ليلة القدر -تعيينها، وبعض أحكامها-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول ﷲ وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
• فالذي يدل عليه اختلاف تعيين الأحاديث النبوية لليلة القدر في عهده ﷺ؛ أن ليلة القدر ليست معينة في ليلة لا تتحول كل رمضان، بل هي ليلة متنقلة تكون سنة في ليلة، وسنة أخرى في ليلة، ففي الصحيحين أن النبي ﷺ قال: «رأيت أني ﺃﺳﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺎء ﻭﻃﻴﻦ»، ﻗﺎﻝ ﺃﺑﻮ ﺳﻌﻴﺪ اﻟﺨﺪﺭﻱ: ﻣﻄﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ ﺇﺣﺪﻯ ﻭﻋﺸﺮﻳﻦ، ﻓﻮﻛﻒ اﻟﻤﺴﺠﺪ ﻓﻲ ﻣﺼﻠﻰ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ، ﻓﻨﻈﺮﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻭﻗﺪ اﻧﺼﺮﻑ ﻣﻦ ﺻﻼﺓ اﻟﺼﺒﺢ، ﻭﻭﺟﻬﻪ ﻣﺒﺘﻞ ﻃﻴﻨﺎ ﻭﻣﺎء".
وفي مسلم أنه ﷺ أري علامتها ليلة ثلاث وعشرين.
وفي مسلم أنه ﷺ ذكر أنها ليلة سبع وعشرين، فدل اختلاف هذه الوقائع على أنها تتحول كل ليلة.
وهذا قول بعض التابعين كأبي قلابة، ومذهب أبي حنيفة، ومالك وهو قول المزني من أصحاب الشافعي، واختاره ابن خزيمة وقول كثير من فقهاء الأمصار، كابن هبيرة والنووي وابن قدامة والعراقي وابن حجر، وقال المرداوي: ﻭﻫﻮ اﻟﺼﻮاﺏ اﻟﺬﻱ ﻻ ﺷﻚ ﻓﻴﻪ.
- فإن قيل: فكيف يلتئم ذلك، وقد دلت الآيات على أن القرآن نزل في ليلة القدر، فهذه فضيلة لليلة ثابتة، فكيف تتحول؟
فيقال: إن نزول القرآن كان في ليلة القدر تلك السنة، وليس في ذلك إحالة أن تتغير في سنة أخرى، فإن فضيلة ليلة القدر ليس بسبب نزول القرآن فيها فقط، ولكن لما لها من فضل نزل القرآن فيها، وليس أنه نزل فيها فاكتسبت الفضيلة.
• ولا يصح أن من علامات ليلة القدر أنها ليلة هادئة، معتدلة، لا حر ولا برد.
• ولا يصح أن من علاماتها أنها لا تنبح فيها الكلاب.
• ولا يصحّ أن من علاماتها أنه لا يرمى فيها بشهاب.
• وأصحّ ما جاء في علاماتها حديث زرّ بن حبيش عن أبي بن كعب: أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها، رواه مسلم.
ورواه بعضهم فلم يذكر هذه العلامة، كما في مسلم عن شعبة عن عبدة عن زر عن أبي.
ولكن قد ثبت في مسلم عن أبي هريرة ﺗﺬاﻛﺮﻧﺎ ﻟﻴﻠﺔ القدر ﻋﻨﺪ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﻓﻘﺎﻝ: «ﺃﻳﻜﻢ ﻳﺬﻛﺮ ﺣﻴﻦ ﻃﻠﻊ اﻟﻘﻤﺮ، ﻭﻫﻮ ﻣﺜﻞ ﺷﻖ ﺟﻔﻨﺔ؟».
وقد جاء ذكر هذه العلامة عند ابن أبي شيبة عن ابن مسعود موقوفًا عليه.
ولا يزال أهل العلم من المفسرين وشرّاح الآثار والفقهاء يذكرون هذه العلامة في مصنفاتهم، ولا يستنكرونها، وينوّهون بها لا يدفعون في صدرها، ورواها إمام الصناعة الإمام مسلم، بل صدّر بها قبل الرواية التي لم تذكرها، وهو ينبي عن تأكيده عليها، فكل ذلك مما يجبّن عن القول بضعفها.
فهذا من جهة الرواية، وقد بقي سؤال من جهة الدراية:
فهل هذه العلامة علامة دائمة راتبة لليلة القدر، أم أنها خاصة بليلة سبع وعشرين تلك السنة التي أخبرهم بها النبي ﷺ؟
قولان لأهل العلم.
ولما لم ينقل الصحابي لفظ النبي ﷺ في روايته الحديث، فيتعذّر على المتفقه معرفة دلائل اللفظ وعمومه ومفهومه.
• ويظهر أنَّ سائر الأعمال فيها خير من عمل ألف شهر، وهو مقتضى إطلاق النصوص، وروى الطبري ﻋﻦ ﻣﺠﺎﻫﺪ في قوله ﷻ: (ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ) ﻗﺎﻝ: ﻋﻤﻠﻬﺎ ﻭﺻﻴﺎﻣﻬﺎ ﻭﻗﻴﺎﻣﻬﺎ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻒ ﺷﻬﺮ.
- ونصّ على أن ذلك الفضل لسائر الأعمال كثير من العلماء كابن بطال والعز بن عبد السلام والقرافي.
- وأرجى الأعمال فيها التهجد وقراءة القرآن والدعاء.
وذهب بعض كبار الأمة كالثوري إلى أن الدعاء خير الأعمال فيها، وقد جاء في دعاء ليلة القدر ما روى عبد الله بن بريدة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال ﷺ: قولي: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».
وهذا حديث رواه الخمسة، غير أبي داود، وصححه الترمذي، وأعله آخرون، لأن عبد الله بن بريدة لم يسمع من عائشة، ولكن لفظ الدعاء تلوح عليه أنوار الحكمة، وحري أن يكون خارجًا من مشكاة الوحي.
• وفي هذا الدعاء من الأدب الإيماني:
- أن المؤمن ينبغي أن يدعو ربه دعاء ثناء، قبل دعاء المسألة، فقد أثنى ﷺ على ﷲ في أول الدعاء: «إنك عفو».
- الثاني: أن يُسأل ﷲ بأفعاله كما يُسأل بأسمائه؛ فقد دعا ﷺ بقوله: «تحب العفو»، فسأل ربه بمحابّه ﷻ.
- وفيه: أن المسلم إذا اجتهد في الطاعة وزاد في العبادة؛ فعليه أن يعتصم بسؤال المغفرة والعفو، وألا يشمخ أو يفخر؛ فإن عائشة سألت النبي ﷺ عن حال ستقوم فيه ليلة القدر، وستعمرها بالطاعة، ومع ذلك أمرها ﷺ أن تسأل العفو، فإن العبد كلما زاد تنسكه زاد إخباته وتواضعه، وكان ألظّ ما يكون بسؤال ربه المغفرة.
• وهي ليلة مباركة، والمؤمن مأمور بتحري بركتها، وقد روى أحمد ﻋﻦ ﺃﺑﻲ ﻫﺮﻳﺮﺓ قاﻝ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ: «ﺧﺮﺟﺖ ﺇﻟﻴﻜﻢ ﻭﻗﺪ ﺑﻴﻨﺖ ﻟﻲ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ ﻭﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ، ﻓﻜﺎﻥ ﺗﻼﺡ ﺑﻴﻦ ﺭﺟﻠﻴﻦ ﺑﺴﺪّﺓ اﻟﻤﺴﺠﺪ، ﻓﺄﺗﻴﺘﻬﻤﺎ ﻷﺣﺠﺰ ﺑﻴﻨﻬﻤﺎ ﻓﺄﻧﺴﻴﺘﻬﻤﺎ، ﻭﺳﺄﺷﺪﻭ ﻟﻜﻢ ﻣﻨﻬﻤﺎ ﺷﺪﻭًا: ﺃﻣﺎ ﻟﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ؛ ﻓﺎﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﻌﺸﺮ اﻷﻭاﺧﺮ ﻭﺗﺮًا، ﻭﺃﻣﺎ ﻣﺴﻴﺢ اﻟﻀﻼﻟﺔ؛ ﻓﺈﻧﻪ ﺃﻋﻮﺭ اﻟﻌﻴﻦ، ﺃﺟﻠﻰ اﻟﺠﺒﻬﺔ، ﻋﺮﻳﺾاﻟﻨﺤﺮ، ﻓﻴﻪ ﺩﻓﺄ».
- ومن لطيف الاستدلالات من هذا الحديث: أن هناك علاقة بين الاختلاف ونقص البركة، ولذا دلت الأدلة أن الدجال يخرج في زمن اختلاف وفرقة وفساد ذات البين.
وفي البخاري عن ﺃﻧﺲ ﺑﻦ ﻣﺎﻟﻚ، ﻗﺎﻝ: ﺃﺧﺒﺮﻧﻲ ﻋﺒﺎﺩﺓ ﺑﻦ اﻟﺼﺎﻣﺖ، ﺃﻥ ﺭﺳﻮﻝ اﻟﻠﻪ ﷺ ﺧﺮﺝ ﻳﺨﺒﺮ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، فتلاحى ﺭﺟﻼﻥ ﻣﻦ اﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ﻓﻘﺎﻝ ﷺ: «ﺇﻧﻲ ﺧﺮﺟﺖ ﻷﺧﺒﺮﻛﻢ ﺑﻠﻴﻠﺔ اﻟﻘﺪﺭ، ﻭﺇنه تلاحى ﻓﻼﻥ ﻭﻓﻼﻥ، ﻓﺮﻓﻌﺖ، ﻭﻋﺴﻰ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﺧﻴﺮا ﻟﻜﻢ، اﻟﺘﻤﺴﻮﻫﺎ ﻓﻲ اﻟﺴﺒﻊ ﻭاﻟﺘﺴﻊ ﻭاﻟﺨﻤﺲ».
وبركة ليلة القدر تقابل شؤم الدجال وفتنته، فالفرقة والاختلاف في مثل هذه الليالي ينقص من بركتها، ولذا ففي قوله ﷻ: (سلام هي حتى مطلع الفحر)، ﻳﺠﻮﺯ ﺃﻥ ﻳﺮاﺩ ﺑﺎﻟﻤﺼﺪﺭ (سلام) اﻷﻣﺮ، ﻭاﻟﺘﻘﺪﻳﺮ: ﺳﻠﻤﻮا ﺳﻼﻣًﺎ، ﻭاﻟﻤﻌﻨﻰ: اﺟﻌﻠﻮﻫﺎ ﺳﻼﻣًﺎ ﺑﻴﻨﻜﻢ، ﺃﻱ ﻻ ﻧﺰاﻉ فيها ﻭﻻ ﺧﺼﺎﻡ.
والعلم عند الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق