بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فلما كانت سورة البقرة هي السورة التي جاء فيها من الأحكام والشرائع ما لم يأت له نظير في غيرها من السور، ناسب أن يُذكر فيها من أخبار المتولّين عن الشرائع من الأمم السالفة ما فيه تبصرة لهذه الأمة وذكرى.
وقد كانت قصة طالوت في سورة البقرة مثالا من الأمثلة على تولي بني إسرائيل عن دين ﷲ وتفلتهم عن شريعته وإبائهم ومثاقلتهم.
لقد كانت تلك القصة مثالا عظيما على قصة التساقط على هذا الطريق الطويل، وأنموذجا على تفسّخ العزيمة حين يبعد الأمد وتكثر العقبات.
- وقبل أن يأتي السياق القرآني على ذكر قصة أولئك القوم؛ جاء بتوطئة يعظ بها النفوس التي تسأم مصاولة الباطل وتستطيل الطريق وتثقل عليها العزائم، فقال ﷻ: "ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم ﷲ موتوا ثم أحياهم"!
لقد كانت قصة طالوت مثالا على الفرار من التكاليف حذر الموت واستحبابا للحياة، فجاءت هذه التوطئة للتنبيه على حقيقة جُلّى.
لقد خرج الألوف من ديارهم فرارا من الموت وحذرا منه فكان ماذا؟
لقد ماتوا جميعا! ثم أحياهم ﷲ!
هكذا جاء الخبر القرآني عن هذه الحادثة بإيجاز لا تفصيل فيه.
ثم جاء الأمر بالقتال والنفقة في سبيل الله فقال: "وقاتلوا في سبيل ﷲ واعلموا أن الله سميع عليم من ذا الذي يقرض ﷲ قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط".
جاءت هذه القصة متبوعة بهذه الأوامر للتذكير بأن الموت بيد الله والحياة بيد ﷲ، والقبض والبسط بيده ﷻ، والرزق والمنع بيده، فلماذا يخاف المؤمن ويجبن ويبخل؟
والجبن والبخل خلقان رديئان يقترن ذمهما معا في النصوص، ففي الصحيحين عن أنس أن النبي ﷺ "كان يستعيذ من الجبن والبخل"، وفي المسند وأبي داود ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: "ﺷﺮ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺭﺟﻞ ﺷﺢ ﻫﺎﻟﻊ، ﻭﺟﺒﻦ ﺧﺎﻟﻊ".
وكانت تلك تقدمة تقدمة حسنى بين يدي هذه القصة.
- ابتدأت هذه القصة بالحديث عن قوم من بني إسرائيل من بعد موسى كانوا قد بلغوا من المهانة والضعة وشتات الأمر ما جاء في السياق القرآني أنهم كانوا مظلومين مستضعفين، قالوا لنبيهم: "وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا".
فقالوا لنبي من أنبيائهم: "ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".
ولكن نبيهم قد خبر القوم وعرف خلق التلوّي، وعلم استحكام طبيعة التفلت فيهم، فاستخبر منهم خبرهم، واستوثق منهم عزيمتهم، فقال: "هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا قالوا وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"؟
فماذا كان حال القوم حين فُرِضت عليهم شريعة القتال؟
- لقد تولى أكثر القوم عند أوّل عقبات الطريق، وبدأت قصة التنازلات عن العزائم، وكان حبُ القعود عن نصرة الحق أول آفة عرضت للقوم، قال ﷻ في شأنهم: "فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".
- ثم انتخب لهم نبيهم ملكا ليقاتلوا من وراءه، فقال: "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"
ولكن القوم هم القوم في توليهم وإبائهم الشريعة، فقالوا لنبيهم: "أنَّى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال".
فلم يصبر أولئك على آفة حب الزعامة والنفاسة بالرياسة، فعثرت أقدامهم عند العقبة الثانية في الطريق إلى الله.
وإنك قد تجد ذا صلاح وتنسك ظاهر، ثم عساه أن ينازع في رياسة ويجاذب في شرف وتقدّم؛ فيشاح ويخاصم، وربما باع دينه بعرض من الدنيا، وفي الترمذي وصححه عن كعب بن مالك قال ﷺ: "ﻣﺎ ﺫﺋﺒﺎﻥ ﺟﺎﺋﻌﺎﻥ ﺃﺭﺳﻼ ﻓﻲ ﻏﻨﻢ ﺑﺄﻓﺴﺪ ﻟﻬﺎ ﻣﻦ ﺣﺮﺹ اﻟﻤﺮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺎﻝ ﻭاﻟﺸﺮﻑ ﻟﺪﻳﻨﻪ".
وهما الأمران اللذان خاصم بهما الإسرائيليون نبيهم: "ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"!
هذه موازينهم التي يزنون بها المستحقين للزعامة، ومعاييرهم التي نصبوها لقياس من يصلح للرياسة الدينية، إنها موازين الدنيا، ومعايير المادة، وأما أهل العلم والإيمان فلهم موازين فارقوا بها أهل المادة والدنيا: "قال إن ﷲ اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، فالقيادة الدينية مفتقرة لصفة مركبة من خلقين: العلم والقوة، فإنه بالعلم تدفع آفات الجهالات، وبالقوة تدفع آفات العجز.
ويمضي السياق ليبين أن من ضعفت استجابته للأمر الشرعي وتكرر تثاقله فربما كان لضعف يقين قلبه، ومثله ينهضه الآيات والدلائل: "وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة".
- وكان من مقتضى العلم الذي أعطاه طالوت أن الفتح والنصر ليس يستحقه إلا من جاز الممحصات وجاهد نفسه لترك الرغبات، ولذا قال طالوت بعدما خرج بقومه: "إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا".
لقد عرض للقوم آفات وابتلاءات، والآن تولى كثير منهم حين أُريدوا على ترك مألوفات النفس ورغباتها، فلم يسلم منهم إلا نحو ثلاثمائة، كما ثبت في البخاري عن البراء: "ﻛﻨﺎ ﻧﺘﺤﺪﺙ ﺃﻥ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﺑﺪﺭ ثلاثمائة ﻭﺑﻀﻌﺔ ﻋﺸﺮ، ﺑﻌﺪﺓ ﺃﺻﺤﺎﺏ ﻃﺎﻟﻮﺕ، اﻟﺬﻳﻦ ﺟﺎﻭﺯﻭا ﻣﻌﻪ اﻟﻨﻬﺮ، ﻭﻣﺎ ﺟﺎﻭﺯ ﻣﻌﻪ ﺇﻻ ﻣﺆﻣﻦ".
- لكن القلة التي ثبتت للأمر الشرعي وللبلاء القدري تزلزل كثير منها أمام عقبة اختلاف موازين القوى، ورهبة القوة المادية، فمن ثبت حين أمر بالقتال، ثم ثبت حين فات نصيبه من الملك والشرف، ثم ثبت حين جاوز النهر فلم يشرب؛ عثر هنا وتنازل في آخر الطريق!
قال ﷻ: "فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ﷲ والله مع الصابرين".
إن تقلّب الذين كفروا في البلاد، وظهور صولتهم، وضجيج قوتهم الماديّة؛ فتنة لكثير.
وقد جاء البيان القرآني منبها أن هذا السقوط إنما يعرض لضعف ما يضادّه من صفتي (التوكل والصبر)، ولذا قال الثابتون: "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن ﷲ والله مع الصابرين".
فقولهم: "بإذن ﷲ" ناشيء عن التوكل على الله، ناتج عن استحضار تدبير الله للخلق.
وقولهم: "والله مع الصابرين" تحضيض لأنفسهم وإخوانهم على لزوم الصبر بذكر فضيلته.
وهما قرينان في القرآن، كما جاء في قوله ﷻ في الثناء على المهاجرين: "الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون"، وكقوله في وصية موسى لقومه: "استعينوا بالله واصبروا".
فماذا كانت ثمرة الثبات على طريق الحق ولزوم الديانة؟
ما هي نتيجة الاعتصام بالعروة في شدة الفتن وتكرر البلاءات؟
قال ﷻ: "فهزموهم بإذن ﷲ وقتل داود جالوت"!
لقد أكرم ﷲ أولئك المستضعفين ببركة ثبات الثابتين!
لقد أكرم ﷲ بني إسرائيل بالنصر والفتح!
لقد أكرم ﷲ بني إسرائيل بالنصر والفتح!
لقد أهلك ﷲ الطاغية!
وهدّم ملكه!
وكسر شوكته!
بثبات قلة من المؤمنين، وتمسكهم بالشريعة وأخذهم بالعزيمة.
وهدّم ملكه!
وكسر شوكته!
بثبات قلة من المؤمنين، وتمسكهم بالشريعة وأخذهم بالعزيمة.
فعادت بركتهم وبركة طاعتهم على أمتهم كلها.
ثم ختم السياق بقوله ﷻ: "ولولا دفع ﷲ الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
لولا تلك المدافعة بين الحق والباطل -ولو من فئة قليلة- لفسدت الأرض!
لولا بقاء المدافعين -ولو كانوا قليلا- لفسدت الأرض!
لولا ثبات أولئك في صراعهم للمبطلين لفسدت الأرض!
إن ثبات الثابتين ولزومهم الطريقة وبقاءهم على النهج باب عظيم من أبواب دفع الفساد عن الأرض.
• كتبه:
محمد آل رميح
٥ /٩ / ١٤٤٠
جزاكم الله خيرا شيخنا الحبيب وحفظكم من كل سوء و وفقكم إلى كل خير وسدد خطاكم
ردحذفمن دروس قصة طالوت: أن القيادة لا نجاح لها إلا بأمرين، الأول: (بسطة العلم) بمعنى القدرة على اتخاذ القرار الصحيح. الثاني: (بسطة الجسم) أي: القدرة على إنفاذ وتطبيق القرار. فالقائد الجاهل القوي في الغالب قراراته خاطئة نافذة، بينما القائد الفاهم الضعيف ففي الغالب قراراته صائبة غير نافذة ولايؤبه لها.. تلكما الصفتان ركنا النجاح دنيوياً ولكنهما لا عاقبة لهما في الآخرة ولا سبيل بهما للنصر على الأعداء مالم تصطبغان بالإيمان والهداية ((إن الله اصطفاه عليكم)) والإصطفاء لا يكون إلّا لخيرة البشر في مقام العبودية والتقوى،،، والله أعلم
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذفأزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف