بسم ﷲ الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فمن قصص القرآن الدعوي قصة ذلك الرجل الصالح، التي ذكرها ﷲ في سورة يس، وهي قصة من قصص البذل في الدعوة، والتضحية في ذات ﷲ.
قصة من قصص تحمل الأعباء، واستشعار المسؤولية الحرّة.
قصة حرارة الاستجابة، وهم البدار للإصلاح، وعدم التراكن والتواكل.
ولقد جاء فيها من معالم الدعوة، وهدايات الإصلاح ما يؤنق المؤمن أن يقف معها، وأن يتدبرها ويتأملها.
ولقد جاء فيها من معالم الدعوة، وهدايات الإصلاح ما يؤنق المؤمن أن يقف معها، وأن يتدبرها ويتأملها.
• قال ﷻ: (وَجَاۤءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ رَجُلࣱ یَسۡعَىٰ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ).
هكذا تستهل القصة بذكر ﺣﻘﻴﻘﺔ اﻹﻳﻤﺎﻥ إذا خالطت بشاشته القلوب، فتتحرك هذه الحقائق، ولا تقعد حبيسة في الضمير.
وكيف يجلس في بيته ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻯ اﻟﻀﻼﻝ ﻭاﻟﻔﺠﻮﺭ؟
فالعقيدة الوثّابة ﻓﻲ ﺿﻤﻴﺮﻩ ﺗﺠﻲء ﺑﻪ ﻣﻦ ﺃﻗﺼﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺇﻟﻰ ﺃﻗﺼﺎﻫﺎ، وهنا أول المعالم الدعوية في هذه القصة:
لقد بعث ﷲ لهذه المدينة، وفي هذه القرية ثلاثة من المرسلين، ولكن الداعية المصلح لا يقف دون أن يشارك في بناء الدعوة، إن المؤمن لا يمنعه وجود الأفضل والأولى من أن يدافع عن الحق، إنه لا يقول: أأتكلم وقد بعث ﷲ ثلاثة أنبياء!
• ومن المعالم الدعويّة في هذه القصة، أن هذا الداعية المصلح أتى من أقصى المدينة، ولم تمنعه بُعد الشقة أن يقف دون بذل للدعوة وسعي للإصلاح.
ولعل في قوله: (ﺃﻗﺼﻰ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ) اﻹﺷﺎﺭﺓ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ اﻹﻳﻤﺎﻥ بدعوة الرسل ﻇﻬﺮ ﻓﻲ ﺃﻫﻞ ﺭﺑﺾ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ وأطرافها ﻗﺒﻞ ﻇﻬﻮﺭﻩ ﻓﻲ ﻗﻠﺐ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ، ﻷﻥ ﻗﻠﺐ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻫﻮ ﻣﺴﻜﻦ ﺣﻜﺎﻣﻬﺎ وكبرائها ومن يتبعهم، وأما الضعفاء فهم أتباع الرسل.
• ومن المعالم الدعويّة أن الله وصفه في حال مجيئه لدعوة قومه بأنه أتى يسعى، وهو وصف ينبي عن الحث في النصح، والمبادرة للإصلاح، ونفي التثاقل، وعدم التواني في إنكار المنكر.
• ومن الفوائد الدعوية في هذه القصة المباركة أنّ الحياة كلها قد تختصر في موقف رشيد واحد، يقف فيه المؤمن وقفة صدق لله فيكون له السعادة الأبديّة.
وإلا فمن هو هذا الرجل الذي ذكر في سورة يس؟ أين تاريخُه ومنجزاتُه ومؤهلاته؟ كل ذلك لم يذكر! بل إن اسم هذا الرجل الصالح لم يذكر، بل لعل أنبياءه لا يعرفونه؛ لِمَا دلّ عليه التنكير في قوله ﷻ: (رجل يسعى)، ومع هذا كان في وقفته تلك، وثباته ذلك كان كافيًا لينال النداء العلوي العظيم: (ادخل الجنة).
وإلا فمن هو هذا الرجل الذي ذكر في سورة يس؟ أين تاريخُه ومنجزاتُه ومؤهلاته؟ كل ذلك لم يذكر! بل إن اسم هذا الرجل الصالح لم يذكر، بل لعل أنبياءه لا يعرفونه؛ لِمَا دلّ عليه التنكير في قوله ﷻ: (رجل يسعى)، ومع هذا كان في وقفته تلك، وثباته ذلك كان كافيًا لينال النداء العلوي العظيم: (ادخل الجنة).
• ومن المعالم الدعويّة في قصة الرجل الصالح، ذلك الخطاب المشفق بقوله: (قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ) فافتتح ﺧﻄﺎﺑﻪ ﺑﻨﺪاﺋﻬﻢ ﺑﻮﺻﻒ اﻟﻘﻮﻣﻴﺔ ﻟﻪ، وﺇﺿﺎفهم ﺇﻟﻰ ﻧﻔﺴﻪ، وهو تقريب لهم، ﻳﻔﻴﺪ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺑﻬﻢ ﺇﻻ ﺧﻴﺮا، وأنه قد محضهم نصحه، فالإنسان غالبًا لا يتّهم في قومه وقرابته.
• ومن المعالم الدعوية العظيمة في هذه القصة، ما دل عليه قوله ﷻ: (ٱتَّبِعُوا۟ مَن لَّا یَسۡـَٔلُكُمۡ أَجۡرࣰا وَهُم مُّهۡتَدُونَ).
فذكر أنه إنما يقوم مانع اتباع صاحب الدعوة والمعتقد والمبدأ بأمرين:
- إذا دل الدليل أنه يريد أن يجر نفعًا دنيويًا وَحظّا ماديّا لنفسه.
- أو إذا دلت المشاهدة على سوء فعله وشين طريقته.
فإذا رأوا أن هؤلاء الأنبياء لا يطلبون مغنمًا دنيويًا ولا يلتمسون مطلبًا ماليًا، ﻓﻤﺎ اﻟﺬﻱ يحملهم ﻋﻠﻰ مكابدة أعباء الدعوة؟
وﻣﺎ اﻟﺬﻱ يدفعهم ﺇﻟﻰ ﺣﻤﻞ ﻫﻢ اﻟﺪﻋﻮﺓ؟ وما الذي يصبرهم على مواجهة الخلق ﺑﻐﻴﺮ مألوفاتهم؟ إذا كان لا يطلب نفعا دنيويا.
أليس ذلك من لوائح الصدق ﻭاﻟﻨﺼﺢ؟
فهؤلاء المرسلين لا يطلبون مالًا، ولا يسألون أجرًا، ثم رأيتموهم في أنفسهم على خير هدي، وأنقى سلوك، وأرفع طريق.
وفي هذا موعظة للدعاة المصلحين، أن ينزهوا دعواتهم عن المطامع، وأن يرفعوها عن المنافع، فإن المصلح الحرّ يأنف أن يستطعم من وراء دعوته، وأن يجعلها مثابة تكسّب.
• ومن المعالم الدعويّة في هذه القصة، أنه قدم إزالة المانع بالتخلية قبل التحلية، فقدم الموعظة بتجرد الرسل عن حظ أنفسهم، ليزيل ﻋﻨﻬﻢ ﻫﺬﻩ اﻻﺳﺘﺮاﺑﺔ، لأن أهل الباطل يغلب ﻋﻠﻴﻬﻢ اﻟﺘﻌﻠّﻖ ﺑﺤﺐ اﻟﻤﺎﻝ، وهم ﺑُﻌَﺪاء ﻋﻦ ﺇﺩﺭاﻙ اﻟﻤﻘﺎﺻﺪ اﻟﺴﺎﻣﻴﺔ، فيظنون أن أحدًا قد يأتي الشيء إلا لحظ نفسه، فإذا تحققوا أنهم لا يريدون مكسبا وأجرا دنيويا، تجرّدوا وتهيؤوا لتلقي الهداية عن الرسل بعد إزالة المانع، فعلموا هداية الرسل، وهذا أدب دعوي بالسعي لإزالة موانع الاستجابة للدعوة ثم السعي للدعوة.
• ومن المعالم الدعوية في هذه القصة أن هذا الداعية الصالح ترفّق في دعوة قومه حتى التفت عن مخاطبة قومه وعدل إلى الخبر عن نفسه، فأسمعهم اﻟﺤﻖ ﻋﻠﻰ ﻭﺟﻪ أقرب للقبول، ﺣﻴﻦ ﻳﺮﻭﻥ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻬﻢ ﺇﻻ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻟﻨﻔﺴﻪ، فقال: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ).
وأيضًا فلم يواجههم بالاستفهام الذي قد يغري فيهم المعاندة، ويستفز الجدل، فلو قال: (وما لكم لا تعبدون الذي فطركم)، لربما ذلل لهم بسؤاله أن يحاوروه حوار مكابرة، ولقد رأيت مثل ذلك في جدال أهل الباطل، إذا ألقيت عليهم المسائل كابروا في الجواب أنفَة من الانقطاع.
• ومن المعالم الدعويّة أنه ذكر على استحقاق الله للعبادة أمرين:
- أنه الخالق الفاطر.
- وأن إليه المرجع والمآب.
وذلك لأن قومه لم يكونوا منكرين للخالق ولا للخلق.
وفي قوله: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی)، استفهام ينكر فيه ترك عبادة المعبود ﷻ، فإن اﻷﻣﺮ ﻣﻦ ﺟﻬﺔ اﻟﻤﻌﺒﻮﺩ ﻇﺎﻫﺮ ﻻ ﺧﻔﺎء ﻓﻴﻪ، فكيف يقع الامتناع عن ذلك.
وتأمل هذا الاستفهام النقي! الذي تدعو له الفطرة، فتساءل باستنكار عن ترك عبادة الخالق ﷻ.
• ثم من اللطائف الدعويّة أن هذا الداعية الصالح حين ذكر قضية الخلق تحدث عن باعث نفسه، فقال: (ٱلَّذِی فَطَرَنِی)، ثم عاد فأتى بالضمير الذي يخاطبون به فقال: (وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ).
وذلك - والعلم عند ﷲ- لأن النَّاس في بواعث العبادة أنواع:
فمنهم من يعبد ﷲ إجلالًا له، لأنه خالقه وفاطره وربه، فهو في عبادته مستحضر لمنّة ﷲ عليه، قد استولى عليه شهود المنّة حتى لو لم يكن هناك حساب ولا عقاب لكان قائمًا بعبادة ربّه، فإذا انضاف إلى ذلك نذارة النذر كان متعبدًا لله محبةً وخوفًا، فلما كان هو من هذا النوع ذكر الخطاب لنفسه فقال: (وَمَا لِیَ لَاۤ أَعۡبُدُ ٱلَّذِی فَطَرَنِی).
وهناك من الناس من يبعثه على العبادة باعث الرهبة والخوف من الحساب فحسب، فكأنَّه لمح ذلك في أصناف المدعوين، فلما دعاهم لاستحقاق ﷲ العبادة ذكرهم بمآبهم لربهم، وخوفهم رجوعهم إليه، فقال: (وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ)، وفيه موعظة للدعاة والمصلحين؛ أن يتربصوا من الأدلة والمواعظ ما يناسب المدعو، ويصلحه، ويكون معه أقرب للاستجابة.
ثم لم يزل يخبر عن نفسه، مبتعدا عن مواجهتهم بما ينفرهم فقال: (ءَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِۦۤ ءَالِهَةً إِن یُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَـٰنُ بِضُرࣲّ لَّا تُغۡنِ عَنِّی شَفَـٰعَتُهُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یُنقِذُونِ).
ثم تأمل كيف قال وهو يخبر عن قدرة ﷲ في إنزال البأس والضر به أو بغيره: (إِن یُرِدۡنِ ٱلرَّحۡمَـٰنُ بِضُرࣲّ)، فأتى معه باسم الرحمن، كأنما غلب ذكر الرحمة على خطابه حتى لما تحدث عن إرادة الله الضر، ولقد تكرر مجيء اسم الرحمن في السورة أكثر من غيره من أسماء الله، كأنما هذه السورة خصيصة برحمة الدعاة والمصلحين بالمدعوين.
• ومن المعالم الدعويّة في القصة؛ تلك الملاطفة الرقيقة حين لم يواجه قومه بالتضليل، كما في قوله: (إِنِّیۤ إِذࣰا لَّفِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینٍ)، فعدل عن مخاطبة قومه بتهمة الضلالة، ولم يقل: إنكم في ضلال، ولو قالها لصدق، ولكنه غلّب جانب اللين، فعاد يخبر عن نفسه، أن لو وقع منه هذا لكان في ضلال مبين.
• ومن الفوائد الدعوية في دعوة ذلك المصلح أنه ختم دعوته لهم بكلام يدل على أنه دعاهم دعوة متفكر مترو، فقال: (إِنِّیۤ ءَامَنتُ بِرَبِّكُمۡ فَٱسۡمَعُونِ).
ﻫﻜﺬا يلقي عليهم كلمة اﻹﻳﻤﺎﻥ واثقًا قويًا مطمئنًا، كأنما يريد أن يشهدهم ﻋﻠﻴﻬﺎ مَشهدَ مَن تأمل في كلامه ووثق فيه وجزم به.
• ثم ماذا؟
لقد زالت المحنة، وذهب التعب، وانقضى الألم، وراح كل هم وحزن وأسى!
وانتهت معه صولة الباطل، وذهبت روعة التهديد.
وخرج المؤمن من ضيق الدنيا إلى سعة الجنة!
فينادى باختصاصٍ يدل على تعظيم شأنه.
(قِیلَ ٱدۡخُلِ ٱلۡجَنَّةَۖ)!
ها هو في نعيم الجنة، وبهجتها وسرورها!
لكنه يتذكر الدعوة وهمومها، ويبقى مشفقا متحننا على قومه، يذكرهم ﻃﻴﺐ اﻟﻘﻠﺐ ﺭﺿﻲ اﻟﻨﻔﺲ متجردًا من كل غضب وحنَق، فقال: (قَالَ یَـٰلَیۡتَ قَوۡمِی یَعۡلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِینَ).
هذا مع أن قومه قتلوه كما جاء عن عدد من الصحابة، وكما دل عليه السياق حين جاء الأمر ﺑﺪﺧﻮﻝ اﻟﺠﻨﺔ دون اﻧﺘﻘﺎﻝ وتفصيل، وهي خصيصة الشهداء الذين يدخلون الجنة بغير تراخٍ.
فلم تحتمله دوافع الانتقام لتمني هلاك قومه، ولا الشماتة بهم، ولم تلهه نعماؤه في الجنة أن ينسى همّه الدعوي، فظلّ متصلًا بالدعوة وشغلها وهمّها.
و تأمل قوله: (بِمَا غَفَرَ لِی رَبِّی وَجَعَلَنِی مِنَ ٱلۡمُكۡرَمِینَ)، فهو نظير قوله ﷻ: (لهم مغفرة ورزق كريم)
فإن العبد بين ذنب يعوز مغفرة، وطاعة يرجو بها الكرامة.
• وأخيرًا، تختم القصة، بختام يُستخف فيه بأهل الطغيان!
لقد كانوا أهون من أن تجنّد عليهم جنود السماء من الملائكة، فقال ﷻ: (وَمَاۤ أَنزَلۡنَا عَلَىٰ قَوۡمِهِۦ مِنۢ بَعۡدِهِۦ مِن جُندࣲ مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِینَ)!
ولكن أرسل ﷲ عليهم صيحة أخمدتهم وكفى، (إِن كَانَتۡ إِلَّا صَیۡحَةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ فَإِذَا هُمۡ خَـٰمِدُونَ).
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.
كتبه: أبو المثنى، ٥/ ٩/ ١٤٤١ هـ
اللهم احفظ شيخنا وانفع به
ردحذف