الخميس، 30 أبريل 2020

المداواة القرآنية لآفات الانتصار، من خلال سورة الأنفال

     

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
(فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ)
‏هكذا استهلت سورة الأنفال!
وهي السورة التي نزلت عقب اليوم التاريخي العظيم، عقب الانتصار على الكفار في أول وقعة بين الحق والباطل!
هكذا خوطب أهل بدر في أول هذه السورة!
‏أتدري من هؤلاء؟
‏إنهم الأطهار!
إنهم خيرة أهل الأرض في زمنهم بعد نبيهم!
إنهم الذين مرّغوا أنف الكفر للتوّ في غزوة الفرقان!
‏إنهم الذين اطّلع ﷲ عليهم فقال: «اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»!
‏ومع هذا تتنزل عليهم: (فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ)، فإنه ليس هناك أحدٌ في غنى عن الموعظة بالتقوى.
لما وقعت موقعة بدر نزلت سورة الأنفال، تزجي الصف، وتلم الشعث، وتسد الخلل، وتزكي القلوب، وتداوي النفوس من آفات الانتصار!
فكما أن الهزيمة تحتاج معها النفوس المجروحة لمواساة، والقلوب النازفة لمداواة؛ ولذا تنزلت سورة آل عمران بعد أحد، تمسح آثار الألم وتزكي النفوس بعد الكسرة.
فكذلك تحتاج النفوس مع النصر والفتح إلى تطهير وتربية! فلذا تنزلت سورة الأنفال!
والنفس البشرية لها منعرجاتها، وآفاتها، وأدواؤها، بحسب طبيعتها، وبحسب تربيتها، وبحسب ما يعرض لها من أحوال وابتلاء، فهي تحتاج للعلاج في حال النصر وفي حال الهزيمة، في حال السرور وفي حال الحزن، في حال العافية وفي حال البلاء.

ثم من الذي قال: إن الطائفة المنتصرة، والجماعة الظافرة لا تحتاج لتنبيه، ولا تعوزها تربية بعد انتصارها؟
إن الهزيمة في المعركة أو الانتصار فيها ليس آخر الشأن، ‏إنما الشأن كيف تكون القلوب بعد الهزيمة، وكيف تكون بعد النصر!
ف‏القلوب التي عرفت سبب هزيمتها، ثم لم تهن ولم تنكسر ليست مهزومة، وهكذا كانت سورة آل عمران.
‏والقلوب التي لم يطغها النصر، ولم تغيّرها غنائمه هي التي انتصرت حقًا، وهكذا نزلت سورة الأنفال.
و‏سنرى هنا كيف جاءت الهداية الربّانية بتزكية الصحابة، وتربية المؤمنين، للسلامة من الآثار التي قد تعْلَق بقلوبهم بعد النصر وعلو الراية!

• ففي صدر السورة جاءت هداية الوحي تُحذّر المؤمنين من التنازع على الدنيا بعد النصر والظفر، حين اختصموا على الغنائم، فقال ﷻ: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلۡأَنفَالِۖ قُلِ ٱلۡأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِۖ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَصۡلِحُوا۟ ذَاتَ بَیۡنِكُمۡۖ وَأَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥۤ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ).
هكذا في أوّل السورة أتى التحذير من تشوّف النفس للدنيا بعد الفتح والغنيمة، فجاءت الآية:
- بالأمر بالتقوى.
- وبالأمر بإصلاح ذات البين.
- الأمر بطاعة ﷲ ورسوله.
- ونزل الحكم الربّاني بأن الأنفال ليست لكم! وليس لكم من الغنيمة شيء!
إن حب الدنيا والميل لها وإرادة عرضها مركوز مغروز في النفوس، ثم تأتي أحوال، تزيد حبها في النفس، وتثير كوامن سكونه، فتحضر فيها المشاحة، وتحصل عليها الخصومة، ومن تلك الأحوال حال النصر والفتح وحصول الغنائم، فأتت التربية القرآنية بالوصية بالتقوى، لأن التقوى تعلي الهمة، وتزهّد في الدنيا، وتقوي الإيثار، وتعظم الرغبة في الآخرة.
ولا يمكن للقلب أن يرتفع عن الهبوط في المنافسة على الدنيا إلا بالتقوى، وصلاح السريرة، وهذه التقوى هي ذريعة إصلاح ذات البين، وهي باب طاعة الله ورسوله.
ولما حصلت الخصومة على الغنيمة لم يكتفِ العلاج القرآني بالأوامر الشرعية العبادية من التقوى وإصلاح ذات البين وطاعة ﷲ ورسوله؛ حتى جاءت التربية القرآنية بالحرمان! فأتى الحكم الرباني بمنع الغانمين من الغنيمة، وحرمانهم منها.
ثم ما الغنائم؟ وما كنوز الأرض عند هذا الحدث الهائل! الذي سماه ﷲ (يوم الفرقان)
ماذا تزن أموال الدنيا إذا قورنت بما حدث في هذا اليوم الفاصل بين الحق والباطل، الذي يبلغ في فضله أن يبقى متصلًا في أحداثه إلى يوم القيامة! كما روى البخاري ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻧﺎ ﺃﻭﻝ ﻣﻦ ﻳﺠﺜﻮ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﺮﺣﻤﻦ ﻟﻠﺨﺼﻮﻣﺔ ﻳﻮﻡ اﻟﻘﻴﺎﻣﺔ»، وفي الصحيحين عن أبي ﺫﺭ أنه كان يقسم ﻳﻘﺴﻢ ﻗﺴﻤًﺎ: (ﺇﻥ آية: (هَـٰذَانِ خَصۡمَانِ ٱخۡتَصَمُوا۟ فِی رَبِّهِمۡۖ) من سورة الحج، ﻧﺰﻟﺖ ﻓﻲ اﻟﺬﻳﻦ ﺑﺮﺯﻭا ﻳﻮﻡ ﺑﺪﺭ، ﺣﻤﺰﺓ، ﻭﻋﻠﻲ، ﻭﻋﺒﻴﺪﺓ ﺑﻦ اﻟﺤﺎﺭﺙ، ﻭﻋﺘﺒﺔ، ﻭﺷﻴﺒﺔ اﺑﻨﺎ ﺭﺑﻴﻌﺔ، ﻭاﻟﻮﻟﻴﺪ ﺑﻦ ﻋﺘﺒﺔ)!
ولكن لما كان الحرمان ليس مقصودًا، فبعد أن تهذّبت النفوس، وتطهّرت وعلمت أن ليس لها شيء، وتحقَّقت أن الغنيمة ليست مقابل جهد وبذل وعناء، ولكنها كرامة من ﷲ، ومنحة من الكريم ونفحة منه وعطاء، كما أن النصر والفتح منحة من الله ونفحة منه، فبعد ذلك تفضّل بها الرحيم ﷻ عليهم، وردها لهم، ونزلت بعد أربعين آية: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ).
والتنبيه على هذا الأمر من المعاني التي كثر دورانها في سورة الأنفال، حتى كادت السورة كلها أن تكون في هذا الأمر، فجاء التذكير مكررًا بأن النصر من ﷲ وحده، وأن الفتح منه ﷻ بلا طول ولا حول من العباد، ليتأكد عند المؤمن التعلّق بالله وعدم الإعجاب بالنفس، وقد جاء في كثير من الآيات على أنحاء:
‏- فكان أوله ذلك التنبيه العجيب، الذي ذكّر ﷲ فيه المؤمنين كراهية بعضهم ملاقاة العدو: 
(كَمَاۤ أَخۡرَجَكَ رَبُّكَ مِنۢ بَیۡتِكَ بِٱلۡحَقِّ وَإِنَّ فَرِیقࣰا مِّنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ لَكَـٰرِهُونَ)!
نعم!
لقد كرهتم أيها المنتصرون اليوم، ملاقاة العدو بالأمس!
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ)!
أيها البدريّون، يا أصحاب الفرقان، يا أهل الراية، لا تنسوا أنكم كنتم تريدون الأمر سهلًا، وتطلبونه بلا شوكة!
كنتم تريدون أمرًا صغيرًا محدودًا، وكان ﷲ يريد أمرًا عظيمًا يمتد في عظمته إلى السماء، إلى الملائكة، فيقول جبريل -كما في البخاري- للنبي ﷺ: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: «من أفضل المسلمين»، قال: وكذلك من شهد بدرًا من الملائكة.
كانوا يريدون قافلة تُغنم غنائمها وحسب، وكان ﷲ يريد نصرًا علويًا، يقطع فيه دابر الكافرين، ويظهر راية المؤمنين، ويرتفع بأسهم، ويصبح تاريخًا ترتوي منه الأجيال المؤمنة عزًا وإقدامًا.
ولتعلم الأجيال أن النصر ليس بالعدد والعدة.
ولتعلم أن المواجهات الأولى مع الباطل ليست كغيرها.
وأن السابقين في مقارعة الطغيان ليسوا كغيرهم.
وغير ذلك من دروس هذا النصر العظيم.
هكذا كانت يريد فريق من المؤمنين، وهكذا كان يدبر لهم ربهم.
فهل بعد ذلك سيجد الفخر بالنصر في قلوبهم الطاهرة موضعًا؟
وهل سيُدِل المنتصر بنصرٍ كان كارهًا للإقدام على معركته في أول أمره؟
وبعد هذا فهنا موعظة!
أرأيت كيف تكشف لنا السورة عن جانب من ضعف النفس ورجفتها عند المواجهة!
إن الإنسان يجهل نفسه كثيرًا، وتخفى عليه عيوبها، حتى إذا غامر، وشقّ التجربة تكشفت له نفسه على ما هي عليه، فتبين له منها ما لم يكن يعلم، فعاد عليها بالتأديب والتزكية والتربية، بعد أن أبصر مواضع الخلل ومغامز النقص.
وهذا المعنى الذي جاءت به السورة فيه تنبيه للمؤمنين لجلال التدبير الإلهيّ، وتذكيرهم بعظيم الحكمة الربّانية فيما يقضيه من أقداره على هذه الأمة، ليقارنوا ذلك بتدبيرهم هم، ورأيهم، ورغائبهم: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَیۡرَ ذَاتِ ٱلشَّوۡكَةِ تَكُونُ لَكُمۡ وَیُرِیدُ ٱللَّهُ أَن یُحِقَّ ٱلۡحَقَّ بِكَلِمَـٰتِهِۦ وَیَقۡطَعَ دَابِرَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ).
سيمرُّ بك في حياتك مواقف كبرى تكره فيها أمرًا مما ينزل بالأمة، ستتمنى خلافه، وتود لو كان الأمر كذا وكذا، ثم تتكشف لك الحجب بعد أن تمضي الأيام لترى عظيم تدبير ﷲ للأمة، وحكمته ورحمته بها.

و‏من ذلك أنَّ ﷲ ذكّر المؤمنين بالجنود الربانية والمعونات الإلهية، التي أمدّهم بها في هذه الغزاة، كالإمداد بالملائكة: (إِذۡ تَسۡتَغِیثُونَ رَبَّكُمۡ فَٱسۡتَجَابَ لَكُمۡ أَنِّی مُمِدُّكُم بِأَلۡفࣲ مِّنَ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ مُرۡدِفِینَ).
ثم لم يمضِ السياق حتى يبيّن أن ذلك المدد الملائكي -أيضًا- ليس يغني شيئًا إلا بإذن ﷲ وأمره وإرادته: (وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلَّا بُشۡرَىٰ وَلِتَطۡمَىِٕنَّ بِهِۦ قُلُوبُكُمۡۚ وَمَا ٱلنَّصۡرُ إِلَّا مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمٌ).
لقد تنزّلت الملائكة، وقاتلت مع المؤمنين كما ثبت في الصحاح، ومع هذا ينبه ﷲ المؤمنين أنّ النصر من عند ﷲ، وأنّ كل هذه الأسباب ليست تغني من دون ﷲ.
ومنه جندي النوم والنعاس، كما في قوله: (إِذۡ یُغَشِّیكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةࣰ مِّنۡهُ)!
ألم يأتِ عليك يوم من الهم الكظيم، والكرب الشديد، والخوف من التربّص، فهدأت نفسك بنومة خفيفة نفضت عنك الخوف والاضطراب؟
ومنه نزول المطر: (وَیُنَزِّلُ عَلَیۡكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ لِّیُطَهِّرَكُم بِهِۦ وَیُذۡهِبَ عَنكُمۡ رِجۡزَ ٱلشَّیۡطَـٰنِ وَلِیَرۡبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمۡ وَیُثَبِّتَ بِهِ ٱلۡأَقۡدَامَ
ومنها الامتنان بإلقاء الرعب في قلوب الكفار، في قوله ﷻ: (سَأُلۡقِی فِی قُلُوبِ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ ٱلرُّعۡبَ)، والرعب جندي من جنود ﷲ، يرسله على قلوب أعدائه، فتضعف عن ملاقاة المؤمنين، وتهتزّ أمام ضرباتهم.
ومن ذلك طمأنة المؤمنين بتقليل أعداد الكفار في نظرهم: (إِذۡ یُرِیكَهُمُ ٱللَّهُ فِی مَنَامِكَ قَلِیلࣰاۖ وَلَوۡ أَرَىٰكَهُمۡ كَثِیرࣰا لَّفَشِلۡتُمۡ وَلَتَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی ٱلۡأَمۡرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَۚ إِنَّهُۥ عَلِیمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ).
ومن جليل ذلك أن ﷲ ﷻ خاطب رسوله ﷺ وصحابته، بأن ذلك النصر والقتل والإثخان ليس من جهد العباد، ولا من قوتهم، فقال: (فَلَمۡ تَقۡتُلُوهُمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ قَتَلَهُمۡۚ وَمَا رَمَیۡتَ إِذۡ رَمَیۡتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ).
بل إن خطة المعركة، وترتيب التقائها كان يرعاه لهم ربهم: (إِذۡ أَنتُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُم بِٱلۡعُدۡوَةِ ٱلۡقُصۡوَىٰ وَٱلرَّكۡبُ أَسۡفَلَ مِنكُمۡۚ وَلَوۡ تَوَاعَدتُّمۡ لَٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِی ٱلۡمِیعَـٰدِ).
ثم يبلغ الحديث غايته وهو يذكر المؤمنين بضعفهم وقلّة عددهم وحيلتهم واستضعافهم، يذكرهم بالأيام الخاليات، حين كان المؤمنون بمكة يستضعفون ويعذبون ويقهرون، ثم هاهم اليوم يضربون هامات المتسلطين، وكل ذلك بفضل الله وتأييده وفضله: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).
ومن اللطيف أنه قد أصبح التذكير بذلك سببًا للاستجابة لأمر ﷲ في شأن كقسمة الغنائم، فإنّ ﷲ لما ذكر ما ناله المسلمون من الغنائم، وذكر قسمتها على النحو القرآني استدعى استجابتهم لهذه القسمة بتذكيرهم بما كان من فضله ﷻ عليهم بالنصر، فقال بعد الأمر بتقسيم الغنيمة: (إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ).
ومنه: (وَإِن یُرِیدُوۤا۟ أَن یَخۡدَعُوكَ فَإِنَّ حَسۡبَكَ ٱللَّهُۚ هُوَ ٱلَّذِیۤ أَیَّدَكَ بِنَصۡرِهِۦ وَبِٱلۡمُؤۡمِنِینَ)
ثم تكرر هذا المعنى: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ حَسۡبُكَ ٱللَّهُ وَمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ).
ثم عاد السياق في آخر السورة مذكرًا بالضعف البشري: (ٱلۡـَٔـٰنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمۡ وَعَلِمَ أَنَّ فِیكُمۡ ضَعۡفࣰاۚك).

• ومن الأمور التي نبّهت عليها السورة موعظة المؤمنين في نفوسهم بالتقوى والإنابة والاستجابة لأمر الله: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَجِیبُوا۟ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمۡ لِمَا یُحۡیِیكُمۡۖ وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّ ٱللَّهَ یَحُولُ بَیۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَقَلۡبِهِۦ وَأَنَّهُۥۤ إِلَیۡهِ تُحۡشَرُونَ).
فالدعوة للجهاد ومواجهة الباطل هي الحياة!
فإن الأمة تحيا بذلك من الذل الذي يركبها فيعسفها.
والأمة تحيا بذلك فتملك أمرها، وتستقل بإرادتها، وتنفرد عن ضغطة عدوها.
والأمَّة تحيا بذلك فترهب جنابها.
وما أحلى ما عقبت به هذه الآية، حين قال ﷻ: (وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ أَنتُمۡ قَلِیلࣱ مُّسۡتَضۡعَفُونَ فِی ٱلۡأَرۡضِ تَخَافُونَ أَن یَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَـَٔاوَىٰكُمۡ وَأَیَّدَكُم بِنَصۡرِهِۦ وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّیِّبَـٰتِ لَعَلَّكُمۡ تَشۡكُرُونَ).
كنتم قبل دعوة الحياة هذه مستضعفين لا يباليكم أحد باله.
كنتم قليلًا تخافون الخطفة.
ثم أنتم بعد الدعوة تحيون حياة يؤويكم ﷲ فيها، وكفى به من فضل!
فلتحذروا من العوائق التي تعوق السير، وتثبط القافلة، ولذا جاء التعقيب بعد ذلك بقوله: (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ)!
وكم كان حب الولد والمال حائلًا عن المشاهد، مجبنًا عن المواجهة!

• ومما جاء في هذه السورة التحذير من أدواء الانتصار:
ومنها فتنة المال والمغنم وانفهاق الدنيا.
(وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَاۤ أَمۡوَ ٰ⁠لُكُمۡ وَأَوۡلَـٰدُكُمۡ فِتۡنَةࣱ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥۤ أَجۡرٌ عَظِیمࣱ)، (وَٱعۡلَمُوۤا۟ أَنَّمَا غَنِمۡتُم مِّن شَیۡءࣲ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُۥ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِیلِ إِن كُنتُمۡ ءَامَنتُم بِٱللَّهِ وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا یَوۡمَ ٱلۡفُرۡقَانِ یَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرٌ)، (تُرِیدُونَ عَرَضَ ٱلدُّنۡیَا وَٱللَّهُ یُرِیدُ ٱلۡـَٔاخِرَةَۗ وَٱللَّهُ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ)!
أيها البدريون! إن معركتكم هذه معركة يدبرها ﷲ لكم، ويؤيدكم، وينصركم، إنها معركة في معية الله وتسديده، فلتحذروا أن تلتفتوا للدنيا، ولعرضها.
ثم جاء تحذير المؤمنين من الفخر والخيلاء، (وَلَا تَكُونُوا۟ كَٱلَّذِینَ خَرَجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِم بَطَرࣰا وَرِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ)، وكيف يفخر المؤمن وهو يعلم أن التوفيق من ﷲ، وأن النصر من عنده، وأن التدبير بيده؟

• وفي طيّ هذه الآيات جاءت تنابيه قرآنية ببعض قواعد أهل الإيمان في الحرب، ممزوجة بالتأكيدات الإيمانية الوعظية:
- فجاء في أول السورة، بعد الاختصار القرآني لأحداث غزاة بدر، وما منّ ﷲ به عليهم من المدد الرباني والجند الرحماني، جاء قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ إِذَا لَقِیتُمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ زَحۡفࣰا فَلَا تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ)، إن التعقيب بحكم الفرار من الزحف بعد ذكر الأمداد الإلهية للمؤمنين، يضعه موضع التعليل لكونه موبقة من الموبقات!
ألستم تعلمون أن النّصر من عند ﷲ، فكيف تفرون؟
أليست جنود السماء تقاتل مع جند ﷲ في الأرض، فلم الفرار!
أليست معيّة ﷲ للمؤمنين؟ فكيف تولون الأدبار؟
من أجل ذلك كان الفرار من الزحف جريمة عظمى، وموبقة من الكبائر!
على أن السياق القرآني أعطى لهذه الجريمة وصفًا تخبثه النفوس الحرّة، وتقذره الأفئدة الأَبيّة: (تُوَلُّوهُمُ ٱلۡأَدۡبَارَ)، (یُوَلِّهِمۡ یَوۡمَىِٕذࣲ دُبُرَهُ)!
هكذا يصف القرآن هيئة الفارّ، ويذكر صفته، فتتعاون الزواجر والألفاظ والمؤكدات الوعظية للزجر عن هذه الموبقة.
والحديث في هذه السورة يطول، ولعل لي عودة إليها بإذن ﷲ.
 كتبه: أبو المثنى، ٧/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط.

هناك تعليق واحد:

  1. حفظكم الله ورعاكم وبارك فيكم شيخنا الكريم

    ردحذف