الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
ففي خبر بناء البيت في البخاري عن ابن عباس: (ﻛﺎﻥ اﻟﺒﻴﺖ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ ﻣﻦ اﻷﺭﺽ ﻛﺎﻟﺮاﺑﻴﺔ، ﺗﺄﺗﻴﻪ اﻟﺴﻴﻮﻝ، ﻓﺘﺄﺧﺬ ﻋﻦ ﻳﻤﻴﻨﻪ ﻭﺷﻤﺎﻟﻪ.
ﺛﻢ إنه لما كبر إسماعيل ﻗﺎﻝ له: ﻳﺎ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ، ﺇﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺑﺄﻣﺮ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺎﺻﻨﻊ ﻣﺎ ﺃﻣﺮﻙ ﺭﺑﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻭﺗﻌﻴﻨﻨﻲ؟ ﻗﺎﻝ: ﻭﺃﻋﻴﻨﻚ، ﻗﺎﻝ: ﻓﺈﻥ اﻟﻠﻪ ﺃﻣﺮﻧﻲ ﺃﻥ ﺃﺑﻨﻲ ﻫﺎ ﻫﻨﺎ ﺑﻴﺘﺎ، ﻭﺃﺷﺎﺭ ﺇﻟﻰ ﺃﻛﻤﺔ ﻣﺮﺗﻔﻌﺔ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺣﻮﻟﻬﺎ، ﻗﺎﻝ: ﻓﻌﻨﺪ ﺫﻟﻚ ﺭﻓﻌﺎ اﻟﻘﻮاﻋﺪ ﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ، ﻓﺠﻌﻞ ﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﺄﺗﻲ ﺑﺎﻟﺤﺠﺎﺭﺓ ﻭﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ ﻳﺒﻨﻲ، ﺣﺘﻰ ﺇﺫا اﺭﺗﻔﻊ اﻟﺒﻨﺎء، ﺟﺎء ﺑﻬﺬا اﻟﺤﺠﺮ ﻓﻮﺿﻌﻪ ﻟﻪ ﻓﻘﺎﻡ ﻋﻠﻴﻪ، ﻭﻫﻮ ﻳﺒﻨﻲ ﻭﺇﺳﻤﺎﻋﻴﻞ ﻳﻨﺎﻭﻟﻪ اﻟﺤﺠﺎﺭﺓ، ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}، ﻗﺎﻝ: ﻓﺠﻌﻼ ﻳﺒﻨﻴﺎﻥ ﺣﺘﻰ ﻳﺪﻭﺭا ﺣﻮﻝ اﻟﺒﻴﺖ ﻭﻫﻤﺎ ﻳﻘﻮﻻﻥ: {ﺭﺑﻨﺎ ﺗﻘﺒﻞ ﻣﻨﺎ ﺇﻧﻚ ﺃﻧﺖ اﻟﺴﻤﻴﻊ اﻟﻌﻠﻴﻢ}.
فتأمَّل هذا الدعاء الرقيق، من هذين الرجلين الصالحين، أمرهما ﷲ ﷻ ببناء الكعبة واصطفاهما لهذا العمل الصالح، ومع ذلك كانا متذللين له تعالى، متخشعين لجلاله، يدعوان ربهما أن يتقبل منهما، وهكذا أهل التقوى يعملون العمل الصالح؛ ثم يخافون ألا يتقبل منهم، كما ثبت في الترمذي عن عائشة في قوله تعالى: (والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة).
• ثم إنَّ الكعبة احترقت فأرادت قريش أن تبنيها، كما روى اﺑﻦ ﺇﺳﺤﺎﻕ ﻓﻲ اﻟﺴﻴﺮﺓ أن قريشا قالت: «ﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻦ ﻛﺴﺒﻜﻢ ﺇﻻ اﻟﻄﻴﺐ ﻭﻻ ﺗﺪﺧﻠﻮا ﻓﻴﻪ ﻣﻬﺮ ﺑﻐﻲ ﻭﻻ ﺑﻴﻊ ﺭﺑﺎ ﻭﻻ ﻣﻈﻠﻤﺔ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ اﻟﻨﺎﺱ».
وفي الصحيحين: فعن ﻋﺎﺋﺸﺔ رضي الله عنه، ﺯﻭﺝ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ : ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻗﺎﻝ ﻟﻬﺎ: «ﺃﻟﻢ ﺗﺮﻱ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻟﻤﺎ ﺑﻨﻮا اﻟﻜﻌﺒﺔ اﻗﺘﺼﺮﻭا ﻋﻦ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟»، ﻓﻘﻠﺖ: ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﺃﻻ ﺗﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﻗﻮاﻋﺪ ﺇﺑﺮاﻫﻴﻢ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻟﻮﻻ ﺣﺪﺛﺎﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺑﺎﻟﻜﻔﺮ ﻟﻔﻌﻠﺖ».
وفي لفظ ﻗﺎﻟﺖ: ﺳﺄﻟﺖ اﻟﻨﺒﻲ ﺻﻠﻰ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻴﻪ ﻭﺳﻠﻢ ﻋﻦ اﻟﺠﺪﺭ ﺃﻣﻦ اﻟﺒﻴﺖ ﻫﻮ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻧﻌﻢ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﻟﻬﻢ ﻟﻢ ﻳﺪﺧﻠﻮﻩ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ؟ ﻗﺎﻝ: «ﺇﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﻗﺼﺮﺕ ﺑﻬﻢ اﻟﻨﻔﻘﺔ» ﻗﻠﺖ: ﻓﻤﺎ ﺷﺄﻥ ﺑﺎﺑﻪ ﻣﺮﺗﻔﻌﺎ؟ ﻗﺎﻝ: «ﻓﻌﻞ ﺫﻟﻚ ﻗﻮﻣﻚ، ﻟﻴﺪﺧﻠﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا ﻭﻳﻤﻨﻌﻮا ﻣﻦ ﺷﺎءﻭا، ﻭﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺚ ﻋﻬﺪﻫﻢ ﺑﺎﻟﺠﺎﻫﻠﻴﺔ، ﻓﺄﺧﺎﻑ ﺃﻥ ﺗﻨﻜﺮ ﻗﻠﻮﺑﻬﻢ، ﺃﻥ ﺃﺩﺧﻞ اﻟﺠﺪﺭ ﻓﻲ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺃﻥ ﺃﻟﺼﻖ ﺑﺎﺑﻪ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﻷﺩﺧﻠﺖ ﻓﻴﻬﺎ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ.
"وﻷﻧﻔﻘﺖ ﻛﻨﺰ اﻟﻜﻌﺒﺔ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ..".
ﻭفي لفظ قال ﷺ: ﻳﺎ ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻟﻮﻻ ﺃﻥ ﻗﻮﻣﻚ ﺣﺪﻳﺜﻮ ﻋﻬﺪ ﺑﺸﺮﻙ، ﻟﻬﺪﻣﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ، ﻓﺄﻟﺰﻗﺘﻬﺎ ﺑﺎﻷﺭﺽ، ﻭﺟﻌﻠﺖ ﻟﻬﺎ ﺑﺎﺑﻴﻦ: ﺑﺎﺑﺎ ﺷﺮﻗﻴﺎ، ﻭﺑﺎﺑﺎ ﻏﺮﺑﻴﺎ، ﻭﺯﺩﺕ ﻓﻴﻬﺎ ﺳﺘﺔ ﺃﺫﺭﻉ ﻣﻦ اﻟﺤﺠﺮ، ﻓﺈﻥ ﻗﺮﻳﺸﺎ اﻗﺘﺼﺮﺗﻬﺎ ﺣﻴﺚ ﺑﻨﺖ اﻟﻜﻌﺒﺔ ".
ثم إن عبد الله بن الزبير قال: ﺇﻧﻲ ﻣﺴﺘﺨﻴﺮ ﺭﺑﻲ ﺛﻼﺛﺎ، ﺛﻢ ﻋﺎﺯﻡ ﻋﻠﻰ ﺃﻣﺮﻱ، ﻓﻠﻤﺎ ﻣﻀﻰ اﻟﺜﻼﺙ ﺃﺟﻤﻊ ﺭﺃﻳﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻀﻬﺎ.
• فقد ترك النبي ﷺ بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لمصلحة تأليف قلوب قريش، وهذه قاعدة شرعية مرعية، ينبغي أن يرقبها أهل الدعوة والإصلاح والتربية، وهو أن هناك من الحق ما قد يترك إذا كان هناك مصلحة أعظم منه يراد تحصليها، أو أن هناك مفسدة أعظم من تلك المصلحة يراد درؤها.
• وتأمل كيف أن قريشا على كفرها كانت تعظم البيت، حتى أخذت ألا تجعل في بنائها شيئا من المال المحرم، وفي ذلك موعظة لكل مؤمن ومؤمنة أن يعظّموا البيت الحرام والشعائر والمناسك، (ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق