الخميس، 23 يوليو 2020

حين يثلم القلب!

    الحمد لله:
     هكذا يا أبا عبد ﷲ سُكب البارحة ما بقي من كأس صحبتنا في هذه الدنيا!
    وهكذا تنسرب الحياة كما ينسرب الماء بين الأصابع! قبل أن نرتوي من لقاء الأحبة الصالحين، ومجالس الإخوة المتقين.

     كنَّا طلابًا في الجامعة، في كلية الشريعة بأبها، وتعرفت على أبي عبد ﷲ، كان شابًا بسّامًا لا تغادر البسمة وجهه، طلق المحيّا، خفيف الظلّ، حافظًا لكتاب الله، ظل إمامًا لمسجد لبنان بأبها سنين عددًا.
     كان أبو عبد الله من أسرة من كرائم أسر عسير، جدّه لأبيه كان قاضيًا في أيام العثمانيين، وأبوه -الشيخ عبد ﷲ- من قدماء مشايخ المعهد العلمي بأبها، وفي بيت الكرم والدين هذا نَبَتَ الحسن.
وفي أبها ومحاضنها التربوية، ومواعظ دعاتها، وحماسة أهلها للدين درَج الحسن الهنيدي.

لن تجد أحدًا من أصحابه إلا سيقول: كان الحسن أخصّ أصحابي!
فقد كان يحفُل بالجميع، ويحنو عليهم، ويعطيهم من نفسه، ويخصّ كل أحد بمكرمة، حتى يخيّل إليه أنه أخص أصحاب أبي عبد ﷲ!

والرأي الجامع في صفة أبي عبد ﷲ الذي لا يختلف فيه اثنان: أنه لم تكن له خصومة مع أحد! ولم تجر له عداوة مع مؤمن!
فرحمة ﷲ عليك يا أبا عبد ﷲ!

     كان من القلة الذين أشاركهم همومي، وأستودعهم أسراري، ولقد كان يكفيه ما يحمل على كتفيه من أثقال البلاء وأعباء المرض، لكنني كنت آنس لكلماته، وأسكن لرأيه.

     ابتلي أبو عبد ﷲ بالفشل الكلوي قبل نحو ١٧ عامًا، وأجريت له عملية زراعة للكلى ثم فشلت الزراعة، وابتلي بعدم الذرية، وكان مع ذلك بسامًا رحْب الوجه، لم تبدّله الغِيَر، ولم تنل من سعادة روحه البلايا، ولا والله ما سمعته يومًا بَرِمًا، وما لقيته قط ضجرًا، وما اشتكى يومًا فقدَ الذرية، ولا اعترض على بلاء المرض، وأحسب أن هذا الرضا عن ربه، وعن قدره؛ من أعظم أعماله الصالحة، جازاه ﷲ بأحسن عمله.

     كنت أنتظر لقائي به دائمًا، وأفرح به، وأتشوّف له، وكان من عادتي كلما سافرت للأهل في الخميس، أن أزور الشيخ الحسن في بيته في أبها، وإن زرته فلابد أن يجتمع عنده شباب الدعوة، وإخوة الطريق، فللّه ما أطيب تلك الجلسات، وما أُحَيْلى تلك الأمسيات.
كانت أخبار المسلمين، وأنباء الدعوة هي عُظم ما يدور في مجلسه، مع حلاوة المفاكهة، وجميل المذاكرة.
ولا تسل عن حزنه لمصاب إخوانه، ولا عن وقوفه في نصرتهم، ولقد كان له معي مقامات مشهودة، نصرني فيها حين تَذاءَب بعض المنحرفين، فقام رحمه ﷲ في الأمر وقعد، مع تعبه ومرضه؛ حتى ردّ ﷲ به عنّي بأسًا كثيرًا، فجزاه الله عنّي خير ما جزى أخًا عن أخيه.

ولقد شهدت منه مواقف من غيرته على الشريعة، وهمّه للدين، ما أرجو أن تكون شفيعة له عند ربه.

وكان أكثر ما يُشْجيه ويكربه أن يسمع خلافًا بين حملة الدعوة، أو أن تبلغه خصومة بين أهل العمل الإسلامي، فيغتمّ لذلك ويحزن، ويضيق ويكرب، فإنه كان مطبوعًا على جمع القلوب، يألف ويُؤلف، يحب الاجتماع، وينشز عن الخلافات، ويفر من الخصومات.

وكان -رحمه ﷲ- وفيّا لإخوانه، يتفقدهم بالسؤال، ويصلهم بالرسالة أو بالاتصال، ولا ينقطع لانقطاعهم، بل لا يزال مادًّا حبل الصلة مع القريب والبعيد.

وكنت أقارضه ملاطفةً بملاطفة، وممازحةً بممازحة، فكان كلما أدار دائرة المناقضة عليّ قلت له مضاحكًا: أنا شيخك، وذلك أنّي كنت أدارسه الفرائض في المستويات الأخيرة من الجامعة، فإنّه حين مرض انتسب في الدراسة، ولم يكمل الانتظام، فكان إذا سمع كلمتي هذه اعتدل في جلسته، وسوّى من ملابسه، وقال: صدقت صدقت، وعاد عن غارته، وأذكر أنّنا زرنا عالمًا من العلماء مرة، وأجلسه بجواره، وخصّه بمزيد من الإكرام، فكان أبو عبد الله بعد ذلك يناقضني إذا قلت له: أنا شيخك، فيقول ممازحًا لي: قد استوت الرؤوس، كلنا صرنا شيوخًا، أما تذكر حين أجلسني الشيخ بجواره، ولم يجلسك بجواره، فضحكنا بها زمنًا.
وكان رحمه ﷲ حُفَظَة للأحداث والغرائب، يحفظ عن كل منّا أحدوثة، ذا ملكة في القصة والوصف، فلا تزال معه في ملاحة الحديث، ولذاذة المجالسة.

     وكنت لا أكاد أكتب شيئًا إلا علّق عليه بتعقيبه، تارة بتأثره مما قرأ، وتارة بممازحة، وتارة باستفسار، حتى أصبح مما اعتدته معه في أول لقائنا بعد أي كتابة أكتبها أو بحث أرسله له؛ أن أسمع تعليقه عليه، وكان آخر تعليق له: رسالة أرسلها لي، يمازحني فيها عن مقال لي كنت كتبته عن -طه حسين- ورآه يتداول في صفحة من صفحات بعض من يُغْمز في دينه بالغلو، فراسلني يمازحني يقول: انظر هؤلاء ينشرون مقالك!
وظل يطايبني بكلامه الطيّب ومزحه الحاني.

     قبل الحظر كنت ألحّ عليه ليزورني، وكان يشتكي ضيق وقته في آخر أيام تدريبه في المعهد العدلي، وما كنت أظن أني لن أراه بعد ذلك.
وجاء الحظر واعتزل الخلطة، وما زال على عزلته، محاذرة المرض، لضعف صحته، ووهن بدنه، ثم كلمته قبل أيام، فشكى لي تعبًا في جسمه، وأحاله على جهد غسيل الكلى، ولم نكن نعلم أنه أصيب بالمرض، وأنه وهن المرض لا وهن الغسيل، تحدثت أنا وهو طويلًا، وليتني أطلت أكثر، فقد كان آخر حديث بيني وبينه!
ثم بلغني دخوله المستشفى، فراسلته، وأجابني يشكو ضيق التنفس، ولما كان البارحة أرسلت له رسالة أطمئن على صحته، فكانت الرسالة الأخيرة التي لا جواب بعدها، فلم يرد أبو عبد ﷲ عليّ، وظننته نائمًا، أو متعبًا قليلًا، فلما استيقظت للفجر، وتجهزت للمسجد، رأيت الفاجعة في رسائل الأحبة، رأيت رسائلهم تعزي وتواسي، فدارت بي الأرض.
وهكذا الموت سيقف حجازًا بينك وبين حبيب من أحبابك، ترسل له يومًا فلا يجيب، وتكتب له فلا يردّ، فلنحسن وفادة بعضنا في هذه الدنيا.
حين أيقنت بالخبر أخذتني كظمة في صدري، ولم تخرج دمعة تريحني، وذهبت فصليت بالجماعة، وأنا مكروب النفس وﷲ.
فلما رجعت من الصلاة، وعدت في طريقي للبيت، كلمني أحد أحبابنا يعزّي، فلمّا سمعت صوته، تذكرت مجالسنا الطيبة مع أبي عبد الله، وأيامنا الماضية، تذكرت أسفارنا ولقاءاتنا، تذكرت ما تشاركناه من أفراحنا وأحزاننا، فما تمالكت دمعي، وانبعثت كظمة صدري، وبكيت عليه بكاءً ما بكيته على قريب، فرحمك ﷲ يا أبا عبد ﷲ وجمعنا بك في جنات النعيم.
والله المستعان.
 ٢/ ١٢ / ١٤٤١

هناك 23 تعليقًا:

  1. رحمه الله رحمةً واسعه يدخل بها الجنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وموتانا وموتى المسلمين وأحسن الله عزائكم شيخنا

    ردحذف
  2. رحمه الله وغفر له .. وأسكنه فسيح جناته..💔

    ردحذف
  3. والله إن العين لتدمع والقلب ليحزن على فراقه ولكن حسبنا أنه رحل إلى أرحم الراحمين

    ردحذف
  4. انا لله وإنا اليه راجعون
    أسأل الله يجمعني بك وبأبي عبدالله وبمن نحب في الفردوس الاعلى من الجنة ياشيخ محمد

    ردحذف
  5. أحسن الله عزاكم وغفر له ورحمه

    ردحذف
  6. الله يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته وجزاك الله الجنة على ما كتبت من كلامات أثرت والله في نفسي وتمنيت اني عرفت هذا الرجل الطيب ولكن لا أقول إلا أنا لله وأنا اليه راجعون. اللهم اجمعنا به في جنات النعيم يارب العالمين

    ردحذف
  7. أحسن الله عزاكم وغفر له ورحمه

    ردحذف
  8. جزاكم الله خيرًا، ورفع منازلكم.

    ردحذف
  9. رحمه الله تعالى وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وتقبله في عباده الصالحين ، وأحسن عزاءكم يا أبا المثنى وجمعنا به وبكم في جنات النعيم على منابر من نور

    ردحذف
  10. رحمه الله وغفر له وتجاوز عنه وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، أحسن الله عزاك وعظم الله اجرك وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.

    ردحذف
  11. رحمه الله واحسن عقبه في الغابرين

    ردحذف
  12. رحمه الله تعالى أحببناه ولم نعرفه فمن هو

    ردحذف
  13. رحمة الله وغفر ذنبه وأسكنه فسيح جناته وانا لله وانا اليه راجعون. هو ابن ابن خالي من الرضاعة

    ردحذف
  14. غفر الله له
    اللهم اجعل مااصابة كفارة ورفعة في الجنة
    واجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة
    احسن الله مصاب اهله ومحبية

    ردحذف
  15. اللهم اغفر له وارحمه واسكنه فسيح جناتك يارب العالمين.. 💔

    ردحذف
  16. الله يرحمه ويجمعنا به في جنات الخلد مع النبين والصدقين والشهدا

    ردحذف
  17. إنا لله و إنا إليه راجعون .. الله يغفرله ويرحمه وجميع من مات من المسلمين ويرحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه ويجبر قلب كل محزون .. ولا حول ولا قوة إلا بالله

    ردحذف
  18. شكرا ابا مثني شكرا جزيلا وجزاكم الله خيرالجزا
    والشكر موصول لكل من عزانا وشاركنا في مصابنا نسأل الله الرحمة لابننا والغفران

    ردحذف
  19. رحمه الله وغفر له
    وماعند الله للأبرار خير و أبقى
    عظم الله اجركم يا شيخ وثبتكم

    ردحذف
  20. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  21. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  22. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  23. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف