الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمما يستشكله بعض الفضلاء تقسيم الصلاة في العشر الأواخر إلى قسمين: تراويح في أول الليل، وتهجد وقيام من آخره، وربما ظنه من المحدثات التي ليست تعرف عن السلف الصالحين.
• فأما تلك التسمية بالتفريق بين التراويح والقيام والتهجد فليس مأثورا عن أحد، فصلاة الليل كلها قيام وتهجد، وهو لفظ شرعي، وإن كان لفظ التهجد أخص في اللغة، لما في استعماله من كونه بعد هجود ونوم، واستعمال الفقهاء على عدم التفريق، وأما لفظ التراويح فاستعمال قديم في صدر الأمة، وكانوا يتروحون بين الركعات لطول القيام.
• وكان الفقهاء يسمون الرجوع للمسجد للصلاة فيه بعد الخروج من التراويح: التعقيب.
وكان مستعملا عند الصحابة في المكوث لانتظار الصلاة، ففي المسند ﻘﺎﻝ ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘﺐ ﻣﻦ ﻋﻘﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: "ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ" [المسند ٦٧٥٠، وابن ماجه ٨٠١].
- والتعقيب عند الفقهاء على نوعين: أن يوتر إمامهم ثم يرجعون فيصلون، فهذا قد كرهه من كرهه من السلف لتكرار الوتر.
الثاني: أن يصلي الناس أول الليل من غير وتر ثم يرجعون فيعقبونها بصلاة آخره، فهذا الذي قد جاء عن جمع من السلف فعله وجوازه.
وقد جاء خلاف بين أهل العلم في هذه المسألة:
• و (أﻛﺜﺮ اﻟﻔﻘﻬﺎء ﻋﻠﻰ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﺮﻩ ﺑﺤﺎﻝ). [فتح الباري لابن رجب ٩/ ١٧٥].
وجاء جوازه عن أنس في رواية عنه، فإنه قد جاء عنه أنه ﻗﺎﻝ: «ﻻ ﺑﺄﺱ ﺑﻪ ﺇﻧﻤﺎ ﻳﺮﺟﻌﻮﻥ ﺇﻟﻰ ﺧﻴﺮ ﻳﺮﺟﻮﻧﻪ، ﻭﻳﺒﺮءﻭﻥ ﻣﻦ ﺷﺮ ﻳﺨﺎﻓﻮﻧﻪ». [ابن أبي شيبة ٧٧٣٣]
وجوّزه قتادة في قول عنه. [مختصر قيام الليل للمروزي ٢٤٦]
(وسئل أحمد عن الرجل يأتي ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﻨﺎﺱ ﻓﻴﻨﺎﺩﻳﻬﻢ للقيام في آخر الليل ﻗﺎﻝ: ﻫﺬا ﺃﻳﺴﺮ)، أي أيسر من أن ينادي كالمؤذن. [مسائل أحمد لأبي داود ٩١]
وجوّزه إسحاق بن راهويه. [مسائل إسحاق بن منصور كوسج ٢/ ٨٤٠].
قال ابن قدامة: (ﻭاﻟﺼﺤﻴﺢ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻜﺮﻩ؛ ﻷﻧﻪ ﺧﻴﺮ ﻭﻃﺎﻋﺔ، ﻓﻠﻢ ﻳﻜﺮﻩ، ﻛﻤﺎ ﻟﻮ ﺃﺧﺮﻩ ﺇﻟﻰ ﺁﺧﺮ اﻟﻠﻴﻞ). [المغني ٢/ ١٢٥].
• وجاءت كراهة ذلك عن سعيد بن جبير والحسن وقتادة في رواية، ولعله لمعنى آخر غير العود، كخوف المشقة على الناس. [فتح الباري لابن رجب ٩/ ١٧٥].
قال الحسن: «ﻻ ﺗﻤﻠﻮا اﻟﻨﺎﺱ». [ابن أبي شيبة ٧٧٣٤].
أو لمعنى تكرار الوتر، أو نحوه.
وﺳﺌﻞ أحمد ﻋﻦ اﻟﺘﻌﻘﻴﺐ ﻓﻲ ﺭﻣﻀﺎﻥ؟ ﻗﺎﻝ: (ﻋﻦ ﺃﻧﺲ ﻓﻴﻪ اﺧﺘﻼﻑ). [مسائل أبي داود ٩١]
ﻭقد ﻧﻘﻞ ﻣﺤﻤﺪ ﺑﻦ اﻟﺤﻜﻢ عن أحمد اﻟﻜﺮاﻫﺔ، قال ابن قدامة: (ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻗﻮﻝ ﻗﺪﻳﻢ، ﻭاﻟﻌﻤﻞ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺭﻭاﻩ اﻟﺠﻤﺎﻋﺔ) [المغني ٢/ ١٢٥].
فتبين بهذا أن فصل صلاة الليل في العشر الأواخر جائزة عن أكثر السلف، وهو زمن فاضل ووقت كريم شريف، خليق بأن يجتهد فيه المجتهدون، والله المستعان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق