الجمعة، 24 أبريل 2020

المنهج القرآني في تقرير الأحكام الفقهية (١)

بسم الله الرحمن الرحيم
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فللقرآن منهج في تقرير الأحكام الفقهية، وتعليم المسائل العملية يعلو على كل منهج، ويسمو فوق كل طريق، وحري بكل متفقه، وبكل مشتغل بفقه الشريعة أن يكون له وقوف طويل مع طريق القرآن الفقهي، ومنهجه في تقرير الأحكام، ثم يرجع فيرى مكانه من المنهج القرآني، وموضع تفقهه منه.

• فمن الطريق القرآنية في التقرير الفقهي بثّ التعابير الاعتراضية الوعظية في طيّ سياق الحكم الفقهي، وأمثلة ذلك كثيرة، وقد ذكرت أمثلة كثيرة لهذا الأمر في مقالة الوعظ الفقهي، لكن يحلو لي أن أذكر هنا مثالًا آخر يبين شيئا من مقصدي في هذا:
- فقد جاء عند ذكر حكم التزوّج بالإماء عند العجز عن نكاح الحرة، قوله ﷻ: (وَمَن لَّمۡ یَسۡتَطِعۡ مِنكُمۡ طَوۡلًا أَن یَنكِحَ ٱلۡمُحۡصَنَـٰتِ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِ فَمِن مَّا مَلَكَتۡ أَیۡمَـٰنُكُم مِّن فَتَیَـٰتِكُمُ ٱلۡمُؤۡمِنَـٰتِۚ وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ).
ففي قوله: (وَٱللَّهُ أَعۡلَمُ بِإِیمَـٰنِكُمۚ) معاني:
- تأنيس المؤمن بنكاح الأمة التي لعله أن يجد في نفسه استنكافا من نكاحها، فذكر وصف الإيمان تسكينا لنفرة قلبه، وطردا لجاهلية النفوس.
- ولما ذكر وصف الإيمان وما يحمل من وصف مادح نبّه على أن العالم ببواطن القلوب وحقيقة صدق الإيمان هو ﷲ ﷻ، ليدفع عن النفس صولة الركون إلى الوصف الظاهري، وتنبيها إلى العناية بتحقيق شرف الإيمان حقا.


• من الطرائق القرآنية في تقرير حكم فقهي؛ العناية بردّ ما قد ينفتح من قالة السوء بسبب ذكر هذا الحكم!
فيُحاط سياق الحكم الفقهي بذكر الأوصاف المذمومة للمنحرف، ويأتي قبله وبعده بما يدفع تشويشات المبطلين.
وهذه طريقة دعوية ليس ينبغي أن يغفل عنها المصلح الفقيه، وهو يقرر الأحكام الفقهية للناس، فيتنبه إلى بعض الأحكام الفقهية التي قد ينفذ منها مبطل وتحدث زعزعة في قلوب المتلقين من أهل الإسلام.
ولقد رأيت بعض الفقهاء يذكر الحكم من أحكام الشريعة ثم لا يبالي على أي نحو ألقاه، ولا على أي وجه ذكره، ولا يأبه بنفار من ينفر منهم، ولا يعصم كلامه بعواصم تمنع ولائج المبطلين، ثم لعله يظن بعد ذلك أن هذا من فعل أهل العزة بالدين والقوة في الحق.
وإنما الذي ينبغي أن يكون عليه الفقيه المصلح، أن يجمع بين الاستهتار بالملامة في ذات ﷲ، وبين الحكمة في بث علوم الوحي.
وأنا ضارب لك مثلًا من طريق القرآن في ذلك، وكيف أُحيط الحكم الشرعي بعواصم تمنع ذلك الذي ذكرت.
فمن ذلك قوله ﷻ: (یَسۡـَٔلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهۡرِ ٱلۡحَرَامِ قِتَالࣲ فِیهِۖ قُلۡ قِتَالࣱ فِیهِ كَبِیرࣱۚ)
فقد جاء بيان حرمة القتال في الشهر الحرام، وتأكيد تحريمه وأكبريته.
ولكن انظر كيف اقترن مع هذا البيان ما يسد وليجة القدح في أهل الإيمان، ويصاغر من المبطل:
١- فقال ﷻ: (وَصَدٌّ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَكُفۡرُۢ بِهِۦ وَٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ وَإِخۡرَاجُ أَهۡلِهِۦ مِنۡهُ أَكۡبَرُ عِندَ ٱللَّهِۚ وَٱلۡفِتۡنَةُ أَكۡبَرُ مِنَ ٱلۡقَتۡلِۗ)، فلئن كان بعض أهل الإيمان قد أخطأ وزلّ فإن زلل أهل الكفر أعظم، وفعلهم أجرم.
ولا يصح أن يُجعل المؤمنون غرضا لسهام النقد ثم يسكت عن الطغاة المتجبرين.
ولا يصح أن تكون حرمات الشريعة حابسة لأهل الإيمان، ثم يأمن المبطل الذي ينتهك كل الحرمات.
وأيضا فلما كان النقد مقابلا للتشجيع فربما أوهن في النفس، ولذا اقترن نقد المؤمنين بنقد أعظم لخصومهم من المشركين.

٢- ثم جاء التأكيد على عظيم جرم المشركين (وَلَا یَزَالُونَ یُقَـٰتِلُونَكُمۡ حَتَّىٰ یَرُدُّوكُمۡ عَن دِینِكُمۡ إِنِ ٱسۡتَطَـٰعُوا۟ۚ)، ولم يُعطف في السياق في هذا الموضع تأكيد على تحريم الفعل الذي كان من المؤمنين، واكتفي بتلك الإشارة الأولى في أصل تقرير الحكم الفقهي.

٣- ثم جاء تحذير المؤمنين من الانكسار لمكر الكفار وتحقيق مبتغاهم بفتنة المؤمنين ولم يأت تحذيرهم من القتال في الشهر الحرام! فقال ﷻ: (وَمَن یَرۡتَدِدۡ مِنكُمۡ عَن دِینِهِۦ فَیَمُتۡ وَهُوَ كَافِرࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ حَبِطَتۡ أَعۡمَـٰلُهُمۡ فِی ٱلدُّنۡیَا وَٱلۡـَٔاخِرَةِۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ أَصۡحَـٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِیهَا خَـٰلِدُونَ).

٤- ثم جاء السياق القرآني مادحا للمؤمنين المجاهدين الذين اجتهدوا فأخطأووا: (إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَجَـٰهَدُوا۟ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَرۡجُونَ رَحۡمَتَ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ).
فإن المنقود ربما هبط قدره في نفوس المستمعين، فإذا اقترن النقد بالمدحة اتزن الأمر، وأقيم الحق وروعي الخلق.

• ومن الطريق القرآني في تقرير الحكم الفقهي: التوطئة للحكم الفقهي بمقدمات إيمانية سابقة على الحكم، ففي نزول حكم استقبال الكعبة، ونسخ استقبال بيت المقدس، 
في قوله ﷻ: (قَدۡ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجۡهِكَ فِی ٱلسَّمَاۤءِۖ فَلَنُوَلِّیَنَّكَ قِبۡلَةࣰ تَرۡضَىٰهَاۚ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ)؛ جاءت موطئات وأتت مقدمات تهيئة لإلقاء ذلك الحكم، فمنها: 
١- فجاء الحديث عن نفاسة اليهود أن ينزل بالمؤمنين خيرٌ، وأتى ذكر ضنانة نفوسهم أن ينال المؤمنين هدى، فقال ﷻ قبل آية استقبال القبلة بنحو أربعين آية: {ما يودّ الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}، فإن تحويل القبلة للكعبة كانت كرامة حسدتنا عليه اليهود، كما جاء في المسند عن عائشة قال النبي ﷺ: ( ﺇﻧﻬﻢ ﻻ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻛﻤﺎ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ القبلة اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺧﻠﻒ اﻹﻣﺎﻡ: ﺁﻣﻴﻦ)!.

٢- وجاء قبل آية تحويل القبلة بنحو عشرين آية تفخيم شأن إبراهيم ﷺ، وفرض اتباع ملته، والإعلاء من ذلك، وذكر قصة بناء الكعبة.

٣- ومن الممهّدات التي تمهّد بها حكم تحويل القبلة؛ التنبيه على قاعدة كبرى من قواعد التشريع التي يأرز إليها المؤمن كلما جهل حكمة من الحكم الفقهية للحكم الشرعي، فقال ﷻ قبل آية تحويل القبلة مباشرة: {۞ سَیَقُولُ ٱلسُّفَهَاۤءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّىٰهُمۡ عَن قِبۡلَتِهِمُ ٱلَّتِی كَانُوا۟ عَلَیۡهَاۚ قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ یَهۡدِی مَن یَشَاۤءُ إِلَىٰ صِرَ ٰ⁠طࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ}، فانظر قوله ﷻ:
{قُل لِّلَّهِ ٱلۡمَشۡرِقُ وَٱلۡمَغۡرِبُۚ}، ترى فيه خطابا استعلائيًا يستأنف به المسلم صراعه مع الزائغين المستشكلين للشرائع، ليقول لهم: أنا عبد لله، يأمرني بما شاء فأطيع، علمت حكمة ذلك أم لم أعلم، اطلعت على المقصد أم لم أطلع، فأنا عبد لله وهو يحكم ما يريد.

٤- ثم جاء في تمهيد هذا الحكم بيانٌ لحكمة من حكم هذا التشريع، ومقصد من مقاصده، فقال ﷻ: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}!
فلقد كان من مقاصد هذه الواقعة ابتلاء المؤمنين، ليتميّز أهل التسليم والخضعان لأمر ﷲ، المستجيبين لشريعته على أي نحو.

والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.

كتبه: أبو المثنى في يوم الجمعة،  ١/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

هناك تعليق واحد:

  1. جزاكم الله خيرا ونفع بكم شيخنا الكريم

    ردحذف