الجمعة، 13 ديسمبر 2019

درجات فهم القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فحين كنت تقلب مصحفك اليوم، وأتيت على تلك الآية التي مررت عليها قبلُ مئات المرات؛ هل وقفت فسألت: هل أنا ممن يزداد في فهم القرآن كلما ازدادت قراءتي له، ويترقى في معرفة مرادات ﷲ كلما اقتربت من القبر ودنت ساعة الموت حيث يتوقف المشروع! يتوقف مشروع تفهمي للقرآن ويقف عند هذا الحد، وهل أنا ممن يتفقه في كتابه ﷻ تفقه المنهوم كلما ازددت في العلوم؟
فإن مما قد علم بالضرورة العلمية القرآنية أن لفهم القرآن درجات، ولفقه آياته رتبا، ليس يستوي الناس في فهم مراد ﷲ منه، بل هم في ذلك على تفاوت بحسب ما يُعطون من العلوم والسداد.
وسآتي على أمثلة من ذلك، تُبيّن شيئا من المقصود، وتُظهر بعضا من المراد:
- قال ﷻ: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُوا۟ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)، ستجد هنا في أول آية في سورة الأنفال، أن الناس يتدرجون في فهمها، ويترتبون في معرفتها بحسبهم، ويرى ذلك المؤمن والمؤمنة من نفسيهما، فإن المؤمن يزداد في معرفتها مع ازدياده في الفهم، وكثرة ترداده لها مع امتداد العمر، فلا يزال يأخذ من عجائب الآية، وهداياتها، ثم ينقضي عمره ولم ينقضِ من عجائبها.
- فتراه في طراة عهده بالقرآن في صغر سنه يبحث عن معنى الأنفال، وربما سأل عن سبب نزول الآية.

- ثم يزداد فينظر أن الله يأمر عباده بالتقوى والإصلاح، هكذا دون أن ينتبه لاقترانها في الآية بما سيقت من أجله من الخصومة التي وقعت بين الصحابة.

- ثم يعرج المؤمن في مدارج الفهم القرآني بازدياده في العلم وتقدمه في العمر، فيزيد فيرى هنا طريقة قرآنية جليلة في لفت الانتباه بتصدير الآية بأسلوب الاستفهام (يسألونك).

- ثم ينتقل إلى فهم أوسع للقرآن فيبحث عن هذا الأسلوب في القرآن كله، فيبحث عن نظائر هذا الأسلوب في الآيات، فيتطلب لفظ (يسألونك) في كل القرآن، ويحاول أن يخرج بوحدة تجمع بينها إن وجد.

- ثم سيعلم أن القرآن ذو مثاني، يثني المعنى الواحد في مواطن، فيجتهد في البحث عن المعنى الذي جاء في هذه الآية في مواطن أخرى من القرآن. 

- ثم لعل أن تغلبه الصناعة الفقهية فيعكف على الأحكام الفقهية المتعلقة بالأنفال، وهل هناك فرق بينها وبين الغنيمة، ولماذا خصّت بالذكر إن كانت أخص من الغنيمة وهلمّ.

- أو لعله أن ينحو هناك فتؤنقه اللفتة اللغوية، والمبحث البلاغي، فينهم في معنى (ذات بينكم)، وفي الفرق بين سياق الشرط (إن كنتم مؤمنين) لو كانت (إذا كنتم..) ويرى أثرها في البحث العقدي المتعلق بتعليق الإيمان هنا، وسينظر في جواب هذا الشرط ما هو.

- ثم يزيد العبد من تدبر القرآن وتصفح معاني الآيات، فينظر ليرى: إن الآية أتت لتعالج أثرا من آثار الانتصار على النفوس! والنفس البشرية لها منعرجاتها، وآفاتها، وأدواؤها، بحسب طبيعتها، وبحسب تربيتها، وبحسب ما يعرض لها من أحوال وابتلاء، فهي تحتاج للعلاج في حال النصر وفي حال الهزيمة، في حال السرور وفي حال الحزن، في حال العافية وفي حال البلاء.

- ثم لعله أن يأتي فينظر قوله ﷻ (فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ) ليعلم أثر التقوى في الزهادة في الدنيا، وتطامن النفس عن الأطماع.

- ثم سينظر ليجد عجبا من العجب، وأن الله ﷻ تحدث بعد ذلك بأربعين آية عن أحكام الغنيمة فقال: (۞ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ..).
وجاءت القسمة للخمس، ولكن سيتأمل قوله ﷻ: (إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ)!
فإذا جملة الشرط تتكرر!
وإذا التعليق بالإيمان يأتي مرة أخرى!
(إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا)
فهناك في أول الأمر يقول ﷻ: (إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)، وهنا يقول: (إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا)!
فيقف مشدوها ويعكف مبهورا بعظمة القرآن، ويعجب للطريقة القرآنية في مداواة النفس.

- ثم يتبع ذلك تأمله أن كيف رد الله الغنيمة للمؤمنين بعد أن نزلت أول السورة، وبعد أن تهذبت النفوس وتطهرت وعلمت أن ليس لها شيء، وأن الغنيمة ليست مقابل جهد وبذل وعناء، ولكنها كرامة من الله ومنحة من الكريم ونفحة وعطاء تفضل بها الرحيم ﷻ.
وهكذا لا يزال المؤمن في رياض من النظر القرآني، وتفهم لمراد ﷲ، وتدبر لآياته ﷻ.
والله المستعان.

 الجمعة ١٦/ ٤/ ١٤٤١