بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فأي شيء كان شأن الصحابة مع نبيهم ﷺ؟
كانوا معه على حال ممدود بالسماء!
كانت الأحداث تقع معهم في الأرض فيتنزل الوحي ليقيم الصف، ويسدد الخلل، ويداوي الجراح!
وأنت إذا نظرت إلى الأحداث الكبرى في سيرة النبي ﷺ وصحابته ستجد أن القرآن كان يتنزل مع أكثر تلك الأحداث، فنزلت سورة القصص في هجرة النبي ﷺ، وهي السورة التي جاء فيها ذكر خروج موسى ﷺ وهجرته وخوفه وترقبه، ثم عودته وانتصاره، ونزلت سورة الأنفال بعد بدر، ونزل الشق الثاني من آل عمران بعد أحد، وجاء أن سورة محمد نزلت بعد أحد أيضًا، وفي أحداث غزوة الأحزاب نزلت سورة الأحزاب، وبعد الحديبية نزلت سورة الفتح، وبعد غزوة تبوك تنزلت سورة التوبة.
والسيرة النبوية اختصار لما سيمر في تاريخ الأمة من أحداث ووقائع، فتحتاج معه إلى الاستهداء بالوحي، وما التاريخ إلا نصر وهزيمة، هجرة، وابتلاء وزلزلة، وها هي سور القرآن تهدي المؤمنين في كل حادثة وواقعة.
ومن الأحداث الكبرى التي وقعت للنبي ﷺ وصحابته ما كان من انكسار وقتل في غزوة أحد.
فانخزل في مسيرهم ذاك عبد ﷲ بن أبي ومن معه من المنافقين وممن تأثّر بهم، ثم كانت معصية الرماة على الجبل، ثم قُتل سبعون من خيرة صحابة النبي ﷺ، منهم حمزة عم النبي ﷺ ، وكُسرت ثنيته ﷺ، وشُجّ وجهه الكريم، وتردّى في حفرة، وقرحت نفوس الصحابة، وكظمهم الغم! وصاح الشيطان: قُتِل محمد! فكانت الداهية الكبرى التي دهت الصحابة، وبلغوا به الكلال والكمد، ومثّل بأجساد شهداء الصحابة.
أينتصر الكفّار على أهل الحق؟
أيصاب المؤمنون ومعه نبيهم ﷺ بأيدي أراذل الخلق؟
وهكذا نزلت الآيات من سورة آل عمران على رأس الآية المائة والعشرين إلى آخر السورة، تداوي تلك الجراح، وتضمّد الآلام.
• يقول ﷻ: (وَإِذۡ غَدَوۡتَ مِنۡ أَهۡلِكَ تُبَوِّئُ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ مَقَـٰعِدَ لِلۡقِتَالِۗ وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ).
افتتاح السياق القرآني في حديثه عن غزوة أحد يعيد للقارئ صورة الخروج النبوي للجهاد، وهو ليس أمرًا بعيدًا فقد كانوا به عهداء، لكن الموعظة الإيمانية في أول هذا الدرس هو التنبيه بمعية ﷲ، وعلمه، وسمعه، وإحاطته!
(وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)، سميع بما حدث، عليم بما وقع!
إن تلك الهزيمة، وذلك الانكسار والوجع والقتل والأسى، كان بعلم ﷲ وإحاطته، وله ﷻ حكمة بالغة، إن الإنسان يحتاج لمداولة النصر والهزيمة، ولو بقيت الأمة منتصرةً في كل حين لطغت، ولو بقيت منهزمة في كل وقت لانْماحت.
(وَٱللَّهُ سَمِیعٌ عَلِیمٌ)، عليم بما يصلح به حال الأمة، عليم بسننه في كونه، عليم بدائكم ودوائكم، عليم بما سيبرّد حرارة قلوبكم، ويداوي جراحكم.
• ثم أتى الدرس الثاني، والدواء التالي، يذكّر الصحابة بما همت به بنو حارثة وبنو سلمة، من التولي والفرار، لولا أن تولاهما ﷲ بولايته: (إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ).
تأمل الدرس، وانظر كيف أخبرت الآية عن الأمر الذي يحذر منه حقا، عن الأمر الذي لولا ولاية ﷲ وحفظه لوقعت فيه تلك الطائفتان!
إنَّ الأمر المخوْف ليس الهزيمة، ولا الشهادة، ولا الجراح!
إن الأمر الذي يُخْشى منه، ويحاذر على الأمة منه؛ أن تتولى عن الصف وتفشل عن الإقدام!
• ثم تدبّر هذا الضماد الثالث بعد ذلك، يقول ﷻ: (وَلَقَدۡ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ بِبَدۡرࣲ وَأَنتُمۡ أَذِلَّةࣱۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ)!
يا الله!
ما أحلى المواساة!
وما أطيب العزاء!
يذكرهم ربهم بأيام النصر، وذكريات الغلبة!
إن كنتم هزمتم اليوم فقد انتصرتم من قبل، وظفرتم في يوم بدر، وغَلَبْتم عدوكم في يوم الفرقان!
إذا هزمتْ الدعوة في ميدان، فتذكّر كم لها من فتح في ميادين، وإذا قهر أهلها في وقت، فليتذكروا كم بسط لهم من قلوب في أوقات.
إن النفوس المجروحة بأحزان الهزيمة تحتاج أن تتذكر دائمًا أيام ﷲ التي امتنّ بها عليها، تحتاج أن تستحضر ذكريات النصر والاستعزاز حتى لا يغلبها سواد الحزن ويهدّها ألمه.
• ثم تأمل بعد ذلك قوله ﷻ: (قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِكُمۡ سُنَنࣱ فَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلۡمُكَذِّبِینَ)!
إنَّ هذه الصولة للكفر والباطل جولة ثم يدالون ويهزمون ويكسرون!
وإذا تذكّر المؤمن الذي هزمه عدوه وبغى عليه؛ إذا تذكر أن أمر هذا العدو إلى زوال، وأن شأنه إلى اندراس، ورايته إلى انتكاس، كما كان شأن كل عدو لله ورسله من قبل؛ بردَ قلبه وسكنت نفسه.
• ثم انظر هذا الدواء القرآني للقلوب المنهزمة، في قوله ﷻ وهو ينهى عن الحزن والوهن: (وَلَا تَهِنُوا۟ وَلَا تَحۡزَنُوا۟ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)!
فإن الحزن يضعف الإرادة، ويقاصر الهمة.
وأما قوله: (وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ)، فتشجيع إلهي للفرقة المؤمنة المنكسرة للتو، المتألمة، المحبطة!
أنتم الأعلون فأنتم على الحق وهم على الباطل.
أنتم الأعلون بمنهجكم ومعتقدكم وإيمانكم.
أنتم الأعلون فقد أصبتم منهم في بدر أكثر مما أصابوا منكم.
والاستعلاء على الباطل فريضةٌ على كل مسلم ومسلمة!
ويتأكد فرضه في أزمنة الانكسارات والاغتراب.
ثم تأمل قوله ﷻ: (إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)!
وردد معي: اللهم اغفر!
اللهم تجاوز! فكيف يجد الحزن موضعًا في قلب مؤمن بالله؟
واﻟﺘﻌﻠﻴﻖ ﺑﺎﻟﺸﺮﻁ ﻓﻲ ﻗﻮﻟﻪ: (ﺇﻥ ﻛﻨﺘﻢ ﻣﺆﻣﻨﻴﻦ) يرعب المؤمن! ولعله ﻗﺼﺪ ﺑﻪ ﺗﻬﻴﻴﺞ ﻏﻴﺮﺗﻬﻢ ﻋﻠﻰ اﻹﻳﻤﺎﻥ، فكأنهم ﻟﻤﺎ ﻻﺡ ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﻮﻫﻦ ﻭاﻟﺤﺰﻥ ﻣﻦ اﻟﻐﻠﺒﺔ، ﻛﺎﻧﻮا ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ ﻣﻦ ﺿﻌﻒ ﻳﻘﻴﻨﻪ.
• ثم يستكمل السياق دواءه للمؤمنين، فيأتي في هذه الآية الكريمة أربعة أدوية للفؤاد المكلوم:
(إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ).
(إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُۥۚ وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَۗ وَٱللَّهُ لَا یُحِبُّ ٱلظَّـٰلِمِینَ).
- فيذكرهم بما يبرد نفوسهم، يذكرهم بمصاب العدو، وألمه، وقرحه: (إِن یَمۡسَسۡكُمۡ قَرۡحࣱ فَقَدۡ مَسَّ ٱلۡقَوۡمَ قَرۡحࣱ مِّثۡلُهُ).
فالقرح مشترك، والألم مشاع، والمصاب لا يسلم منه أحد، كما قال في سورة النساء: (إِن تَكُونُوا۟ تَأۡلَمُونَ فَإِنَّهُمۡ یَأۡلَمُونَ كَمَا تَأۡلَمُونَۖ وَتَرۡجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا یَرۡجُونَ)
- ويستمرُّ السياق فيذكّرهم ﷲ بسنة من سننه في الخلق، وعادة من عاداته في الكون، فيقول: (وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ)، وما أحوج المؤمن في طريق مواجهة الباطل إلى أن يفقه سنن ﷲ في كونه، وما أشد عوز الداعية والمصلح إلى تلمس هذه السنن، ودرسها، وفقه مباديها ومآلاتها.
- ثم يقول بعد ذلك: (وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟)، وفيه تذكير بحكمةٍ من حِكم ﷲ في سنة المداولة هذه، وأنَّ مِن حكمها أن يظهر إيمان المؤمنين، ويتميَّز صفهم من صف المنافقين، فإن الحقائق تظهر في المكاره ما لا تظهر في المحابّ.
- ثم يخبر ﷻ عن حكمة أخرى من حكم المصاب، فيقول: (وَیَتَّخِذَ مِنكُمۡ شُهَدَاۤءَ)، فالله يحب الشهادة والشهداء، ويحب أن يصطفي من عباده عبادا يقربهم ويؤويهم إليه.
وللحديث بقية.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
كتبه: أبو المثنى ٨/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط
فتح الله عليك ياشيخ محمد ينابيع العلم والحكمة وأدخلك في زمرة الربانيين
ردحذفجزاك الله خير شيخنا الفاضل أبو المثنى إستنباط بليغ أسأل الله أن يزيدك علماً وان يرزقك الفردوس الأعلى من الجنه.
ردحذفحفظكم الله شيخنا وبارك فيكم
ردحذفماشاء الله زادكم الله من فضله ونفعنا بكم