الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

الشيخ عادل الكلباني "شوى حتى إذا أنضج رمّد"

‏الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله..
أما بعد..
     الشيخ عادل الكلباني غليظة أصابعُه! أراد أن يقبض بين أمرين مختلفين وجَهِد طَوْله لينظمهما في نظام واحد فتعجل، والغلط موكول بعَقِب المستعجل.

فليس يشك مسلم أن القرآن هدى وشفاء، من قرأه متطلباً فيه الهدى وتدبره أوقر بعير فهمه أحمالاً من العلوم.
وهذا القدر ليس محل إشكال، وليس هو مما أجاذب فيه الشيخ عادل ولا يجاذبني.

لكن محل إغراب الشيخ وموضع عثر قلمه؛ ظنه أن المسائل كلها على وزان واحد ورتبة واحدة.
وأن (كل ناظر) في (كل مسألة) سينفصل بتأمله للنصوص بمعرفة حكم الله في كل تلك المسائل.

هنا ابيضت عين الشيخ عادل! فلم يبصر الفرق بين الصورتين..
واعتلتّ معرفته للنصوص فلم تسعفه للفرقان بين الحالين..
والشيخ عادل مثال جيد على مسألتنا هذه، نعم .. هو مثال جيد لقارئ النصوص الذي لم يستطع أن يفقه أنواع النظر في النصوص -كما سأبين بإذن الله -

فهلم فضيلة الشيخ لننظر؛ هل كل قارئ لكل مسألة يستطيع أن يدرس النص لينطق له النص بالحكم مستقلاً بنظره دون رجوع -ولو في بعض حين- لأهل الاختصاص؟ :

- ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم أنه قرأ:"حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر"
فعمد عدي إلى عقالين -أسود وأبيض- فجعلهما تحت وساده
فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال له:"إنك لعريض القفا؛ أن كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادك!".
فهل عرف الصحابي مطلق دلالة الآية، أم فهم فهماً احتاج معه إلى مراجعة وسؤال من يبين له معنى الآية ؟
يا شيخ عادل:
إنك لعريض القفا إن لم يكن هذا الأمر قد ظهر لك حين قرأت الآية وكررتها.

- ثبت في مسلم عن عمر أنه قال:
ﻣﺎ ﺭاﺟﻌﺖ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻲ ﺷﻲء ﻣﺎ ﺭاﺟﻌﺘﻪ ﻓﻲ اﻟﻜﻼﻟﺔ!
ﻭﻣﺎ ﺃﻏﻠﻆ ﻟﻲ ﻓﻲ ﺷﻲء ﻣﺎ ﺃﻏﻠﻆ ﻟﻲ فيها!
ﺣﺘﻰ ﻃﻌﻦ ﺑﺈﺻﺒﻌﻪ ﻓﻲ ﺻﺪﺭﻱ ﻓﻘﺎﻝ:
"ﻳﺎ ﻋﻤﺮ ﺃﻻ ﺗﻜﻔﻴﻚ ﺁﻳﺔ اﻟﺼﻴﻒ اﻟﺘﻲ ﻓﻲ ﺁﺧﺮ ﺳﻮﺭﺓ اﻟﻨﺴﺎء؟ ".

فما زال في نفس عمر من هذه الآية، ولم يفهمها وتمنى لو أنه سأل النبي ﷺ عن تفسيرها كما ثبت في البخاري.

أفترى عمر المُحدَّث حين نظر للآية كفاه نظره فيها ليفهمها ؟
مع أن أكثر الصحابة فقهوا معناها وعلموا مراد الله فيها!.

فما أوهن خيوط غزلك يا شيخ عادل، هل ينطبق كلامك الذي ذكرته في تغريداتك ونقلته عن بعض أهل العلم، هل ينطبق على هذا الشأن ؟

- في البخاري عن ابن عباس أن عمر سأل الصحابة عن قول الله:"إذا جاء نصر الله والفتح.."
فقال بعضهم:"ﺃﻣﺮﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻧﺴﺘﻐﻔﺮﻩ ﺇﺫا ﻧﺼﺮﻧﺎ ﻭﻓﺘﺢ ﻋﻠﻴﻨﺎ..
فسأل ابن عباس فقال:
"هو أجل النبي ﷺ
فقال عمر:لا أعلم منها إلا هذا!".
فانظر كيفأن أكثر صحابة النبي ﷺ ممن كان عند عمر، وفيهم عبد الرحمن بن عوف كما في البخاري، لم يعرفوا من معنى سورة النصر إلا المعنى الظاهر، وعرف عمر وابن عباس من السورة معنى وراء ذلك، فعلموا أنها سورة نعي النبي ﷺ وذكر أجله،
لما قد علموا من النصوص الأخرى التي جاء فيها الأمر بالستغفار عقب الصالحات وختام الطاعات، فكذلك هنا جاء الأمر بالاستغفار بعد الفتح إشارة إلى دنو الأجل.

فقلي لي بربك يا شيخ عادل ما الذي جعل كثيراً من الصحابة العرباء الفصحاء لا ينجلي لهم هذا المعنى، وهو المعنى الذي جعله عمر مقصد السورة الأكبر فقال:
"لا أعلم منها إلا هذا".

-في الصحيحين عن عائشة قال اﻟﻨﺒﻲ ﷺ :"ﻣﻦ ﺣﻮﺳﺐ ﻋﺬﺏ"
ﻗﺎﻟﺖ ﻋﺎﺋﺸﺔ:ﺃﻟﻴﺲ ﻳﻘﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ:
"ﻓﺴﻮﻑ ﻳﺤﺎﺳﺐ ﺣﺴﺎﺑﺎً"
ﻓﻘﺎﻝ ﷺ:"ﺇﻧﻤﺎ ﺫﻟﻚ اﻟﻌﺮﺽ ﻭﻟﻜﻦ ﻣﻦ ﻧﻮقش اﻟﺤﺴﺎﺏ ﻳﻬﻠﻚ".

فانظر إلى هذه الآية، حين استقلت عائشة بالنظر فيها فهمت خلاف دلالتها حتى بين لها النبي ﷺ دلالتها.
فلو جاء اليوم من ينظر في الآية ممن ليس له علم بهذا الحديث؛ وقد امتلأ أذنه بكلام الشيخ عادل فانطلق كالسهم في فهمه للآية، وقد وثّق الشيخ عادل قلبه بكل رباط، فأصبح يركن على معرفته للغة العرب ولا يتنبه لجهله بالحديث..

- في الصحيحين أن مسروق بن الأجدع كان يظن أن النبي ﷺ رأى ربه في المعراج لما قرأ هذه الآية:"ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى".
وعند مسلم في:"ولقد رآه بالأفق المبين"
حتى سأل عائشة فأخبرته أن ذلك جبريل".

فيا شيخ عادل هذا وهو مسروق -إمام من الأئمة- فإذا كان أمثال هؤلاء غلط في النظر المستقل للآية واحتاج لمن هو أعلم منه كعائشة ليبين له فجر المسألة الصادق، فماذا يقول أمثالك يا شيخ عادل من القراء ممن اغتبط بذلك وغفل عن مثل هذه المدارك؟
ثم ماذا سيقول ممن هم دون هذا من غير ذوي الاختصاص؟ الذين -ربما- انتفخ سَحَر أحدهم حين قرأ كلامك فأراد أن يستقل بالنظر، وقد ظن أنه قادر على معرفة الدلائل والاعتراض والرد والتعقب بل سيقرع باب الفتيا فيفتي لنفسه وغيره فيما ينزل بهم ولن يلتزم حداً معيناً، لما قد وجد في قلبه من تفسخ هيبة العلم وضعف توقيره للقول على الله.

-ثبت في الصحيحين ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻟﻨﺎ ﻟﻤﺎ ﺭﺟﻊ ﻣﻦ اﻷﺣﺰاﺏ:"ﻻ ﻳﺼﻠﻴﻦ ﺃﺣﺪ اﻟﻌﺼﺮ ﺇﻻ في ﺑﻨﻲ ﻗﺮﻳﻈﺔ"
ﻓﺄﺩﺭﻙ ﺑﻌﻀﻬﻢ اﻟﻌﺼﺮ ﻓﻲ اﻟﻄﺮﻳﻖ، ﻓﻘﺎﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ:
ﻻ ﻧﺼﻠﻲ ﺣﺘﻰ ﻧﺄﺗﻴﻬﺎ
ﻭﻗﺎﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ:
ﺑﻞ ﻧﺼﻠﻲ ﻟﻢ ﻳﺮﺩ ﻣﻨﺎ ﺫﻟﻚ
ﻓﺬُﻛﺮ له ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﻌﻨﻒ ﻭاﺣﺪاً ﻣﻨﻬﻢ".

فانظر إلى هذا الأمر النبوي الذي اختلف الصحابة في دلالته، واجتهد كل فريق منهم في معناه، وهم وإن عذرهم ﷺ جميعاً، فلا شك أنه ﷺ أراد معنى معيناً غاب عن أحد الطرفين.

وكذا فقد تأتي نصوص يفهم منها الناظرون معاني مختلفة، يُحتاج معها إلى تفحص المرجحات، والبحث عن البينات، التي تُسفر عن وجه المراد أو تقترب منه؛ مما هو خاصة فعل أهل العلم ومحل تكليفهم باعتبار تخصصهم ودرسهم وبحثهم.

- في السنن عن زيد قال النبي ﷺ :"ﻧﻀﺮ اﻟﻠﻪ اﻣﺮﺃ ﺳﻤﻊ ﻣﻨﺎ ﺣﺪﻳﺜﺎً ﻓﺤﻔﻈﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺒﻠﻐﻪ ﻏﻴﺮﻩ، فرب ﺣﺎمل ﻓﻘﻪ ﺇﻟﻰ ﻣﻦ ﻫﻮ ﺃﻓﻘﻪ ﻣﻨﻪ، ﻭﺭﺏ حامل ﻓﻘﻪ ﻟﻴﺲ ﺑﻔﻘﻴﻪ".

تأمل معي هذا الحديث..
لقد ذكر النبي ﷺ أن هناك من حملة العلم ممن ليسوا من أهل الفقه، فهل كفاه حمله المجرد للعلم أم لا ؟
ولو كان كل من حمل القرآن فقه مراد الله فيه؛ لما أمر النبي ﷺ حامل العلم بتبليغه وقال:"رب حامل فقه ليس بفقيه"..

وفيه بيان جليل أن الناظر والحامل للعلم نوعان:
- حامل له ليس يفقه ما يحمله ولا يدريه.
- وآخر من أهل الفقه والمعرفة والتدبر والرسوخ في العلم.

- وقد دل على هذا المعنى حديث أبي موسى الذي خرجاه الشيخان قال النبي ﷺ: "ﻣﺜﻞ ﻣﺎ ﺑﻌﺜﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻣﻦ اﻟﻬﺪﻯ ﻭاﻟﻌﻠﻢ، ﻛﻤﺜﻞ اﻟﻐﻴﺚ اﻟﻜﺜﻴﺮ ﺃﺻﺎﺏ ﺃﺭﺿﺎً، ﻓﻜﺎﻥ ﻣﻨﻬﺎ ﻧﻘﻴﺔ ﻗﺒﻠﺖ اﻟﻤﺎء ﻓﺄﻧﺒﺘﺖ اﻟﻜﻸ ﻭاﻟﻌﺸﺐ اﻟﻜﺜﻴﺮ.

ﻭﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﺃﺟﺎﺩﺏ ﺃﻣﺴﻜﺖ اﻟﻤﺎء ﻓﻨﻔﻊ اﻟﻠﻪ ﺑﻬﺎ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﺸﺮﺑﻮا ﻭﺳﻘﻮا ﻭﺯﺭﻋﻮا.

ﻭﺃﺻﺎﺑﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﻃﺎﺋﻔﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﺇﻧﻤﺎ ﻫﻲ ﻗﻴﻌﺎﻥ ﻻ ﺗﻤﺴﻚ ﻣﺎء ﻭﻻ ﺗﻨﺒﺖ ﻛﻸ..
ﻓﺬﻟﻚ ﻣﺜﻞ ﻣﻦ ﻓﻘﻪ ﻓﻲ ﺩﻳﻦ اﻟﻠﻪ، ﻭﻧﻔﻌﻪ ﻣﺎ ﺑﻌﺜﻨﻲ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ ﻓﻌﻠﻢ ﻭﻋﻠﻢ، ﻭﻣﺜﻞ ﻣﻦ ﻟﻢ ﻳﺮﻓﻊ ﺑﺬﻟﻚ ﺭﺃﺳﺎ، ﻭﻟﻢ ﻳﻘﺒﻞ ﻫﺪﻯ اﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﺭﺳﻠﺖ ﺑﻪ".
فتأمل هذه القسمة النبوية لأنواع من حمل العلم، وأنهم ليسوا سواء، بل منهم من هو زاملة علم وحامل كلمة (أجادب أمسكت الماء)..
ومن أهل العلم صاحب استنباط وفهم وفقه ( ﻧﻘﻴﺔ ﻗﺒﻠﺖ اﻟﻤﺎء ﻓﺄﻧﺒﺘﺖ اﻟﻜﻸ ﻭاﻟﻌﺸﺐ اﻟﻜﺜﻴﺮ)..
وهكذا..

لقد جعلت -يا شيخ عادل- كأدك أن
تصنع من الحث والحض لرجوع المسلم لأهل العلم -عند المشكلات- ضحكة تتندر بها، وتغري متابعيك فيه بالهمز وبسط اللسان، مما تعودته من دهرك، ولكل امرئ من دهره ما تعودا.

ولستَ أول من دعى لحل الوكاء وكسر الإناء، فقد قالها قبلك كثير، وركبوا هذه الصعيبة، حين آذاهم رد الناس لقولهم وفتياهم، وعدم حمل العلم عنهم، حتى قال أمثلهم طريقة:
إن هذا إلا قارئ قرآن ليس حامل فقه..
فاحتملت بعضهم غضبة من ذلك؛ دعته لتذليل كل صعب يحول دون نشر قوله ورأيه.
وإن لحامل القرآن في القرآن غَناء، وفيه له مقنع لو كان يعقل.

ولو استقبل حامل القرآن محراب التفقه في القرآن ويمّم قبلته، فحري أن تزاح عنه ثخونة الطبع وغلظ القفا التي صدته عن فهم مثل هذه المسائل.

ولعل الشيخ عادل أن يفقه من العلم لنفسه ما يزعه عن كثير من الإغراب في المسائل فينشرح بالعلم حرج الصدر، ويزيد المؤمن إيماناً يمنعه التخوض في دين الله بغير علم، ويتهيب التعجل في الفتيا.

-ومن تأمل ما مضى علم أن نصوص الشرع جاءت على أضرب:
فمنها ما يفهمه المسلم بموجب لسانه العربي ويعرف مجمل معناها ويفقه مراد الله ورسوله فيها..
- ومنها ما هو دون ذلك مما يحتاج المسلم فيه إلى الرجوع لأهل العلم والاختصاص، لموجبات كثيرة كالجمع بين ما ظاهره التعارض، أو النظر في دقيق لغة العرب أو الرجوع لفتاوى الصحابة أو لجمع ألفاظ وطرق اللفظ النبوي وغير ذلك.
وهكذا من المسالك التي يعرفها أهل الاختصاص لا لفضيلة ذاتية وإنما بمقتضى تخصصهم في هذا الشأن ودربتهم عليه، مع ما يكتسبه بعض من أدام النظر في نصوص الوحي من الخشية التي هي مظنة الإصابة. 
وأظن أن في الأمثلة التي ذكرت كفاية، وقليلها دال على المطلوب، يصيح بالمقصود..
والنصوص في هذا الباب كثيرة كلها تدل على هذا الأصل الشريف، وتبين وجه خلط الشيخ بين (نذارة العلماء من تقليد الآباء والأشياخ) وبين (الدعوة لنبذ أصول التلقي والترجيح والجمع والفتيا).
ولقد أعرضت عن النقل عن كتب أهل العلم في هذا السياق، وأردت الاقتصار على النصوص التي تبين المقصود حتى لا يقول الشيخ عادل بأنه لا يسلم بما جاء في كلامهم، وإلا فكتب العلماء مشحونة بتقرير هذا الأمر، ولا يزال عمل المسلمين على هذا النحو، لا تضرب قلوبهم عنه، لولا ما يسوده أمثال الشيخ عادل مما يحتاج لإنامته بمثل هذه النصوص.
لكن الشيخ عادل ألقى الزمام وحلّ اللجام..
غفر الله له ورده إليه.

والحمد لله ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق