بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
ففي زمن الغربة الأولى كانت الآيات القرآنية تتنزل على قلب النبي ﷺ تُعلّمه موقع المؤمن من تهويشات الباطل على التوحيد والعبادة والصلاة، فكانت تنزل عليه -بأبي هو وأمي- بالأدب الذي ينبغي أن يكون عليه مَن يواجه حدّ الظلم ويقابل حديده.
فنزلت عليه ﷺ في أوّل الدعوة تلك الآيات التي تبيّن أن الباطل لا يقف مكفوف اليد، دون أن يصدّ عن السبيل ويبغيه العوج: فقال ﷻ: ﴿أَرَأَيتَ الَّذي يَنهى • عَبدًا إِذا صَلّى﴾.
فنزلت عليه ﷺ في أوّل الدعوة تلك الآيات التي تبيّن أن الباطل لا يقف مكفوف اليد، دون أن يصدّ عن السبيل ويبغيه العوج: فقال ﷻ: ﴿أَرَأَيتَ الَّذي يَنهى • عَبدًا إِذا صَلّى﴾.
هل تخايلت معي الموقف؟
هل تمايلت بين عينيك تلك الأحداث في مكة، والنبي ﷺ منفرد عن الأصحاب والأتباع، وقريش قد تعبّست عليه، وقام سيدهم يتهدده ويتوعده!
هل كنت ممن نشأ في بلهنية من العيش، محالفًا للراحة، مسترسلًا في الرخاء؛ فلم تجرّب خشونة مخالفة الناس ووحشة مواجهتهم؟!
إذن لن تتصور حقيقة الموقف الذي نزلت فيه هذه الآية!
لقد رأت قريش في الصلاة رمز التحدّي لها!
رأتها تضاهي عبادتهم ومكاءهم وتصديتهم عند البيت!
رأوها تهديدًا لإمامتهم الدينية في العرب!
وكثيرًا ما يكون للباطل -مع التوحيد- أمور يراها تهديدًا له ولوجوده ولكيانه ولزعامته!
قد لا تكون الصلاة ولا السجود هي رمز التحدّي والمضاهاة والتمايز عند باطل آخر، ولكنك تجد له وجهًا من وجوه الحق يعارضه، ويراه مقابلًا له، ويدفعه بطوقه!
فالعفاف والطهر هو التهديد الذي كان يتهدد قوم لوط! فتنادوا: ﴿أَخرِجوا آلَ لوطٍ مِن قَريَتِكُم إِنَّهُم أُناسٌ يَتَطَهَّرونَ﴾!
وكان القسط التجاري هو التهديد لقوم شعيب!
فلما قال لهم: ﴿وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ﴾، ردّوا عليه: ﴿يا شُعَيبُ أَصَلاتُكَ تَأمُرُكَ أَن نَترُكَ ما يَعبُدُ آباؤُنا أَو أَن نَفعَلَ في أَموالِنا ما نَشاءُ﴾ وتهددوه: ﴿وَلَولا رَهطُكَ لَرَجَمناكَ﴾، وتوعدوه:﴿لَنُخرِجَنَّكَ يا شُعَيبُ وَالَّذينَ آمَنوا مَعَكَ مِن قَريَتِنا﴾!
وهكذا فقد تجد باطلًا يجهد جهده في محاربة شعيرة من الشعائر، ويغضي عن غيرها، ويجعلون ﴿القُرآنَ عِضينَ﴾، يأخذون منه ما يرونه متلائمًا مع باطلهم، وينبذون ما يرونه معارضًا له.
فماذا كان الدواء القرآني؟
ما هو الأدب القرآني الذي ربّى به القرآن غرباء الزمن الأول عند مواجهة التهديد والمنع والمعارضة:
لقد نزل على النبي ﷺ: ﴿كَلّا لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب﴾.
كلا!
كلا، أيّها المؤمن لا تطع صاحب الباطل في نصف كلمة، ولا تتنازل قِيد شبر، ولا تخشه في دينك ولا تخفه!
لا تطعه في أنصاف الحلول، حين يترك ما لا يلائمه من الدين، ويقبل منه بعض ما يلائمه!
﴿كَلّا لا تُطِعهُ وَاسجُد وَاقتَرِب﴾.
﴿وَاقتَرِب﴾
يا الله!
هل أعطينا هذه الكلمة حقّها من التأمل والتدبر؟
إنك يا محمد في شأن وهم في شأن!
إنهم ينازعونك، وليسوا يدرون إنما ينازعونك في اقترابك من ﷲ!
هل يَعقِل هذا الذي ينهى عن الصلاة، أنه ينهى عن الزلفى عند ﷲ والاقتراب منه؟
﴿وَاقتَرِب﴾
في صحيح مسلم: (أقرَبُ مَا يَكُونُ العَبدُ مِن رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِد).
هل يبالي من يقترب من ﷲ بتهويشات من يهوّش ليصده عن هذه المنزلة العظيمة؟
هل سيغتمُّ العابد وهو يستمع لإرجاف المرجفين حين يقرأ قوله ﷻ: ﴿وَاقتَرِب﴾!
إنه خطاب تَحمَى له نفس المؤمن أن تتنازل عن التوحيد والإيمان، وتأخذها الأنفة من الرضوخ والطاعة للمنحرفين! ثم تتطلع إلى مدارج الاقتراب من ﷲ!
• وهكذا كانت الآيات تنزل عليه ﷺ في الدعوة المكيّة ليتربى المؤمنون في كل زمن يستضعفون فيه، وفي كل وقت يقهرون.
ولقد يأتي على صاحب الدعوة وقت لا يتنازل فيه عن شيء من دين ﷲ ولا يترك شيئا من الشريعة طاعة للمبطلين؛ ولكن لعله أن يغيّر ترتيبه الدعوي بتقديم من يستحق التأخير، وتأخير من يستحق التقديم يرعى بذلك مصلحة يرجوها، وفي بعض ذلك نزل العتاب الجليل في شأن تصديه ﷺ واجتهاده لسادة الكفار رجاء إسلامهم، وتلهيه عن الأعمى، فقال ﷻ: ﴿كَلّا إِنَّها تَذكِرَةٌ • فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ • في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ • مَرفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾
ولقد يأتي على صاحب الدعوة وقت لا يتنازل فيه عن شيء من دين ﷲ ولا يترك شيئا من الشريعة طاعة للمبطلين؛ ولكن لعله أن يغيّر ترتيبه الدعوي بتقديم من يستحق التأخير، وتأخير من يستحق التقديم يرعى بذلك مصلحة يرجوها، وفي بعض ذلك نزل العتاب الجليل في شأن تصديه ﷺ واجتهاده لسادة الكفار رجاء إسلامهم، وتلهيه عن الأعمى، فقال ﷻ: ﴿كَلّا إِنَّها تَذكِرَةٌ • فَمَن شاءَ ذَكَرَهُ • في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ • مَرفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾
انظر إلى هذه التربية القرآنية القدسيّة!
انظر تربية الاستعلاء الإيماني!
إنهم في زمن استضعاف!
وفي مكة حيث يلقون كلَب الكفر ومهاترته!
ومع هذا يذكّر ﷲ نبيه ﷺ بأن الدعوة شريفة، والوحي عزيز، والمنهج مرفوع كريم!
﴿في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ • مَرفوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ﴾
لتتربّى نفوس الدعاة على اليقين بنفاسة ما عندهم من الهدى، وعلوِ ما عندهم من الوحي!
وأن من أعرض عنه فالخُسر عليه لا على الدعوة!
﴿مَرفوعَةٍ﴾:
فلا ينال رفعة الإيمان إلا من يستحق الرفعة.
﴿مُطَهَّرَةٍ﴾:
فلابد من تطهير القلب ليكون قابلًا للهدى، فمن ترفّع عن نصوص الوحي، ولم يكن قلبه طاهرًا كان معرّضًا لسلب نعمة الهدى بالوحي.
وفيه تنويه بالشرف وبيان للعلو الذي يقتضي الترّفع على أهل الباطل المعرضين.
﴿بِأَيدي سَفَرَةٍ • كِرامٍ بَرَرَةٍ﴾:
وفيه بيان لشرف أصحابها، فهي في يد ملائكة كرام بررة!
إنه عتاب يخبر بعزة هذه الشريعة، وعلو هذا الدين، ورفعة ذلك الدين.
إنها صحف مكرمة، مرفوعة، مطهرة، بأيدي سفرة كرام بررة!
فمن أخذه فهو الرابح، ومن أعرض عنه فهو المغبون الخاسر.
• وهكذا كانت الآيات تنزل على المستضعفين بمكة تصبّرهم في سواد الألم، وتذكّرهم أن إجرام المجرمين قصير نهاره، وأن انتفاشة الباطل كاحتراق سعفة، فكانت تنزل الآيات تصور لهم واقع البأساء، وصورة البلاء، ثم تتبعه بما يسلي المؤمنين ويمسح عنهم الألم.
يقول ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذينَ أَجرَموا كانوا مِنَ الَّذينَ آمَنوا يَضحَكونَ﴾!
يقول ﷻ: ﴿إِنَّ الَّذينَ أَجرَموا كانوا مِنَ الَّذينَ آمَنوا يَضحَكونَ﴾!
هكذا كان يرصد القرآن مواقف الألم على المؤمنين، والضغطة عليهم!
﴿يَضحَكونَ﴾ سخريةً وتهكمًا!
﴿وَإِذا مَرّوا بِهِم يَتَغامَزونَ﴾
بحركة سفيهة ليكسروا نفوس المؤمنين.
﴿وَإِذَا انقَلَبوا إِلى أَهلِهِمُ انقَلَبوا فَكِهينَ﴾
يرجعون فرحين بفعلهم السفيه، لا تؤنبهم ضمائرهم، ولا تضرب عليهم قلوبهم!
﴿وَإِذا رَأَوهُم قالوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالّونَ﴾
وهنا يصف ﷲ طريقةً من طرق الضغط الجاهلي على المستضعفين!
وهي طريقة غاية في الوضاعة!
إنه الاتهام في الدين!
والقدح في المعتقد!
ثم ماذا؟
ثم يخبر ﷻ المؤمنين بمآل ذلك في تصوير حاضر كأنما يشهده المؤمنون: ﴿فَاليَومَ الَّذينَ آمَنوا مِنَ الكُفّارِ يَضحَكونَ • عَلَى الأَرائِكِ يَنظُرونَ﴾.
لقد سقطت لذاذتهم الخسيسة!
وذهبت ضحكات السخرية!
وذهبت -أيضا- مرارة الألم من النفوس المؤمنة!
وثبت الأجر!
• ولم يكن الوحي ليترك الصف المؤمن دون أن يعظه بأسباب الثبات، ووسائل الصمود!
لقد نزل على النبي ﷺ في أول الدعوة أنواع من أسباب الثبات على العزيمة والمضاء في المواجهة، فنزل عليهم في سورة المزمل أربعة أمور هي من طاعات الثبات، ووسائله:
١- قيام الليل، ﴿ قُمِ ٱلَّيۡلَ إِلَّا قَلِيلٗا ﴾، وبقيام الليل تحتمل أعباء الأمانة الكبرى، وبقيام الليل ينهض المؤمن بالتكاليف، وبقيام الليل ينفض الإنسان قلبه من جذبات الدنيا، وعليه تتكئ الروح في مواجهة أعداء الدعوة.
قيام الليل مدرسة يتعلم فيها اليقين، واستشعار معية ﷲ، ويتعلم فيه ترك الملذات في ذات ﷲ.
٢- الذكر، ﴿ وَٱذۡكُرِ ٱسۡمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلۡ إِلَيۡهِ تَبۡتِيلٗا﴾، فالذكر مقوي للروح، معين للبدن، وفي الصحيحين قال ﷺ لعلي وفاطمة رضي ﷲ عنهما: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم، تسبحان ثلاثا وثلاثين، وتحمدان ثلاثا وثلاثين، وتكبران أربعا وثلاثين، قال ابن القيم: (ﻗﻮﺕ اﻟﻘﻠﺐ ﻭاﻟﺮﻭﺡ، ﻓﺈﺫا ﻓﻘﺪﻩ اﻟﻌﺒﺪ ﺻﺎﺭ ﺑﻤﻨﺰﻟﺔ اﻟﺠﺴﻢ ﺇﺫا ﺣﻴﻞ ﺑﻴﻨﻪ ﻭﺑﻴﻦ ﻗﻮﺗﻪ.
ﻭﺣﻀﺮﺕ ﺷﻴﺦ اﻻﺳﻼﻡ اﺑﻦ ﺗﻴﻤﻴﺔ ﻣﺮﺓ ﺻﻠﻰ اﻟﻔﺠﺮ ﺛﻢ ﺟﻠﺲ ﻳﺬﻛﺮ ﷲ ﺗﻌﺎﻟﻰ ﺇﻟﻰ ﻗﺮﻳﺐ ﻣﻦ اﻧﺘﺼﺎﻑ اﻟﻨﻬﺎﺭ، ﺛﻢ اﻟﺘﻔﺖ ﺇﻟﻲ ﻭﻗﺎﻝ: ﻫﺬﻩ ﻏﺪﻭﺗﻲ، ﻭﻟﻮ ﻟﻢ ﺃﺗﻐﺪ اﻟﻐﺪاء ﺳﻘﻄﺖ ﻗﻮﺗﻲ).
٣- الصبر.
٤- والتوكل، قوله ﷻ: ﴿رَبُّ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ لا إِلهَ إِلّا هُوَ فَاتَّخِذهُ وَكيلًا • وَاصبِر عَلى ما يَقولونَ وَاهجُرهُم هَجرًا جَميلًا﴾
فالتوكل والصبر عدّة المؤمن في اغترابه، وما انتقص من الدين، ولا تفسّخت العزائم، ولا ابتليت الدعوة إلا من نقص في الصبر والتوكل، ولن ترى فينا من تهاون في كلمة الحق، وتأوّل في ترك واجبات الصدع، ومثاقلة للأرض إلا من خلل في التوكل والصبر.
والتوكل والصبر عبادتان قلبيتان وهما قرينان في القرآن، فجاء الأمر بهما مقترنان في النحل والعنكبوت قوله تعالى: ﴿الَّذينَ صَبَروا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ﴾، وهما قرينان في كلام الأنبياء والمرسلين: قال ﷻ: ﴿قالَ موسى لِقَومِهِ استَعينوا بِاللَّهِ وَاصبِروا﴾ وقال ﷻ عن مقالة الرسل الذين كذبوا: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُؤمِنونَ • وَما لَنا أَلّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَد هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصبِرَنَّ عَلى ما آذَيتُمونا وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّلِ المُتَوَكِّلونَ﴾
وبالصبر والتوكل يحترس المؤمن من الهوان والاستخذاء والإذلال والوهن في حرقة الواقع وبأساء الغربة، ولذا كانت هذه العبودية من أوائل العبادات التي نزلت على النبي ﷺ.
بالتوكل يعتصم العبد بالله، ويمسك يده بالحبل الممدود للسماء، ويقطع الاستشراف باليأس من مدد الخلق، تكتئب الحياة في وجهه، فيطمئن بموعود الله، لا يرى لنفسه حظا، ولا قوة، ويتبرأ من حوله وطوله، يبتلى في نفسه وماله فيكل الأمر لله، ولا يعود على دينه ومبادئه بالتنازل والهدم.
وبالصبر تحمل الأثقال، وهو ذروة سنام أعمال القلوب.
بالتوكل يحافظ المؤمن على نفسه من التناقض بين الشعور والواقع.
وبالصبر يثبت في الواقع المر، ويسلو مع كدر الضر.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
كتبه: أبو المثنى، ١٩/ ٩/ ١٤٤١
الرياض
ماشاء الله
ردحذفالله يحفظكم و ينفع بكم شيخنا الكريم
وفقكم الله يا شيخ
ردحذف