الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
ففي الماضي السحيق، كانت مكة وادٍ لا زرع فيه ولا ماء، كانت واديا ينعق فيه الموت! وتصيح فيه الوحشة، لا يسمع فيه إلا عزيف الجن، ودوي القفر.
فجاء إبراهيم ﷺ بأمر ﷲ ليبني فيه بيته!
فروى البخاري عن اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ قال: ﺃﻭﻝ ﻣﺎ اﺗﺨﺬ اﻟﻨﺴﺎء اﻟﻤﻨﻄﻖ ﻣﻦ ﻗﺒﻞ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، اﺗﺨﺬﺕ ﻣﻨﻄﻘﺎ ﻟﺘﻌﻔﻲ ﺃﺛﺮﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺳﺎﺭﺓ، [اﻟﻤﻨﻄﻖ: ما تلبسه اﻟﻤﺮﺃﺓ وسطها فوق ﺛﻮﺑﻬﺎ وتشده ثم ترسل منه ﻋﻠﻰ اﻷﺳﻔﻞ ﻋﻨﺪ ﻣﻌﺎﻧﺎﺓ اﻷﺷﻐﺎﻝ؛ ﻟﺌﻼ ﺗﻌﺜﺮ ﻓﻲ ﺫﻳﻠﻬﺎ، ﻭﺑﻪ ﺳﻤﻴﺖ ﺃﺳﻤﺎء ﺑﻨﺖ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺫاﺕ اﻟﻨﻄﺎﻗﻴﻦ]
قال ابن عباس: ﺛﻢ ﺟﺎء ﺑﻬﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻭﺑﺎﺑﻨﻬﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﻫﻲ ﺗﺮﺿﻌﻪ، ﺣﺘﻰ ﻭﺿﻌﻬﻤﺎ ﻋﻨﺪ اﻟﺒﻴﺖ ﻋﻨﺪ ﺩﻭﺣﺔ ﻓﻮﻕ ﺯﻣﺰﻡ ﻓﻲ ﺃﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻤﻜﺔ ﻳﻮﻣﺌﺬ ﺃﺣﺪ ﻭﻟﻴﺲ ﺑﻬﺎ ﻣﺎء، ﻓﻮﺿﻌﻬﻤﺎ ﻫﻨﺎﻟﻚ، ﻭﻭﺿﻊ ﻋﻨﺪﻫﻤﺎ ﺟﺮاﺑًﺎ (وهو الوعاء من الجلد) ﻓﻴﻪ ﺗﻤﺮ، ﻭﺳﻘﺎء ﻓﻴﻪ ﻣﺎء، ﺛﻢ ﻗﻔﻰ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻣﻨﻄﻠﻘًﺎ، ﻓﺘﺒﻌﺘﻪ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻓﻘﺎﻟﺖ: ﻳﺎ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ، ﺃﻳﻦ ﺗﺬﻫﺐ ﻭﺗﺘﺮﻛﻨﺎ ﺑﻬﺬا اﻟﻮاﺩﻱ، اﻟﺬﻱ ﻟﻴﺲ ﻓﻴﻪ ﺇﻧﺲ ﻭﻻ ﺷﻲء؟
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ ﺫﻟﻚ ﻣﺮاﺭا، ﻭﺟﻌﻞ ﻻ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻴﻬﺎ
ﻓﻘﺎﻟﺖ ﻟﻪ: ﺁﻟﻠﻪ اﻟﺬﻱ ﺃﻣﺮﻙ ﺑﻬﺬا؟
ﻗﺎﻝ ﻧﻌﻢ!
ﻗﺎﻟﺖ: ﺇﺫﻥ ﻻ يضيعنا! ﺭﺿﻴﺖ ﺑﺎﻟﻠﻪ!
ﺛﻢ ﺭﺟﻌﺖ!
ﻓﺎﻧﻄﻠﻖ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﻋﻨﺪ اﻟﺜﻨﻴﺔ ﺣﻴﺚ ﻻ ﻳﺮﻭﻧﻪ، اﺳﺘﻘﺒﻞ ﺑﻮﺟﻬﻪ اﻟﺒﻴﺖ، ﺛﻢ ﺩﻋﺎ ﺑﻬﺆﻻء اﻟﻜﻠﻤﺎﺕ، ﻭﺭﻓﻊ ﻳﺪﻳﻪ ﻓﻘﺎﻝ: (رَّبَّنَاۤ إِنِّیۤ أَسۡكَنتُ مِن ذُرِّیَّتِی بِوَادٍ غَیۡرِ ذِی زَرۡعٍ عِندَ بَیۡتِكَ ٱلۡمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِیُقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰتِ لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ).
ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺃﻡ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﺗﺮﺿﻊ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻭﺗﺸﺮﺏ ﻣﻦ ﺫﻟﻚ اﻟﻤﺎء، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﻧﻔﺪ ﻣﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﻘﺎء ﻋﻄﺸﺖ ﻭﻋﻄﺶ اﺑﻨﻬﺎ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ ﻳﺘﻠﻮﻯ، وﻳﺘﻠﺒﻂ، ﻓﺎﻧﻄﻠﻘﺖ ﻛﺮاﻫﻴﺔ ﺃﻥ ﺗﻨﻈﺮ ﺇﻟﻴﻪ، ﻓﻮﺟﺪﺕ اﻟﺼﻔﺎ ﺃﻗﺮﺏ ﺟﺒﻞ ﻓﻲ اﻷﺭﺽ ﻳﻠﻴﻬﺎ، ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻪ، ﺛﻢ اﺳﺘﻘﺒﻠﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺗﻨﻈﺮ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪًا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪًا، ﻓﻬﺒﻄﺖ ﻣﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﺣﺘﻰ ﺇﺫا ﺑﻠﻐﺖ اﻟﻮاﺩﻱ ﺭﻓﻌﺖ ﻃﺮﻑ ﺩﺭﻋﻬﺎ (لباس تلبسه المرأة شبيه بالقميص القصير) ﺛﻢ ﺳﻌﺖ ﺳﻌﻲ اﻹﻧﺴﺎﻥ اﻟﻤﺠﻬﻮﺩ ﺣﺘﻰ ﺟﺎﻭﺯﺕ اﻟﻮاﺩﻱ، ﺛﻢ ﺃﺗﺖ اﻟﻤﺮﻭﺓ ﻓﻘﺎﻣﺖ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﻭﻧﻈﺮﺕ ﻫﻞ ﺗﺮﻯ ﺃﺣﺪا ﻓﻠﻢ ﺗﺮ ﺃﺣﺪا -
ﻓﻔﻌﻠﺖ ﺫﻟﻚ ﺳﺒﻊ ﻣﺮاﺕ، ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﻋﺒﺎﺱ: ﻗﺎﻝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ: «ﻓﺬﻟﻚ ﺳﻌﻲ اﻟﻨﺎﺱ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ».
تخايل ﻫﺎﺟﺮ، ﻭﻫﻲ تنظر إلى اﻟﻤﺎء القليل في القربة، بم كانت تفكر وهي تنظر إليه ينقص شيئا فشيئا وهي تحضن طفلها اﻟﺮﺿﻴﻊ، وتلفحها لهيب صحراء ذلك الوادي ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ، تخايلها وﻫﻲ ﺗﻬﺮﻭﻝ ﺑﻴﻦ اﻟﺼﻔﺎ ﻭاﻟﻤﺮﻭﺓ ﻭﻗﺪ ﻧﻬﻜﻬﺎ اﻟﻌﻄﺶ، ﻭﻫﺪﻫﺎ اﻟﺠﻬﺪ، ﻭﺃﺿﻨﺎﻫﺎ اﻹﺷﻔﺎﻕ ﻋﻠﻰ اﻟﻄﻔﻞ الرضيع!
وهي تجول مرة بعد أخرى، ﺛﻢ ﺗﺮﺟﻊ ﻓﻲ اﻟﺠﻮﻟﺔ اﻟﺴﺎﺑﻌﺔ ﻭﻗﺪ ﺣﻄﻤﻬﺎ اﻟﻴﺄﺱ، وأحاطت بها الكآبة ﻟﺘﺠﺪ الماء!
لتجد اﻟﻨﺒﻊ يبضّ ﺑﻴﻦ ﻳﺪﻱ اﻟﺮﺿﻴﻊ اﻟﻮﺿﻲء!
ﻭﺇﺫا ﻫﻲ ﺯﻣﺰﻡ!
تنبع في هذه الصحراء اللاهبة!
ها هو ﻳﻨﺒﻮﻉ اﻟﺮﺣﻤﺔ ﻓﻲ ﺻﺤﺮاء اﻟﻴﺄﺱ ﻭاﻟﺠﺪﺏ!
فانظر إلى أثر التسليم لله في أمره، والرضا عن شرعه.
انظر إلى هاجر لما سلّمت بأمر الله، وقالت: آلله أمرك بهذا؟ فلما قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا!
لقد تقبلها ﷲ وخلّد اسمها، وأبقى ذكرها، وجعل في ذريتها أعظم نبي ﷺ، بل بارك في مسعاها وخطواتها حتى جعل عفو خطوها الذي سعته بين الصفا والمروة منسكًا للناس يتنسكون به إلى يوم الدين.
وجعل لها ماء مباركًا فيه طعام طعم وبركة، تشتاق نفوس المؤمنين في مشرق الأرض ومغربها منه غرفة.
يا أيها الموفقون: سلموا لله أمره، واستجيبوا لشرعه، وأبشروا بالبركة والخير وطيب العيش والرضا في الدنيا والآخرة.
كونوا من أهل الطاعة والسنة والقرآن، فإن الله لا يضيع أهله!
فمن أخذ بطاعة ﷲ واستمسك بشرعه أكرمه ﷲ بكرامته.
وكيف يضيع ﷲ من أطاعه وأتبع أمره، والله شكور، يشكر عبده على طاعته، ويمن عليه.
ثم هنا موعظة للمرأة الصالحة:
كوني عونا لزوجك على طاعة الله، كوني عضيدة له في دعوته وإصلاحه، إذا ضاق بك أمر، أو شق عليك شيء، فانظري موقعه من طاعة ﷲ فإن كان في طاعة، فضحّي وجاهدي نفسك، وأبشري، فإن ﷲ لا يضيع أهله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق