة )
وغيرها من المعاملات؛ التي يعكف عالم الشريعة على دراستها وبحثها والنظر في مآخذها ومداركها، ليبين حكمها للناس ويكشف وجه حلها وحرمتها .
ألا ترى أن هذا من العلم الذي ينتفع به المسلمون؟
هل اطلع من يهَوّن من العلم الشرعي على المباحث اللغوية التي يجهد نفسه فيها - المتخصص في فقه الكتاب والسنة -، ليعلم بها مراد الله ومراد رسوله .
وهل اطلع على ما اشتملت عليه هذه المباحث من القواعد الأصولية التي يستنبط بها الحكم الشرعي من النصوص .

ربما لم يطلع غير المتخصص على ذلك كله، وليس عليه فيه معابة، إذ ليس هذا من اختصاصه العلمي، ولا يمكن أن يكون كل المسلمين من أهل الاختصاص في علم الشريعة .
فإنما حسب المسلم غير ( المتخصص في العلم الشرعي ) أن يفقه ما يحتاجه من حكم صلاته وصيامه وزكاته وغيرها مما يجب عليه فرضا عينيا .
وأما صاحب الاختصاص فيجب عليه أن يقوم لله قومة إيمانية؛ يجتهد بها في دراسة الأحكام بأنواعها حتى يبين - للناس بأنواعهم - دينهم ويبصرهم به .
هذا ولم أذكر هنا أنواعا أخرى من دقيق العلوم؛ كعلم الاعتقاد والرد على شبهات الخرافيين والملاحدة وأهل الضلالة، ولا علم الفرائض الذي ليس يخفى ما فيه من وعورة، ولا علوم مصطلح الحديث، والقواعد الفقهية، والفروق والتقاسيم، وعلم غريب الحديث، والنحو، وغيرها من العلوم ..
وأما ما يعزف به بعضهم:
من أن أهل العلم الشرعي إنما ذهبوا للكليات الشرعية لضعف تحصيلهم في العلوم الطبيعية والتطبيقية فهذا ربما قاله قائله لعدم اطّلاعه على الساحة العلمية عن قريب، وهو حكم عام ذو جَنَف، مع أن فيه غفلة عن أن تحصيل العلم لا يقتصر على الجامعات .
انظر هذه الألوف المؤلفة من أصحاب التخصصات المختلفة يروحون للمساجد ويغدون، يطلبون هناك العلم ويحصلونه وهم مع ذلك أصحاب إتقان لتخصصاتهم . وأنا أحدثك عن نفسي؛ ففي مجالسي العلمية ودروسي الشرعية يحضر الأطباء والمهندسون وطلاب الشريعة ولم يقل أحد منهم هذا القول  ..
ثم إن الدراسات المعاصرة تثبت أن صاحب التخصص لديه من الفهم فيما تخصص فيه، والإدراك والإحاطة بمشكلات المسائل ما ليس عند المبتدئ، ففي كتاب: كيف يتعلم الناس، ص ٥٦، ذكر المؤلفون كيفية الاختلاف بين الخبير والنبتدئ، ومما قالوه:
- يلاحظ الخبراء الأمور ذات المعنى المتعلقة بالمعلومة ما لا يلاحظها المبتدئون.
- ينظمون المعارف أكثر من غيرهم، وغير ذلك.
وأخيرا:
 فإني أوصي هؤلاء الشباب وهم في طراءة الصبا؛ أن تحملهم جمحات الأمور على أن يخاصموا بدينهم، فيطيح بهم القلم فيما أعيذهم بالله منه .
وأقول لكل من أُشرِب هذه القالة :
ليعلم أنما ذلك من خدع الشيطان التي ينفخ بها في قلب صاحبها، فيملؤه بهذا الوهم، ليتكره له كل ما له اتصال بالوحي من درس وشخص  .

محمد آل رميح .
الرياض
1427/11/22