الثلاثاء، 5 مايو 2020

المداواة القرآنية لآثار الهزيمة، من سورة آل عمران (٣)

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا يزال الحديث غضًّا طريًّا عن التربية القرآنية للنفوس المنكسرة بعد أحد، والآداب الإيمانية للصف المسلم الذي وقع في البلاء والمحنة.
• فيقول ﷲ ﷻ مذكّرًا المؤمنين ألا يرخوا آذانهم لزلزلة الكفار، ولا لإرجافهم، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِن تُطِیعُوا۟ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَرُدُّوكُمۡ عَلَىٰۤ أَعۡقَـٰبِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
والنفوس تقرح مع الهزيمة فتكون أكثر قبولًا للإرجاف! فإذا سمعت التثبيط دبّ إلى بعضها اليأس، وربما تمادى الأمر بالمسلم المنهزم حتى يرى في هزيمته في الميدان هزيمة في المبدأ والمعتقد، فيزيّن لبعضهم اتباع المنتصر!

• ويستمر السياق يتحدث عن سبب من أسباب الهزائم، فيقول ﷻ: (حَتَّىٰۤ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ)، ثم يخبر عن سبب من أسباب الاختلاف والنزاع: (مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَ)، ولطالما كانت محبة الدنيا والشح بها والأثرة سببًا للاختلاف والنزاع.

• ويستمر السياق، (فَأَثَـٰبَكُمۡ غَمَّۢا بِغَمࣲّ لِّكَیۡلَا تَحۡزَنُوا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَاۤ أَصَـٰبَكُمۡ)، يذكرهم ببعض حكم قضائه في تلك الغزوة، فذكرهم بحكمة ألمهم الأول حين سمعوا صائح الشيطان؛ (إن محمدًا قد قُتِل)، ثم لما تبيّن لهم سلامة نبيهم وحياته، ثابت إليهم أنفسهم، ورأوا أن لم يخسروا شيئًا وقد بقي لهم نبيهم ﷺ، وكان مآل هذا التقدير الربّاني بوجود الغم الأعلى خيرًا لهم، حين قارنوا ما وجدوا بما فقدوا.
وأهل الدعوة والإصلاح محتاجون أن يذكروا أنفسهم عند كل كسرة وغم وانخفاض، بما لديهم من الخير ثم يتخايلوا أنهم فقدوه كيف سيكون الحال، فذلك أحرى أن يعلموا أن فوق الغم غمًا.

• ثم جاء العتاب الجليل، يلفت النظر لسبب الهزيمة الأولوي؛ المعصية!
فالذنوب سبب كل بلاء وهزيمة، قال ﷻ: (إِنَّ ٱلَّذِینَ تَوَلَّوۡا۟ مِنكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟)!

ومن اللطيف هنا أن الله لما عاتب المؤمنين في هذه الآية وفي الآيات السابقة كان يعقب ذلك بذكر رحمته ومغفرته، فتأمل ما قال بعد عتابه السابق: {مِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلدُّنۡیَا وَمِنكُم مَّن یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِیَبۡتَلِیَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ}، فذكر عفوه عنهم.
وهنا لما ذكر أن الذنوب سبب من أسباب الهزيمة، فلما قال: {إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُوا۟}، عقب ذلك: {وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِیمࣱ}.
إنه الودود ﷻ يعاتب عباده ثم يبين رحمته وعفوه بهم، حتى تبقى النفوس بين الرغب والرهب، والرجاء والخوف، فذكّر المؤمنين ﷻ بالأمرين:
بالذنب والتقصير وآثاره.
وبعفوه ومغفرته ورحمته.
حتى لا تنكسر نفوس المؤمنين بمعصيتهم كسرة لا قيام بعدها، ولا ينسوا ذنبوهم وتقصيرهم.
ليتربى الصف المسلم على عدم التشفي من العصاة، واجتناب التعيير لهم، فليس الأمر تصفية لحسابات المتقاتلين، ولا انتقاما من المتسببين بالمصيبة والهزيمة، بل المراد أن تتزكى النفرس، وتتطهر القلوب.

• ثم نبههم ﷲ ألا تأكل الحسرة نفوسهم على من مضى في سبيل هذا الطريق وقتل في ذات ﷲ، قال تعالى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُوا۟ غُزࣰّى لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِیَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَ ٰ⁠لِكَ حَسۡرَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ).
فإن فراق الأحبة والأقارب والأصفياء يمض النفس، ويحرق الفؤاد، ولكن المؤمن يتعزّى بحسن خاتمة، ورجاء اللحاق بهم.
وأنت ترى في عصرنا كيف يألم الذين لا يؤمنون بالآخرة من عدد قتلاهم، وكيف توضع الإحصاءات والدراسات، وربما كانت سببا في سقوط حزب أو رئيس في انتخاباتهم، تنظر إلى تألمهم الممزوج بالحسرات فتتذكر قوله ﷻ:  (كَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ وَقَالُوا۟ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمۡ إِذَا ضَرَبُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ أَوۡ كَانُوا۟ غُزࣰّى لَّوۡ كَانُوا۟ عِندَنَا مَا مَاتُوا۟ وَمَا قُتِلُوا۟ لِیَجۡعَلَ ٱللَّهُ ذَ ٰ⁠لِكَ حَسۡرَةࣰ فِی قُلُوبِهِمۡ).

• ثم نبّههم ربهم ﷻ ألا يتركوا الأمر الشرعي إذا توهموه سببا للهزيمة!
فقال: (وَشَاوِرۡهُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ)
لقد أطاع النبي ﷺ مشورة أصحابه في أحد، فخرجوا من المدينة إلى ظاهرها، ووقعت الهزيمة!
فنبه ﷲ المؤمنين أن الشورى أمر مشروع، لا يجوز أن تربط به الهزيمة.
ولقد رأيت في الناس في هذا الباب عجبا، يعمل أحدهم عملًا فلا يتم، فيربط تخلفه بأمر آخر مقترن به، ولعله أن يكون أمرًا مشروعًا، بل قد تجد من يقرن البلاء بالاستقامة على الدين، والعزيمة في الطاعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إن الله ﷻ في أواخر السياق ذكر المؤمنين بالنعمة العظمى: {لَقَدۡ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذۡ بَعَثَ فِیهِمۡ رَسُولࣰا مِّنۡ أَنفُسِهِمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتِهِۦ وَیُزَكِّیهِمۡ وَیُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُوا۟ مِن قَبۡلُ لَفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ }
فمن أصيب بمصيبة فليتذكر منة الله عليه بالرسالة، والبعثة، والقرآن.
ليمزج ألم الهزيمة، والانكسار بالفرح بالإسلام والسنة، ذلك أحرى أن يذهب برد هذا حر تلك.

• وكان من أواخر ما نبه الله المؤمنين عليه في آخر السياق، التنبيه على سنة من سنن الله في كونه، حين قال: { مَّا كَانَ ٱللَّهُ لِیَذَرَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ عَلَىٰ مَاۤ أَنتُمۡ عَلَیۡهِ حَتَّىٰ یَمِیزَ ٱلۡخَبِیثَ مِنَ ٱلطَّیِّبِۗ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِیُطۡلِعَكُمۡ عَلَى ٱلۡغَیۡبِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ یَجۡتَبِی مِن رُّسُلِهِۦ مَن یَشَاۤءُۖ فَـَٔامِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِۦۚ وَإِن تُؤۡمِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَلَكُمۡ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ }
هكذا هي القضية، وهذا هو الأمر، ليس هناك سلامة من البلاء، ولا وقاية من المحنة، ،فقد ركب الله الدنيا على هذا النحو، ليس هناك سلامة من المشاق، والمصاعب، والبلايا، ومن ظن خلاف ذلك فإنما أتي من غفلته بسنن الله في كونه وخلقه.
 

كتبه: أبو المثنى ١٢/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

هناك تعليقان (2):

  1. حفظكم الله .. لله دركم .. متعنا الله بكم ولا حرمناكم

    ردحذف
  2. جزاكم الله خيرا ونفع بكم

    ردحذف