الخميس، 29 يوليو 2021

قوة العقل على العقل!

     الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:

      فلا يمكن أن يفصل الواقع الذي تحيى فيه أمتنا الآن عن آثار الاستعمار، كما يقول سيء الذكر أدوارد سعيد في كتابه [الاستشراق]: "الشرق الحديث أنتجه تفاعل السلطة والمعرفة الأوربيتين" (إدوارد سعيد مهما نقد الاستشراق فهو جزء من المشكلة الاستشراقية! والحديث عنه يطول).
     وذلك الاستعمار له ثقافته وسلطته ونموذجه الإداري ومفكروه وزعماؤه، مما ستكون لها كلمة عليا في التوجيه والتأثير.
     وهذه قضيّة كبرى ذات فروع ممتدة، ولكن سأقف عند جانب واحد من هذا التأثير، التأثير الذي يستلب فيه الإدراك فلا يحوم في خاطر المتأثر حائمة شك أنه مسلوب الإدراك، قد اختط له غيرُه طريق سيره، وكتب له طريقة تفكيره.
     يقول جيريمي بنتام أحد كبار فلاسفة بريطانيا، وصاحب مبدأ: (السعادة المطلقة لأكبر عدد من الأشخاص هي مقياس الصواب والخطأ)، يقول عن فكرة الحجز والحبس المسمّى: سجن بانوبتيكون أي: (المشتمل)، [سجن يكون فيه الحبس على هيئة طوابق مدورة اسطوانيًا، وأبوابها تفتح للوسط، وفي الوسط يوجد برج للرقابة السهلة على الجميع]، يقول: "طريقة جديدة للحصول على قوة العقل على العقل"!
     لا جرم سيقول قائل: ثم ماذا؟ فليضبطوا ما شاؤوا من السجناء، فهو تأثير محدود في عدد محدود! وهذه غفلة عن امتداد هذه الفكرة في الواقع، إن نمط هذا السجن نمط متكرر في كل مؤسسات الضبط في العصر الحديث، لكنها تتلون بحسب مكانها، فجميع مؤسسات المجتمع من مصانع ومدارس وثكنات ومستشفيات تقوم بوظيفة: تخريج أفراد خنوعين وطيّعين، وعلى هذا النحو ولدت المراقبة الاجتماعية الحديثة، التي ترقب المجتمع كله، لتنتقل إلى مرحلة أكثر شمولية يكون المجتمع رقيبًا على نفسه.
     ويرى ميشيل فوكوه [صاحب كتاب: المراقبة والمعاقبة، الذي درس فيه المقارنة بين العقوبات السابقة، والعقاب التأديبي في العصر الحديث، ويمنح العقاب التأديبي كلا من (المعالج النفسي، منفذ البرامج، الضابط في السجن) سلطة على (السجين أو المتعلم أو المريض)، ومما يلفت الانتباه أن المدة التي يتوجب على السجين مثلاً أن يقضيها في السجن تتوقف على رأي المختصين]
     يقول فوكو عن نمط ذلك السجن وما يشابهه في كتابه: "أن هذا النمط من المؤسسات يعد نوعًا جديدًا من السلطة على جسد الإنسان، سلطة لا تؤثر بأدوات التعذيب والقهر، ولكنها تستعمل: تقسيم المكان، وتوزيع الأشخاص، للسيطرة".
     وهذه الطرق الضبطية هي طرق استعمارية تهدف إلى استرقاق الإنسان، ولا يغب عن ذهنك الطرق الانضباطية الجديدة في التدريب العسكري، والاحتجاز في الثكنات العسكرية، التي تخلق قوة عسكرية ذات جبروت امتدت لسائر المجتمع، على نحو ما يذكر تيموثي ميتشل في كتابه: (استعمار مصر)، ص ٣٢.
     وهكذا امتد نظام الضبط والتفتيش والمراقبة إلى كامل المجتمع حتى المجتمع الريفي، بالإشراف على الانتاج الزراعي، والمحاصيل، ثم الحصاد والبيع.
     ومثل ذلك التعليم حين توحد المناهج، ويجبر ويعاقب على انتحالها، لتصبح شكلًا من أشكال الضبط والتفتيش المستمر، الذي ينتج طلابًا معلبين!
     والأمر أعمق من ذلك، فمما يثير ميشيل كوفو في كتابه (المراقبة والمعاقبة)، ذلك الارتباط بين الأماكن الانضباطية كالسجن والمستشفى وبين فروع علمية كعلم النفس، وعلم الجريمة، فالمراقبة والتفتيش وغيرها من أدوات الانضباط تنشئ عوالم من المعرفة.
     إنها حركة انقلابية على الإنسان، تعيد صنع العالم، وتعيد تهيئة الشوارع والمدن والأسواق ليسهل ضبطها والرقابة عليها!
     والآن فإن هذا الحديث بات متخلفًا لما أصبح عليه الأمر الآن، مع الزحف الالكتروني، والسيطرة العالمية على الانترنت، والله المستعان.

هناك تعليق واحد:

  1. جزاكم الله خيراونفع بكم
    وحفظكم وأعلى قدركم

    ردحذف