الاثنين، 13 يناير 2020

نبأ إبراهيم ﷺ (١)


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فحين سمع ذلك الرجل اليمني -حديث العهد بالإسلام- معاذ بن جبل يقرأ في صلاة الفجر قول ﷲ: (وَٱتَّخَذَ ٱللَّهُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ خَلِیلࣰا)، لم يملك نفسه أمام شدهة المنزلة، وعظم الرتبة، وجلال الثناء، فقال بفطرته وبداهة نظره: (لقد قرّت عين أم إبراهيم)! رواه البخاري.

ولم يأت ثناء في القرآن على نبي من الأنبياء بعد الثناءات على محمد ﷺ كما جاء على إبراهيم عليه وعلى سائر الأنبياء صلوات ﷲ وسلامه.

وهنا وقفات يسيرة مع هذه الصفات الإبراهيمية، ومواعظها وهداياتها:

• فمن الصفات الإبراهيمية: 
١) العناية بالبرهنة في تقرير التوحيد، والحفاوة بالحجاج بأنواعه في محاجّة المشركين.
فمّما هو ظاهر في السيرة النبوية الإبراهيمية تلك المراجعة لقومه بالحجج، والمرادّة بالبراهين، والمناقضة بالاستدلالات، فكان ﷺ ينقض باطل المشركين بالحجة ويكسر قولهم بالدليل العقلي:
- فانظر سيرته في دعوته لأبيه وقومه وهو فتى صغير، فلقد رتّب في دعوته الأمر على أنحاء:
- فابتدأ بالنقض والتزييف للباطل ومنهجه، وتبرأ من الخرافة ونفض يده منها بشدة، وجابه أباه وقومه بمقالته: (إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ)!
ثم ذهب ينظر ويبحث.
ولما كان قد علم بفطرته كمال الرب وكمال صفاته فقد اتجه للعلو يبحث ويطلب الحجة على الربوبية.
وسواء كان كلامه نظرا أو مناظرة فإن المقصد التنبيه على العناية بالحجة العقلية في البحث والنظر والمحاجة.
قال ﷻ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَیۡهِ ٱلَّیۡلُ رَءَا كَوۡكَبࣰاۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَاۤ أُحِبُّ ٱلۡـَٔافِلِینَ).
لكن النجم العالي أفل وذهب!
فأنكر إبراهيم أن يكون من ليس شاهدا قيوما على خلقه إلها!
فكما أن الرب لا يمكن أن يكون ذلك الصنم الزائف القبيح القمئ!، ولابد أن يكون عاليا، فلابد أن يكون شهيدا قيوما على الخلائق.
وتكرر الأمر على إبراهيم، يقول ﷲ: (فَلَمَّا رَءَا ٱلۡقَمَرَ بَازِغࣰا قَالَ هَـٰذَا رَبِّیۖ) 
فالرب لابد أن يكون جميلا مع علوه وشهوده.
وتكرر المغيب، (فَلَمَّاۤ أَفَلَ قَالَ لَىِٕن لَّمۡ یَهۡدِنِی رَبِّی لَأَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡقَوۡمِ ٱلضَّاۤلِّینَ).
 ولما علم أن الرب لابد أن يكون هاديا، يهدي من طرَق بابه، وأتى إليه، وتوسّل عنده، واستمر إبراهيم في طلب الأمر، قال ﷻ: (فَلَمَّا رَءَا ٱلشَّمۡسَ بَازِغَةࣰ قَالَ هَـٰذَا رَبِّی هَـٰذَاۤ أَكۡبَرُۖ فَلَمَّاۤ أَفَلَتۡ قَالَ یَـٰقَوۡمِ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّمَّا تُشۡرِكُونَ).
فاستدل بالأكبرية على الربوبية، فالرب لابد أن يكون أكبر من كل شيء وأعظم.
فقادته فطرته أن يعلم أن الرب هو (العالي الشهيد الجميل الهادي الكبير)، وحينها أشرق القلب بالتوحيد، وانتقل من مقام تزييف الباطل المجرد إلى إعلان البراءة منه والتوجه لله ﷻ.
ثم في محاجّته مع قومه يقول ﷲ: (وَحَاۤجَّهُۥ قَوۡمُهُۥۚ قَالَ أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ وَلَاۤ أَخَافُ مَا تُشۡرِكُونَ بِهِۦۤ إِلَّاۤ أَن یَشَاۤءَ رَبِّی شَیۡـࣰٔاۚ وَسِعَ رَبِّی كُلَّ شَیۡءٍ عِلۡمًاۚ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ).
وهذا السياق يقتضي أنهم أوردوا عليه شبها يتعلّلون بها على باطلهم، وحججا يتحججون بها على شركهم، فكان رد إبراهيم غاية في الاعتزاز الإيماني.
(أَتُحَـٰۤجُّوۤنِّی فِی ٱللَّهِ وَقَدۡ هَدَىٰنِۚ)!
يا الله
ما أعظم الكلمة!
إنه ﷺ يشير إليهم باستعلاء المؤمن على الجاهلية وتفاهات شبهاتها يقول: كيف تجادلوني في ﷲ وأنتم في شرككم وكفركم؟ كيف تجادلون في ﷲ وليس معكم حجة على زيفكم وباطلكم؟
كيف تجادلوني في ﷲ وأنا أجد شاهد ربوبيته في نفسي، وفي هدايته لي، وفي النور الذي أجده يشرق في قلبي؟
هكذا ينظر الموحد في شموخ وإباء إلى أهل الجاهلية وهم يشغبون بشبهاتهم التافهة فيبصبص لهم بأصبعه يقول لهم: أنتم كيف تجرؤون على مجادلتي في التوحيد وأنتم في زيف جاهليتكم وضلالة باطلكم!

- ومنها ما كان في محاجّته لقومه حين كسّر الأصنام، فإنه ﷺ  احتج على عدم ربوبيتها بعجزها وعدم قدرتها:
١- فبيّن عجزها عن السمع: (قَالَ هَلۡ یَسۡمَعُونَكُمۡ إِذۡ تَدۡعُونَ).
٢- ثم لما أحال قومه لمعرفة من كسّر الأصنام إلى كبيرهم زيف ربوبيتها بإثبات عدم القدرة على الكلام: (قَالَ بَلۡ فَعَلَهُۥ كَبِیرُهُمۡ هَـٰذَا فَسۡـَٔلُوهُمۡ إِن كَانُوا۟ یَنطِقُونَ).
٣- وعدم القدرة على الإضرار والنفع: (قَالَ أَفَتَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَا یَنفَعُكُمۡ شَیۡـࣰٔا وَلَا یَضُرُّكُمۡ).

- ومن ذلك محاجّته للملك الكافر: (أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِی حَاۤجَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ فِی رَبِّهِۦۤ أَنۡ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُ ٱلۡمُلۡكَ إِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ رَبِّیَ ٱلَّذِی یُحۡیِۦ وَیُمِیتُ قَالَ أَنَا۠ أُحۡیِۦ وَأُمِیتُۖ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ یَأۡتِی بِٱلشَّمۡسِ مِنَ ٱلۡمَشۡرِقِ فَأۡتِ بِهَا مِنَ ٱلۡمَغۡرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِی كَفَرَۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ).
- فإنه قد جاء هنا أمران من وجوه المحاجة على إثبات الرب:
- الاستدلال على وجود الرب بفعله الذي لا يشاركه غيره فيه.
- الانتقال من دليل إلى آخر أوضح منه عند مغالطة الخصم، وعدم التمسك بالدليل الذي أورد عليه الخصم معاندته.

- ومن ذلك محاجته لأبيه، فإنه حاجه فنقض عليه ربوبية آلهته بعجزها عن السمع والبصر والنفع والضر، قال ﷻ عنه: (إِذۡ قَالَ لِأَبِیهِ یَـٰۤأَبَتِ لِمَ تَعۡبُدُ مَا لَا یَسۡمَعُ وَلَا یُبۡصِرُ وَلَا یُغۡنِی عَنكَ شَیۡـࣰٔا).

• ومن صفاته التي ذكره بها القرآن: المضاء في الحق والعزيمة عليه، ولقد كان إبراهيم ﷺ -مع ما وصف به من الحلم- قويّا في مبادئه، ذا ثبات وعزمة، وإن فتى غضا صغيرا يؤذى بالتحريق ومحاولات القتل، وهو راسخ لم يتزلزل دليل على عجيبة التوحيد إذا وقر في الفؤاد.
انظره حين جبَه أباه وقومه في مبدأ دعوته:(وَإِذۡ قَالَ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمُ لِأَبِیهِ ءَازَرَ أَتَتَّخِذُ أَصۡنَامًا ءَالِهَةً إِنِّیۤ أَرَىٰكَ وَقَوۡمَكَ فِی ضَلَـٰلࣲ مُّبِینࣲ)!
(ضلال مبين)
هكذا بلا اختباء وراء الألفاظ العائمة، وتستر خلف التعابيرة الموهمة، هكذا تراه لا يجمّل الباطل بلفظ، ولا يجامله بكلمة.

• وجاء الثناء على إبراهيم بالقيام بالشريعة والوفاء لمقتضاها، فقال ﷻ: (وَإِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ ٱلَّذِی وَفَّىٰۤ)، وأنت ترى أن أوّل ذكر لإبراهيم في القرآن جاء في هذا الشأن، قال ﷻ: (وَإِذِ ٱبۡتَلَىٰۤ إِبۡرَ ٰ⁠هِـۧمَ رَبُّهُۥ بِكَلِمَـٰتࣲ فَأَتَمَّهُنَّۖ)، والوفاء للمبادئ والقيام بها شأن شريف يقل حاملوه، لكن أصحابه موعودون في آخر أمرهم بالإمامة، وذاك 
فكان عاقبة الوفاء للأمر والالتزام بالشرع والثبات؛ الاصفاء للإمامة، فقال ﷻ: (إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ).

• ومما يؤنقني وأنا أقرأ في النبأ القرآني عن إبراهيم ذلك الحديث الآسر المتكرر عن حرص إبراهيم ﷺ على الامتداد الإيماني في ذريته، وبقاء الدين والتوحيد في أبنائه، انظر رجاءه لربّه وسؤاله حين نبأه بالاصطفاء للإمامة فقال ﷻ: (إِنِّی جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامࣰاۖ قَالَ وَمِن ذُرِّیَّتِیۖ قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ)، لقد كان هذا الأمر أول ما حكاه ﷲ عنه حين أخبره باختياره له، قال: ﻭﻣﻦ ﺫﺭﻳﺘﻲ ﻓﺎﺟﻌﻞ ﻣﺜﻞ اﻟﺬﻱ ﺟﻌﻠﺘﻨﻲ ﺑﻪ، ﻣﻦ اﻹﻣﺎﻣﺔ ﻟﻠﻨﺎﺱ.
وهذا أمر تراه حاضرا في دعائه، فكان من دعواته حين بنى الكعبة قوله وابنه إسماعيل عليهما السلام: (رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَیۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّیَّتِنَاۤ أُمَّةࣰ مُّسۡلِمَةࣰ لَّكَ).
وأيضا في قوله ﷺ: (وَٱجۡنُبۡنِی وَبَنِیَّ أَن نَّعۡبُدَ ٱلۡأَصۡنَامَ).
وقال: (رَبِّ ٱجۡعَلۡنِی مُقِیمَ ٱلصَّلَوٰةِ وَمِن ذُرِّیَّتِیۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلۡ دُعَاۤءِ).
وكان يضم خير الدنيا إلى خير الآخرة في دعائه، فيدعو لهم بسعة المعاش والرزق فقال: (فَٱجۡعَلۡ أَفۡـِٔدَةࣰ مِّنَ ٱلنَّاسِ تَهۡوِیۤ إِلَیۡهِمۡ وَٱرۡزُقۡهُم مِّنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ)، ولقد كنت أقف مع خاتمة الآية متعجّبا من جمال ذلك الدعاء، وربطه بشأن الآخرة وتعليله بأمر له تعلق بالعبادة فقال: (لَعَلَّهُمۡ یَشۡكُرُونَ)، فأهل الآخرة فشغلهم الشاغل هم الآخرة!، وقلوبهم مهتمة بها، فإذا سألوا أمرا من الدنيا وشأنها من شؤونها فإنما يسألونه لصلاح دينهم ولتكون عونا على الطاعة والبر والقربة.

• ومما سيلفت نظرك في النبأ القرآني عن إبراهيم عليه السلام تلك الأوبة لأمر ربه حين ينهاه بغير تباطؤ، فحين سأل الإمامة لذريته وعلّمه ربه: (قَالَ لَا یَنَالُ عَهۡدِی ٱلظَّـٰلِمِینَ)، أتى في دعائه بعد ذلك بالأدب والامتثال فقال: (وَٱرۡزُقۡ أَهۡلَهُۥ مِنَ ٱلثَّمَرَ ٰ⁠تِ مَنۡ ءَامَنَ مِنۡهُم بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۚ)، فقصر دعوته لأهل الإيمان دون أهل الكفر.
ومثله حين نهاه ربه عن الاستغفار لأبيه، قال ﷲ: (وَمَا كَانَ ٱسۡتِغۡفَارُ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لِأَبِیهِ إِلَّا عَن مَّوۡعِدَةࣲ وَعَدَهَاۤ إِیَّاهُ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥۤ أَنَّهُۥ عَدُوࣱّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنۡهُۚ إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَأَوَّ ٰ⁠هٌ حَلِیمࣱ)، ولهذا أثنى عليه ﷻ بقوله: (إِنَّ إِبۡرَ ٰ⁠هِیمَ لَحَلِیمٌ أَوَّ ٰ⁠هࣱ مُّنِیبࣱ)
[سورة هود 75]
ولقد ظللت كثيرا أتأمل الثناء على إبراهيم ﷺ باسم الأوّاه مقترنا مرة مع صفة الحلم ومرة مع الإنابة، ولعلّ الله أن يفتح بفتح فيها.

والحمد لله.

هناك تعليقان (2):

  1. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  2. جزاكم الله خيرا ونفع بكم
    افقتدناكم شيخنا

    ردحذف