السبت، 25 أبريل 2020

مواعظ قرآنية من قصة قوم موسى ﷺ حين أمروا دخول القرية

بسم الله الرحمن الرحيـــم

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
     فكم يهتزّ قلبي لتلك الآيات من سورة المائدة، التي سيقت فيها قصة موسى ﷺ مع قومه حين أمرهم بدخول الأرض المقدسة، وكم يجد فيها المؤمن من المواعظ، وأبواب الإصلاح، وطرق الهداية ما يجد، وهذه بعض تلك الفوائد والمواعظ من هذه القصة القرآنية:
• استهلت هذه القصّة بقوله ﷻ: (وَإِذۡ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوۡمِهِۦ یَـٰقَوۡمِ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ* یَـٰقَوۡمِ ٱدۡخُلُوا۟ ٱلۡأَرۡضَ ٱلۡمُقَدَّسَةَ ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
     فجاء الأمر الموسوي بدخول القرية مقترنًا بمحرضين، من الترغيب والترهيب:
١- فصُدّر الوجوب، وجوب دخول القرية بالتذكير بالنعم السالفة! وبالتذكير بالوعد الآتي:
فقال: (ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَةَ ٱللَّهِ عَلَیۡكُمۡ إِذۡ جَعَلَ فِیكُمۡ أَنۢبِیَاۤءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكࣰا وَءَاتَىٰكُم مَّا لَمۡ یُؤۡتِ أَحَدࣰا مِّنَ ٱلۡعَـٰلَمِینَ)، وهي طريقة دعويّة وعظيّة جاءت في مواضع في القرآن، يذكر ﷲ عباده المؤمنين عند أمرهم بشيء من شرائعهم، أو تحذيرهم عن ركوب شيء من نهيه؛ يذكرهم بنعمه عليهم، ولذلك كان الأمر الأول الذي أمر ﷲ به بني إسرائيل عند أول ذكر لهم في القرآن هو الأمر بذكر النعم، قال ﷻ: {یَـٰبَنِیۤ إِسۡرَ ٰ⁠ۤءِیلَ ٱذۡكُرُوا۟ نِعۡمَتِیَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ وَأَوۡفُوا۟ بِعَهۡدِیۤ أُوفِ بِعَهۡدِكُمۡ وَإِیَّـٰیَ فَٱرۡهَبُونِ}.
     وهذه طريق جليلة في ترغيب النفوس للامتثال، فإن تذكّر المنح الربانيَّة له برودة على القلب تبعث في النفس النشاط على الطاعة، وتقوي القلب على الاستجابة، فذكرهم ﷻ هنا بعادته فيهم، ومننه عليهم، وأنهم قد وجدوا من فضل ﷲ ومنته وكرمه ما وجدوا، فكذلك فليبشروا بالعاقبة الحسنة في هذا الأمر.
      والعالِم بالله وبسننه وشريعته يحسن الظن بربه، فإنه إذا رأى من ربه نعمة وفضلًا رجى الخير بعد الخير، وطمع في عطاء ربه بالمنّة بعد المنّة، وهذه عبوديّة على حيالها، لا ينبغي أن تفوت على المؤمن، كلما رأى منة لله عليه حمله حسن ظنه بالله أن ﷲ سيكرمه بالنعمة بعد النعمة، وهو من توسل الأنبياء الذي كانوا يتوسلون به لربهم بين يدي دعائهم، قال زكريا: {وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا}.
     ثم ذكرهم بالوعد بالعاقبة فاقترن هذا الأمر بالوعد بالنصر، فقال ﷻ: (ٱلَّتِی كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمۡ)، فأخبرهم بقدر ﷲ لهم، وبوعده وراثة الأرض لمن استجاب لأمره.
     ثم لا تنظر بتعجبٍ لتولي القوم عن المواجهة مع وعد الله لهم بالفتح، فإن هذا أمر يتكرر في كل زمن، وتراه في كل وقت، فإن الوعد بالنصر أمر حاصل لكل مؤمن، والبشارة بوراثة الأرض مكتوبة لكل مستمسك، ومع ذلك فها أنت ترى التولي عن العزائم، والركون إلى الدنيا، والقعود عن الإقدام.
٢- ثم ختم هذا الأمر بالترهيب من التولي، والتخويف من عدم الامتثال، فقال: (وَلَا تَرۡتَدُّوا۟ عَلَىٰۤ أَدۡبَارِكُمۡ فَتَنقَلِبُوا۟ خَـٰسِرِینَ).
فرهّبهم ترك الطاعة، بعد ترغيبهم في الأخذ بها، وخوّفهم التولي، ورتّب على ذلك الخسارة.
     والتولّي عن المواجهة والتثبّط عن الاقتحام يأتي بخسارة الدنيا والآخرة، قاض بفقدانها، وكثير من الناس إنَّما يحجم عن الإقدام في ذات ﷲ خوفًا على دنياه، وضنًّا بمصالحها، وكثيرًا ما يكون إحجامه سببًا لخسارة دنياه مع أخراه، مع ما يلقاه من الصغار، وما يجده من الذل، وما يناله من القمأة.
     وبعد فماذا نال بنو إسرائيل، حين أحجموا خوفًا من الجبابرة؟ هل سلمت لهم دنياهم؟ وهل رجعوا لبلادهم؟! لقد ظلّوا في التيه أربعين سنة، ولم يصلوا إلى شيء من منافع دنياهم ومصالحها. 

• ثم أخبرنا الله بجواب القوم: (قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّ فِیهَا قَوۡمࣰا جَبَّارِینَ وَإِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَا حَتَّىٰ یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ).
ولقد أبى بنو إسرائيل ولم يستجيبوا لأمر الله، وأﻛَّﺪﻭا اﻻﻣﺘﻨﺎﻉ ﺗﻮﻛﻴﺪًا بالغًا ﺑﻤﺪﻟﻮﻝ (ﺇﻥّ) ﻭ (ﻟﻦ) ﻓﻲ قولهم: (وَإِنَّا لَن)، وهذا من قلّة أدبهم في خطاب نبيهم، وقسوة قلوبهم، وبعدهم عن أخلاق النبيين، وإنه ليقبح بالعبد أن يقول مثل ذلك في الطاعة، لما في التوكيد من الركون إلى الحول والطول، فكيف يكون قبحه حين يكون توكيدًا لترك الطاعة، والتولي عنها، فهذا مع كونه نقصا في الأدب مع ﷲ هو من الجهل بأمر الله.
ﻭلقد جمع بنو إسرائيل جبنًا ووقاحة، والوقاحة بنت الجبن، يجبن الشخص عن الإقدام، ويقعد عن نصر الحق، فيريد أن يدفع عن نفسه قالة السوء، وأن يدرأ عنها سواد المعصية؛ فيعود إلى قلّة أدبه يجد فيه نفَسًا من ضيق التهمة التي أحاطت به.
     وقد ذكّر الله ﷻ لتوليهم وإبائهم سببين هي من الجهل بسنن الله وعاداته في خلقه، وإنك واجد عند تأملك أسباب ترك الامتثال؛ أن كثيرًا منها ليست من الجهل بأمر ﷲ فحسب، ولكن من الجهل بسننه ﷻ:
١- فذكر القوم اختلال ميزان القوى وتفاوتها علّةً للامتناع عن مواجهة العدو، وكأن المؤمنين إنما يقاتلون عدوهم بالعدد والعدة! وكأنّ ﷲ حين أهلك فرعون ومن معه كان بعدّتهم وقوتهم واستطالتهم!
ومن جعل قوة عدوّه (فقط) سببًا لإحجامه فقد جهل سنَّة ﷲ في الأرض، ولم يفقه عنه ﷻ المثلات التي كانت في أعدائه.
٢- ثم جهلوا سنة ﷲ في عباده، فأرادوا نصرًا رخاء سهلًا، فقالوا: (فَإِن یَخۡرُجُوا۟ مِنۡهَا فَإِنَّا دَ ٰ⁠خِلُونَ)، فأرادوا أن يخرج العدو من بلده ليخلفوهم هكذا دون شوكة أو ألم أو ابتلاء.

• ثم قال ﷻ: (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ)، وفي هذه الآية مواعظ لابد أن يطيل الوقوف عندها أهل الدعوة والإصلاح:
١- ففيها أن المؤمن مبادر بالنصح، متوثّب للإصلاح، لا ينوّمه وجود غيره من المصلحين، بل ينتصب للحق ولو انتصب له من هو خير منه، ويقوم فيه ولو قام غيره، فانظر إلى هذين الصالحين، وقد قاما في نصح بني إسرائيل، وبيان طريق النصر، مع وجود موسى وهارون عليهما السلام! فلم يكن وجود الأنبياء مكسّلًا لهم عن الدعوة، ولا مقعدًا لهم عن الإصلاح، بل اجتهدوا في دعوة الناس والقيام بحظهم من الوعظ مع عدم شغور الزمان من خيرة خلق ﷲ، وإن هذا من العجب، ولطالما أوقفني هذا الأمر تأملًا، واستمهل مني النظر تفكرًا، وسترى ذلك أيضًا في قصة دعوية قرآنية عظيمة، ففي قصة القرية في سورة يس، أخبر الله بنبأ الرجل الصالح الذي جاء من أقصى المدينة، قال ﷻ: {وَجَاۤءَ مِنۡ أَقۡصَا ٱلۡمَدِینَةِ رَجُلࣱ یَسۡعَىٰ قَالَ یَـٰقَوۡمِ ٱتَّبِعُوا۟ ٱلۡمُرۡسَلِینَ}، فإن هذه المدينة قد بعث ﷲ لها ثلاثة رسل، كما أخبر سبحانه: {إِذۡ أَرۡسَلۡنَاۤ إِلَیۡهِمُ ٱثۡنَیۡنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزۡنَا بِثَالِثࣲ فَقَالُوۤا۟ إِنَّاۤ إِلَیۡكُم مُّرۡسَلُونَ}، ومع هذا قام هذا المصلح بحظه من الدعوة، ولم يستنم ويركن لوجود خير الخلق وقيامهم بالدعوة والإصلاح.
٢- ومن الهدى في هذه الآية:
أن هذين الصالحين دلّا قومهما على طريقين من طرق النصر:
فدلّا على الطريق الديني الشرعي.
ودلّا على الطريق التجريبي الواقعي.
فأمرا قومهما بأمرين:
١) (ٱدۡخُلُوا۟ عَلَیۡهِمُ ٱلۡبَابَ فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ).
وهذا أمر مجرّب في أحوال الناس، فإن كثيرًا من المصاعب تذلل إذا اقتحمها الإنسان، وتسهل إذا بدأ بها، حتى كأنه ليس بينه وبين جوازها إلا أن يبدأ فإذا هو قد خلص، فهذا هو الطريق التجريبي الواقعي.
٢) ودلّا قومهما على الطريق الشرعي فقالا: (وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤا۟ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِینَ).
فالتوكل عليه والتعلّق به واللجأة إليه، واستشعار مدده باب الانتصار الأكبر، ولهذا جاء ذكر التوكل عليه ﷻ في المواقف الكبار، كما في سورة آل عمران عند ذكر غزوة أحد، فقال سبحانه: {إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا وَٱللَّهُ وَلِیُّهُمَاۗ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}، وتكرر ذلك في سياق غزوة أحد من سورة آل عمران، وجاء في سورة الأنفال في خبر غزوة بدر، فقال: {إِذۡ یَقُولُ ٱلۡمُنَـٰفِقُونَ وَٱلَّذِینَ فِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ دِینُهُمۡۗ وَمَن یَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ }، وفي التوبة في نبأ غزوة تبوك، قال {قُل لَّن یُصِیبَنَاۤ إِلَّا مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا هُوَ مَوۡلَىٰنَاۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡیَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ}.
٣- ومن هدايات المصلحين في الآية:
ما جاء في قولهم: (فَإِذَا دَخَلۡتُمُوهُ فَإِنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ)، فإنه جاء بأسلوب تأكيد لا ظن فيه،  (فإنَّكُمۡ غَـٰلِبُونَۚ). فاليقين بموعود ﷲ، والثقة في نصره؛ زاد المصلحين في سواد الكروب، وكآبة الهزائم.
٤- ومن هدايات المصلحين في هذه الآية:
أن ﷲ وصفهما بأنهما (مِنَ ٱلَّذِینَ یَخَافُونَ)، فالخوف من ﷲ رصيد إيماني يصغّر الخوف من غير ﷲ، وكلما عظم خوف ﷲ في نفس المصلح هان في قلبه خوف الباطل وأهله، وفي الآية تعريض بأهل التولي، وأنّ عصيان نبيهم بسبب نقصان الخوف من ﷲ.
٥- ومن هدايات المصلحين في الآية: ما ذكره ﷲ عنهما بقوله ﷻ: (أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمَا)، فهذا اﺳﺘﺌﻨﺎفٌ ﺑﻴﺎنيٌ ﻟﺒﻴﺎﻥ ﻣﻨﺸﺄ ﺧﻮﻓﻬﻤﺎ، فاﻟﺨﻮﻑ ﻣﻦ اﻟﻠﻪ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻨﻪ ﷻ ﻋﻠﻴﻬﻤﺎ، ﻭﻫﺬا ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺃﻥ اﻟﺸﺠﺎﻋﺔ ﻓﻲ ﻧﺼﺮ اﻟﺪﻳﻦ ﻧﻌﻤﺔ ﻣﻦ ﷲ ﻋﻠﻰ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ.
فمعيار الإنعام حقًا أن تكون جاثمًا في الصف!
النعمة العظمى أن تكون في سواد المصلحين!
النعمة حقًا أن تكون ممن يدفع الباطل! ويذب عن الحق! وهو معيار إيماني يعرفه أهل الوحي، وأما غيرهم، فلهم معايير أخرى لذلك، يقيسون بها النعم، ويعتقدون بها المنن، حتى لقد حدّثنا ﷲ عن عكس هذا تماما حين تحدث عن معيار النعمة عند المنافقين فقال عنهم: (فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَةࣱ قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِیدࣰا)!
هكذا يرى هؤلاء السلامة نعمة ومغنمًا!
٦- ثم انظر أن الجمع الكبير مع موسى ﷺ لم يتكلم منهم إلا اثنان، وأما الكثرة فكانت مع القاعدين المتولين، لتسلو مع كثرة ما ترى من الهلكى، ولتسكن نفسك من وحشة القلة، فتجعل لها موعظة ألا تكترث بمعارضة الأكثر، ولا تباليهم بالها، فحملة الحق قليل، وأهل البصيرة ندرة، «والناس كأبل مائة لا تكاد تجد فيهم راحلة»، كما في الصحيحين.

• ثم قال ﷻ: (قَالُوا۟ یَـٰمُوسَىٰۤ إِنَّا لَن نَّدۡخُلَهَاۤ أَبَدࣰا مَّا دَامُوا۟ فِیهَا فَٱذۡهَبۡ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَـٰتِلَاۤ إِنَّا هَـٰهُنَا قَـٰعِدُونَ).
فأﻛّﺪﻭا اﻻﻣﺘﻨﺎﻉ اﻟﺜﺎﻧﻲ ﺃﺷﺪ من ﺗﻮﻛﻴﺪ الامتناع الأول! فأكّدوه ﺑﺜﻼﺙ ﻣﺆﻛﺪاﺕ: (ﺇﻥ) ، ﻭ (ﻟﻦ) ، ﻭﻛﻠﻤﺔ (ﺃﺑﺪا)، فيا لله وقسوة القلوب، كأن طوارق المواعظ لم تطرق عليهم بطارقها، ولم تنفذ إلى قلوبهم بقوارعها، وهكذا صاحب الانحراف الممعن في باطله، وأهل الضلالة الغافلين عن الطاعة؛ لا تزيدهم الموعظة إلا عماية، ولا يعود عليهم التذكير إلا بالبعد عن ﷲ، فاستبصر حالهم بعد موعظة الرجلين، وتفكر في أمرهم بعد تذكير الصالحين، لم يزدد الأبعد إلا بعدًا، ولم ينتفع إلا قسوة.
على أن قولهم هذا لم يكن باعثه الكفر بالله، فهم مصدقون بربهم مقرون بنبوة نبيه ﷺ، ولكن كأنهم قالوه طلبًا لمعجزة تنزل، أو أرادوها دعوة من موسى ﷺ تمحق العدو، ﻛﻤﺎ ﺗﻌﻮﺩﻭا أخذ اﻟﻨﺼﺮ دون كلفة، وجنى الثمرة بغير تعب، ﻓﻄﻠﺒﻮا ﺃﻥ ﻳﻬﻠﻚ اﻟﻠﻪ اﻟﺠﺒﺎﺭﻳﻦ ﺑﺪﻋﻮﺓ ﻣﻮﺳﻰ ﷺ، وفي ذلك إيماء إلى ذمّ المتمنين على ﷲ الأماني، ممن يقصّر في الامتثال ثم يرقب الإصلاح والتغيير والنصر بخوارق العادات.
     ثم كان ختام القصة دعوة موسى عليهم هم، فقال: {رَبِّ إِنِّی لَاۤ أَمۡلِكُ إِلَّا نَفۡسِی وَأَخِیۖ فَٱفۡرُقۡ بَیۡنَنَا وَبَیۡنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ}، فضرب ﷲ عليهم التيه، وابتلاهم بالنفي، وحرم على المتولين الأرضَ الطاهرة المقدسة، ولم يرجعوا لأرض مصر، وأمر نبيه ﷺ ألا يحزن عليهم، فقال: {فَلَا تَأۡسَ عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡفَـٰسِقِینَ}، فيا أيها المصلحون، ويا حملة الراية، ويا أصحاب المبادئ؛ لا تحزنوا على المتولين، ولا تأسفوا على الناكثين، ولا تذهب نفوسكم عليهم حسرات، ولتكن عاطفتكم في موضعها، لتجعلوها في محلها، متوفرة للعمل، نشيطة للإصلاح، لا تتلفها كآبات الأحزان، ولا يستهلكها أسف الكربات.
والله أعلم.

كتبه أبو المثنى ٢/ ٩/ ١٤٤١
خميس مشيط

هناك تعليق واحد:

  1. الله يحفظكم ويبارك فيكم شيخنا الكريم

    ردحذف