الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

• أوراق فقهية - ٤ - : ( المسبوق إذا قام بعد تسليمة إمامه الأولى قبل الثانية هل تنقلب نفلًا؟ )

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد ..
فقد سمعت مقطعاً لأحد الشيوخ، يُسأل فيه : ( عن حكم قيام المأموم بعد تسليمة إمامه الأولى وقبل أن يسلم الثانية ) ..
فقال :
" بأن صلاته تنقلب نفلاً ، هكذا قال الفقهاء " ا.هـ
- ولست هنا أغمص عليه اختياره لهذا القول؛ فهو قول له فيه إمام، بل هو مذهب الحنابلة، ولا جرم فإن المفتي سيجيب مستفتيه على مذهبه ..
لكنّ موقع الدَرك والتعقب هو إطلاقه في فتياه : بأن هذا قول الفقهاء !
فإنه لفظ يوهم الاتفاق، وينفي الخلاف ..
لاسيما في بلد لم يعتد أهله التقليد لمذهب، بل الغالب طلبهم للترجيح بين المذاهب .
ثم لم يقيد ذلك المفتي فتواه بالاختلاف بين جنس الفتوى وأعيان من يقع في ذلك.
فإذا تعلقت المسألة بإبطال فرض مسلم وإفساد عبادته كان ذلك أعظم وأطول .
فإذا كان هذا الحكم في مسألة لا يُقيم عمودَها نصٌ من الوحي كان هذا أكثر داعية للتعقب والاستدراك .
- وأود أن أقدم بين يدي هذه المسألة توطئةَ نصح لبعض شباب الدعوة والعلم - ممن له عناية بنشر تلك المقاطع من جوابات الشيوخ - : 
فإني أحب لهم أن يستأنوا قليلاً في نشر ما له تعلق بإبطال فرض المسلم والحكم بفساد عبادته، مما لا ليس له أثارة من نصوص الوحي ومذاهب الصحابة، وإنما يُنصَب عليها من تعليلات المذاهب ما ربما خالف الدليل وباين قول جمهور سلف الأمة .
 * وأما مسألة مفارقة الإمام قبل تمام سلامه الثاني فهي مبنية على مقدمة من مسألتين :
  - حكم التسليمة الثانية .
- ثم حكم مفارقة الإمام قبل تمام فرض صلاته .
ويتبع ذلك أن ننظر في حكم من ترك فرضاً أو واجباً جهلاً بالحكم من غير تعمد للمخالفة ..
* فأما المسألة الأولى:
حكم التسليمة الثانية 
- فجماهير أهل العلم على أن التسليمة الثانية حسنة مستحبة، بل قال ابن المنذر : "وكل من أحفظ عنه من أهل العلم؛ يجيز صلاة من اقتصر على تسليمة " الأوسط 223/3 .
- القول الثاني القول بالوجوب ، وهو رواية عن أحمد، وقال القاضي هي أصح .
ويُستدل للوجوب بأن الفعل النبوي جاء مبيناً للمجمل في قوله ﷺ : " تحليلها التسليم " .
والفعل المبين لمجمل قولي يأخذ حكمه، والأفعال النبوية متكاثرة بلزوم التسليمتين، وهي أصح وأصرح من أحاديث  التسليمة من فعله ﷺ .

واستدل من قال بعدم وجوبها بأن دلالة الأفعال على مطلق المشروعية لا على الوجوب .
وقد كان كثير من السلف يقتصر على تسليمة واحدة، فدل على أنه سائغ عندهم.
واستدلوا بأن من سلم واحدة فقد صح أنه امتثل للعبادة في قوله : " تحليلها التسليم " وقام بالعهدة .
وقد يستدلون بما جاء عند الترمذي وغيره عن النبي ﷺ عن عائشة : " أنه ﷺ كان يسلم في الصلاة تسليمة واحدة تلقاء وجهه ، يميل إلى الشق الأيمن شيئاً " .
ولكنه حديث معلول لا يصح، قد ضعفه أحمد واﺑﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﻲ وأبو حاتم وابن معين ﻭاﻷﺛﺮﻡ ﻭاﻟﻌﻘﻴﻠﻲ ، وهو مخالف للمشهور من الفعل النبوي .
إذا كان كذلك فالقول بالوجوب له حظ من القوة، لولا ما نجده من ترك كثير من الصحابة للتسليمة الثانية، كما جاء عن عثمان وعلي واﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻭﺃﻧﺲ ﻭﻋﺎﺋﺸﺔ، بل جاء عن بعضهم مرة التسليم عن اليمين والشمال ومرة الاقتصار على واحدة، فلولا أنهم رأوه سنة لا واجباً لما صنعوا ذلك، ولأنكر عليهم غيرهم ممن كان يسلم الثنتين، فالعلم عند رب العالمين .

- المسألة الثانية :
حكم مفارقة الإمام ..
فقد اختلف فيها الفقهاء على ثلاثة أقوال :
الجواز مطلقاً كما هو المشهور عند الشافعية .
والمنع مطلقاً وهو قول المالكية وقريب منه مذهب الحنفية.
وذهب الحنابلة إلى جوازه للعذر .

- واستدل المجوزون بأن المنفرد يصح له أن ينوي الائتمام بل الإمامة، فلئن يجوز للمأموم أن ينفرد من باب أولى، فإنه في الصورة الأولى يترقى من الأدنى إلى الأعلى - من الانفراد إلى الائتمام - ومما يقوي أولويته أن المأموم يصير منفرداً بغير نية كما في المسبوق إذا سلم إمامه، وغيره لا يصير مأموماً إلا بنية .
- واستدل المانعون بأن ذلك ترك للواجب وهو المتابعة، ولأن الجماعة واجبة .
- واستدل من جوزه للعذر؛ بمفارقة المأمومين لإمامهم في صلاة الخوف، وبما ثبت في الصحيحين في خبر الأنصاري الذي انصرف خلف معاذ، فإنه فارقه لعذر التطويل ولم ينكر عليه النبي ﷺ .
فإن قيل فقد جاء في مسلم :" أنه سلم ثم صلى لنفسه " أجيب بأنها رواية معلة، انفرد بها محمد بن عباد عن سفيان .

* بقي أن نعرج على حكم من ترك واجباً جهلاً منه بالحكم غير عامد لتركه .
وهي مسألة مبسوطة في مباحث عوارض الأهلية من كتب الأصول، والذي تنصره الأدلة وتدل عليه؛ أن من ترك واجباً جهلاً من غير تفريط ولم يعلم حتى خرج وقت العبادة فإنه لا يؤمر بقضاء ولا إعادة، وقد دل على ذلك أدلةأدلة :
منها ما ثبت في الصحيحين من حديث عمر وعمار حين أجنبا فتمعك عمار في التراب وصلى ولم يصل عمر، فلم يأمر النبي ﷺ عماراً بإعادة الصلاة، ولم يأمر عمر بقضاء ما ترك .
ومنها ما ثبت في السنن عن أبي ذر أنه كان في غنم له فأجنب وليس معه ماء فلم يصل عشرين ليلة، حتى قدم على النبي ﷺ فأمره بالغسل ولم يأمره بقضاء ما ترك .
ومنها أن النبي ﷺ لم يأمر المستحاضة أن تقضي ما تركت لما جاءته تستفيه، وغيرها من الحوادث التي ترك فيها الصحابة لمأمور ولم يأمرهم ﷺ بالقضاء، وقد قرر شيخ الإسلام ابن تيمية ذلك .
فلو قلنا بوجوب التسليمة الثانية وبعدم جواز مفارقة الإمام، لكان الواجب إعذار الجاهل وعدم إعناته، خاصة في مثل هذه المسألة التي تخفى على كثير من الناس ..
والعلم عند الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق