الاثنين، 6 مايو 2019

(وهم يستبشرون ١): حادثة تحويل القبلة (الهدايات القرآنية لمواجهة المبطلين).


                           بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فلما وصف ﷲ أثر الوحي على المؤمنين، وحالهم عند نزوله، ذكر من حالهم شيئا عجبا، فقال ﷻ: {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون}، فأهل الإيمان والتقوى وطهارة القلب يفرحون بالقرآن، ويستبشرون بمواعظ سوره، وتتبشبش قلوبهم كلما قرأوه لما يتجدد لهم من التزكية والفهم والمعارف في آياته.
وهذه مواعظ من كتاب ﷲ، كتبتها بغير تطويل، وانتقيتها من غير استقصاء.

                         (حادثة تحويل القبلة)
لم تكن حادثة تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة حادثة عابرة في سيرة الدعوة المحمدية، ولم تكن ككثير من الشرائع التي كانت تنزل فيمتثلها الصحابة دون ضجيج من الباطل وتشويش، بل كانت واقعة تزلزلت لها قلوب كثير، وارتد بسببها عدد، وجعل منها اليهود والمنافقون مثابة مغمز في الشريعة، وسبب تشكيك وإرجاف، وقال ﷲ عنها في كتابه: {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى ﷲ}، وجعل اليهود يقولون: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، وطفق المنافقون يرددون: ما بال هذا الرجل يوجّهنا كل يوم إلى قبلة؟!
فكيف عالج القرآن آثار هذه الحادثة التي سيتكرر في واقع الدعوة مثالها، وكيف ربّى الوحي القلوب على مواجهة أهل الزيغ الغامزين في الشريعة، وكيف علم أهل الدعوة والإيمان والعلم مواجهة المتخذين دين ﷲ هزءا وسخرية.
لقد جاء صريح الحديث عن هذه الواقعة على رأس المائة والأربعين من آيات سورة البقرة، فقال ﷻ: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها}.
ولكن التوطئة الإيمانية القرآنية جاءت سابقة على هذه الآية، ثم جاء التعقيب عليها، في سياق قرآني عظيم، يقوي القلب المؤمن على مواجهة الباطل، ويربي فيه الاستعلاء على الموشوشين المعترضين على شرائع الدين، ويعلمه كيف يقف في دفع تهويشات المنحرفين شبهاتهم.
  1. فجاء الحديث مطولا عن تولّي اليهود عن الامتثال، وتثاقلهم عن الاستجابة لأمر ﷲ، ومعاندتهم لأنبيائهم، فجاء توبيخهم باتخاذهم العجل، وبتباطئهم عن ذبح البقرة، وتحريفهم كلام الله من بعد ما سمعوه، ونقضهم الميثاق بسفك دمائهم وإخراج فريق منهم من ديارهم، واتباعهم لما تتلوه الشياطين على ملك سليمان، ليعلم من يسمع تشويش اليهود على هذه الشريعة أنهم حقيق بكل سوء، فهم المذمومون حقا، التاركون للشريعة.
  2. جاء الحديث عن نفاسة اليهود أن ينزل بالمؤمنين خير، وضنانة نفوسهم أن ينال المؤمنين هدى، فقال ﷻ: {ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم}، فإن تحويل القبلة للكعبة كرامة حسدتنا عليه اليهود، كما جاء في المسند عن عائشة قال النبي ﷺ: ( ﺇﻧﻬﻢ ﻻ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﺷﻲء ﻛﻤﺎ يحسدونا ﻋﻠﻰ ﻳﻮﻡ اﻟﺠﻤﻌﺔ اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ القبلة اﻟﺘﻲ ﻫﺪاﻧﺎ اﻟﻠﻪ ﻟﻬﺎ ﻭﺿﻠﻮا ﻋﻨﻬﺎ، ﻭﻋﻠﻰ ﻗﻮﻟﻨﺎ ﺧﻠﻒ اﻹﻣﺎﻡ: ﺁﻣﻴﻦ)!.
  3. جاءت الدلالة على وقوع النسخ في الديانة، فقال ﷻ: {ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها}.
  4. جاء التفخيم لشأن إبراهيم ﷺ، واتباع ملته، وذكر قصة بناء الكعبة، توطئة لما سيأتي من حديث عن تحويل القبلة.
  5. ثم أتى الحديث بأسلوب استعلائي يواجه المشوشين على الشريعة، فقال ﷻ: {سيقول السفهاء}، فوصمهم بالسفه، ووصفهم بقبيح الوصف، وحطّ عليهم.
  6. ربّى القرآن المسلم أن يكون قوي القلب في مواجهة زيغ الزائغين، فقال ﷻ: {قل لله المشرق والمغرب}، في خطاب استعلائي يستأنف به المسلم صراعه مع الزائغين المستشكلين للشرائع، ليقول في بدء كل رد عليهم: أنا عبد لله، يأمرني بما شاء فأطيع، علمت حكمة ذلك أم لم أعلم، اطلعت على المقصد أم لم أطلع، فأنا عبد لله وهو يحكم ما يريد.
  7. ثم مدح المؤمنين مدحا مضمنا لتوجيه عظيم، فقال: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس}، أنتم يا أمة محمد ﷺ الذين تقيمون ميزان الناس بميزان الوحي الذي عندكم، وأنتم الذين توجهون لهم النقد على ضلالهم لا هم، أنتم الذين تملكون المعيار الحق لتقيّموا تصرفاتهم وأخلاقهم ونظرياتهم، لقد جاءت الآية لتعلم المسلم حين يستمع لنقد المنحرفين، ومغامزهم أن لا يستسلم وأن لا يقف موقف مدافع يرد العادية بضعف، بل يجب أن يعرف موقعه الذي شرفه ﷲ به وأقامه فيه.
  8. ثم جاء الخطاب القرآني مبينا لحكمة من حكم هذا التشريع، ومقصدا من مقاصد هذا الحكم، فقال ﷻ: {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه}، لقد كان من مقاصد هذه الواقعة ابتلاء المؤمنين، ليتميّز أهل التسليم والخضعان لأمر ﷲ، المستجيبين لشريعته على أي نحو.
  9. ثم جاء الحديث عن معرفة أهل الكتاب لفضيلة مكة على بيت المقدس، وأن استقبال الكعبة هو الحق، فقال ﷻ: {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم}.
  10. ثم جاء التوجيه الربّاني لأهل الإيمان أن لا يشغلهم الباطل وشبهاته وضجيجه عن الطاعة والمسابقة لأمر ﷲ فقال سبحانه: {ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات}.
  11. ثم جاء ذكر فائدة من فوائد تحويل القبلة، وإنه لشأن عظيم، فقال ﷲ: {ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة}، فإن اليهود لما رأوا محمدا ﷺ وصحابته يتوجهون لبيت المقدس اتخذوا من ذلك حجة لغمز الديانة، فكانوا يقولون: إن محمدا تابعنا في قبلتنا، وسيتابعنا في ديننا، فكانت تلك الحجة بابا يلج منه اليهود لتوهين صف المؤمنين ويقينهم، فجاء تحويل القبلة قاطعا لذلك، ثم تتابعت الشرائع التي يأتي فيها الأمر بمخالفة اليهود والنصارى في أفعالهم الدينية وخصائصهم الدنيوية.
فانظر كيف جاء النبأ القرآني يعلم المؤمنين ويزكيهم ويهدي قلوبهم في مثل هذه الحادثة، ثم اعتبر بها في كل موضع تجد فيها صاحب الزيغ معترضا على دين ﷲ مستشكلا لشريعته مقترحا عليه.
ثم لا تنس أن هذا السياق، وذلك النبأ جاء في سورة البقرة، السورة التي جاء فيها ذكر مباني الإسلام ودعائمه الخمسة، السورة التي جاء فيها من الأحكام ما لم يأت في سورة أخرى، وجاء فيها من الأوامر والنواهي ما لم يأت في غيرها، السورة التي جاء فيها ذكر تولي بني إسرائيل عن الشرائع، وتوبيخهم لعدم تسليمهم للنصوص، والسورة التي ختمت باستجابة الصحابة للشرائع كما في قوله ﷻ: {سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا}، فجاء الحديث عن هذه الحادثة، وهي أنموذج لهذه القضية الكبرى: قضية التسليم للنص والاستجابة للأمر.  

• كتبه أبو المثنى.
٢ / ٩ / ١٤٤٠
الرياض

هناك 3 تعليقات:

  1. جزاكم الله خيرا كثيرا ونفع بكم شيخنا الحبيب وحفظكم وسددكم

    ردحذف
  2. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  3. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف