الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

( أوراق فقهية - ٩ - ) : رايات الشعوب المسلمة واتخاذ الراية السوداء .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد ..
* فقد روي اتخاذ النبي ﷺ للرايات السوداء في أحاديث متعددة :
- فجاء عند الترمذي وابن ماجه عن ابن عباس قال:"كانت راية النبي ﷺ سوداء، ولواؤه أبيض" ‘¹‘.
الترمذي (1681)، ابن ماجه (2818) ..
- وعن البراء قال:"كانت راية النبي ﷺ سوداء مربعة من نمرة " .
الترمذي (1680) أبو داود (2591) ، .
- وفي المسند والترمذي عن الحارث بن يزيد البكري قال:"بعث النبي بعثاً فرأيت رايات سود تخفق في مسجد النبي ﷺ ".
المسند (15953) والترمذي (3274) .
- وفي المسند عن أنس:"أن ابن أم مكتوم كان يحمل راية سوداء يوم القادسية".
المسند (12344)، ونحوه في النسائي في الكبرى (8551)، وفي مسند أبي يعلى (3110)، في أحاديث لا تسلم آحادها من معارضة من جهة الصناعة الحديثية، وإن كان مجموعها صالحا للاستشهاد .
* إذا تمهد هذا فهل اتخاذ السواد في الرايات والشعارات والألوية من شمائل التعبد والاقتداء ؟
وهل ذلك سنة تتبع وشريعة تسلك ؟
أم أنه من ضروب أفعال العادات الجارية على غير مقتضى التشريع، ومن جملة التصرفات التي لا يلوح فيها معنى القربة والعبادة ؟
وذلك أن من المقرر في هيئة المتابعة للنبي ﷺ أن يفعل مثلما فعل النبي ﷺ على الوجه الذي فعل.
( اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية 275/2، مجموع الفتاوى 280/1، 248/24)..
فلابد في الاقتداء بالفعل النبوي من أمرين:
- اقتداء في صورة العمل .
- ومتابعة في القصد بالعمل من جهة التشريع أو عدمه.
فإن الفعل النبوي بالجملة يحتمل أن يكون من باب :
- التشريع وهو الأغلب في الباب، فإن الأصل حمل الأفعال النبوية على التشريع والعبادة والأسوة، ما لم يعارض ذلك ما هو أقوى منه .
(الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 249/1، قواطع الأدلة 304/1، المسودة 72/1، المحصول 245/3) ..
- ويحتمل أنه من خصائص النبي ﷺ ..
- ويحتمل أنه ﷺ فعل ذلك بمقتضى بشريته ..
- وقد يقع التردد بين كونه من أفعال القربة والتشريع أو من أفعال الجبلة وما يصدر بمقتضى البشرية أو العرف أو العادة أو نحوها .

قال الناظم :
وفعله المركوز في الجبلة ** كالأكل والشرب فليس ملة 
من غير لمح الوصف والذي احتمل ** شرعاً ففيه قل تردد حصل 
فالحج راكباً عليه يجري ** كضجعةٍ بعد صلاة الفجر
- فالنوع الأخير مما له تعلق بالعبادة أو بوسيلة العبادة هو محل حديثنا هنا ومنه: الركوب في الحج والاضطجاع بعد الفجر ودخول مكة من كداء والتحصيب واتخاذ الجُمّة والتختم والاكتحال والتطيب بعد الإحلال من الإحرام وغيرها ..
فهنا يقع تردد بين إلحاقها بباب التعبدات فيقتدى ويتقرب بها، أم أنها مما وقع اتفاقاً بمقتضى البشرية أو العرف والعادة دون قصد التشريع للأمة .
* وفي مسألتنا هذه فالظاهر أن اتخاذ الرايات السوداء ليس مما يجري مجرى السنة والتعبد لأمور :
1 - لأنه لم يكن له ﷺ راية واحدة، بل جاء - أيضاً - أنه اتخذ رايات أخرى ولها ألوان أخرى :
- كما روي عند الترمذي وأبي داود من حديث جابر:" أن النبي ﷺ دخل مكة ولواؤه أبيض".
وقال الترمذي حديث غريب (1679)، أبو داود (2592) وصححه بعضهم .
- وروي في أبي داود والبيهقي:" كانت راية النبي ﷺ صفراء ". 
أبو داود عن رجل (2593)، البيهقي (13063) .
- وفي الطبراني:"عقد راية بني سليم حمراء" كريز بن أسامة، في الكبير (425).
2- أن الكفار كانوا يتخذون الرايات السوداء أيضاً :
- فعند أحمد عن جابر:"أنه رأى رجلاً ضخماً من هوازن يقاتلهم، في يده راية سوداء".
أحمد (15027) ..
3- أن اتخاذ الراية بهذه الهيئة كان لمقصد ليس له نفوذ في التعبد وإنما لمقصد آخر، كما في شرح السير الكبير قال :"وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاً والرايات سوداً .. ثم قال: وإنما يستحب ذلك لأن السواد في ضوء النهار أبين ..
فأما من حيث الشرع فلا بأس بأن تجعل الرايات بيضاً أو صفراً..".
شرح السير الكبير (72/1) .
- ويقول ابن القيم في فقه قصة وفد صداء على النبي ﷺ :"ﻓﻔﻴﻬﺎ: اﺳﺘﺤﺒﺎﺏ ﻋﻘﺪ اﻷﻟﻮﻳﺔ ﻭاﻟﺮاﻳﺎﺕ ﻟﻠﺠﻴﺶ، ﻭاﺳﺘﺤﺒﺎﺏ ﻛﻮﻥ اﻟﻠﻮاء ﺃﺑﻴﺾ، ﻭﺟﻮاﺯ ﻛﻮﻥ اﻟﺮاﻳﺔ ﺳﻮﺩاء ﻣﻦ ﻏﻴﺮ ﻛﺮاﻫﺔ" (زاد المعاد ٥٨٣/3).
4- أن النبي ﷺ كان في بعثه وغزواته يعقد عدة ألوية ورايات لقبائل صحابته، وفي بعض الأحوال كان يضع للمهاجرين راية وللأنصار راية.(المسند 3486، زاد المعاد ٢٣٠/3، فتح الباري ٨/8) .
  1. فتنوع الرايات واختلافها ليس مذموماً في ذاته، وعليه فليس من الحكمة الإيمانية أن تعتدي جماعة أو قبيلة أو كيان على راية جماعة أخرى ما لم ترفعها مناهضة للشرع .

* فإن قيل: فقد جاء المدح في الآثار للرايات السود التي ستخرج في آخر الزمان من قبل المشرق فالجواب من وجهين:
- أولاً: أن أحاديث خروج الرايات السود في آخر الزمان من قبل المشرق أحاديث ضعاف لا تصح، وأمثلها ما جاء في المسند وابن ماجه عن ثوبان:"إذا رأيتم الرايات السود قد جاءت من خراسان فأتوها، فإن فيها خليفة الله المهدي" .
(المسند22387 ، ابن ماجه 4084)
فهو حديث ضعيف معلول، فأما رواية المسند ففيها عدة علل:
فيها شريك وابن جدعان وإرسال أبي قلابة، وأما رواية ابن ماجه ففي المنتخب للخلال :"ﺃﺧﺒﺮﻧﺎ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ - أي ابن أحمد بن حنبل - : ﺣﺪﺛﻨﻲ ﺃﺑﻲ ﻗﺎﻝ: ﻗﻴﻞ ﻹﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﻌﻨﻲ: اﺑﻦ ﻋﻠﻴﺔ - ﻓﻲ ﻫﺬا اﻟﺤﺪﻳﺚ، ﻓﻘﺎﻝ: ﻛﺎﻥ ﺧﺎﻟﺪ ﻳﺮﻭﻳﻪ، ﻓﻠﻢ ﻳﻠﺘﻔﺖ إليه، ﺿﻌﻒ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺃﻣﺮﻩ، ﻳﻌﻨﻲ: ﺣﺪﻳﺚ ﺧﺎﻟﺪ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻗﻼﺑﺔ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﺃﺳﻤﺎء ﻋﻦ ﺛﻮﺑﺎﻥ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻓﻲ: اﻟﺮاﻳﺎت "(المنتخب ٢٧٣)
وابن علية خصيص بالحذاء عارف بحديثه.
- ثانياً: ثم إنها لو ثبتت لم يكن فيها دليل على المطلوب، فإن الحديث خبر عن أحاديث آخر الزمان، وليس فيه حض أو حث أو أمر لاقتفاء ذلك وتطلبه، كسائر أحاديث الإخبارات عن وقائع آخر الزمان، فهي من الإخبار بالقدر الكوني، وليس هو من الأمر الشرعي الامتثالي .
- وفي مقابل ذلك تلك الرايات التي تتخذها الشعوب المسلمة في أقطارها، هل هي من باب المباحات التي تجري مجرى التوسعة وعدم الحرج، أم أنها بخلاف هذا ..
- ولاشك أن حديثنا ليس عن الراية بمعنى المنهج والقيادة والهدف الذي يدل عليه ما ثبت في المسند وصحيح مسلم:"ﻭﻣﻦ ﻗﺎﺗﻞ ﺗﺤﺖ ﺭاﻳﺔ عمية ﻳﻐﻀﺐ ﻟﻌﺼﺒﺔ، ﺃﻭ ﻳﺪﻋﻮ ﺇﻟﻰ ﻋﺼﺒﺔ، ﺃﻭ ﻳﻨﺼﺮ ﻋﺼﺒﺔ ﻓﻘﺘﻞ ﻓﻘﺘﻠﺔ ﺟﺎﻫﻠﻴﺔ" .
( المسند 7944، مسلم 1848 ).
فالمراد بالراية هنا أي غاية القتال ومراده وهدف قتاله وقيادته، فليس مقصدي هنا الحديث عن ذلك .
- كما أن الحديث هنا ليس عن راية وشعار قد عرف بأنها من شعارات الباطل.
- وليس حديثنا - أيضاً - عن راية وشعار يشتمل على مؤاخذة شرعية في ذاته ..
وإنما حديثنا عن راية يرفعها المسلمون وينصبها روادهم ابتداءً في بلد من بلاد المسلمين، ويجعلونها رمزاً لهم وشعاراً عاماً.
فأرى أن من غير الرشد استفزاز المسلمين بإهانة وازدراء راياتهم التي لا تختص بباطل، لأن الرافعين لمثل هذه الرايات ليسوا على ظهيرة واحدة بل هم طرائق قدد، لا تجمعهم مخالفة الشرع.
وليس يخفى أن للراية في نفوس الناس أثراً،“²“ وربما جعل كثير منهم الاستخفاف بها استخفافا ببلادهم وتضحياتهم، والراية كما يقول ابن خلدون في تاريخه: " ﺗﺤﺪﺙ ﻓﻲ اﻟﻨﻔﻮﺱ ﻣﻦ التهويل ﺯﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ الإﻗﺪاﻡ ﻭﺃﺣﻮاﻝ اﻟﻨﻔﻮﺱ ﻭﺗﻠﻮﻳﻨﺎﺗﻬﺎ ﻏﺮﻳﺒﺔ ﻭاﻟﻠﻪ اﻟﺨﻼﻕ اﻟﻌﻠﻴﻢ" . (٣٢٠)
وإنما تعامل هذه الرايات بحسب قيام أهلها بالشرع المطهر، وليس يجوز أن يتبغض المصلحون للناس بالإزراء بما يعظم في نفوسهم مما لا يخالف الوحي.
بخلاف الشعارات التي اختصت بأحزاب وتكتلات وكيانات معارضة للإسلام والمسلمين عدوة لهم.
والعلم عند الله .

كتبه: محمد آل رميح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن اللواء غير الراية لظاهر هذا الحديث فاللواء ما يعقد في طرف العمود ويلوى عليه، والراية ما يترك طرفه يخفق كما قال ابن العربي، وقيل الراية يتولاها صاحب الحرب وجنح الترمذي إلى التفرقة ولذا ترجم لكل في باب. (فتح الباري 126/6) .
وذكر إبراهيم الحربي أن اللواء هو لواء الأمير الأعظم والرايات ألوية صغار.
غريب الحديث (776/2) .
وفي النهاية أنهما سواء 279/4 وكذا في اللسان 266/15 .
٢- ولا زالت الدول والملوك في تاريخ الأمة تتخذ شعارات ورايات مختلفة فكانت بنو أمية تتخذ الخضرة، كما جاء في مآثر الإنافة قال:"ﻭﻗﺪ ﺣﻜﻰ ﺻﺎﺣﺐ ﺣﻤﺎﺓ ﻋﻦ اﻟﻤﻠﻚ اﻟﺴﻌﻴﺪ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﻴﻤﻦ اﻟﻤﻘﺪﻡ ﺫﻛﺮﻩ ﺃﻧﻪ ﺣﻴﻦ اﺩﻋﻰ اﻟﺨﻼﻓﺔ ﻭﺃﻧﻪ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻟﺒﺲ اﻟﺨﻀﺮﺓ" (٢٣٥/2).
وكانت بنو العباس تتخذ السواد، وهكذا سائر الملوك والدول، وقد ذكر الماوردي الشافعي في ذلك لطيفة تاريخية قال:"ﻭﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﺃﺣﺪﺙ اﻟﺴﻮاﺩ ﺑﻨﻮ اﻟﻌﺒﺎﺱ ﻓﻲ ﺧﻼﻓﺘﻬﻢ ﺷﻌﺎﺭا ﻟﻬﻢ، ﻭﻷﻥ اﻟﺮاﻳﺔ اﻟﺘﻲ ﻋﻘﺪﺕ ﻟﻠﻌﺒﺎﺱ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻳﻮﻡ ﻓﺘﺢ ﻣﻜﺔ ﻭﻳﻮﻡ ﺣﻨﻴﻦ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻮﺩاء، ﻭﻛﺎﻧﺖ ﺭاﻳﺎﺕ اﻷﻧﺼﺎﺭ ﺻﻔﺮاء"(الحاوي ٤٤٠/2) .
وقال ابن خلدون في تاريخه:"ﻓﺈﻥ ﺭاﻳﺎﺗﻬﻢ ﻛﺎﻧﺖ ﺳﻮﺩاً ﺣﺰﻧﺎً ﻋﻠﻰ ﺷﻬﺪاﺋﻬﻢ ﻣﻦ ﺑﻨﻲ ﻫﺎﺷﻢ ﻭﻧﻌﻴﺎ ﻋﻠﻰ ﺑﻨﻲ ﺃﻣﻴﺔ ﻓﻲ ﻗﺘﻠﻬﻢ ﻭﻟﺬﻟﻚ ﺳﻤﻮا اﻟﻤﺴﻮﺩﺓ، ﻭﻟﻤﺎ اﻓﺘﺮﻕ ﺃﻣﺮ اﻟﻬﺎﺷﻤﻴﻴﻦ ﻭﺧﺮﺝ اﻟﻄﺎﻟﺒﻴﻮﻥ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺒﺎﺱﻳﻴﻦ ﻣﻦ ﻛﻞ ﺟﻬﺔ ﻭﻋﺼﺮ ﺫﻫﺒﻮا ﺇﻟﻰ ﻣﺨﺎﻟﻔﺘﻬﻢ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻓﺎﺗﺨﺬﻭا اﻟﺮاﻳﺎﺕ ﺑﻴﻀﺎ ﻭﺳﻤﻮا اﻟﻤﺒﻴﻀﺔ"(٣٢١

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق