الجمعة، 3 يناير 2020

أوراق فقهية (١٨): الإمام القرافي: (الإبداع، والتفرّد)

         بسم الله الرحمن الرحيم 
     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا  
أما بعد:
فقد كان الإمام القرافي مبدعا في تأليفه، سالكا فجا لا يسلكه كثير غيره، ينسج على غير منوال، ويجري على غير مثال. وليس يكبره في نفسي من المالكية إلا قليل، فإذا رأيت كلامه وجدت عليه ما لا أجد لكثير.
وإذا أردت أن يظهر لك الفرق بين كلامه وكلام غيره فهذه ورقة حاولت فيها المقارنة بين كلامه وكلام غيره في التقعيد الفقهي لقاعدة من عرض قواعد الفقه، سيتبين بهذا المثال القريب شيء مما أردت بيانه، ويظهر بعض ما كنت أريد أقوله.
فقارنت بين كلامه رحمه الله وبين كلام أئمة تحدثوا عن قاعدة من قواعد الفقه، فتظرت في قاعدة (اعتبار الغالب، ولحوق النادر بالغالب).
وأتيت بكلامه وكلام السجلماسي والزركشي والسيوطي حول تلك القاعدة.
•• أولا:
قال القرافي: "الفرق بين قاعدة: ما اعتبر من الغالب، وبين ما ألغي من الغالب".
• شرح الفرق:
- ذكر القرافي هنا قاعدتين:
الأولى: (أن الأصل في الشريعة اعتبار الغالب وتقديمه على النادر )، وهو كثير في الشريعة لا يحصى كثرة، كما يقدم الغالب في طهارة المياه فالغالب الطهارة، ويرخص بالقصر في السفر إذ الغالب المشقة، ويمنع من شهادة الأعداء لغلبة الحيف. 
[ وتأتي هذه القاعدة على ألسنة الفقهاء والأصوليين على نحو:
- العبرة بالغالب والنادر لا حكم له ( البحر الرائق ٢ / ٣٣٩ )، ( حاشية البجيرمي ٢ / ٥١) ، ( المبدع ٦ / ١٢٥ ).
- الأقل يتبع الأكثر ( البناية شرح الهداية ١٢ / ٤٥٦ )، ( الفواكه الدواني ٢ / ١٦١ )، - الحكم للأغلب ( الكافي لابن عبد البر ٢ / ٥٤٠ )، ( المجموع ١٨ / ٢٢٢ )، ( المغني ١ / ٤٢٢). 
- العبرة بالغالب الشائع لا بالقليل النادر ( موسوعة القواعد الفقهية ٧ / ٣٨٢ )] .

الثانية: أن هذا الغالب قد يلغى، رحمة بالعباد ورعاية لمصالحهم.
- ولهذا ينبغي لمن قصد إثبات حكم الغالب دون النادر أن ينظر: هل ذلك الغالب مما ألغاه الشرع أم لا؟
فإن العمل بالغالب في جميع صوره خلاف الإجماع.
فإذا وقع غالب لا تدري هل هو من قبيل ما ألغي أو من قبيل ما اعتبر؛ فالطريق أن تستقرئ موارد النصوص والفتاوى استقراءً حسنا، فإذا لم يتحقق لك إلغاؤه فاعتقد أنه معتبر.

- فالقرافي هنا ذكر أصلا وقيدا:
- فالأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
- والقيد: أنه قد تأتي بعض الصور - لمقتضى معين - يلغى فيه حكم الغالب وتخرج عن هذا الأصل فتلحق بالنادر. 

• وقد جعل القرافي هذا الإلغاء يأتي على نوعين:
- قسم يلغى فيه الغالب ويعتبر النادر.
- وقسم يلغى فيه الغالب والنادر معا.

أ ) فالقسم الأول: (الذي ألغي فيه الغالب واعتبر النادر) مثل:
١ - طين المطر في الممرات والطرقات الغالب عليه وجود النجاسة من حيث الجملة، والنادر سلامتها، ومع ذلك ألغى الشارع حكم الغالب وأثبت حكم النادر توسعة على العباد.
٢ - الغالب صدق دعوى الصالح الولي التقي على الفاجر الشقي الظالم درهما، والنادر كذبه، ومع ذلك قدم الشرع حكم النادر على الغالب، وجعل القول قول الفاجر ما لم يأت المدعي على قوله ببينة، سدا لباب الفساد والظلم.
- وقد ذكر تحت هذا القسم عشرين فرعا.

ب ) والقسم الثاني: ( الذي ألغي فيه الغالب والنادر) مثل:
١ - الغالب صدق شهادة الجمع الكثير من النساء في أحكام الأبدان، والنادر كذبهن، لاسيما مع العدالة، وقد ألغى صاحب الشرع صدقهن فلم يحكم به، ولا بكذبهن لطفا بالمدعى عليه.
٢ - الغالب براءة الرحم بالقرء الواحد في العدد، والنادر شغله، ولم يحكم الشارع بواحد منهما حتى ينضاف إليه قرءان آخران. [ الفروق للقرافي ٤ / ٢١٢ ].
- وقد ذكر أيضا تحت هذا القسم عشرين فرعا .

•• ثانيا:
ذكر السجلماسي هذه القاعدة في (شرح اليواقيت الثمينة) وقد نقل الناظم كلام القرافي من الفروق وتقسيمه وكل الفروع التي ذكرها، وسردها الشارح بنصها ولم يأت في القاعدة بجديد.

•• ثالثا:
ذكر الزركشي قاعدة :( النادر هل يلحق بالغالب ؟ ). [ المنثور للزركشي ٣ / ٢٤٣ ] 
وكما ترى فليست في صياغتها على كمال صياغة الإمام القرافي، فإن كتاب القرافي جاء على طريقة الفروق؛ التي تصاغ بذكر فرق بين أصلين أو جنسين أو قاعدتين أو مسألتين.
وقد جعل الزركشي -رحمه الله- الأقسام أربعة:
١ - ما يلحق بالغالب قطعا.
٢ - ما لا يلحق قطعا.
٣ - ما يلحق بالغالب على الأصح [ سقط من المطبوع التقسيم، ولكن أخذته من سياق الكلام وذكر الأمثلة ٣ / ٢٤٣ - ٢٤٤ ] .
٤ - ما لا يلحق به على الأصح.

• واكتفى الزركشي بذكر فروع الأقسام هذه، ولم يشرح القاعدة بما يبينها كما صنع القرافي، ولكنه جعل قسمتها بحسب الوفاق والخلاف كما سبق؛ فجعل القسم الأول قسمين:
ما يجزم ويقطع بدخولها في صورة القاعدة، وما لا يجزم بذلك ولكن يرجح ويصحح دخوله.
وكذا ما يخرج من القاعدة، قسّمه إلى قسمين:
ما يقطع بخروجه من القاعدة ، وإلى ما لا يقطع بخروجه ولكن المصحح خروجه.
فكانت عناية الزركشي منصبة على تفصيل المسائل باعتبار مراتبها في ذاتها، وهذا ما لم يشر إليه القرافي رحمهم الله جميعا.

- وقول الزركشي: ما يلحق بالغالب قطعا يقصد به: ما قدم النادر فيه وأُثْبت حكمه دون حكم الغالب، وهو القسم الأول عند القرافي.
فمقصوده باللحاق هنا أي أن هذا النادر اعتبر ولم يهدر، ومقصوده بعدم اللحاق أي أن الغالب هنا هو المعتبر والنادر ملغى.
وقد ذكر الزركشي أمثلة على كل قسم من الأقسام الأربعة:
- فمن أمثلة القسم الأول:
من خلقت بلا بكارة، فهي داخلة في حكم الأبكار في الاستئذان قطعا. [ أي يستأذنها وليها في النكاح] .
فهنا قدم النادر وأثبت حكمه.

- ومن أمثلة القسم الثاني:
وهو ما ألغي فيه حكم النادر على سبيل الجزم، وقال الزركشي هنا: ( ما لا يلحق بالغالب قطعا ):
كالأصبع الزائدة لا تلحق الأصلية في الدية.

- ومن أمثلة القسم الثالث:
نقض الوضوء بمس الذكر المقطوع إلحاقا بالغالب المتصل على الأصح، وقيل: لا يلحق للندرة.

- ومن أمثلة القسم الرابع:
ما يتسارع إليه الفساد في مدة الخيار، لا يثبت فيه خيار الشرط على الأصح.

• وقد ذكر الزركشي ضابطا مهما ينفع في تصور ما يعطى حكم الغالب وما لا يعطى؛ وهو الديمومة، فالنادر إذا دام فيعطى حكم الغالب بخلاف ما لم يدم، وذكر أمثلة للنوعين. [ ٣ / ٢٤٤ ] 

•• رابعا:
أما السيوطي فذكر قاعدة: "النادر هل يلحق بجنسه أو بنفسه"، وذكر فيها أمثلة:
- من خلقت بلا بكارة لها حكم الأبكار.
- من أتت بولد لستة أشهر ولحظتين يلحق قطعا مع ندوره.
- الأصبع الزائدة هل تلحق بالأصلية؟
وغيرها من الأمثلة التي ذكرها أيضا الزركشي في المنثور.
- ولم يتوسع السيوطي بذكر شرح أو قيود.[ ١٨٣ ] .
فإذا رأيت ذلك رأيت فضل كلام القرافي مع تقدمه، وتبين لك ما عنده من مزية على غيره، وهو تميز يغشي كل كلامه رحمه الله تراه باديا في غالب تقريراته ومصنفاته.
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

هناك تعليق واحد: