الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

مواعظ من سورة النصر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله :
أما بعد ..
سورة النصر سورة النعي النبوي !
كما ثبت في البخاري ﻋﻦ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ ﻗﺎﻝ : ﻛﺎﻥ ﻋﻤﺮ ﻳﺪﺧﻠﻨﻲ ﻣﻊ ﺃﺷﻴﺎﺥ ﺑﺪﺭ ﻓﻜﺄﻥ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻭﺟﺪ ﻓﻲ ﻧﻔﺴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ :
ﻟﻢ ﺗﺪﺧﻞ ﻫﺬا ﻣﻌﻨﺎ ﻭﻟﻨﺎ ﺃﺑﻨﺎء ﻣﺜﻠﻪ !
ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮ :
ﺇﻧﻪ ﻣﻦ ﻗﺪ ﻋﻠﻤﺘﻢ !
ﻓﺪﻋﺎﻩ ﺫاﺕ ﻳﻮﻡ ﻓﺄﺩﺧﻠﻪ ﻣﻌﻬﻢ، ﻓﻤﺎ رأيت ﺃﻧﻪ ﺩﻋﺎﻧﻲ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺇﻻ ﻟﻴﺮﻳﻬﻢ
ﻗﺎﻝ :
ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻟﻮﻥ ﻓﻲ ﻗﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺗﻌﺎﻟﻰ: " ﺇﺫا ﺟﺎء ﻧﺼﺮ اﻟﻠﻪ ﻭاﻟﻔﺘﺢ " ؟
ﻓﻘﺎﻝ ﺑﻌﻀﻬﻢ :
ﺃﻣﺮﻧﺎ ﺃﻥ ﻧﺤﻤﺪ اﻟﻠﻪ ﻭﻧﺴﺘﻐﻔﺮﻩ ﺇﺫا ﻧﺼﺮﻧﺎ، ﻭﻓﺘﺢ ﻋﻠﻴﻨﺎ
ﻭﺳﻜﺖ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﻓﻠﻢ ﻳﻘﻞ ﺷﻴﺌﺎً
ﻓﻘﺎﻝ ﻟﻲ : ﺃﻛﺬاﻙ ﺗﻘﻮﻝ ﻳﺎ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ؟
ﻓﻘﻠﺖ : ﻻ !
ﻗﺎﻝ : ﻓﻤﺎ ﺗﻘﻮﻝ؟
ﻗﻠﺖ : " ﻫﻮ ﺃﺟﻞ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺃﻋﻠﻤﻪ له
ﻗﺎﻝ : " ﺇﺫا ﺟﺎء ﻧﺼﺮ اﻟﻠﻪ ﻭاﻟﻔﺘﺢ "
ﻭﺫﻟﻚ ﻋﻼﻣﺔ ﺃﺟﻠﻚ : " ﻓﺴﺒﺢ ﺑﺤﻤﺪ ﺭﺑﻚ ﻭاﺳﺘﻐﻔﺮﻩ ﺇﻧﻪ ﻛﺎﻥ ﺗﻮاﺑﺎ "
ﻓﻘﺎﻝ ﻋﻤﺮ : ﻣﺎ ﺃﻋﻠﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻻ ﻣﺎ ﺗﻘﻮﻝ "
تأمل هنا فإنك لن ترى في سياق السورة صراحة نعي النبي ﷺ ، ولكن عمر وابن عباس أخذا هذا المعنى الشريف من فهم تصرفات النصوص الشرعية ومعهوداتها؛ حيث اطّرد الأمر بالاستغفار في ختام العمل .

• فلقد أُمرنا بالاستغفار عقب الصلاة وفي ختامها؛ كما ثبت في مسلم عن ثوبان وعائشة : ( أن النبي ﷺإذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً ) . 
وكان الاستغفار بعد قيام الليل بالسحر : قال تعالى : ( والمستغفرين بالأسحار )
وبعد ركن الحج العظيم، بعد يوم عرفة : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ) .
ولما كانت سورة النصر تدعو إلى الاستغفار بعد الجهاد والنصر والفتح، كان في ذلك إشارة لقرب الوفاة النبوية ومفارقة الدنيا !
وهذا يأخذ بنا إلى باب عظيم من أبواب فهم مقام النبي ﷺ في الدنيا :
فحيث تحقق مراد الله في أرضه بتمكين دينه ودخول الناس أفواجاً في الإسلام فقد انتهت المهمة وحان الوداع .
فما أعظم الموعظة - والله - وما أحسن موقعها ..
فبعد تلك الحياة المديدة في الصبر والبلاء والدعوة والتضحية .. استغفر ربك !
بعد السنوات الطوال من الجهاد والهجرة والبذل .. استغفر ربك !
بعد مفارقة الأهل والوطن ومراتع الطفولة ومعاهد الصبا في ذات الله .. استغفر ربك !
بعد الجراح والآلام وشج الوجه وكسر الرباعية وقتل الأصحاب .. استغفر ربك !
وفي هذا المعنى العظيم يقول الله سبحانه عن خاصته من خلقه، وخلّص أوليائه :" فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم " !

• وختم الأعمال الصالحة بالاستغفار أدب عظيم من آداب الشرع الذي أدّب به أتباعه، فالاستغفار اعتراف من العبد بالقصور في جنب الله، وبراءة من الحول والطول والعجب بالعمل .
ثم فيه طلب للتجاوز عن الخلل والعفو عن النقص في العمل، واخصص بذلك أهل شعيرة الجهاد في سبيل الله الذي هو مقدمة الفتح والنصر، فإن الاستغفار بعدهما تنبيه لدفع العجب والبغي والفخر بالانتصار، الذي يبتلى به كثير من أهل الانتصار والفتوح ممن ليس من أهل كمال الإيمان .

• وأمر آخر لطيف؛ وهو أن شرف النصر لا يستحقه إلا أهل البراءة من وذح الذنب ووضره بالتطهر والاستغفار؛ ولهذا أمر الله بني إسرائيل عند دخول القرية أن يقولوا : ( حطة ) ، فقال ﷻ :" وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة " :  أي احطط عنا خطايانا واغفرها لنا، وقرن الله سبحانه بين الفتح والمغفرة في طليعة سورة الفتح فقال ﷻ :" إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً •• ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر "، وأخبر الله عن الربيين الذين قاتلوا مع الأنبياء :" وما كان قولهم إلا أن قالوا : ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا " .

• ثم تأمل أن النبي ﷺ قد أُمِر بالتسبيح مع التحميد، وكثيراً ما يقترن التسبيح بالحمد، في النصوص الشرعية والأدعية النبوية، كما في قوله تعالى :"فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون، وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون".
وكما في قوله تعالى :" ويسبح الرعد بحمده "
وقال تعالى :" وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده "
وقال عن الملائكة :" ونحن نسبح بحمدك "
وقال :"فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين " وغيرها .
وللمفسرين أقوال كثيرة في حكمة ومعنى هذا الاقتران، وأقربها - ولا ينافي غيره من الأقوال - أن التسبيح تنزيه لله عن النقائص؛ والحمد إثبات صفات الكمال له، فاجتمع في هذا مدح الله بالنفي والإثبات ، نفي النقائص وإثبات الكمالات .
- وقد لزم النبي ﷺ الدعاء بذلك بعد نزول هذه السورة عليه كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن النبي ﷺ بعدما نزلت عليه هذه السورة كان يقول في ركوعه وسجوده : " سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي ".

• ومن هذا الباب التسبيح لله بالصلاة !
وقد ثبت ذلك عن النبي ﷺ عند الفتح، وقد ثبت في الصحيحين من حديث أم هانئ :" أنه ﷺ صلى ثمان ركعات حين فتح مكة " .
وحمله بعض أهل العلم على صلاة النصر، قال ابن القيم - رحمه الله - :
" ثم دخل رسول الله ﷺ دار أم هانئ بنت أبي طالب فاغتسل، وصلى ثمان ركعات في بيتها وكانت ضحى، فظنها من ظنها صلاة الضحى، وإنما هذه صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصناً أو بلداً صلوا عقيب الفتح هذه الصلاة اقتداء برسول الله ﷺ ، وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكراً لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها " .
وقد سمّاها الشعبي صلاة النصر كما أسند ذلك الطبري في تاريخه في ذكر خبر فتح المدائن، وجاء عن سعد بن أبي وقاص عند فتح المدائن أنه صلاها .
وليس يخفى أن الصلاة تسمى تسبيحًا، ولذا سميت صلاة الضحى سبحة الضحى، وفي الصحيحين ذكر النبي ﷺ صلاتي الفجر والعصر ثم قرأ : "فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ".

• وفائدة أخرى في اقتران التسبيح والحمد مع الاستغفار، فإن هذا من كمال العبادة، فإن الأولى حق الله، والثانية من حظ العبد، وقد جاء نظير ذلك كما في سورة غافر : " واستغفر لذنبك وسبح بالعشي والإبكار " .

• وتأمل أيضاً هنا مسألة تربوية عظيمة، فإن الجهاد هو مقدمة النصر، والفتح هو المقصود السياسي للنصر، والنصر والفتح باب من أبواب هداية الخلق ودخولهم في دين الله، لنعلم هذا الارتباط الوثيق بين الدعوة والجهاد، وأن تحقق الدعوة وتمامها لابد فيه من قوة المجاهد وصولته وفتحه .
وضميمة ذلك أن مراد الجهاد الأولي هو هداية الخلق وصلاحهم، حتى لا تزيغ أبصار المجاهدين - وهم يحملون سيوفهم وقد تحرقت قلوبهم على الكفار غيضاً - لا تزيغ عن مقصد الدعوة والهداية للناس .
فالمجاهدون أهل لأن يوعظوا بهذه الموعظة، وحتى لا ينسى هذا المقصد العظيم نبّه النبي ﷺ المجاهدين من صحابته عليه، كما ثبت في الصحيحين عن سهل أن النبي ﷺ لما بعث عليا لفتح خيبر قال له : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " .
وفيهما أيضاً أن جرير بن عبد الله حين بعثه النبي ﷺ إلى ذي الخلصة، شكى إليه أنه لا يثبت على الخيل فضرب صدره وقال : " اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً " .

• وقد تكرر نعي النبي ﷺ لنفسه لأصحابه، كما فعل النبي ﷺ حين نعى نفسه في خطبة حجة الوداع، ففي الصحيحين أنه قال يومئذ : " لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا " 
وفي الصحيحين أيضاً : " أنه ﷺ أخبر فاطمة بقبض روحه فبكت " .

• وفي هذه السورة موعظة عظيمة للمؤمنين ففي مسند أحمد عن جابر : " أنه ذكر له اختلاف أحوال الناس فبكى !
ثم قال: سمعت النبي ﷺ يقول :" دخل الناس في دين الله أفواجاً؛ وسيخرجون منه أفواجاً" " . 

- ومن مواعظ سورة النصر : أن أشياخ بدر حين أنكروا على عمر إدخاله لابن عباس معهم، وسألهم عن السورة، فلم يعرفوا منها إلا ظاهراً، وأجاب ابن عباس بأنها نعي النبيﷺ، في ذلك دليل على أن المفضول قد يعلم مالا يعلمه الفاضل، فإن أهل بدر خير الصحابة وأفضلهم، ومع هذا علم ابن عباس ما لم يعلموا هم .
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

كتبه : أبو المثنى محمد آل رميح .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق