الحمد لله، والصلاةُ والسلامُ على رسول الله، أما بعد:
فمن الأحاديث الجليلة ما ثبت ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال ﷺ: "الملائكة ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪث، ﺗﻘﻮﻝ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ".
• هذا حديث جليل القدر عظيم المبوأ عند أهل التنسك، وفيه مسائل أذكر بعضها:
• ﻫﻞ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ ﺃﻭ اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ ﻛﻠﻪ ﻣﺼﻠﻰ ﻟﻪ؟
ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:
القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلى، بل يشمل جميع المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ.
وقال العراقي: (وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ).
وقال ابن حجر: (ﺃﻱ ﻓﻲ اﻟﻤﻜﺎﻥ اﻟﺬﻱ ﺃﻭﻗﻊ ﻓﻴﻪ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻭﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ).
القول الثاني: أنه خاص بمحل صلاته.
ﻭﻗﺪ ﺭﻭﻱ ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه.
ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ ﻣﺴﻠﻢ ﻭﺃﺑﻲ ﺩاﻭﺩ ﻭاﺑﻦ ﻣﺎﺟﻪ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ".
وكأن هذا القول أقرب، ومع هذا فليحرص المتعبد أن لا يتحول من موضعه لغير مقتضى، والعلم عند رب العالمين.
• وهنا مسألة أخرى:
هل يشترط لحصول الثواب أن يكون انتظارا لصلاة؟
قال العراقي: (ﻗﻮﻟﻪ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ فيه"، ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ، ﻟﻜﻦ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ ﺑﻜﻮﻥ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﺫﻟﻚ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ"، ﻭﻫﻮ ﻭاﺿﺢ).
وقال ابن حجر: (ﻭﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: "ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ" ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﻤﻦ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ اﻧﺘﻈﺮ ﺻﻼﺓ ﺃﺧﺮﻯ).
• وهنا مسألة ثالثة مليحة:
وهي هل يلحق بذلك النساء والمعذورون، ممن لم يصلوا في المساجد، إن حبسوا أنفسهم في مصلياتهم:
ألحق بعض أهل العلم هؤلاء بمن لزم مصلاه في مسجد الجماعة، كالحافظ ابن عبد البر، فقد ألحق النساء إذا حبسن أنفسهن في مصلاهن.
بل ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺑﻄﺎﻝ: (ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺷﺒﻬﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻌﺎﻝ اﻟﺒﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).
فالله أعلم.
جزاكم الله خيرا ونفع بكم شيخنا الجليل
ردحذف