الجمعة، 15 مايو 2020

مناسبات خواتيم الآيات

بسم ﷲ الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فلقد جاء القرآن على طريق تخالف ما عهدته العرب في كلامها وما تعرفه في بلغائها، فإن العرب تعرف في كلامها الشعر والنثر، ثم الشعر له أقراؤه وأعاريضه وأوزانه، والنثر له سجعه وإرساله، فجاء القرآن على طريق مباينة للشعر ورجزه وقصيده، وعلى جادّة مخالفة للنثر في إرساله وتسجيعه.
ومن ذلك خواتيم الآيات، فقد جاءت على نمط ليست عليه طريق العرب، ولم يمضغ لها شيح ولا قيصوم، فإنها جمعت صياغة الختام العذبة، دون ثقل السجع، وتسلسل الكلمات دون عبء التزاحم، فكانت كل كلمة في موضعها لا تزحم كلمة عن مكانها، فأصْمَتَ بلغاء العرب، واعتقلت ألسنتهم، وأغضوا عن معارضته، مع كثرة التأنيب المخزي، وانفساح الأجل، وصراحة التحدي، وحرارة العرض القرآني أن يأتوا بمثله أو مثل عشر سور منه أو مثل سورة، لكنهم ثقلوا فيه وهم أهل المضاء، وقعدوا عنه وكانوا أهل انتضاء.
ثم ليس الحديث هنا عن الجلال اللفظي في ذلك الاتفاق الصوتي بين خاتمة الآية والآية، ولا عن أنواع ما تختم به من الميم والنون وألف المد، أو الخروج عن ذلك متابعة لصوت الآية وميزان كلماتها، فهذا ليس مرادي هنا، إنما الحديث عن مناسبة ختام الآية لمعنى الآية، وما في هذا الختام من روعة الربط بأول الآية، وجمال العود على سياقها.

• وأوسع وأجل تلك الخواتيم هي خواتيم الآيات بذكر أسماء من أسماء ﷲ الحسنى، فيؤتى في خواتيم الآيات بما تقتضيه الآية من الأسماء الكريمة لله، وذلك كثير في القرآن، ومن جليله:
- ما ختمت به آية وعظ النساء وتأديبهن في النساء، فقال ﷻ: ﴿وَٱلَّٰتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَٱهۡجُرُوهُنَّ فِي ٱلۡمَضَاجِعِ وَٱضۡرِبُوهُنَّۖ فَإِنۡ أَطَعۡنَكُمۡ فَلَا تَبۡغُواْ عَلَيۡهِنَّ سَبِيلًاۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيّٗا كَبِيرٗا﴾.
فإنَّ خاتمة الآية هذه جاءت بعد ذكر تأديب الزوجات، بالهجر والضرب، فكانت تذكيرًا للرجال ألا يجاوزوا الحد، أو يبغوا في الأمر، فوعظهم ﷲ أنه عليٌ فوقهم كبير عليهم.

- ومنها: ما جاء في قوله: ﴿وَإِن يَتَفَرَّقا يُغنِ اللَّهُ كُلًّا مِن سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعًا حَكيمًا﴾، فإنه ذكر أمرين وناسب أن يختمهما بهذين الاسمين، فذكر حكمه ﷻ في الفراق، وذكر وعده بإغناء المفترقين، فعقّبها باسم الواسع لمناسبة ذكر الإغناء، وعقب باسم الحكيم لمناسبة ذكر الأحكام الشرعية، فإنه ﷻ حكيم فيما شرع لعباده، حكيم فيما يقدر من شأن الفراق والطلاق بين الزوجين.

- ومن لطيف ما جاء في ذلك خاتمة قوله ﷻ: ﴿ذلِكَ وَمَن عاقَبَ بِمِثلِ ما عوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾
فما مناسبة قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾ لما سبقها من الإذن في العقوبة:
فقيل إن ذلك ندب للعفو عن الجاني، فهي مرتبة أعلى من المعاملة بالمثل.
وقيل: بل ﺩﻝ ﺑﺬﻛﺮ اﻟﻌﻔﻮ ﻭاﻟﻤﻐﻔﺮﺓ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻗﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﻘﻮﺑﺔ، ﻷﻧﻪ ﻻ ﻳﻮﺻﻒ ﺑﺎﻟﻌﻔﻮ ﺇﻻ اﻟﻘﺎﺩﺭ ﻋﻠﻰ ﺿﺪﻩ.
ﻭقيل: بل ذلك ﺗﻌﻠﻴﻞ للاﻗﺘﺼﺎﺭ ﻋﻠﻰ اﻹﺫﻥ ﻓﻲ اﻟﻌﻘﺎﺏ ﺑﺎﻟﻤﻤﺎﺛﻠﺔ ﺩﻭﻥ اﻟﺰﻳﺎﺩﺓ ﻓﻲ اﻻﻧﺘﻘﺎﻡ، فعفو الله قضى بألا يزاد على العقوبة حتى وإن كان البادئ أظلم، ﻓﻠﻴﺲ في ﺫﻛﺮ ﻭﺻﻔﻲ العفو والغفور ﺇﻳﻤﺎء ﺇﻟﻰ اﻟﺘﺮﻏﻴﺐ ﻓﻲ اﻟﻌﻔﻮ ﻋﻦ اﻟﻤﺸﺮﻛﻴﻦ.

- ومن الآيات التي تختم بختام له مناسبة مطَّردة في القرآن، اسم ﷲ المحيط، فإنه لم تختم به آية في القرآن إلا عقب وعيد للكفار أو المنافقين، إلا في إحدى آيتي النساء، ومن ذلك قوله ﷻ: ﴿ أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ ﴾.

- وقد جاء قوله ﷻ: {وَﷲُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، في ختام آيات كثيرة، وأكثرها لا تخرج عن مناسبتين: إما أن يؤتى به بعد ذكر فعل من أفعال ﷲ، وهو أكثر ورودها في القرآن.
وإما أن يؤتى بها مقترنة مع ذكر ملكه ﷻ، كقوله: ﴿ وَلِلَّهِ مُلۡكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِۗ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، وقوله: ﴿ تَبَٰرَكَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ ٱلۡمُلۡكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٌ ﴾، ومناسبة ذكر مطلق القدرة لله مع الملك، لأن الملك مفتقر إلى التصرف، فالملك هو القادر على التصرف في ملكه.

- ومما جاء متكررا في القرآن في ختام الآيات: الإضافة لاسم (الشديد)، كقوله: ﴿شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾، مضافًا في مواضع كثيرة من القرآن، وأكثر وروده في وعيد الكفار، ومن اللطيف أنها جاءت في ثلاثة مواضع خاتمة لآياتٍ من آيات الأحكام، فيحذّر ﷲ عباده ليمتثلوا الأمر، ويقوموا بالحق، ومنها قوله ﷻ: ﴿وَأَتِمُّواْ ٱلۡحَجَّ وَٱلۡعُمۡرَةَ لِلَّهِۚ﴾، حتى ختمها بقوله سبحانه: ﴿وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعۡلَمُوٓاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلۡعِقَابِ﴾.

• ثم إنَّ من خواتيم الآيات ما تدرك مناسبته بأدنى تأمل، كمثل خاتمة قوله ﷻ: ﴿وَأَنفِقوا في سَبيلِ اللَّهِ وَلا تُلقوا بِأَيديكُم إِلَى التَّهلُكَةِ وَأَحسِنوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحسِنينَ﴾، فإن ﷲ عقّب الأمر بالإحسان بذكر محبته للمحسنين، وكما في قوله ﷻ: ﴿ثُمَّ أَفيضوا مِن حَيثُ أَفاضَ النّاسُ وَاستَغفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفورٌ رَحيمٌ﴾، فعقّب الأمر بالاستغفار بذكر مغفرته ورحمته.

• ووراء ذلك ما تدرك مناسبته بتأمل قريب كقوله ﷻ: ﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَشري نَفسَهُ ابتِغاءَ مَرضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءوفٌ بِالعِبادِ﴾، فإن ﷲ لما ذكر من بلغ الغاية في التضحية لدين ﷲ حتى كان معرضًا نفسه للهلاك في مرضاة ﷲ، فذكر ﷲ ﷻ أنه رؤوف بعباده، فلا يضيع عنده عمل عامل، ثم هو رؤوف بهم لا يريد بهم العنت حين أمر ببذل الأموال والأنفس في سبيله، وإنما هو لمصالح الدين والدنيا، ثم هو رؤوف بهم فجعل في شريعته عند الاضطرارات والحاجات من الرخص والتخفيفات ما وسّع به على عباده.
- ومن ذلك ما عقب به ﷻ في قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيكُمُ القِتالُ وَهُوَ كُرهٌ لَكُم وَعَسى أَن تَكرَهوا شَيئًا وَهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسى أَن تُحِبّوا شَيئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللَّهُ يَعلَمُ وَأَنتُم لا تَعلَمونَ﴾، فإنه ﷻ لما ذكر مكاره النفوس، وأن مصالحها قد لا تكون في محابها، بل ربما كانت مصالحها في مباغضها، ختم ذلك بما يخبر عن قصور علم العباد، وأنَّ ﷲ هو الذي يعلم بما يصلح العباد.

• ومنه ما يحتاج لمزيد تأمل لتظهر مناسبته، كما في قوله تعالى: ﴿ ٱدۡعُواْ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعٗا وَخُفۡيَةًۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِينَ ﴾، فناسب التعقيب بذم الاعتداء لأن ترك التضرع وبعض الإخفاء من الاعتداء، ويدخل فيه كل ما هو خلاف السنة في الدعاء فإنه اعتداء.

- ومنه قوله: ﴿وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكوا بِهِ شَيئًا وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا وَبِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَالجارِ ذِي القُربى وَالجارِ الجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ وَابنِ السَّبيلِ وَما مَلَكَت أَيمانُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ مُختالًا فَخورًا﴾، فلما أمر ﷲ بالإحسان لمن شأنه ألا يحسن إليه إلا من يرجو ﷲ والدار الآخرة، فإنهم جميعًا ممن يؤمن انتقامهم، ذيّل ذلك بالزجر عن بعض موانع الإحسان، وهما الكبر والفخر، وهما خلقان يبعثان الشدة والجفاء، ومن كان كذلك ترفع على الخلق، وامتنع عن الإحسان لهم.
وقد يكون لمعنى آخر؛ وهو أن ﷲ حذر المحسنين من الفخر بإحسانهم، ودوام تذكّر النفس سالف الإشفاق على الخلق المفضي إلى رؤية العمل بعين العجب.

• ومنه ما يحتاج لمزيد تأمل لا لتظهر مناسبته فحسب، ولكن لتعظم الفائدة في معرفة معنى السياق، كما ختمت به الآية من قوله ﷻ: ﴿ يُرِيدُ ٱللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمۡۚ وَخُلِقَ ٱلۡإِنسَٰنُ ضَعِيفٗا ﴾، فإنك إن نظرت إليها بادي النظر قلت عن مناسبتها: لقد خفف ﷲ عن عباده لما علم من ضعفهم، لكنك إذا نظرت لكمال السياق، وجدت أنه ذكر قبل ذلك الترخيص بنكاح الإماء لمن لم يجد قدرة على نكاح الحرائر، وذلك لأن الإنسان خلق ضعيفا ﻋﻦ ﺗﺮﻙ اﻟﻨﺴﺎء، قليل اﻟﺼﺒﺮ عنهن، ﻓﺄﺫﻥ ﻟﻜﻢ ﻓﻲ ﻧﻜﺎﺡ ﻓﺘﻴﺎﺗﻜﻢ اﻟﻤﺆﻣﻨﺎﺕ ﻋﻨﺪ ﺧﻮﻓﻜﻢ اﻟﻌﻨﺖ ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻔﺴﻜﻢ.

• ومن خواتيم الآيات ما يأتي متكررًا في القرآن، ولعلك أن تجد له جامعة مناسبة تجمعها، كالخاتمة التي جاءت في مواضع من القرآن بذم القوم الظالمين، فقد جاءت في مواضع كثيرة ومنها: قوله ﷻ: ﴿إِن يَمسَسكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيّامُ نُداوِلُها بَينَ النّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظّالِمينَ﴾، ومناسبة هذا الختام لسياق الآية -والعلم عند الله- لما اشتملت عليه الآية من ذكر الفريقين، ومقارنة الحالين المختلفين، ولمّا كان من الظلم التسوية بين المختلفين ذيّلت هذه الآية بهذا الختام، فإن قرح المؤمنين، وألمهم، وهزيمتهم، ليست كقرح الكفار وهزيمتهم وألمهم، فذام قرح بأجره، وهو تطهير للمؤمن، وتزكية له وتربية، وهو بخلاف ما يحدث للكافر.

- ولهذا الختام بهذه المناسبة نظائر في القرآن، كقوله ﷻ: ﴿أَجَعَلتُم سِقايَةَ الحاجِّ وَعِمارَةَ المَسجِدِ الحَرامِ كَمَن آمَنَ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَجاهَدَ في سَبيلِ اللَّهِ لا يَستَوونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾، فإن التسوية بين المؤمنين المجاهدين وبين عمارة المسجد الحرام وسقاية الحجاج والقيام عليهم مع الإعراض عن الشريعة؛ هذه التسوية من الظلم.
- ومنه قوله ﷻ: ﴿أَفَمَن أَسَّسَ بُنيانَهُ عَلى تَقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضوانٍ خَيرٌ أَم مَن أَسَّسَ بُنيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانهارَ بِهِ في نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الظّالِمينَ﴾، فكيف يستوي بنيان أهل التقوى وحالهم ومنهجهم وكياناتهم مع بنيان أهل الباطل والفجور والضلال، فمن سوى بينهما فقد ظلم.

• ومعرفة مناسبة خاتمة الآيات مما قد يؤوب إليه الفقيه لمعرفة القرائن المرجّحة لحكم مذكور في الآية مما اختلفت فيه أنظار الفقهاء، كما تجده في خلافهم في مقتضى الأمر بمتعة المطلقة في قوله ﷻ: ﴿لا جُناحَ عَلَيكُم إِن طَلَّقتُمُ النِّساءَ ما لَم تَمَسّوهُنَّ أَو تَفرِضوا لَهُنَّ فَريضَةً وَمَتِّعوهُنَّ عَلَى الموسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى المُقتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعروفِ حَقًّا عَلَى المُحسِنينَ﴾، فقد اختلف الفقهاء في متعة هذه المطلقة، وذهب كثير منهم إلى وجوبها، وخالف أهل المدينة فرأوها سنة مستحبة، ومن القرائن التي رجحوا بها قولهم أنه جعل حقا على المحسنين، والإحسان أمر زائد على الواجب، والمسألة مبسوطة بدلائلها في كتب الفروع، ولكن المقصود هنا التنبيه على مآخذ الاستدلالات في مناسبات خواتيم الآيات.

- ومن النظر الفقهي المستفاد من خواتيم الآيات ما ذكره بعض الفقهاء في حكم الظهار من قوله ﷻ: ﴿الَّذينَ يُظاهِرونَ مِنكُم مِن نِسائِهِم ما هُنَّ أُمَّهاتِهِم إِن أُمَّهاتُهُم إِلَّا اللّائي وَلَدنَهُم وَإِنَّهُم لَيَقولونَ مُنكَرًا مِنَ القَولِ وَزورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفورٌ﴾، فمن الفقهاء من قال: ليس هو كبيرة، لأن الختام بهذين الاسمين يدل على أن أحكام الظهار تدور على اﻟﺘﻮﺳﻌﺔ والتخفيف.

• ثم لا يقتصر الأمر على شأن الترجيحات الفقهية، بل من جميل مناسبات خواتيم الآيات تلك المواعظ الختامية التي تختم بها سياقات الأحكام الفقيهة، كما في قوله ﷻ: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقونَ﴾، فإن مناسبة التقوى لعبادة الصوم ظاهرة، ففي الصحيحين: «الصيام جنة»، فهو جنَّة للمؤمن في دنياه يتقي به منافذ الشيطان، وهو جنة له في آخراه يتقي به النار.

- ومنها: ما ختمت به الآية في قوله تعالى: ﴿وَاذكُرُوا اللَّهَ في أَيّامٍ مَعدوداتٍ فَمَن تَعَجَّلَ في يَومَينِ فَلا إِثمَ عَلَيهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثمَ عَلَيهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾، فإنه لما ذكر حال تفرق الحجاج بعد حجهم ثم مرجعهم إلى بلادهم، ناسب أن يذكر مرجع الناس إلى ربهم سبحانه، فقال: ﴿وَاعلَموا أَنَّكُم إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾.

- وتأتي الموعظة بخاتمة الآية بعد ذكر حكم من أحكام الشريعة، تخويفًا للمؤمن وتحذيرًا له: ﴿أُحِلَّ لَكُم صَيدُ البَحرِ وَطَعامُهُ مَتاعًا لَكُم وَلِلسَّيّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيكُم صَيدُ البَرِّ ما دُمتُم حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذي إِلَيهِ تُحشَرونَ﴾، ﻭاﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﻣﻨﻪ اﻟﺘﻬﺪﻳﺪ ﻟﻴﻜﻮﻥ اﻟﻤﺮء ﻣﻮاﻇﺒًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﺎﻋﺔ ﻣﺤﺘﺮﺯًا ﻋﻦ اﻟﻤﻌﺼﻴﺔ.

- ومثله: ﴿وَإِن جَنَحوا لِلسَّلمِ فَاجنَح لَها وَتَوَكَّل عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّميعُ العَليمُ﴾، فأمر ﷻ هنا بالمسالمة لمن سالم المسلمين وكف يده، ثم عقب ذلك بالأمر بالتوكل على ﷲ سبحانه، وذكر صفة نفسه هنا: {السَّميعُ العَليمُ} ﺗﻨﺒﻴﻬًﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﺰﺟﺮ ﻋﻦ ﻧﻘﺾ اﻟﺼﻠﺢ، ﻷﻧﻪ ﷻ ﻋﺎﻟﻢ ﺑﻤﺎ ﻳﻀﻤﺮﻩ اﻟﻌﺒﺎﺩ، ﻭﺳﺎﻣﻊ ﻟﻤﺎ ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ في اﻟﻌﻬﺪ، ﻓﻬﻮ ﻳﻌﺎﻣﻠﻬﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻨﻬﻢ، فأمره بالتوكل ثم ﻃﻤﺄﻧﻪ ﺇﻟﻰ ﺇﺣﺎﻃﺘﻪ ﺳﺒﺤﺎﻧﻪ ﺑﺴﺮاﺋﺮ اﻟﻘﻮﻡ اﻟﻤﺨﺒﻮءﺓ.

• ولم تكن المناسبات الوعظية لخواتيم الآيات مقتصرة على آيات الأحكام بل كانت تلك المناسبات الوعظية للخواتيم شاملة لأمر المباحات، كما ختمت به الآية: ﴿نِساؤُكُم حَرثٌ لَكُم فَأتوا حَرثَكُم أَنّى شِئتُم وَقَدِّموا لِأَنفُسِكُم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعلَموا أَنَّكُم مُلاقوهُ وَبَشِّرِ المُؤمِنينَ﴾، فإنه سبحانه أمر بالتقوى وذكر بيوم لقائه تذكيرًا بالعمل الصالح بعد ذكر لذائذ الدنيا، لئلا يستولي على النفس تغليب شأن النكاح، فعاد السياق يعظ المؤمنين بما يربط دنياهم بأخراهم، يذكرهم بالحسبة في لذائذهم، فتنقلب المتع الدنيوية طاعات، وهذا ربط عظيم يحياه المؤمن بين دنياه وأخراه، بين مشاعر الحب الزوجي واللذة البدنية وبين حياة القلب ليوم لقاء ﷲ، وذاك شأن لا يكون إلا للمؤمن.

- ومثله ما جاء في قوله ﷻ ﴿يَسأَلونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُم قُل أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمتُم مِنَ الجَوارِحِ مُكَلِّبينَ تُعَلِّمونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلوا مِمّا أَمسَكنَ عَلَيكُم وَاذكُرُوا اسمَ اللَّهِ عَلَيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَريعُ الحِسابِ﴾، فإنه بعدما ذكر أمرًا مما أحل لهم سبحانه، رجع السياق يربطهم بالصلة بالله وبأمره وتقواه وحسابه، فليس شأن المطاعم لذة معزولة عن مراقبة ﷲ وتذكر المآب إليه سبحانه.

• ومن فقه مناسبات خواتيم الآيات أن يكون المتدبر على بصيرة بمناسبة الآية للسياق، ولموضوع السورة، كما في قوله سبحانه: ﴿هُوَ الَّذي يُصَوِّرُكُم فِي الأَرحامِ كَيفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلّا هُوَ العَزيزُ الحَكيمُ﴾، فإنه لما كانت سورة آل عمران منزَّلة في مجادلة النصارى حين اتخذوا عيسى إلهْا، عرض لهم بالذكر أن الخلق وإن اختلفوا في كيفية الآيجاد، فإنهم مصورون في الأرحام من العدم، فكيف يكون إلها، ثم ختمت الآية باسم العزيز الحكيم، الدالة على كمال القدرة، وكمال العلم، فقدرة عيسى على بعض الإحياء وعلمه ببعض الغيب، لا يقتضي كونه إلها، بل الإله من له مطلق القدرة والعلم.

• ومثله ما قال ﷻ: ﴿وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسولٌ قَد خَلَت مِن قَبلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن ماتَ أَو قُتِلَ انقَلَبتُم عَلى أَعقابِكُم وَمَن يَنقَلِب عَلى عَقِبَيهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيئًا وَسَيَجزِي اللَّهُ الشّاكِرينَ﴾.
لما ذكر ﷲ حال من شك واضطرب في غزوة أحد؛ عقّب الوعيد بالوعد كما هي العادة في القرآن، فأثنى ﷲ على الشاكرين، الذين شكروا ربهم مع مصابهم، فثبتوا ولم يتزلزلوا، ولذا جاء أنها نزلت في أبي بكر ومن معه، وكما أن الصبر باعث من بواعث الثبات، فإن الشكر باعث على الثبات أيضًا، فإن من عرف عظم نعمة الهدى والقرآن والإسلام شكرها بثباته عليها، فليقينه بعظم النعمة التي أكرمه ﷲ تراه شغوفًا بها، ممتنا لله بها، وهذا هو الشكر.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

خميس مشيط، ٢٢/ ٩/ ١٤٤١ هـ

هناك 3 تعليقات:

  1. شكر الله لكم يا لجمال هذا الكلام

    ردحذف
  2. جزاكم الله خيرا.. حفظكم الله شيخنا ونفعنا بكم

    ردحذف
  3. ما شاء الله
    حفظكم المولى

    ردحذف