الثلاثاء، 28 مايو 2019

المنافقون في سورة التوبة (السمات، والدوافع، وتزكية الصف) -١-


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فقد كان نزول سورة التوبة في السني الأخيرة من الدعوة النبوية، وإذا نظرت في هذه السورة ستجد أن قريبا من نصفها جاء في وصف المنافقين وذكر سماتهم وعلاماتهم.
ألم يبلغك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس ﻗﺎﻝ: "اﻟﺘﻮﺑﺔ ﻫﻲ اﻟﻔﺎﺿﺤﺔ، ﻣﺎ ﺯاﻟﺖ ﺗﻨﺰﻝ ﻭﻣﻨﻬﻢ وﻣﻨﻬﻢ ﺣﺘﻰ ﻇﻨﻮا ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻦ ﺗﺒﻘﻲ ﺃﺣﺪا ﻣﻨﻬﻢ ﺇﻻ ﺫﻛﺮ ﻓﻴﻬﺎ" أي من المنافقين.

وكان ابتداء الحديث في سورة التوبة عن النفاق وصفات المنافقين من أول قول ﷲ ﷻ: "(لَوۡ كَانَ عَرَضࣰا قَرِیبࣰا وَسَفَرࣰا قَاصِدࣰا لَّٱتَّبَعُوكَ وَلَـٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ وَسَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ یُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ).
ومضى السياق يبين الصفات النفاقيّة ويكشف أسبابها، ويعقب عليها بما تقتضيه من كشف وتحذير وإصلاح وتزكية.

 فكان أول وصفٍ وُصِفَ به المنافقون: 
١) التخلف عن البذل للحق، والمثاقلة عن التضحية للدين، والتثبط عن العطاء في ذات ﷲ، فعقّبت هذه الصفة بتعقيبات قرآنية هادية، تزكي الصف المسلم وتربيه، وتذهب عنه رجز المنافقين، فعقبت بأربعة عشر تعقيبا كما تراها في سياق الآيات:
١- فجاء ذكر سبب هذا التخلف: (وَلَـٰكِنۢ بَعُدَتۡ عَلَیۡهِمُ ٱلشُّقَّةُۚ)، إنه مشقة التكليف، وثمن التضحية!.
والمنافقون موجودون في الصف المسلم، سيقفون بجوارك في المناسبات الناعمة، وسيكونون بجانبك في المواقف الرخيّة، فهم مع المسلمين ما دام الأمر سهلا لينا، فإذا جاءت الموجبات، وكانت العزائم، واستحقت التضحيات تولوا وتركوك قائما!

 ٢- ثم عقّب ﷻ ذلك بذكر عذرين من أعذارهم التي كانوا يتعللون به، فكان أوّل عذر حكاه ﷲ عنهم في هذه السورة ما جاء في قوله ﷻ: (وَسَیَحۡلِفُونَ بِٱللَّهِ لَوِ ٱسۡتَطَعۡنَا لَخَرَجۡنَا مَعَكُمۡ)، فاعتذروا بالعجز عن البذل والعطاء والتضحية، وتعللوا بعدم القدرة عليه.
وسيأتي ذكر عذرهم الثاني في التعقيب الثالث عشر.
٣ - وكان من تعقيبات السياق: أنهم أكّدوا عجزهم باليمين والحلف الكاذب، فإنهم لمهانتهم يعلمون أن كذبهم لن يروج إلا بالحلف والقسم.

٤- ثم أخبر ﷲ بأن فعلهم هذا الذي أرادوا به السلامة من الهلك والتلف هو الهلاك الحقيقي فقال ﷻ: (یُهۡلِكُونَ أَنفُسَهُمۡ)!
ليس الهلاك أن تذهب النفس ويتلف المال في سبيل ﷲ، ولكن الهلاك حقا أن يتولى الإنسان عن البذل في سبيل ﷲ، ويترك التضحية في ذات ﷲ، ويقعد عن مقامات التقدمة للدين، ذاك هو الهلاك الحقيقي.

٥- ثم قال ﷻ: (وَٱللَّهُ یَعۡلَمُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ)، فأكذبهم في عذرهم، وألزمهم المذمة باختلاق المعاذير.
والنفس تنسج لصاحبها من التخييلات ما يقعده عن الواجبات، ثم تزيّن له ذلك بزيف من الدوافع، تخادع صاحبها، وتأتي له بالمعاذير، ولكن ﷲ يعلم الصادقين والكاذبين.

٦- ثم جاء العتاب الربّاني لمحمد ﷺ حين أذن لهؤلاء، فقال ﷻ: (عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ یَتَبَیَّنَ لَكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَـٰذِبِیـن)، وهو عتاب الودود ﷻ الذي يبتدئ بذكر العفو قبل المعتبة.
عفا ﷲ عنك لماذا لم تتركهم لينكشف نفاقهم، وليخلع عنهم لباس الزور الذي يدعونه!
سيذهبون الآن يتعللون بإذنك، ويتعذرون به، كلما لقيتهم ملامة من أحد قالوا: قد أذن لنا محمد ﷺ!
 اتركهم ولا تأذن لهم وسيتخلفون عن نصرة الحق!
فسواء عليهم أذنت أم لم تأذن سيتخلفون عن التضحية في ذات الله!
وهذا درس عظيم لأهل الدعوة والإصلاح؛ أن لا يفسحوا لأهل الباطل وسيلة يتعذرون بها، ولا يتركوا لهم ستارا من المعاذير ليستروا به باطلهم، ليحذر أهل الدعوة والعلم والإصلاح أن يعطوا المبطلين حجة أن يخفوا بها سوءتهم، فإن انكشاف أمرهم خير للدعوة، وظهورهم بادية عوراتهم من غير ستار خير للمسلمين، وافتضاح حالهم أنفع للأمة.

٧- ثم عُقّب السياق بنفي الإيمان عن هؤلاء المنافقين: (لَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ أَن یُجَـٰهِدُوا۟ بِأَمۡوَ ٰ⁠لِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلۡمُتَّقِینَ ۝  إِنَّمَا یَسۡتَـٔۡذِنُكَ ٱلَّذِینَ لَا یُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ).
وهذا حكم ترجف له قلوب الخاشعين!
إن التخلف عن نصرة الدين، ثم التستر وراء المعاذير الكاذبة ليس من صنيع من يؤمن بالله، ولا يفعله الذي يؤمن بالآخرة!
والإيمان بالآخرة وعمران القلب بتذكرها مما يطيب على القلب المعاطب في ذات ﷲ!
 ودوام تذكير القلب باليوم الآخر ومشاهد القيامة ونعيم الجنة وعذاب القلب مما يزهّد في الدنيا ويعظم الرغبة في التضحية.

٨- ثم عقّب ﷲ ذلك بذكر دافع من دوافع المتخاذلين، وسبب من أسباب القاعدين قال ﷻ: (وَٱرۡتَابَتۡ قُلُوبُهُمۡ فَهُمۡ فِی رَیۡبِهِمۡ یَتَرَدَّدُونَ)!
إنه الريب والشك وفوات يقين القلوب!
فاليقين حاد يحدو القلوب للآخرة، ويثبتها للتضحيات، ويسوقها راضية للبذل، فإذا خرب القلب عن اليقين وتعطل نوره فيه؛ خارت قواه وتفسخت عزائمه!

٩- ثم ذكر ﷲ سببا من أسباب انغلاق الخير عن القلب وحجب النور عنه: إنه فساد الإرادة!
فقال سبحانه: (وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ)
إن من أعظم مفاتيح الخير ومنافذه للقلب حسن القصد وصلاح التوجه لقبول الوحي، فإذا بالحق سهلا يسيرا محببا إليه.
وهذه قاعدة سلوكية عظيمة، فالقلب إذا صدق صاحبه في توجيهه للنور وجد من قبسه ولقي من هداه بحسب حسن القصد وقوة التوجه، فكما يجد البصر إدراكه بحسب توجهه للنور والضوء، فكذلك القلب في توجهه لنور الوحي.
لكن المنافقين فسدت مقاصدهم ولم تصلح مراداتهم.

١٠- ثم ذكر ﷲ بعد ذلك أمرا وشأنا عجباً!
أرأيت تخلفهم ذاك؟
أرأيت تثاقلهم عن الطاعة؟
إنما كان عقوبة لهم!
فإن العبد لا يزال يدْبر عن الطاعة حتى يكره ﷲ منه الطاعة ويثبّطه!
قال ﷻ: (وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ)!
إن ترك الطاعات والتولي عن القربات قد يكون لكراهية ﷲ الطاعة من العبد، فيخذله ويسد السدد في وجهه!

١١- ثم يسلّي ﷲ المؤمنين الذين يعز عليهم أن يتخلف عنهم من كانوا يظنونه من إخوانهم!
والذين يشقّ عليهم أن يروا من كان معهم وهو يتولى عنهم، وينفض يده منهم، فيسليهم ﷲ ويعظهم، وفيه أمر آخر فإن ﷲ لما كره انبعاثهم وصدهم عن الطاعة أخبر عن أن تقديره كان خيرا للمؤمنين، لما في خروجهم من المفاسد، فيقول: (لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ وَٱللَّهُ عَلِیمُۢ بِٱلظَّـٰلِمِینَ)!
لا تحزن إذا رأيت المتخلف قد تخلف عن الركب وترك اللحوق بالقافلة!
لا تأس على المتولين الذين انخزلوا وسئموا طول الطريق!
فإن في تخلفهم مصالح!
وإن في انتكاسهم خيرا!
وقد ذكر ﷲ في الآية ثلاث مصالح:
١- فقال: (لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا)
فلو بقوا في صف الدعوة والإصلاح لأعقبوه خبالا واﺿﻄﺮابا ﻓﻲ اﻟﺮﺃﻱ، فيفرقوه ويخالفوا بين كلمته، فيحصل الاﻧﻬﺰاﻡ ﻭاﻻﻧﻜﺴﺎﺭ ﻋﻠﻰ ﺃﺳﻬﻞ اﻟﻮﺟﻮﻩ.

٢- ثم بين أنهم لن يقتصروا على تخبيل الصف وتفريقه، بل (وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ)، فلو خرجوا لأوضعوا وساروا سيرا حثيثا ﺑﺎﻟﺘﻀﺮﻳﺐ ﻭاﻟﻨﻤﺎﺋﻢ، ﻳﺒﻐﻮﻧﻜﻢ اﻟﻔﺘﻨﺔ، فيمشون ﺑﻴﻦ اﻷﻛﺎﺑﺮ ﺑﺎﻟﻨﻤﻴﻤﺔ ﻓﻴﻜﻮﻥ اﻹﻓﺴﺎﺩ ﺃﻛﺜﺮ.

٣- المفسدة الثالثة: (وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ)
وﺑﻌﺾ النفوس مجبولة ﻋﻠﻰ اﻟﻔﺸﻞ ﻭﺿﻌﻒ اﻟﻘﻠﺐ، فتؤثر فيها مقالات التوهين، وعبارات التخذيل، لاسيما إن جاءت مزوقة مزينة.

١٢- ثم جاء في ختام هذا السياق وآخر تلك التعقيبات ختام عظيم عظيم، الختام الذي يسلي المؤمنين فيذكرهم بأن الأمر لا جديد فيه، فالباطل يكيد من قبل، ولكن محاولاته القديمة قد اضمحلت، ومصاولته السابقة قد فشلت، وبقي الحق، قال ﷻ: (لَقَدِ ٱبۡتَغَوُا۟ ٱلۡفِتۡنَةَ مِن قَبۡلُ وَقَلَّبُوا۟ لَكَ ٱلۡأُمُورَ حَتَّىٰ جَاۤءَ ٱلۡحَقُّ وَظَهَرَ أَمۡرُ ٱللَّهِ وَهُمۡ كَـٰرِهُونَ)!
يا الله!
يا الله!
ما أعظم هذا التعقيب!
انظر لتوهين الباطل، وتصغيره، وتحقيره!
يا أيها المؤمنون! أرأيت هؤلاء الذين تخلفوا عنكم في تبوك، وخذلوكم، ومكروا بكم، لا تلتفتوا لمكرهم فلقد صنعوا ذلك من قبل، واجتهدوا في كيدكم، وابتغوا فتنتكم، وقلّبوا الأمر وردّدوه تدبيرا وإحكاما، فماذا كانت النتيجة؟
لقد ظهر الحق وتم أمر الله وانتشر النور وجاء الفتح!

 ١٣- ثم ذكر بعد ذلك عذرهم الثاني الذي كانوا يتعذرون به، قال ﷻ: (وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ ٱئۡذَن لِّی وَلَا تَفۡتِنِّیۤۚ)!
نعم هكذا!
يستأذنون النبي ﷺ!
 ويأتون بالأعذار التي يلبسونها لبوس الدين!
ويزخرفون أعذارهم بزخرف يطلونه بطلاء من الحكم الشرعي!
(وَلَا تَفۡتِنِّیۤۚ)!
يخافون على أنفسهم من فتنة النساء، ليظهروا بمظهر المتنسك الذي يخاف على دينه أن يخدش وعلى عفته أن تهتك!
هكذا ستراهم في كل وقت!
يتولون عن الشريعة، ويتركون الشعائر، وينبذون كتاب ﷲ، ثم لا يرضون حتى يلبسوا تركهم وتخلفهم وفحورهم بستار من الدين والحفاط على الدين والغيرة على الدين!

١٤- فعقّب ﷲ هذا العذر بذكر عقوبة أهل الزيف والكذب في عذرهم ذلك، فقال: (أَلَا فِی ٱلۡفِتۡنَةِ سَقَطُوا۟ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِیطَةُۢ بِٱلۡكَـٰفِرِینَ)!
(سَقَطُوا۟ۗ)
تأمل هذه الكلمة، بما توحي به من شدة الأمر وعظم العقوبة!
لقد سقطوا في الفتنة!
فالفتنة هي ترك الشريعة، والتولي عن نصره، ومن أحسن قصده وقام بأمر ﷲ حفظه الله من الفتنة وأحاطه برعايته.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق