بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فمما ينبغي أن يلفت نظر المتدبر لكلام ﷲ التأمل في السياقات القرآنية التي تتحدث عن أمر معين من شأن الشريعة، فيساق فيها أحكام ذلك الشأن، ويأتي فيه الأوامر والنواهي والضوابط والوجوه المتصلة بتلك القضية الشرعية.
تنظر في سورة البقرة فترى في أولها سياقًا يتحدث عن صفات المؤمنين ثم الكافرين ثم المنافقين، وفيه الأمثلة المضروبة للنفاق، ويمضي السياق بعدُ عن بني إسرائيل ثم يتصل بسياق تحويل القبلة، ومثله حين تأتي في سورة آل عمران، ستجد سياقًا طويلًا متحدثًا عن النصارى يقارب نصف السورة، لينتقل السياق إلى الحديث عن غزوة أحد، وهكذا في سائر السور في أنواع من السياقات التي لا تخفى على المتأمل.
ومن أطول السياقات التي جاءت في الحديث عن قضية البراءة من الكفار، سياق الحديث عنها في سورة المائدة، من قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)، فإنه ﷻ حين ذكر اضطرابات اليهود في دينهم، ومكرهم بالمؤمنين وسعيهم في إضلالهم، استعدت النفوس وتهيأت لاعتقاد البراءة منهم.
وسآتي -بإذن ﷲ- على ثلاثة عشر وجهًا من الوجوه التي جاءت مقررة لهذه الشريعة العظيمة، مؤكدة عليها، وأنبّه على جملة مقاصدها، طالبًا الاختصار في سردها، والله المستعان:
• أولًا: افتتح السياق بمجيء النهي عن موالاة اليهود والنصارى، في قوله ﷻ: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰۤ أَوۡلِیَاۤءَۘ).
• ثانيًا: ثم قرر حقيقة من حقائق الميول والولاءات والتكتلات، وهي حقيقة اتصال اليهود بالنصارى في محاربة المسلمين، فقال: (بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲۚ)، وهي هنا مسوقة مساق التأليب ليستعد المؤمن، فإنهم إذا كانوا ألبًا منجمعًا، وقوسًا واحدة على المسلمين فما الظن إذن؟
• ثالثا: ثم عقب ذلك بذكر حكم موالاتهم، فقال ﷻ: (وَمَن یَتَوَلَّهُم مِّنكُمۡ فَإِنَّهُۥ مِنۡهُمۡ)، وهي في خبثها درجات ليست على منوال واحد، ولكنها فعلة شنيعة جاء فيها مثل هذا التحذير، وأي تحذير أشد من أن يقال: من تولى كافرًا فهو منه.
رابعًا: ثم عقب ذلك بوصف فاعل ذلك بالظلم، قال: (إِنَّ ٱللَّهَ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ)، ووجه الظلم فيه بيّن، فإنَّ من تولى كافرًا فهو ظالم، لأنه عدل عن الولاية الحقّة، ولاية المؤمنين، واستبدلها بغيرها.
• خامسًا: ثم عقب ذلك بذكر بعض أعذار المنافقين، التي يتعللون بها بين يدي موالاتهم للكفار، فقال ﷻ: (فَتَرَى ٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضࣱ یُسَـٰرِعُونَ فِیهِمۡ یَقُولُونَ نَخۡشَىٰۤ أَن تُصِیبَنَا دَاۤىِٕرَةࣱ).
هكذا يعتذر أصحاب القلوب المريضة، يزعمون الحذق في فهم الأحداث، والنظر الدِقّ للمستقبل: إنما نفعل ذلك كياسة وحذقًا، فإننا نخشى انقلاب الموازين، واختلال القوى!
• سادسًا: ثم عقّب ذلك بتعقيب متحنن، يخبرهم أنّ هذا النهي عن موالاة الكافر إنما هو لمصلحة المسلمين، وأن من تولى الكفار فإنما ضرره على نفسه، فمن تولى عن الحق فإن لله أنصارًا سيرفعون الراية، وللحق جندًا سيهزون اللواء، (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ مَن یَرۡتَدَّ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَسَوۡفَ یَأۡتِی ٱللَّهُ بِقَوۡمࣲ یُحِبُّهُمۡ وَیُحِبُّونَهُۥۤ أَذِلَّةٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِینَ أَعِزَّةٍ عَلَى ٱلۡكَـٰفِرِینَ).
• سابعًا: ثم ذكر ﷲ ما يؤكد النَّهي، فقال: (إِنَّمَا وَلِیُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا).
وهو واقعة موقع تعليل للنهي، فإنّ من أكرمه ﷲ بولايته، كيف يتولى أعداءه ﷻ.
• ثامنًا: ثم يعقب بعد ذلك تعقيبًا يستثير به الحمية الإيمانية، فيقول: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تَتَّخِذُوا۟ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ دِینَكُمۡ هُزُوࣰا وَلَعِبࣰا)، فكما ذكر صورة وعذرًا وسببًا من أسباب موالاة المنافقين لهم، يذكر هنا صورة وسببًا من أسباب الحق في البراءة منهم.
وفيه تحريض المؤمنين ليكون براؤهم مبنيًا على أمرين:
- الأمر الديني المحض.
- وحميةً وانتصارًا لما ينالهم من الهزء والسخرية، وهو من الدين أيضًا.
ثم أتى ﷻ بصورة من صور هذا الاستهزاء يستدعي به شعور الأنفة في نفوس المؤمنين، وصورة الاستهزاء بالأذان تتخايل بين أعينهم، قال ﷻ: (وَإِذَا نَادَیۡتُمۡ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ ٱتَّخَذُوهَا هُزُوࣰا وَلَعِبࣰا).
• تاسعًا: ثم أخبرهم ربهم ﷻ عن سبب عداوة أهل الباطل لأهل الحق، والدافع وراء نقمة أهل الطغيان على أهل الدعوة والإصلاح، فقال تعالى: (قُلۡ یَـٰۤأَهۡلَ ٱلۡكِتَـٰبِ هَلۡ تَنقِمُونَ مِنَّاۤ إِلَّاۤ أَنۡ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡنَا وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلُ وَأَنَّ أَكۡثَرَكُمۡ فَـٰسِقُونَ).
فذكر سببين اثنين:
• السبب الأول: الاعتقاد!
فالقضية هي قضية عقيدة، والعداء عقدي في أوليّات أسبابه، والآية تذكر الكمال في الاعتقاد، فهي تذكر إيمان المؤمنين بكتابهم وبالكتب والرسالات السابقة.
• الدافع الثاني: أنهم أهل فسق وفجور، فالفاجر أشد ما يكون غيظه إذا كان خصمه متصفا بأحسن المحامد، وهو بأخس المراتب، فالفاجر يزكمه الطهر، والمبطل يكره المحق، لأنه يذكره دائما بنقصه وعيبه، فهم إنما عادوا أهل الإيمان لأمر هو أصل الفضائل، وأنتم مع ذلك من أهل الرذائل، وأشد الناس عداوة لأهل التميّز هو فاقده.
فذكر سببين اثنين:
• السبب الأول: الاعتقاد!
فالقضية هي قضية عقيدة، والعداء عقدي في أوليّات أسبابه، والآية تذكر الكمال في الاعتقاد، فهي تذكر إيمان المؤمنين بكتابهم وبالكتب والرسالات السابقة.
• الدافع الثاني: أنهم أهل فسق وفجور، فالفاجر أشد ما يكون غيظه إذا كان خصمه متصفا بأحسن المحامد، وهو بأخس المراتب، فالفاجر يزكمه الطهر، والمبطل يكره المحق، لأنه يذكره دائما بنقصه وعيبه، فهم إنما عادوا أهل الإيمان لأمر هو أصل الفضائل، وأنتم مع ذلك من أهل الرذائل، وأشد الناس عداوة لأهل التميّز هو فاقده.
• عاشرًا: ثم في آخر الآيات جاء السياق محرضًا عليهم بذكر بعض صفاتهم الخبيثة، وهذه طريقة قرآنية متكررة لاستثارة ثوائر البراءة بالتذكير بشنائع الكافر، فقال ﷻ: (وَإِذَا جَاۤءُوكُمۡ قَالُوۤا۟ ءَامَنَّا وَقَد دَّخَلُوا۟ بِٱلۡكُفۡرِ وَهُمۡ قَدۡ خَرَجُوا۟ بِهِ).
وقال سبحانه: (وَتَرَىٰ كَثِیرࣰا مِّنۡهُمۡ یُسَـٰرِعُونَ فِی ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِ وَأَكۡلِهِمُ ٱلسُّحۡتَ)
حتى أتى عند هذه الكلمة الكبيرة، التي فاهوا بها، محرضا المؤمنين ألا يكون في قلوبهم ود لمن مقاله هذا المقال: (وَقَالَتِ ٱلۡیَهُودُ یَدُ ٱللَّهِ مَغۡلُولَةٌۚ غُلَّتۡ أَیۡدِیهِمۡ وَلُعِنُوا۟ بِمَا قَالُوا۟ۘ).
• حادي عشر: ثم يستمر السياق يخبر المؤمنين أنهم ممعنون في البغضاء، يزيد بغضهم للمؤمنين مع ازياد الهدى لهم، وجاء مؤيسًا المؤمنين أن يكون لليهود معهم التقاء، أو يكون هناك اقتراب، فيقول ﷻ: (وَلَیَزِیدَنَّ كَثِیرࣰا مِّنۡهُم مَّاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَ طُغۡیَـٰنࣰا وَكُفۡرࣰا)، فالعداء مستحكم، والخصومة مؤبدة.
• ثاني عشر: ثم يستمر السياق يذكر بعض ما يؤكد البراءة، فيذكر أن هؤلاء القوم مختلفون فيما بينهم، تتجارى بهم الخصومات مع بعضهم، فكيف تأتلف أيها المؤمن وتأمن من لم يأتلف معه ابن عمه، وصاحب دينه! فيقول ﷻ: (وَأَلۡقَیۡنَا بَیۡنَهُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةَ وَٱلۡبَغۡضَاۤءَ إِلَىٰ یَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِۚ
• ثالث عشر: ثم ختم السياق يشجّع المؤمنين على هذه العداوة، ومقويًا نفوسهم، يخبرهم بضعف خصومهم، وذهاب ريحهم، فيقول سبحانه: (كُلَّمَاۤ أَوۡقَدُوا۟ نَارࣰا لِّلۡحَرۡبِ أَطۡفَأَهَا ٱللَّهُ).
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
كتبه: أبو المثنى، ١٤/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط
اللهم احفظه اللهم تقبل منه اللهم انفعنا به ..جزاكم الله خيرا شيخنا الفاضل
ردحذف