الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

تقرير مختصر عن كتاب : "نقض عثمان بن سعيد على المريسي"

     الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وسلم: أما بعد فهذا تقرير مختصر عن كتاب : " نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد فيما افترى على الله من التوحيد" وهو كتاب من أعظم كتب السلف رضوان الله عليهم، جمع فيه مؤلفه فأوعى، وأتى فيه بأنواع الحجج السمعية - من الكتاب والسنة - وثنّى ذلك بالحجج العقلية ، والردود اللغوية، فأثار النقع في معامع مصاولة المبتدعة، وهزّ لواء السنة في باح الجهاد باللسان، إذ قد ثبت في سنن أبي داود من حديث أنس مرفوعاً : " جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم" .
ولقد كان الناس في عصره في بُلَهنْية من العيش بالسنة، وصولة الشرع، والجيوش المحمدية ترعد بالتكبير من أقصى المغرب وجزيرة الأندلس، إلى ممالك الخطى والهند، في عز ومنعة وقيام بالحق وخضد للباطل، وكانت البدع مصرومة الرؤوس، مهدودة الأركان، إلا بسبب من الناس وحبل، فارتفعت شأواً بسلطان المأمون، وترعرعت بقضاة السوء، ولقي علماء السنة العنت، وشد عليهم الطاغي بالسماسم .
ثم مالبثت البدعة أن خبت وخمدت وأدبرت ولها ضراط، ورفع أهل السنة الرؤوس ، ولم يخفضوها يوماً من الدهر، ولكن المتجبر لايرعى ذمماً ولا يأوي على مسلم .

وكانت بدعة التجهم قد شرقت شرقة الموت بالسكاكين المحمدية، وظل الحال على علو للسنة وسفال للبدعة، حتى لبست بدعةُ التجهم لباساً آخر، وصيغت في صوغ ثانٍ !
فراجت على بعض الناس، فأشربتها قلوبهم ، وكان صائغها وصانعها - أبا الحسن الأشعري - وهو رجل تربى في حجر المعتزلة، ورضع لبان البدعة ، ثم اعتزل المعتزلة وقلاهم وعاداهم وأتى ببدعة بين البدعتين وقول له شطرين، فأراد نصر السنة والحق، ورد الباطل والضلال، لكنه غصّ بما أكل من موائد البدعة، وبقي منها بقية فقد كان زوج أمه إمام المعتزلة في عهده فتربى في كنفه ودرج في عشه .
وصنف أبو الحسن الأشعري في ذلك، وبقي عليه حتى بان له الحق بصحبة أهل الحديث من أتباع الإمام أحمد، وألف كتاب الإبانة فنصر فيه السنة في الجملة، وأوى إلى أهل الحديث والسنة .

ثم أتى بعده من انتحل بدعته الوسطى فبقي عليها، ونشرها وزاد عليها، ولا زالت يزيد شرها وينقص خيرها، كلما جاءت أمة من الأشاعرة زادوا على من سبقهم وأربوا، حتى أصبحتَ حين تقرأ في كتبهم ترى بدع الجهمية في ثوب آخر، فتأتي إلى قولهم وتأصيلهم فإذا هم إن خالفوا المعتزلة تضيفوا عند الجهمية، وإن خالفوا هؤلاء وهؤلاء ووافقوا السنة وضعوا لها من اللفظ ما يعيد الأمر إلى البدعة الأولى .
    ولهذا كان رد الإمام الدارمي على الجهمية رداً على الأشاعرة وزيادة، فإنك ترى فيه من أقوال الجهمية ماهو صريح مذهب الأشاعرة - كنفي أو تأويل الصفات الفعلية، ونفي العلو - وربما رأيت اختلافاً بين البدعتين في قالب اللفظ، ولكنك تجدها إلى مآل واحد، كما في مسألتي: " الكلام، والاسم والمسمى" .

وهنا تأتي أهمية هذا الكتاب، فإنه وإن كان رداً على الجهمية؛ إلا أن في طياته من الردود على أقوال الأشاعرة ما يثلج صدور المؤمنين، ولذا ترى تبغض الأشاعرة للإمام الدارمي وذمهم له ما ينبيك بما وراء ذلك .
ومما يزيد من جلال الكتاب؛ أنه ولد قبل بدعة الأشاعرة فهو أكبر سناً منها ! وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يسمي متأخري الأشاعرة بالجهمية الأشاعرة، وذلك لشدة ما بينهما من الشبه .
    وأما مؤلف الكتاب فإمام من أئمة السنة والأثر، بل هو من مقدميهم، فقد ولد سنة مائتين، وتلمذ على سادة الدنيا في عهده كأحمد بن حنبل وابن المديني وابن راهويه وابن أبي شيبة ووافق البخاري في كثير من شيوخه .
وكان فقيهاً محدثًا أديباً، أثنى عليه كبار علماء الدنيا، فقال عنه أبو زرعة : " ذاك رزق حسن التصنيف " .

وقال عنه يعقوب القراب : " ما رأى عثمان مثل نفسه ! " .
وكان ت رحمه الله - شديداً على أهل البدع، مغلظا عليهم، وهو صاحب حملة الاحتجاج على محمد بن كرام، وسبب طرده من هراة .
وللدارمي كتاب آخر في الرد على بدعة التجهم، وله كتاب المسند، وتوفي - رحمه الله سنة- ثمانين ومائتين .
ولقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية يثني على هذا الكتاب ويوصي به، فإنه قد جمع بين أمرين في نسيج واحد :

- فأتى بنقض أقوال بشر المريسي بالدلائل الشرعية، والحجج السمعية .
- وناقض بدعهم بالبرهان العقلي، وكانت كتب السنة في ذلك الوقت إنما تعتني بذكر الحجج الشرعية السمعية، إذ كان الناس في غالب أمرهم معظمين للسنة وقّافين عند حدودها .
ولكن هذا الإمام الجليل افترع هذه الطريقة في الرد على المبتدعة، فأتى لهم من جنس ما يموّهون، فكان يأتي بالدليل من الكتاب والسنة ثم يكر عليها بالغارة العقلية كما سأذكر بإذن الله .
     وهذا السفر المبارك طبع عدة طبعات، منها طبعة حامد الفقي وهي طبعة كثيرة الأخطاء، وفيها سقط وتقديم وتأخير، وطبع طبعة أخرى بتحقيق الدكتور رشيد الألمعي وهي رسالة علمية ( رسالة ماجستير ) ، وفيها قصور في توثيق النقل عن النسخ الخطية، مع ما أثقل حواشي الكتاب، وربما ألجأته أكاديمية البحث لشئ من ذلك، وطبع طبعة ثالثة بتحقيق الشيخ منصور السماري، وهي طبعة جيدة ولكنها ينقصها التنبيهات على بعض مسائل الكتاب ، وبيان صحة بعض الآثار والأحاديث وهي جيدة على كل حال، وطبع طبعة أخرى بتحقيق الشيخ القفيلي وفيها استدراك للمآخذ في الطبعات الماضية وهي جيدة أيضاً.


- والكتاب رد على بعض المتفقهة، حين صنع مؤلفا قرر فيه مذهب بشر المريسي وابن الثلجي، وصرح فيه بالنقل عنهما والرواية لهما، فجعل الإمام الدارمي رده على بشر رأساً، وكان ينقل من الكتاب مواضع كثيرة : يأتي للمسألة فيذكر الشبهة ثم يمحص القول ويبينه ويجلي السنة، ويروي بسنده من الأحاديث والآثار ما يزيف شبه الجهمي، ويرد عليه ما يورده من الآثار المعلولة، ويبين أخطاء الاستدلال لديه وأوجه الوهم .

وربما كانت تعتريه حدّة في البحث والتقرير، فيشتد على خصمه حتى يأتي بالتسفيه لقول المبتدع ما يضحكك أحيانا -كقوله: " هذا الذي لا يدري ما يخرج من رأسه " أو " هذا الذي أتى بمعنى ليس في العربية ولا في الفارسية " أو " انظر إلى هذا القول الذي لا يقوله الصبيان " ! .
    واستهل المصنف كتابه بذكر سوءة بشر وذم السلف له، ورد على من موّه على الناس وزخرف لهم، بأن بشراً من أهل الأقوال المعتبرة والرواية والدراية .
ونبه على كلمة خطيرة لايزال أهل الضلال يرددونها حتى يومنا هذا، ويجعلون منها مثابة تهوين للبدعة، ( وهو إيهام الناس أن الخلاف في هذي المسائل خلاف معتبر، من جنس غيره من الخلاف بين علماء أمة الإسلام )، فبين الحافظ الدارمي أن هذا تزوير وخيانة علمية، وأن خلاف الجهمية لعلماء الإسلام خارج عن قانون خلاف أهل الإسلام .
- ثم صدر الكتاب بمسألة خلق الأسماء، وقرر مذهب السنة فيها، وأن أسماء الله ليست مخلوقة، وأن الله لم يزل متصفاً بصفات وله الأسماء لم يحدث له ما لم يكن، والأشاعرة وإن لم يقولوا بقول الجهمية في هذه المسألة؛ إلا أن مآل القول إليه، وهي من جنس اختلاف قول الجهمية في خلق القرآن مع قول الأشاعرة في الكلام النفسي، فيجعلون ألفاظ أسماء الله مخلوقة ويسمونها - التسميات - فعاد قولهم كقول الجهمية القائلين بأن أسماء الله مخلوقة .
- ثم رد على الجهمي في صفات الله الفعلية كالسمع والبصر، ورد على بشر في نفي رؤية الله، وكسر شبهته في نفي الرؤية حين قال : أن النصوص التي تثبت رؤية الله مقصودها رؤية أفعاله وآياته ! وتعجب من هذا التأويل، الذي هو من جنس حجج الصبيان، فإن أفعاله وآياته مرئية في الدنيا للمؤمن والكافر، فما معنى تأقيتها بيوم القيامة .
- ثم ذكر أحاديث النزول ورد تأويل الجهمي لها، وأتى بقول علماء السلف، وهنا مدرك عظيم يجب التنبه له:  وهو أن الأشاعرة وافقوا الجهمية حذو القذة بالقذة في هذه القضية، فرد الإمام تأويلهم له بأنه نزول الرحمة والأجر، بأن رحمة الله وأجره وفضله ليس له اختصاص بثلث الليل، وزيّف ما نقل عن بعض السلف في تأويل ذلك وبين بطلانه عنهم، ونقل مذهب السلف فيه .
- ومن اللطائف أنه نقل عن الجهمية لمزهم لأهل الحديث بالتجسيم، وهو عين ما تلمز به الأشاعرة أهل الحديث أيضاً، فلا أدري كيف يتبرأ الأشعري من مذهب التجهم وهو يحرث حرثه ويبذر بذره .
- وتمم الكلام في العرش والحد والمباينة واليدين والعينين والإتيان والكلام والغضب والرضا وغيرها من الصفات .


• وقد نبّه الحافظ - رحمه الله - إلى قواعد عظيمة منها:
- أن هؤلاء المبتدعة هربوا من تشبيه الله بالمخلوقات - بزعمهم - فشبهوه بالمعدومات ، وهذه قضية مما ينبه عليها شيخ الإسلام في مواضع ويشنع بها على النفاة .
- ومنها : أن تأويل الكلام إنما يكون على معهود لغة العرب ولسانهم، ولذا فإنك ستجد أن  كثيرا من المبتدعة إنما أُتوا من جهة جهلهم بلغة الوحي .
- ومن القضايا التي لا تخطأها عين الناظر في هذا السفر المبارك؛ أنه يورد الشبهة من كلام الجهمية باستدلال قرآني يظنه البدعي ناصراً لبدعته، فيبين الحافظ جهة الفساد في فهمه للقرآن ويورد نظائر ذلك من القرآن، ويبين وجه الخلل في استدلال البدعي لبدعته .


*  وأود أن أختم بنقلين جليلين تكون خاتمة هذا التطواف اخترتهما للطافتهما :


• قال رحمه الله - في معرض الرد على بشر حين نفى صفة اليدين - : " أنا ما عرفنا لآدم من ذريته ابناً أعق منه إذ ينفي عنه أفضل فضائله، وأشرف مناقبه، أن خلقه الله بيده، فقال اليد هي القدرة " .


• وقال رحمه الله : "وما أحسب هذا المريسي إلا هو على يقين من نفسه أنها تأويل وضلال، ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال" .


هذا وقد رأيت أني مع طول ما كتبت؛ قد قصرت عن بلوغ مرادي في وصف الكتاب، ولكن هلم أخي المبارك واكرع من الكتاب كرع الظمئ، ولا تنسني من دعوة مباركة .

وكتبه محمد آل رميح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق