الأحد، 3 مايو 2020

المداواة القرآنية لآثار الهزيمة، في سورة آل عمران (٢)

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
ففي المقالة الماضية أخذنا في تأمل بعض ما جاء في سورة آل عمران من وجوه التأديبات القرآنيّة والمداواة الإيمانية للنفوس المنكسرة بعلو الباطل، والقلوب المثقلة بعبء الهزيمة.
تحدثنا عن التذكير القرآني بمعيّة ﷲ لهم، وأنَّ كل ألم وحزن وانكسار أصابكم أيها المؤمنون فالله عالم به، مقدّر له.
وأتينا على مداواة النفوس المنهكة بذكريات النصر والفتح كما ذكّرهم ربهم بانتصارهم في بدر وهم أذلّة.
وتحدّثنا عن النهي الرباني عن الحزن والوهن، والتذكير الإلهي باستعلاء المؤمن.
ثم التذكير بسنة المداولة بين الحق والباطل، وحكمة اتخاذ الشهداء، وغير ذلك من وجوه المداواة.

وهنا أوبة إلى السياق المتحنن بالمؤمنين، الذي لا زال يذكّرهم بحكمة هذا البلاء، ويزعهم عن الانكسار، ويؤدبهم بأدب المؤمن في المحنة:
• فقال ﷻ: (وَلِیُمَحِّصَ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ).
لقد كانت وقعة أحد وقعة ابتلاء وتمحيص، جعلها ﷲ لتمييز الصف، وقد عاد السياق في آخر السورة يذكّر بهذا المعنى، فقال ﷻ: (مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِ).
ومع وضوح قضية الابتلاء والتمحيص في النصوص الشرعية، لكنّك تتعجب كيف تعتقل بعض العقول عنه، ويغشاها فيه حجاب فلا تبصرها، ولا تتنبه لأنواعها، ولعلها أن تلتبس على بعضهم حتى يلبسها لباسًا ثانيًا.
والمؤمن بين حال بلاء وعافية، وانتصار وهزيمة، والدين له إقبال وإدبار، ورجوع ومضاء، ومن فقِه مرادَ ﷲ في خلقه وكونه معرفة هذا الأمر، فإذا نزلت بالمؤمنين نازلة وبلاء فيجب أن يتذكر المؤمن أن هذا موطن من مواطن التمييز والتمحيص، ليظهر من يثبت ومن يسقط.

- ثم تأمل هذا الجلال في قوله ﷻ: (وَیَمۡحَقَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ)!
إن لله سننًا في كونه، ونواميس أودعها في خلقه، لا تترتب آثارها إلا بوجودها -إلا لخارق من إعجاز أو نحوه-، ومن سننه ﷻ أن الأمم تستوجب الهلكة ببغيها وليس لمجرد كفرها، فجرى هنا القدر بحصول غاية البغي من قريش لتستحق فيهم سنة الإهلاك، والفقيه في خلق ﷲ وأمره يدرك ذلك، ويراه في الأمم التي جاوزت في الطغيان والبغي، فيكاد يرى مصارعها.

• ثم اتصل السياق منبّهًا على أنَّ هذا البلاء والتمحيص والتمييز له حكمته البالغة، فقال ﷻ: (أَمۡ حَسِبۡتُمۡ أَن تَدۡخُلُوا۟ ٱلۡجَنَّةَ وَلَمَّا یَعۡلَمِ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ جَـٰهَدُوا۟ مِنكُمۡ وَیَعۡلَمَ ٱلصَّـٰبِرِینَ).
فانتقل السياق ب(أم) التي تفيد الانتقال، فانتقل عن الحديث في المصالح الدنيوية لهذه المحنة، إلى المصالح الأخرويّة، فإن الجنّة محفوفة بكل مكرهة، والإيمان ليس بالدعاوى، وفيه تذكير بحقيقة الطريق، وأنه لابد من التمحيص والابتلاء.

• ثم قال ﷻ معاتبًا للمؤمنين الذين آلمهم القتل: (وَلَقَدۡ كُنتُمۡ تَمَنَّوۡنَ ٱلۡمَوۡتَ مِن قَبۡلِ أَن تَلۡقَوۡهُ فَقَدۡ رَأَیۡتُمُوهُ وَأَنتُمۡ تَنظُرُونَ).
فلما ذكر ﷲ للمؤمنين أن الجنة ليست بالدعاوى، عقّب ذلك بعتاب متصل به.
ألم تكونوا تتمنون الشهادة؟ فها هي قد جاءتكم!
ألم تتمنوا لقاء العدو؟ فهاهم!
وهنا يكشف ﷲ عن بعض دواخل النفوس، وغريب تصرفها، وأن الخبر ليس كالمعاينة، وأن تمني الشيء قبل وقوعه قد يخلفه حقيقة وقوعه، فوعظهم بذلك محفزا للغيرة الإيمانية التي تأنف من أن تبدّل وعدا وتخلف قولا.
وهذا العتاب عتاب متحنن بشباب المؤمنين الذين امتنعوا من البقاء في المدينة، وأبوا إلا الخروج للكفار، بخلاف رأي النبي ﷺ وكبار الصحابة، وتمني الشهادة محمود لا لوم عليه، ولكن الملامة على من تمنَّى لقاء العدو ركونًا على نفسه، أو تمنى الشهادة ثم حين رأى القتل في إخوانه ورآه قريبًا منه تفسخت أمانيه.

• ثم جاء التنبيه القرآني ناهيًا عن التعلق بالمعظّمين والقدوات، فقال ﷻ: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولࣱ قَدۡ خَلَتۡ مِن قَبۡلِهِ ٱلرُّسُلُۚ أَفَإِی۟ن مَّاتَ أَوۡ قُتِلَ ٱنقَلَبۡتُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ).
ففي المسند: أن الشيطان صاح: (إن محمدًا قتل)، فانهزم بعضهم، وقعد آخرون يأسًا.
فأنزل ﷲ هذه الآيات منبها على الثبات عند غياب القدوات، فإن وجود العلماء والمصلحين سلوة، وغيابهم محنة، وهو شجى للنفس يعرفه من جرّبه، وغصّة للحلق يشعر به من أنِس بهم وتعزّى برفقتهم، فجاء التنبيه محذرًا من الانقلاب على الأعقاب عند فقدهم، والانتكاس عند غيابهم، فغياب الرموز، وذهاب القدوات ليس حجة في الانقلاب على الأعقاب، وليس مسوّغا لترك الطريق.

فاشتملت هذه الآيات على هذه القضايا الثلاث:
- حتمية الابتلاء والتمحيص.
- والتحذير من الاغترار بدعاوى الثبات قبل ملاقاة البلاء.
- والتنبيه من الانقلاب على الأعقاب عند ذهاب القدوات.
هذه القضايا يجب أن تكون حاضرة في نفوس أهل الدعوة والإصلاح، وخاصة في أزمنة المحن والبلاءات.

• ثم يمضي السياق يذكر ببدهيّة لا يجهلها أحد، يذكرهم بأن الموت بقدر، والقتل بأجل: (وَمَا كَانَ لِنَفۡسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِ كِتَـٰبࣰا مُّؤَجَّلࣰا).
ولا تظنَّ أن الإنسان مستغنٍ عن التذكير بالبدهيّات، والضروريات! فإن القلب تدركه الغفَلات، وتستولي عليه حتى يغفل عن الواضحات من الحقائق، خاصة عند اشتداد الكروب، وتضايق المحن، فأتى التذكير أنَّ الموت بأجل وقدر.

• ومن جميل ما وعظ ﷲ به المؤمنين بعد انكسارهم ما جاء في هذه الآية: (وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ۗ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ).
لقد جاء السياق يذكّر المؤمنين بالتاريخ العطر لإخوانهم من المؤمنين السابقين، يذكرهم بذكريات الدعوة والجهاد والثبات في تاريخ قافلة الإصلاح، يذكرهم بالأمثلة الطاهرة في الطريق الإيماني الطويل.
وهو مثل مضروب للتكثير لأن كلمة (وكأين) يؤتى بها للتكثير، وقد قتل عديد من الأنبياء، وقتل كثير من أصحابهم، ولذا قال بعد ذلك (رِبِّیُّونَ كَثِیر).
وقد جاء في قراءة سبعية: (قُتِل معه ربيون)، بضم القاف، فضرب بهم مثلًا للمؤمنين الذين تألموا وجزعوا للمصاب، يضرب لهم المثل ليعلموا أن المصاب في هذا الطريق سنة من سنن ﷲ، ويضرب لهم عبرة يمدح فيه الثابتين مع أنبيائهم في البأساء، ويمدح بها الثابتين بعد أنبيائهم إن قتلوا، الذين تأدبوا في حال المواجهة والملاقاة بالآداب الإيمانية لمواجهة الباطل، فلم يهنوا ولم يضعفوا ولم يستكينوا، والوهن أصل المعايب، فإنه يورث الضعف، ومن ضعف استذله عدوه فاستكان له. 
وأما أولئك فتقدموا بلا وهن، وهم يستشعرون ما يثبتهم عند اللقاء، يستشعرون ذنوبهم، ويذكرون إسرافهم، فليس للذنوب  مكفرة كالشهادة في سبيل ﷲ، وهم مع ذلك يسألون الثبات والنصر على العدو.
وللحديث بقية.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
 كتبه: أبو المثنى، ١٠/ ٩/ ١٤٤١ هـ
خميس مشيط

هناك تعليق واحد:

  1. اللهم احفظ شيخنا بحفظك و ثبته و وفقه وارض عنه وانفعنا به

    ردحذف