الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

الرخصة والعزيمة في العمل الإسلامي

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد..
- فإن أدلة التوسعة على المكلفين ودفع الحرج عن الأمة ورفعه عن المؤمنين بلغت في الشرع مبلغ القطع، وتواترت وتأيدت لفظاً ومعنى، ومِن أفراد ما تواردت عليه النصوص في هذا الباب: رفع الجناح والإثم، ونفي العنت، ووضع الآصار، ومنع الضرر والضرار، والأمر باليسر والرفق، وتعليق التكليف بالقدرة والاستطاعة، والنهي عن الغلو والدلالة على أن كل ما عمّت بليته خفت قضيته، وغيرها من وجوه التخفيفات الشرعية.
ولقد كان النبي ﷺ يتقي المشقة والعنت على أمته، وفي وصف الله له:"عزيز عليه ما عنتم".
ولذا ثبت في الصحيحين:" أنه ﷺ امتنع من الخروج في ليالي رمضان لصلاة في الليل خشية أن يفرض على الأمة".
وعند الترمذي:"أن النبي ﷺ خرج من عند عائشة قرير العين، طيب النفس، ثم رجع إليها وهو حزين!
فسألته..
فقال:"إني دخلت الكعبة، وودت أني لم أكن فعلت!
إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي".
وكره الرسول ﷺ سؤال من سأل عن فرض الحج:"أفي كل عام" كما ثبت في مسلم.

- ولكن لابد إذن من ضبط معنى العزيمة، حتى يسوغ تناول هذا المعنى بعد فهمه وتصوره.
فإن العزيمة: ما شرع من الأحكام الكلية ابتداءً، ولزم بإيجاب الله، خالٍ من معارض راجح .
- وإذا علمت هذا المعنى تبين لك وجه غلط من قال: إن العزيمة لا تلزم بها الأمة، وإنما للمكلف أن يلزم نفسه بها دون أن يعنت بها المسلمين! .
فإن أمارة العزيمة وعلامتها وبابها (الأصالة في الحكم) الذي يقابله الاستثناء، ومن الغلط أن يظن أنها تجري دائماً على منوال القوة والشدة الذي يقابلها التوسعة.
- ولذا فمن العزائم ما يكون بخلاف التصلب والقوة كتحريم سب آلهة المشركين مثلاً.
ويكشف سجف هذا الأمر ما يمثل به بعض الفقهاء من أمثلة العزائم بأنه كل ما دعت إليه المصلحة مما شأنه الرفق بالمكلفين والتوسيع عليهم كالبيع والمضاربةونحوها.
- ولهذا استشكل بعض أهل العلم وسم الرخص بالوجوب، ووجه هذا الاستشكال ظنهم أن الوجوب مما لا يلائم الرخص وإنما هو شأن العزائم، فاستشكل بعضهم وجوب بعض الرخص..
وأجاب بعض أهل العلم على مثل هذا الإيراد: أن الرخص إنما وجبت ها هنا لمّا جذبتها عزيمة أخرى، ففي إيجابهم لأكل لحم الميتة للمضطر وهو من باب الرخص، أجيب في ذلك؛ بأنها قد جذبتها عزيمة أخرى وهو وجوب المحافظة على النفس، كما استروح له الشاطبي في الموافقات، وفيه يقول ابن دقيق العيد:"لا مانع أن يطلق عليه رخصة من وجه، وعزيمة من وجه، فمن حيث الدليل المانع نسميه رخصة، ومن حيث الوجوب نسميه عزيمة".
- ويأتي الإشكال هنا بعدم ضبط معنى الرخصة أيضاً، أو بإنزالها قبل أن تستوفى شرائطها.
- فالرخصة: ما شرع على خلاف الدليل لعذر يشق، باستثناءٍ من أصل كلي يقتضي المنع عامة أو خاصة.
فهي طلب لفعل أو استباحة لمحظور خارج عن الوضع الأصلي لعارض.
- ولقد نعى ابن عاشور على العلماء إغفالهم للرخص العامة، بمقابل احتفالهم بالرخص العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار، مع أنها أولى بالتقديم على رخص الأفراد عند التعارض.
ومن لازم ذلك تقديم مقتضى الرخصة العامة وإن جلب العنت والمشقة على الخاصة، وله أمثلةٌ ذكرها بعض أهل العلم:
كإباحة رمي الأسرى المسلمين إن تترس بهم العدو - متى علمنا أن الكف عنهم يفضي إلى كسر المسلمين وتلدن شوكتهم - هذا مع لحوق العنت على طائفة من المسلمين -كالأسرى هنا- .
ومن ذلك المشقة الخاصة المقارنة للحدود والعقوبات الشرعية على بعض أفراد الأمة، فهي مشقة وعنت خاص اغتفر رعياً لمصلحة عامة الأمة.
- ومن ذلك إيجاب الجهاد على الأمة مع ما فيه من سفك لدماء بعض أفراد الأمة وفوت بعض دنياهم لما يتحصل من المصالح العظيمة للأمة بدفع عدوها وحكم شريعتها وبسط سلطان الله في الأرض وقيام هيبتها في العالمين.
- ومن دقيق المعاني التي يجب مراعاتها في العمل الإسلامي؛ أن ينظر إلى ما يترتب على الترخص من مفاسد على عبودية المكلف.
ويكشف ذلك الشاطبي في حديثه عن تعارض مفسدة التلفظ بكلمة الكفر مع مفسدة إزهاق الروح بالقتل، فجاءت الرخصة ثَمّ لأن الضرر اللاحق بالنفس عند الخوف من القتل ضرر (ظاهر ومعنى) بإتلاف الروح.
وأما في التلفظ بكلمة الكفر مع طمأنينة القلب بالإيمان؛ فهو ضرر في الظاهر دون المعنى والباطن، فما فات فيه من حق الله في الظاهر ليس يفوت في المعنى لانشراح قلبه بالإيمان .
- ومن المسائل التي لا يجوز إغفالها عند الحديث عن الرخص في العمل الإسلامي؛ أن المشقة لا تجلب التيسير دائماً!.
إذ أن من المشاق ما احتملته الشريعة في عمل المكلفين، فإن العبادات لا تنفك غالباً عن مشقة، حتى قال ابن نجيم وهو يرسم حدود هذه المشقة:"المشقة إنما تعتبر في موضوع لا نص فيه".
وحينئذ فإن المشقة إن عورضت بما هو أوثق منها كإحكام النص وصراحة دلالته لم تعتبر مسقطة للحكم، ولذا لما أمر الله بالجهاد -وفيه غاية المشقة من فقد المال والولد وفراق الوطن وفقد النفوس- أعقبه بنفي الحرج فقال:"وجاهدوا في الله حق جهاده، هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج".
- ومما يجب تداوله في ساحات العمل الإسلامي، ما نبّه عليه الشاطبي: بأن من اعتاد الترخص صار يلقى من كل عزيمة مشقة وحرجاً، ولم يستطع بعدُ أن يقوم بالعزائم، وتَطَلب طريق خروجه منها.
كما أن من تأبت نفسه الرخص مع قيام موجبها ربما غشيه الملل والسآم، فنفر من العبادة وكره العمل، بل ربما عوقب بنقيض فعله حين أبى صدقة الله عليه كما أشار ابن تيمية إلى طرف من ذلك.
- محمد آل رميح .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق