الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
الأحد، 20 فبراير 2022
من الوعظ الفقهي في كتب الفقه وأصوله: (فروق القرافي)
الجمعة، 4 فبراير 2022
مواعظ فقهية في لزوم المساجد
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فإنّ لزوم المساجد، والمرابطة فيها، واستيطانها انتظارًا للصلاة، والمكوث في مواضع الصلاة بعد أداء الصلاة لم يزل دأبًا للصالحين، وخُلقًا للمتقين.
وقد جاءت أحاديث عظيمة في فضل الجلوس في المسجد، وانتظار الصلاة، مما تؤنق المؤمن، ويطيب بها قلبه.
وهو أمر كان النبي ﷺ يُذكّر به الصحابة إذا تأخّرت الإقامة لأمر حادث، فكان ﷺ يذكرهم أجر انتظارهم للصلاة، وإنّهم في صلاة ما انتظروها، كما سيأتي.
• ومن الأجور التي جاء ذكرها في الأدلّة لمن لازم المساجد:
أ- صلاة الملائكة عليه، ودعاؤهم له، كما في الصحيحين: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ».
ب- حصول أجر الصلاة له، ففي الصحيحين: «فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي».
ج- مباهاة ﷲ لمن جلس ينتظر الصلاة، ففي المسند وابن ماجه عن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻋﻤﺮﻭ قال: ﺻﻠﻴﻨﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻤﻐﺮﺏ، ﻓﻌﻘّﺐ ﻣﻦ ﻋﻘّﺐ، ﻭﺭﺟﻊ ﻣﻦ ﺭﺟﻊ، ﻓﺠﺎء ﷺ ﻭﻗﺪ ﻛﺎﺩ ﻳﺤﺴﺮ ﺛﻴﺎﺑﻪ ﻋﻦ ﺭﻛﺒﺘﻴﻪ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﺑﺸﺮﻭا ﻣﻌﺸﺮ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ، ﻫﺬا ﺭﺑﻜﻢ ﻗﺪ ﻓﺘﺢ ﺑﺎﺑًﺎ ﻣﻦ ﺃﺑﻮاﺏ اﻟﺴﻤﺎء، ﻳﺒﺎﻫﻲ ﺑﻜﻢ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻳﻘﻮﻝ: ﻫﺆﻻء ﻋﺒﺎﺩﻱ ﻗﻀﻮا ﻓﺮﻳﻀﺔ، ﻭﻫﻢ ﻳﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﺃﺧﺮﻯ».
د- حصول أجر الرباط، ففي مسلم ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﺃﻻ ﺃﺩﻟﻜﻢ ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﻳﻤﺤﻮ اﻟﻠﻪ ﺑﻪ اﻟﺨﻄﺎﻳﺎ، ﻭﻳﺮﻓﻊ ﺑﻪ اﻟﺪﺭﺟﺎﺕ؟» ﻗﺎﻟﻮا ﺑﻠﻰ ﻳﺎ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ، ﻗﺎﻝ: «ﺇﺳﺒﺎﻍ اﻟﻮﺿﻮء ﻋﻠﻰ اﻟﻤﻜﺎﺭﻩ، ﻭﻛﺜﺮﺓ اﻟﺨﻄﺎ ﺇﻟﻰ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ، ﻭاﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺬﻟﻜﻢ اﻟﺮﺑﺎﻁ».
هـ- إنه كالمجاهد في سبيل الله، ففي المسند عن ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قال: قال ﷺ: «ﻣﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﻦ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﻛﻔﺎﺭﺱ اﺷﺘﺪ ﺑﻪ ﻓﺮﺳﻪ ﻓﻲ ﺳﺒﻴﻞ اﻟﻠﻪ ﻋﻠﻰ ﻛﺸﺤﻪ، ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻼﺋﻜﺔ اﻟﻠﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﺃﻭ ﻳﻘﻮﻡ، ﻭﻫﻮ ﻓﻲ اﻟﺮﺑﺎﻁ الأكبر».
و- هو سببٌ من أسباب رفع الدرجات ومغفرة الخطايا، دلّ عليه الحديث السابق: «ألا أدلكم على ما يمحو ﷲ به الخطايا ويرفع به الدرجات..».
ز- إنه يكتب من القانتين، ففي المسند عن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻋﺎﻣﺮ قال ﷺ: «اﻟﻘﺎﻋﺪ ﻳﺮﻋﻰ اﻟﺼﻼﺓ كالقانت، ﻭﻳﻜﺘﺐ ﻣﻦ اﻟﻤﺼﻠﻴﻦ ﻣﻦ ﺣﻴﻦ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻦ ﺑﻴﺘﻪ ﺣﺘﻰ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ».
ح- إن ﷲ يتبشبش له، ففي المسند وسنن ابن ماجه ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻋﻦ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻗﺎﻝ: «ﻣﺎ ﺗﻮﻃّﻦ ﺭﺟﻞ ﻣﺴﻠﻢ اﻟﻤﺴﺎﺟﺪ ﻟﻠﺼﻼﺓ ﻭاﻟﺬﻛﺮ، ﺇﻻ ﺗﺒﺸﺒﺶ اﻟﻠﻪ ﻟﻪ، ﻛﻤﺎ ﻳﺘﺒﺸﺒﺶ ﺃﻫﻞ اﻟﻐﺎﺋﺐ ﺑﻐﺎﺋﺒﻬﻢ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ ﻋﻠﻴﻬﻢ».
•• والأحاديث في هذا الباب على نوعين في الجملة:
- أحاديث انتظار الصلاة.
- وأحاديث الجلوس بعد الصلاة.
وقد تجتمع في حقّ من صلى ثم جلس منتظرًا لصلاة أخرى.
•• وفي هذه الأحاديث مسائل:
١) ما اﻟﻤﺮاﺩ بقوله ﷺ: «في مصلّاه»، في الحديث: «إنّ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ على أحدكم ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞّ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»، فهل يقصد به ﻧﻔﺲ اﻟﻤﻮﺿﻊ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ، ﺃﻭ يدخل فيه كل موضع في اﻟﻤﺴﺠﺪ اﻟﺬﻱ أدى صلاته ﻓﻴﻪ؟
- ﻫﺬا ﻓﻴﻪ ﺗﺮﺩﺩ وخلاف بين العلماء:
القول الأول: أن ذلك لا يختص بالمصلّى، بل يشمل جميع المسجد، وقد ﺫﻫﺐ لهذا ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ اﻟﻌﻠﻤﺎء، ﻣﻨﻬﻢ: اﺑﻦ ﺑﻄﺔ، وابن عبد البر ورجحه ابن رجب، والعيني، وقال العراقي: "وهذا ﺃﻇﻬﺮ ﻭﺃﺭﺟﺢ ﺑﺪﻟﻴﻞ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭﺓ ﻓﻲ اﻷﺻﻞ: "ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ" ﻭﻛﺬا ﻓﻲ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺘﺮﻣﺬﻱ، ﻓﻬﺬا ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻰ ﺃﻥ اﻟﻤﺮاﺩ بمصلاه ﺟﻤﻴﻊ اﻟﻤﺴﺠﺪ".
وقال ابن حجر: "ﻛﺄﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻣﺨﺮﺝ اﻟﻐﺎﻟﺐ، ﻭﺇﻻ ﻓﻠﻮ ﻗﺎﻡ ﺇﻟﻰ ﺑﻘﻌﺔ ﺃﺧﺮﻯ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻣﺴﺘﻤﺮًا ﻋﻠﻰ ﻧﻴﺔ اﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ ﻛﺎﻥ ﻛﺬﻟﻚ".
ويكون ذلك كقولهم: لا يجوز الخروج من معتكفه، وهم يصرحون أن مقصدهم المسجد.
القول الثاني: أنه خاصٌ بمحلّ صلاته.
ﻭﻗﺪ جاء ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ ﻣﺎ يدل عليه، ففي الموطأ عن أبي هريرة قال: «إذا صلى أحدكم، ثم جلس في مصلاه، لم تزل الملائكة تصلي عليه. اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. فإن قام من مصلاه، فجلس في المسجد ينتظر الصلاة، لم يزل في صلاة حتى يصلي»، فإنه جعل فضل المتحول عن محله: كفضل الجلوس للصلاة، وهو فضل يتحقق لكل من انتظر، ولذا قال ابن عبد البر: "ﺇﻻ ﺃﻧﻪ ﻻ ﻳﻘﺎﻝ: ﺇﻧﻪ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ".
ﻭﻳﺆﻳﺪه ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: في الصحيحين: ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ: «ﺻﻼﺓ اﻟﺮﺟﻞ ﻓﻲ ﺟﻤﺎﻋﺔ ﺗﺰﻳﺪ ﻋﻠﻰ ﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺑﻴﺘﻪ، ﻭﺻﻼﺗﻪ ﻓﻲ ﺳﻮﻗﻪ، ﺑﻀﻌًﺎ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺫﻟﻚ ﺃﻥ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﺇﺫا ﺗﻮﺿﺄ ﻓﺄﺣﺴﻦ اﻟﻮﺿﻮء، ﺛﻢ ﺃﺗﻰ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻻ ﻳﻨﻬﺰﻩ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻻ ﻳﺮﻳﺪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﻂ ﺧﻄﻮﺓ ﺇﻻ ﺭﻓﻊ ﻟﻪ ﺑﻬﺎ ﺩﺭﺟﺔ، ﻭﺣﻂ ﻋﻨﻪ ﺑﻬﺎ ﺧﻄﻴﺌﺔ، ﺣﺘﻰ ﻳﺪﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺩﺧﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ اﻟﺼﻼﺓ ﻣﺎ ﻛﺎﻧﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﻫﻲ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻭاﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻳﺼﻠﻮﻥ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ، ﻳﻘﻮﻟﻮﻥ: اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ ﺗﺐ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺆﺫ ﻓﻴﻪ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ ﻓﻴﻪ».
فإنه قال هنا: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺠﻠﺴﻪ اﻟﺬﻱ ﺻﻠّﻰ ﻓﻴﻪ».
وقد جاء عن عطاء أنّ ذلك في حق من لم يقم من محله، ففي مصنف عبد الرزاق: عن ابن جريج قال: "قلت لعطاء: أحب إليك ألا تقوم حتى تفرغ من تسبيحك؟ قال: نعم، قلت: لم؟ قال: لأنهم يقولون: لا تزال الملائكة تصلي على المرء ما لم يقم من مصلاه الذي صلى فيه، ما لم يحدث".
والعلم عند رب العالمين.
٢) وهنا مسألة أخرى:
هل هناك فرق في الأجر بين حالي المصلي: حال الجلوس بعد الصلاة، وحال انتظار الصلاة؟
والناظر في الأدلة يرى أنها جاءت بأن فضيلة صلاة الملائكة على العبد متحققة للحالين، لمن كان جالسًا في المسجد بعد صلاته، أو كان منتظرًا للصلاة، سواء، وفي حديث علي في المسند، قال: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺇﻥّ اﻟﻌﺒﺪ ﺇﺫا ﺟﻠﺲ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺑﻌﺪ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ، ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﺇﻥ ﺟﻠﺲ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ، ﺻﻠﺖ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﻭﺻﻼﺗﻬﻢ ﻋﻠﻴﻪ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ»، ﻭﻗﺎﻝ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ اﻟﻤﺪﻳﻨﻲ: ﻫﻮ ﺣﺪﻳﺚ ﻛﻮﻓﻲ، ﻭﺇﺳﻨﺎﺩﻩ ﺣﺴﻦ.
وإنّما الذي يقع فيه النظر هو حصول أجر الصلاة لمن جلس بعد صلاته غير منتظر لصلاة أخرى، وقد اختلف في ذلك على قولين:
- القول الأول:
إن هناك فرقًا في الأجر بين من جلس ينتظر الصلاة، وبين من لم ينتظرها، وإنما يتحقق أجر الصلاة للجالس الذي ينتظر الصلاة، وقد سبق قوله ﷺ: «إﺫا ﺻﻠّﻰ، ﻟﻢ ﺗﺰﻝ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠّﻲ ﻋﻠﻴﻪ، ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ: اﻟﻠﻬﻢ ﺻﻞ ﻋﻠﻴﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ».
قال العراقي في ﻗﻮﻟﻪ ﷺ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ مصلّاﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ فيه»، قال: "ﻳﻘﺘﻀﻲ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ اﻟﻤﺬﻛﻮﺭ ﺑﻤﺠﺮﺩ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ، ﻟﻜﻦ ﺭﻭاﻳﺔ اﻟﺒﺨﺎﺭﻱ ﺗﻘﺘﻀﻲ ﺗﻘﻴﻴﺪ ﺣﺼﻮﻝ اﻟﺜﻮاﺏ ﺑﻜﻮﻥ ﺟﻠﻮﺳﻪ ﺫﻟﻚ ﻻﻧﺘﻈﺎﺭ اﻟﺼﻼﺓ، ﻓﺈﻧﻪ ﻗﺎﻝ ﻓﻴﻬﺎ: «ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻳﻨﺘﻈﺮ اﻟﺼﻼﺓ»، ﻭﻫﻮ ﻭاﺿﺢ".
وقال ابن حجر: "ﻭﻳﺆﺧﺬ ﻣﻦ ﻗﻮﻟﻪ: «ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ اﻟﺬﻱ ﺻﻠﻰ ﻓﻴﻪ»، ﺃﻥ ﺫﻟﻚ ﻣﻘﻴﺪ ﺑﻤﻦ ﺻﻠﻰ ﺛﻢ اﻧﺘﻈﺮ ﺻﻼﺓ ﺃﺧﺮﻯ".
القول الثاني:
إنّ أجر من جلس بعد الصلاة، ومن انتظر الصلاة سواء، ويدلّ عليه ما جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: قال رسول الله ﷺ: «إذا صلّى أحدكم فقضى صلاته، ثم قعد في مصلّاه يذكر الله فهو في صلاة، وإنّ الملائكة يصلّون عليه، يقولون: اللهم ارحمه واغفر له، وإن هو دخل مصلاه ينتظر كان مثل ذلك».
٣) ومن المسائل المتعلّقة بهذا الباب؛ هل يشترط لتحقق الثواب في مثل هذه الأحاديث الاشتغال بالذكر، وعمران المسجد به؟
لم يأتِ ﻓﻲ أكثر ﺃﺣﺎﺩﻳﺚ اﻟﺒﺎﺏ اشتراط ذلك، ولكن جاء ذلك في حديث تبشبش ﷲ للعبد، ﻭإن كان الأكمل والأفضل أن يعمر المسلم المسجد بالذكر والدعاء.
ولذلك كان النّبي ﷺ يذكّر بها الصحابة الذين ربما احتبسوا ينتظرون الصلاة حتى ناموا، ففي الصحيحين: أنهم ﺳﺄﻟﻮا ﺃﻧﺴًﺎ ﻋﻦ ﺧﺎﺗﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ: ﺃﺧﺮ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ اﻟﻌﺸﺎء ﺫاﺕ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﻟﻰ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﻛﺎﺩ ﻳﺬﻫﺐ ﺷﻄﺮ اﻟﻠﻴﻞ، ﺛﻢ ﺟﺎء، ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﻥ اﻟﻨﺎﺱ ﻗﺪ ﺻﻠﻮا، ﻭﻧﺎﻣﻮا، ﻭﺇﻧﻜﻢ ﻟﻢ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻢ اﻟﺼﻼﺓ».
وفي المسند ﺟﺎﺑﺮ، ﻗﺎﻝ: ﺟﻬﺰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ جيشا ﻟﻴﻠﺔ، ﺣﺘﻰ ﺫﻫﺐ ﻧﺼﻒ اﻟﻠﻴﻞ، ﺃﻭ ﺑﻠﻎ ﺫﻟﻚ، ﺛﻢ ﺧﺮﺝ، ﻓﻘﺎﻝ: «ﻗﺪ ﺻﻠﻰ اﻟﻨﺎﺱ ﻭﺭﻗﺪﻭا، ﻭﺃﻧﺘﻢ ﺗﻨﺘﻈﺮﻭﻥ ﻫﺬﻩ اﻟﺼﻼﺓ، ﺃﻣﺎ ﺇﻧﻜﻢ ﻟﻦ ﺗﺰاﻟﻮا ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ اﻧﺘﻈﺮﺗﻤﻮﻫﺎ»، وفي الصحيحين ﻋﺎﺋﺸﺔ، ﻗﺎﻟﺖ: ﺃﻋﺘﻢ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻟﻴﻠﺔ ﺑﺎﻟﻌﺸﺎء، ﻭﺫﻟﻚ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﻳﻔﺸﻮ اﻹﺳﻼﻡ، ﻓﻠﻢ ﻳﺨﺮﺝ ﺣﺘﻰ ﻗﺎﻝ ﻋﻤﺮ: ﻧﺎﻡ اﻟﻨﺴﺎء ﻭاﻟﺼﺒﻴﺎﻥ، ﻓﺨﺮﺝ ﷺ، ﻓﻘﺎﻝ ﻷﻫﻞ اﻟﻤﺴﺠﺪ: «ﻣﺎ ﻳﻨﺘﻈﺮﻫﺎ ﺃﺣﺪ ﻣﻦ ﺃﻫﻞ اﻷﺭﺽ ﻏﻴﺮﻛﻢ».
٤) وهنا مسألة مليحة:
وهي في لحوق النّساء والمعذورين، ممن لا يصلون في المساجد، إن حبسوا أنفسهم في مصلياتهم، بالأجر الوارد في لزوم المسجد:
نعم، قد ألحق بعض أهل العلم كمالك وابن عبد البر هؤلاء بمن لزم مصلاه في مسجد الجماعة، بل ﻗﺎﻝ اﺑﻦ ﺑﻄﺎﻝ: (ﻭﻳﺪﺧﻞ ﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﻣﻦ ﺃﺷﺒﻬﻬﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﻌﻨﻰ ﻣﻤﻦ ﺣﺒﺲ ﻧﻔﺴﻪ ﻋﻠﻰ ﺃﻓﻌﺎﻝ اﻟﺒﺮ ﻛﻠﻬﺎ ﻭاﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ).
بخلاف من لم يكن معذورًا.
وذهب آخرون إلى أن هذا الأجر خاص بأهل المسجد، ففي حديث ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻗﺎﻝ: «اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺗﺼﻠﻲ ﻋﻠﻰ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ ﻣﺼﻼﻩ، ﻣﺎ ﻟﻢ ﻳﺤﺪﺙ: اﻟﻠﻬﻢ اﻏﻔﺮ ﻟﻪ، اﻟﻠﻬﻢ اﺭﺣﻤﻪ، ﻭﻻ ﻳﺰاﻝ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎﺩاﻣﺖ اﻟﺼﻼﺓ ﺗﺤﺒﺴﻪ، ﻻ ﻳﻤﻨﻌﻪ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻠﺐ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻠﻪ ﺇﻻ اﻟﺼﻼﺓ»، قال ابن رجب: "ﻭﻫﻮ ﻣﻮﺿﻊ اﻟﺼﻼﺓ اﻟﺘﻲ ﺻﻼﻫﺎ: ﻭاﻟﻤﺮاﺩ ﺑﻪ ﻓﻲ المسجد ﺩﻭﻥ اﻟﺒﻴﺖ، ﻭﺁﺧﺮ اﻟﺤﺪﻳﺚ ﻳﺪﻝ ﻋﻠﻴﻪ".
٥) دلت الأدلة على أن الأجر معلق بأمور:
- عدم الأذى، وذلك أنّ حال الملازم للمسجد لابد أن يكون على رعي لحق ﷲ وحق الخلق، فإذا آذى المؤمنين فاتت عليه الفضيلة.
- عدم الحدث، والحدث فسّره أبو هريرة بانتقاض الوضوء، وقد نصّ عليه مالك وغيره، وفي الصحيحين: قال ﺭﺟﻞ ﺃﻋﺠﻤﻲ: ﻣﺎ اﻟﺤﺪﺙ ﻳﺎ ﺃﺑﺎ ﻫﺮﻳﺮﺓ؟ ﻗﺎﻝ: اﻟﺼﻮﺕ، ﻳﻌﻨﻲ اﻟﻀﺮﻃﺔ.
وجاء ذكر الحدث؛ لأنه إذا لم يحدث فهو على هيئة الانتظار، فإذا أحدث نافى بحدثه حال المتأهبين لها.
وذهب آخرون إلى أن الحدث هو الأذى لغيره، وأنه نفس المذكور قبله في الحديث، جاء ذلك عن عبد ﷲ بن أبي أوفى، ومع ذلك قال ابن بطال: "ﻓﺈﺫا اﻧﻘﻄﻊ ﻋﻨﻪ اﺳﺘﻐﻔﺎﺭ اﻟﻤﻼﺋﻜﺔ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺤﺪﺙ، ﻓﺄﻭﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﻨﻘﻄﻊ ﺑﺄﺫﻯ اﻟﺴﺐ ﻭﺷﺒﻬﻪ".
٦) ولما كان انتظار الصلاة صلاة، فقد نصّ جمع على أنه يكره لمن ينتظر الصلاة ما يكره للمصلي إلا ما تدعو إليه الحاجة.
واستحبوا له إذا جلس لانتظار الصلاة أن يجلس مستقبلًا القبلة، لأن العبد في صلاة ما دام ينتظر الصلاة ومن سنّة المصلي أن يكون مستقبل القبلة، نص على استحبابه أحمد في صلاة الصبح.
وإن كان يعكّر على ذلك أنّ المعروف من سيرة النبي ﷺ أنّه كان يستقبل الناس بعد الصلاة، إلا أن يخصّ هذا بالإمام.
ومما يُجعل تحت هذه المسألة؛ تشبيك الأصابع عند الذهاب للمسجد، وعند انتظار الصلاة، وعامّة فقهاء المذاهب على كراهيته قبل الصلاة، وأحاديث الباب لا تخلو من ضعف، وقد روي في المسند عن أبي ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ ﻗﺎﻝ: ﺑﻴﻨﻤﺎ ﺃﻧﺎ ﻣﻊ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺇﺫ ﺩﺧﻠﻨﺎ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺈﺫا ﺭﺟﻞ ﺟﺎﻟﺲ ﻓﻲ ﻭﺳﻂ اﻟﻤﺴﺠﺪ محتبيًا مشبك ﺃﺻﺎبعه ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻓﻲ ﺑﻌﺾ، ﻓﺄﺷﺎﺭ ﺇﻟﻴﻪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻠﻢ ﻳﻔﻄﻦ اﻟﺮﺟﻞ ﻹﺷﺎﺭﺓ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﺎﻟﺘﻔﺖ ﷺ ﺇﻟﻰ ﺃﺑﻲ ﺳﻌﻴﺪ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺇﺫا ﻛﺎﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻼ يشبكنّ، ﻓﺈﻥ اﻟﺘﺸﺒﻴﻚ ﻣﻦ اﻟﺸﻴﻄﺎﻥ، ﻭﺇﻥ ﺃﺣﺪﻛﻢ ﻻ ﻳﺰاﻝ ﻓﻲ ﺻﻼﺓ ﻣﺎ ﺩاﻡ ﻓﻲ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﺣﺘﻰ ﻳﺨﺮﺝ ﻣﻨﻪ».
والله أعلم.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الثلاثاء، 1 فبراير 2022
المقاتل العلميّة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ، أما بعد:
فمن الكلمات التي كانت تدور على ألسنة مشايخنا الصالحين، ويرددونها على الطلاب من غير سآم؛ كلمة ابن عجلان: (إذا أغفل العالم لا أدري؛ أصيبت مقاتله!). (المدخل للبيهقي: ٤٣٦، تاريخ بغداد ١٦/ ٤٠٨)
وهذه الكلمة الطاهرة قد نُقلت لنا بإسناد جليل، تسلسل فيه علماء الأمّة الكبار، فإنها مرويّة عن أحمد بن حنبل قال: حدثنا الشافعي قال: حدثنا مالك، عن ابن عجلان.
ومن اللطيف أن مالكًا لم يسمع من ابن عجلان إلا هذه الكلمة، ونعمت الكلمة. (التعديل والتجريح للباجي ٢/ ٧٠٠)
• وهذه الكلمة الطيّبة قد رويت عن عدد من السلف، كما جاءت عن ابن عباس، وعن غيره. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨).
• وكان العلماء يتواصون بتدريس هذه الكلمة للطلاب! وتلقينهم هذا الأدب، فقد جاء عن عبد الله بن يزيد بن هرمز أنه قال: "ينبغي للعالم أن يورّث جلساءه قول لا أدري، حتى يكون ذلك أصلًا في أيديهم يفزعون إليه، فإذا سئل أحدهم عمّا لا يدري قال: لا أدري"! (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨)
• وانظر دوران هذه الكلمة على ألسنة الأئمة في كل فن، انظرها في المسائل الحديثية والمسائل الفقهية واللغوية، انظرها في المسائل التي سئل عنها ابن معين، كيف كان يحيل على هذه الكلمة، وهو يسأل عن أسماء الرجال ودرجاتهم وحديثهم، انظرها في كلام الإمام البخاري في التاريخ الكبير، انظرها في مسائل الإمام أحمد، المنقولة لنا عن كبار أصحابه، وقد عددت له في مسائله المطبوعة نحوًا من مائتي مسألة يقول فيها: لا أدري، ووالله إنَّ كثيرًا منها ما لو عرضت على بعضنا لانطلق كالسهم ليس يلوي على شيء، وستتعجب من كثرة ترداد الفقهاء في كتبهم: أظن ونحوه دون الجزم، ومن أكثر من رأيته على هذه الطريقة الزركشي في شرحه على الخرقي، فكثيرًا ما يعول على المظنة، ويفزع إليها دون أن يجزم في مواضع تردده، رحمه الله.
• وإنّ من تمام عقل العالم أن يجعل من هذه الكلمة مفزعًا له كلما طاف به طائف من شك في مسألة، وقد روى الأعمش عن شقيق عن عبد ﷲ بن مسعود قال: والله إنّ الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون. (سنن الدارمي ١/ ٢٧٢)
قال الأعمش: قال لي الحكم بن عتيبة: لو سمعت هذا منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي. (جامع بيان العلم وفضله، (٢/ ٨٤٣).
هذا الحكم بن عتيبة الذي ﻗﺎﻝ فيه ﻣﺠﺎﻫﺪ ﺑﻦ ﺭﻭﻣﻲ: ﺭﺃﻳﺖ اﻟﺤﻜﻢ ﻓﻲ ﻣﺴﺠﺪ اﻟﺨﻴﻒ ﻭﻋﻠﻤﺎء اﻟﻨﺎﺱ ﻋﻴﺎﻝ ﻋﻠﻴﻪ!
والذي ﻛﺎﻥ ﺇﺫا ﻗﺪﻡ اﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﺃﺧﻠﻮا ﻟﻪ ﺳﺎﺭﻳﺔ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﻳﺼﻠﻲ ﺇﻟﻴﻬﺎ. (الجرح والتعديل لابن أبي حاتم، ٣/ ١٢٤)
• ثم لا تظنّ أنّ هذه كلمة الأصاغر في العلم والعمل، كلا! بل هي كلمة الأكابر، الذين يعرفون مقام الفتيا، ويخافون مقام ربهم ووعيده، فعن اﺑﻦ ﺳﻴﺮﻳﻦ ﻗﺎﻝ: ﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺣﺪ ﺑﻌﺪ اﻟﻨﺒﻲ ﷺ ﺃﻫﻴﺐ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﻭﻟﻢ ﻳﻜﻦ ﺃﺣﺪ ﺑﻌﺪ ﺃﺑﻲ ﺑﻜﺮ ﺃﻫﻴﺐ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ ﻣﻦ ﻋﻤﺮ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ. (الطبقات لابن سعد ٣/ ١٣٢)
وقال الشافعي: ما رأيت أحدًا فيه من آلة العلم ما في سفيان بن عيينة، وما رأيت أكفّ عن الفتيا منه. (الجرح والتعديل ١/ ٣٣)
ولقد كان ما يقول فيه ابن عمر لا أدري أكثر مما يفتي فيه. (أخبار المكيين من تاريخ ابن بي خيثمة ص: ٢٥٣)
وعن حنظلة بن أبي سفيان قال: ما رأيت عالما قط يقول: لا أدري أكثر من طاوس. (تاريخ الإسلام ٣/ ٦٦).
وليست هذه الكلمة دليلًا على الجهل، بل تكرارها مما يدلّ على علم صاحبها، وفقهه عن ﷲ، فإنّ العالم إذا توسّع في العلم جبن عن الفتيا، لكثرة إشرافه على منازع أدلة المخالفين، واطلاعه على مآخذ الاعتراضات في المسائل، فيحمله ذلك على التحوّط والحذر، وربما حمل عليها ما قد صح عن أبي الدرداء رضي الله عنه حين قال: لا أدري نصف العلم. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٨)
وعن ﻋﺒﺪ اﻟﻠﻪ ﺑﻦ ﻣﺴﻌﻮﺩ، قال: "إنّ ﻣﻦ ﻋﻠﻢ اﻟﻤﺮء ﺃﻥ ﻳﻘﻮﻝ ﻟﻤﺎ ﻻ ﻳﻌﻠﻢ: اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ، ﻭﻗﺪ ﻗﺎﻝ اﻟﻠﻪ ﻟﻨﺒﻴﻪ ﷺ: {ﻗﻞ ﻣﺎ ﺃﺳﺄﻟﻜﻢ ﻋﻠﻴﻪ ﻣﻦ ﺃﺟﺮ ﻭﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻣﻦ اﻟﻤﺘﻜﻠﻔﻴﻦ}.
وقد كان السلف الطيبون يرون ذلك محمدةً في صاحبه، لا وكس فيها على صاحبها، ويرون من العلم أن يُسأل العبد فيقول لما لا يدريه: لا أدري، فحين سأل الحسن بن صالح رجلًا عن شيء؟ فقال: لا أدري فقال: الآن حين دريت. الكامل في ضعفاء الرجال (٣/ ١٤٨)
• ويجب على المؤمن أن يذَكر نفسه بأن ما يجهله أكثر مما يعلمه، فإنّ ذلك أحرى ألا تأخذه أخذات النفس، ومن الأخبار اللطيفة في هذا أنه كان لإبراهيم بن طهمان جراية فاخرة (راتب وعطاء) من بيت المال، قال: فسئل مسألة يومًا من الأيام في مجلس الخليفة، فقال: لا أدري! فقالوا له: تأخذ في كل شهر كذا وكذا ولا تحسن مسألة؟! قال: إنما آخذه على ما أحسن، ولو أخذت على ما لا أحسن لفني بيت المال علي، ولا يفني ما لا أحسن، فأعجب أمير المؤمنين جوابه، وأمر له بجائزة فاخرة، وزاد في جرايته. (تاريخ بغداد ٧/ ١٣)
• وينبغي على صاحب العلم والفتيا؛ ألا يتردد في قول لا أدري، ولا يستحيي منها، قال أبو عمر الزاهد، قال: كنت في مجلس أبي العباس ثعلب؛ فسأله سائل عن شيء، فقال لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟! فقال له ثعلب لو كان لأمك بعدد ما لا أدري بعر لاستغنت. (تاريخ بغداد ٦/ ٤٤٨)
ولست أنسى أني سألت شيخنا ابن عثيمين رحمه الله عن صحة حديث ﺃبي ﻫﺮﻳﺮﺓ، ﻗﺎﻝ: ﻗﺎﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﻭﺳّﻄﻮا اﻹﻣﺎﻡ»، الذي رواه أبو داود، فقال من فوره: لا أدري، لم يتلعثم أو يتردد أن يقولها وهو عالم الدنيا، ولست أعجب أن يقول مثله: لا أدري، لمسألة لم يجزم بها، لكنّ الذي أخذني في ذلك الجواب، ولم يذهب من نفسي؛ أريحيته بقوله وتبسّطه فيه دون أن تأخذه ضجرة أو تردد.
• وربما ظنّ بعضهم أنّ في هذه الكلمة حطّةً بصاحبها، وليست كذلك عند أهل التقوى، وقد قيل للشعبي: أما تستحي من كثرة ما تسأل، فتقول لا أدري، قال: إن ملائكة الله المقربين لم يستحيوا حَيْثُ سئلوا عما لا يعلمون، أن: {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [البقرة: 32}. أخبار القضاة (٢ / ٤٢٢)، (تاريخ دمشق لابن عساكر ٢٥/ ٣٦٦).
وقال أحمد بن عمرو بن سرح، سمعت ابن وهب يقول: لو أردت أن أنصرف كل يوم بألواحي ملأى عند مالك بن أنس فيما يسأل ويقول لا أدري لانصرفت بها، قال ابن سرح: وقد صار لا أدري عند أهل زماننا هذا عيب!
وكان كبار أعلام الأمّة لا يبالون أن يبينوا نقص علمهم في باب أو فن أو علم، فلما قال عبد الرحمن بن القاسم لمالك: يا أبا عبد الله ليس بعد أهل المدينة أحد أعلم بالبيوع من أهل مصر! فقال مالك: ومن أين علموا ذلك؟ قال: منك يا أبا عبد الله! فقال له مالك: ما أعلمها أنا! فكيف يعلمونها بي؟ (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص ٣٧).
• وليس والله العجب ممن قال لما لا يدري: لا أدري، لكنّ العجب ممن يقول لما لا يدري: أدري! فيسارع دون تروي، ويفتي بغير بينة، ويتكلم بغير تريث، قال سفيان بن عيينة: عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه كان في حلقة فيها رجل من ولد عبد الله بن عمر، فسئل العبدلي عن شيء، فقال: لا أدري! فقال له يحيى بن سعيد: العجب منك كل العجب، تقول لا أدري وأنت ابن إمامي هدي! فقال: ألا أخبرك بأعجب مني عند الله، وعند من عقل عن الله؛ من قال بغير علم أو حدث عن غير ثقة. (مقدمة صحيح مسلم، ٤/ ١٦، الكامل في ضعفاء الرجال ١/ ٢٤٥).
• والناس لهم ضغطة على العالم، وملجئة يلجئونه بها ليجيب، وقد رأيت من المستفتين مَن يذكر مشقّته وعنته ليحمل المفتي على الجواب له بما يحب، ولكن من اتقى ﷲ لم يجعل من نفسه وقاء لأحد من النار، بل يجب أن يتذكر عند فتياه أنه قد أوقف نفسه على شفا هلكة، وشفير النار، إن لم ينجها بالتقوى وقع، فعن ﻋﻘﺒﺔ ﺑﻦ ﻣﺴﻠﻢ ﻗﺎﻝ: "ﺻﺤﺒﺖ اﺑﻦ ﻋﻤﺮ ﺃﺭﺑﻌﺔ ﻭﺛﻼﺛﻴﻦ ﺷﻬﺮًا ﻓﻜﺜﻴﺮًا ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺴﺄﻝ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﻻ ﺃﺩﺭﻱ، ﺛﻢ ﻳﻠﺘﻔﺖ ﺇﻟﻲّ ﻓﻴﻘﻮﻝ: ﺗﺪﺭﻱ ﻣﺎ ﻳﺮﻳﺪ ﻫﺆﻻء؟ ﻳﺮﻳﺪﻭﻥ ﺃﻥ ﻳﺠﻌﻠﻮا ﻇﻬﻮﺭﻧﺎ ﺟﺴﺮًا ﻟﻬﻢ ﺇﻟﻰ ﺟﻬﻨﻢ!". (جامع بيان العلم، ٢/ ٨٤١)
فليست مشقة المستفتي وتعبه بأهون من نار جهنم، ولما سأل رجلٌ مالكًا عن مسألة، وذكر أنه قد جاء مرسولًا يسأل عن هذه المسائل من مسيرة ستة أشهر! قال له مالك: فأخبر الذى أرسلك أني لا علم لي بها! قال: ومن يعلمها؟ قال: من علّمه الله!(الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص:٣٨).
• وذلك لأنهم يعلمون أن هذه الكلمة فيها سلامة من النار! يستجنّ بها العبد من نار جهنم، قال مالك بن أنس: جُنّة العالم لا أدري. (الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء، ص: ٣٧).
وقد أتبع مالك القول الفعل، فكان كثيرًا ما يرد المستفتين بلا أدري، قال ابن أبي أويس عن خاله مالك بن أنس: سئل مالك مرة عن نيف وعشرين مسألة فما أجاب منها إلا في واحدة.
وكان ربما يسأل عن مائة مسألة فيجيب منها في خمس أو عشر، ويقول في الباقي: لا أدري. (ترتيب المدارك، ١ /١٨٣)
وكان أصحاب مالك حين يرونه يدرأ ما يسأل عنه بلا أدري يتعجبون، ويقول قائلهم: لا والله ما رفع هذا الرجل إلا بالتقوى، من كان منكم يسأل عن هذا فيرضى أن يقول لا أدري؟ (ترتيب المدارك وتقريب المسالك ١ /١٨٣)
وكان إذا تعجّب منه السائلون، كيف يكثر من قول: لا أدري، احتج عليهم بحديث ابن عمر، حين يقول: لا أدري، ثم يقول: فمن أنا؟! وإنما أهلك الناس العجب وطلب الرئاسة، وهذا يضمحل عن قليل! (ترتيب المدارك وتقريب المسالك ١ / ١٨٤)
وكان يلوم بعض المستفتين الذي ربما استخف بالعلم، وقال للمفتي: هذه مسألة سهلة، فكان مالك إذا قيل له ذلك غضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قول الله تعالى: {إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا}، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. (ترتيب المدارك، ١ / ١٨٤- ١٨٥)
وربما وجهوا لمالك المسائل فتقيم عنده زمنًا ثم يخرجها، قد أجاب ببعضها، وتوقف في أكثرها، كما جاء عن بعض أصحابه أنه وجه له بمسائل فبقيت عنده أربعة أشهر ثم جاءت بخاتمه بعد ذلك، وقد أجاب في ثلث ذلك المسائل، وقال في باقيها: لا أدري! (ترتيب المدارك ٣/ ٧)
• ومما يعين صاحب العلم على لزوم هذه الكلمة، أن يتذكر أن فتواه دين يتدين بها الخلق، وحين سئل عطاء عن مسألة، وقال فيها: لا أدري، وقيل له: ألا تقول فيها برأيك؟ فقال: إني أستحيي من الله أن يدان في الأرض برأيي! (تهذيب التهذيب ٧/ ٢٠٢).
ﻭهي والله راحة الخاطر وسكون النفس، وقد ﺫﻛﺮ اﻟﺸﻌﺒﻲ، ﻋﻦ ﻋﻠﻲ ﺭﺿﻲ اﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ، ﺃﻧﻪ ﺧﺮﺝ ﻋﻠﻴﻬﻢ ﻭﻫﻮ ﻳﻘﻮﻝ: "ﻣﺎ ﺃﺑﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺒﺪ، ﻣﺎ ﺃﺑﺮﺩﻫﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻜﺒﺪ"! ﻓﻘﻴﻞ ﻟﻪ: ﻭﻣﺎ ﺫاﻙ؟ ﻗﺎﻝ: "ﺃﻥ ﺗﻘﻮﻝ ﻟﻠﺸﻲء ﻻ ﺗﻌﻠﻤﻪ: اﻟﻠﻪ ﺃﻋﻠﻢ". (جامع بيان العلم، ٢/ ٨٣٦)
والعلم عند الله.
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ.