الجمعة، 4 فبراير 2022

مواعظ فقهية في لزوم المساجد

      الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

    فإنّ لزوم المساجد، والمرابطة فيها، واستيطانها انتظارًا للصلاة، والمكوث في مواضع الصلاة بعد أداء الصلاة لم يزل دأبًا للصالحين، وخُلقًا للمتقين.

   وقد جاءت أحاديث عظيمة في فضل الجلوس في المسجد، وانتظار الصلاة، مما تؤنق المؤمن، ويطيب بها قلبه.

     وهو أمر كان النبي ﷺ يُذكّر به الصحابة إذا تأخّرت الإقامة لأمر حادث، فكان ﷺ يذكرهم أجر انتظارهم للصلاة، وإنّهم في صلاة ما انتظروها، كما سيأتي.

• ومن الأجور التي جاء ذكرها في الأدلّة لمن لازم المساجد:

أ- صلاة الملائكة عليه، ودعاؤهم له، كما في الصحيحين: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ».

ب- حصول أجر الصلاة له، ففي الصحيحين: «فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي».

ج- مباهاة ﷲ لمن جلس ينتظر الصلاة، ففي المسند وابن ماجه عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ قال: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘّﺐ ﻣﻦ ﻋﻘّﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑًﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ».

د- حصول أجر الرباط، ففي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻤﺤﻮ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ، ﻭﻳﺮﻓﻊ ﺑﻪ اﻟﺪﺭﺟﺎﺕ؟» ﻗﺎﻟﻮا ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺇﺳﺒﺎﻍ اﻟﻮﺿﻮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻜﺎﺭﻩ، ﻭﻛﺜﺮﺓ اﻟﺨﻄﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ، ﻭاﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺬﻟﻜﻢ اﻟﺮﺑﺎﻁ».

هـ- إنه كالمجاهد في سبيل الله، ففي المسند عن ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال: قال ﷺ: «ﻣﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻛﻔﺎﺭﺱ اﺷﺘﺪ ﺑﻪ ﻓﺮﺳﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﺸﺤﻪ، ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻼﺋﻜﺔ اﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﺃﻭ ﻳﻘﻮﻡ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻟﺮﺑﺎﻁ الأكبر».

و- هو سببٌ من أسباب رفع الدرجات ومغفرة الخطايا، دلّ عليه الحديث السابق: «ألا أدلكم على ما يمحو ﷲ به الخطايا ويرفع به الدرجات..». 

ز- إنه يكتب من القانتين، ففي المسند عن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ قال ﷺ: «اﻟﻘﺎﻋﺪ ﻳﺮﻋﻰ اﻟﺼﻼﺓ كالقانت، ﻭﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﻦ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ».

ح- إن ﷲ يتبشبش له، ففي المسند وسنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﻣﺎ ﺗﻮﻃّﻦ ﺭﺟﻞ ﻣﺴﻠﻢ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻟﻠﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺬﻛﺮ، ﺇﻻ ﺗﺒﺸﺒﺶ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒﺸﺒﺶ ﺃﻫﻞ اﻟﻐﺎﺋﺐ ﺑﻐﺎﺋﺒﻬﻢ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ ﻋﻠﻴﻬﻢ».

•• والأحاديث في هذا الباب على نوعين في الجملة:

- أحاديث انتظار الصلاة.

- وأحاديث الجلوس بعد الصلاة.

وقد تجتمع في حقّ من صلى ثم جلس منتظرًا لصلاة أخرى.

•• وفي هذه الأحاديث مسائل:

١) ما اﻟﻤﺮاﺩ بقوله ﷺ: «في مصلّاه»، في الحديث: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»،  فهل يقصد به ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ يدخل فيه كل موضع في اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ أدى صلاته ﻓﻴﻪ؟

- ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:

القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلّى، بل يشمل جميع  المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ، وابن عبد البر ورجحه ابن رجب، والعيني، وقال العراقي: "وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ".

وقال ابن حجر: "ﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮًا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ".

ويكون ذلك كقولهم: لا يجوز الخروج من معتكفه، وهم يصرحون أن مقصدهم المسجد.

القول الثاني: أنه خاصٌ بمحلّ صلاته.

ﻭﻗﺪ جاء ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه، ففي الموطأ عن أبي هريرة قال: «إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه. اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي»، فإنه جعل فضل المتحول عن محله: كفضل الجلوس للصلاة، وهو فضل يتحقق لكل من انتظر، ولذا قال ابن عبد البر: "ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻪ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ".

ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: في الصحيحين: ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ: «ﺻﻼﺓ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﻗﻪ، ﺑﻀﻌًﺎ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﺗﻮﺿﺄ ﻓﺄﺣﺴﻦ اﻟﻮﺿﻮء، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻻ ﻳﻨﻬﺰﻩ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﻂ ﺧﻄﻮﺓ ﺇﻻ ﺭﻓﻊ ﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺣﻂ ﻋﻨﻪ ﺑﻬﺎ ﺧﻄﻴﺌﺔ، ﺣﺘﻰ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺩﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻫﻲ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻭاﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻳﺼﻠﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ ﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺆﺫ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻴﻪ».

فإنه قال هنا: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ».

وقد جاء عن عطاء أنّ ذلك في حق من لم يقم من محله، ففي مصنف عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: أحب إليك ألا تقوم حتى تفرغ من تسبيحك؟ قال: نعم، قلت: لم؟ قال: لأنهم يقولون: لا تزال الملائكة تصلي على المرء ما لم يقم من مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث".

والعلم عند رب العالمين.

٢) وهنا مسألة أخرى:

هل هناك فرق في الأجر بين حالي المصلي: حال الجلوس بعد الصلاة، وحال انتظار الصلاة؟

والناظر في الأدلة يرى أنها جاءت بأن فضيلة صلاة الملائكة على العبد متحققة للحالين، لمن كان جالسًا في المسجد بعد صلاته، أو كان منتظرًا للصلاة، سواء، وفي حديث علي في المسند، قال: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺇﻥّ اﻟﻌﺒﺪ ﺇﺫا ﺟﻠﺲ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﺇﻥ ﺟﻠﺲ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﻲ: ﻫﻮ ﺣﺪﻳﺚ ﻛﻮﻓﻲ، ﻭﺇﺳﻨﺎﺩﻩ ﺣﺴﻦ.

وإنّما الذي يقع فيه النظر هو حصول أجر الصلاة لمن جلس بعد صلاته غير منتظر لصلاة أخرى، وقد اختلف في ذلك على قولين:

- القول الأول:

إن هناك فرقًا في الأجر بين من جلس ينتظر الصلاة، وبين من لم ينتظرها، وإنما يتحقق أجر الصلاة للجالس الذي ينتظر الصلاة، وقد سبق قوله ﷺ: «إﺫا ﺻﻠّﻰ، ﻟﻢ ﺗﺰﻝ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ».

قال العراقي في ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ مصلّاﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ فيه»، قال: "ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ، ﻟﻜﻦ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ ﺑﻜﻮﻥ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﺫﻟﻚ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ»، ﻭﻫﻮ ﻭاﺿﺢ".

وقال ابن حجر: "ﻭﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: «ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ»، ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﻤﻦ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ اﻧﺘﻈﺮ ﺻﻼﺓ ﺃﺧﺮﻯ".

القول الثاني:

إنّ أجر من جلس بعد الصلاة، ومن انتظر الصلاة سواء، ويدلّ عليه ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا صلّى أحدكم فقضى صلاته، ثم قعد في مصلّاه يذكر الله فهو في صلاة، وإنّ الملائكة يصلّون عليه، يقولون: اللهم ارحمه واغفر له، وإن هو دخل مصلاه ينتظر كان مثل ذلك».

٣) ومن المسائل المتعلّقة بهذا الباب؛ هل يشترط لتحقق الثواب في مثل هذه الأحاديث الاشتغال بالذكر، وعمران المسجد به؟

لم يأتِ ﻓﻲ أكثر ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ اﻟﺒﺎﺏ اشتراط ذلك، ولكن جاء ذلك في حديث تبشبش ﷲ للعبد، ﻭإن كان الأكمل والأفضل أن يعمر المسلم المسجد بالذكر والدعاء.

ولذلك كان النّبي ﷺ يذكّر بها الصحابة الذين ربما احتبسوا ينتظرون الصلاة حتى ناموا، ففي الصحيحين: أنهم ﺳﺄﻟﻮا ﺃﻧﺴًﺎ ﻋﻦ ﺧﺎﺗﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺧﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻌﺸﺎء ﺫاﺕ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﻛﺎﺩ ﻳﺬﻫﺐ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺛﻢ ﺟﺎء، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺻﻠﻮا، ﻭﻧﺎﻣﻮا، ﻭﺇﻧﻜﻢ ﻟﻢ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻢ اﻟﺼﻼﺓ».

وفي المسند ﺟﺎﺑﺮ، ﻗﺎﻝ: ﺟﻬﺰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ جيشا ﻟﻴﻠﺔ، ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﺑﻠﻎ ﺫﻟﻚ، ﺛﻢ ﺧﺮﺝ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﻗﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﺭﻗﺪﻭا، ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺗﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺼﻼﺓ، ﺃﻣﺎ ﺇﻧﻜﻢ ﻟﻦ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻤﻮﻫﺎ»، وفي الصحيحين ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻗﺎﻟﺖ: ﺃﻋﺘﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﺸﺎء، ﻭﺫﻟﻚ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻔﺸﻮ اﻹﺳﻼﻡ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﺮﺝ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ: ﻧﺎﻡ اﻟﻨﺴﺎء ﻭاﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻓﺨﺮﺝ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ ﻷﻫﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ: «ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﻫﺎ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﻏﻴﺮﻛﻢ».

٤) وهنا مسألة مليحة:

وهي في لحوق النّساء والمعذورين، ممن لا يصلون في المساجد، إن حبسوا أنفسهم في مصلياتهم، بالأجر الوارد في لزوم المسجد:

نعم، قد ألحق بعض أهل العلم كمالك وابن عبد البر هؤلاء بمن لزم مصلاه في مسجد الجماعة، بل ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺑﻄﺎﻝ: (ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺷﺒﻬﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻌﺎﻝ اﻟﺒﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).

بخلاف من لم يكن معذورًا.

وذهب آخرون إلى أن هذا الأجر خاص بأهل المسجد، ففي حديث ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎﺩاﻣﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻠﻪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ»، قال ابن رجب: "ﻭﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺼﻼﺓ اﻟﺘﻲ ﺻﻼﻫﺎ: ﻭاﻟﻤﺮاﺩ ﺑﻪ ﻓﻲ المسجد ﺩﻭﻥ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺁﺧﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ".

٥) دلت الأدلة على أن الأجر معلق بأمور:

- عدم الأذى، وذلك أنّ حال الملازم للمسجد لابد أن يكون على رعي لحق ﷲ وحق الخلق، فإذا آذى المؤمنين فاتت عليه الفضيلة.

- عدم الحدث، والحدث فسّره أبو هريرة بانتقاض الوضوء، وقد نصّ عليه مالك وغيره، وفي الصحيحين: قال ﺭﺟﻞ ﺃﻋﺠﻤﻲ: ﻣﺎ اﻟﺤﺪﺙ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻫﺮﻳﺮﺓ؟ ﻗﺎﻝ: اﻟﺼﻮﺕ، ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻀﺮﻃﺔ.

وجاء ذكر الحدث؛ لأنه إذا لم يحدث فهو على هيئة الانتظار، فإذا أحدث نافى بحدثه حال المتأهبين لها.

وذهب آخرون إلى أن الحدث هو الأذى لغيره، وأنه نفس المذكور قبله في الحديث، جاء ذلك عن عبد ﷲ بن أبي أوفى، ومع ذلك قال ابن بطال: "ﻓﺈﺫا اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ اﺳﺘﻐﻔﺎﺭ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺤﺪﺙ، ﻓﺄﻭﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻄﻊ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺴﺐ ﻭﺷﺒﻬﻪ". 

٦) ولما كان انتظار الصلاة صلاة، فقد نصّ جمع على أنه يكره لمن ينتظر الصلاة ما يكره للمصلي إلا ما تدعو إليه الحاجة.

واستحبوا له إذا جلس لانتظار الصلاة أن يجلس مستقبلًا القبلة، لأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ومن سنّة المصلي أن يكون مستقبل القبلة، نص على استحبابه أحمد في صلاة الصبح.

وإن كان يعكّر على ذلك أنّ المعروف من سيرة النبي ﷺ أنّه كان يستقبل الناس بعد الصلاة، إلا أن يخصّ هذا بالإمام.

ومما يُجعل تحت هذه المسألة؛ تشبيك الأصابع عند الذهاب للمسجد، وعند انتظار الصلاة، وعامّة فقهاء المذاهب على كراهيته قبل الصلاة، وأحاديث الباب لا تخلو من ضعف،  وقد روي في المسند عن أبي ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺇﺫ ﺩﺧﻠﻨﺎ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺭﺟﻞ ﺟﺎﻟﺲ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ اﻟﻤﺴﺠﺪ محتبيًا مشبك ﺃﺻﺎبعه ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ، ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﻔﻄﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻹﺷﺎﺭﺓ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﷺ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻼ يشبكنّ، ﻓﺈﻥ اﻟﺘﺸﺒﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻭﺇﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻻ ﻳﺰاﻝ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ».

والله أعلم.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

هناك تعليقان (2):

  1. فتح الله لك شيخنا فتوح العارفين العابدين الحامدين

    ردحذف
  2. ما أجمله من مقال اللهم بارك فيه وفي كاتبه وقارئه وناشره.. جزاك الله خيرا شيخ محمد

    ردحذف